هو واحد من أعلام الوطنية في مطلع القرن العشرين الميلادي ، حيث أعجب بالزعيم الكبير مصطفى كامل يرحمه الله ، منذ أن استمع إلى خطبة له ألقاها بالإسكندرية يوم 22 من أكتوبر1907م ، فاعتنق بمبادئ الحزب الوطني الذي كان يتزعمه مصطفى كامل وصار من أخلص تلاميذه وأوفى أنصاره بالعهد على مر السنين .
ولد بمدينة دمياط عام 1884م وأتم تعليمه بها واشتغل به ثم انتقل إلى القاهرة عام 1907م . بدأ حياته صحفياً وهو في مراحل الصبا ، فعمل محرراً بجريدة الجوائب المصرية في صحف الحزب الوطني المتعاقبة ثم تفجرت منه ينابيع الموهبة الشعرية فاتجه إلى الشعر فنظم القصائد التي تفيض غيرةً وجرأةً ووطنيةً وإخلاصاً وحباً لوطنه ، وقد جمع تلك القصائد في ديوان أصدره سنة 1910م وجعل عنوانه: ” وطنيتي ” .
فقام كل من الزعيم محمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش بكتابة مقدمة لهذا الديوان ، حيث كان صاحبه محرراً بجريدة اللواء وهي إحدى جرائد الحزب الوطني الذي تزعمه محمد بك فريد بعد مصطفى كامل ويرأس تحريرها الشيخ عبد العزيز جاويش .
وقد أثار هذا الديوان ضجةً ودوياً مجلجلاً حين صدوره وتعرض صاحبه لقضية كان لها أثر كبير على مجرى حياته فقد أوعزت الحكومة القائمة آنذاك ( الوزارة ) برفع الدعوى العمومية أمام القضاء ضد كل من : المؤلف والزعيم محمد فريد والشيخ جاويش بتهمة أن ما جاء في الديوان من قصائد فيه عيب في ذات ولي الأمر ( الخديو عباس حلمي الثاني حينئذ ) حاكم مصر بالإضافة إلى التحريض على كراهية الحكومة وازدرائها وتحبيذ الجرائم السياسية .
وقد حكمت محكمة جنايات القاهرة في أغسطس 1910م على صاحب الديوان بالحبس لمدة سنة ونظراً لأنه كان خارج الوطن حيث فر إلى إستانبول في يوليو 1910م ، حينما علم أن الحكومة تريد القبض عليه بعد أن صادرت الديوان ، فقد صدر الحكم ضده غيابياً كما صدر الحكم على الزعيم محمد فريد بالحبس ستة أشهر وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش بالحبس ثلاثة أشهر مع التنفيذ وتم تنفيذ الحكم فيه فوراً .
وذلك لكتابة كل منهما مقدمة لهذا الديوان كما أمرت بمصادرة الديوان . ونظراً لأن الزعيم محمد فريد كان خارج الوطن فقد حذره بعض أعضاء الحزب الوطني من الحضور إلى مصر حتى لا يلقى مصير الشيخ جاويش . بينما طالبه البعض بالحضور حتى لا يقال : إنه قد تهرب من الحكم ، ومن أعجب العجب أن تكون ابنته الكبرى على رأس الطالبين له بالحضور إلى مصر ، فقد ذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن الزعيم أن ابنته الكبرى : أرسلت إليه خطاباً بتاريخ 14/ من أغسطس سنة 1910م تقول فيه :
” ولنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به على الشيخ عبد العزيز جاويش ، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم وما تحملتم الهوان في سبيل وطنكم . وختمت خطابها بقولها : وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن ” .
ويعلق الأستاذ عبد الرحمن الرافعي على ذلك قائلاً : فهذه البطولة التي تتجلى في ذلك الخطاب الكريم هي ثمرة الوطنية الحقة التي غرسها زعيم في أقرب الناس إليه وأعزهم لديه .
رحم الله تلك الابنة الكريمة التي ترى سجن أبيها شرفاً له من أن يقال : إنه هرب من السجن . وأين بناتنا من هذه الابنة العظيمة بحق ؟ ونحن نكتب هنا المقدمة التي كتبها الزعيم محمد فريد ، وهي بعنوان :
تأثير الشعر في تربية الأمم :
” الشعر من أفضل المؤثرات في إيقاظ الأمم من سباتها وبث روح الحياة فيها كما أنه من المشجعات على القتال ، وبث حب الإقدام والمخاطرة بالنفس في الحروب ، لذلك نجد الأشعار الحماسية من قديم الزمان شائعةً لدى العرب وغيرهم من الأمم المجيدة كالرومان واليونان وغيرهم .
وليس من ينكر أن الأنشودة الفرنسية التي أنشأها الضابط الفرنسي ( روجيه دي ليل ) وسميت المارسلييز كانت من أقوى أسباب انتصار فرنسا على ملوك أوربا الذين تألبوا على إخماد روح الحرية في مبدأ ظهورها .
لذلك كتب الكاتبون منا كثيراً في ضرورة وضع القصائد والأغاني الوطنية ليحفظها الصغار ، ويترنموا بها في أوقات فراغهم ولينشدوها في ساعات لعبهم بدل هذه الأغاني والأناشيد التي يرددها أطفال الأزقة ، وخصوصاً في ليالي شهر رمضان المبارك ، كما كتبوا في تغيير الأغاني التي تنشر في الأفراح ، وكلها دائرة حول نقطة واحدة ، هي الغرام ووصف المحبوب بوصفات ما أنزل الله بها من سلطان .
لقد كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد سواء في الغرب أو الشرق إماتة الشعر الحماسي ، وحمل الشعراء بالعطايا على وضع قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء ، وابتعادهم عن كل ما يربي النفوس ويغرس فيها حب الحرب والاستقلال ، كما كان من نتائج هذا الاستبدال خلو خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع حتى أصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد في الدنيا والحض على الكسل وانتظار الرزق بلا سعي ولا عمل .
تنبهت لذك الأمم المغلوبة على أمرها فجعلت من أول مبادئها وضع القصائد الوطنية والأناشيد الحماسية باللغة الفصحى للطبقة المتعلمة ، وباللغة العامية لطبقة الزراع والصناع وسواهم من العمال غير المتعلمين ، فكان ذلك من أكبر العوامل في بث روح الوطنية بين جميع الطبقات ، ويسرني أن هذه النهضة المباركة سرت في بلادنا ، فترك أغلب الشعراء نظم قصائد المديح للأمراء والحكام ، وصرفوا هممهم واستعملوا مواهبهم في وضع الأشعار الوطنية وإرسالها في وصف الشئون السياسية التي تشغل الرأي العام ، وقد لاحت ( وطنيتي ) في طليعة هذه النهضة الميمونة الرشيدة .
ومما يزيد في سروري أن شعراء الريف وضعوا عدة أناشيد وأغاني في مسألة دنشواى وما نشأ عنها ، وفي المرحوم مصطفى كامل باشا ومجهوداته الوطنية ، وفي موضوع قناة السويس ورفض الجمعية العمومية لمشروعها وأخذوا ينشرونها في أفراحهم وسمرهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة ، وهي حركة مباركة إن شاء الله تدل على أن مجهودات الوطنيين قد أثمرت ووصل تأثيرها إلى أعماق القلوب في جميع طبقات الأمة وتبشر باقتراب زمن الخلاص من الاحتلال ومن سلطة الفرد بإذن الله .
فعلى حضرات الشعراء أن يقلعوا عن عادة وضع قصائد المديح في أيام معلومة ومواسم معدودة وأن يستعملوا هذه المواهب الربانية العالية في خدمة الأمة وتربيتها ، بدل أن يصرفوها في خدمة الأغنياء وتملق الأمراء والتقرب من الوزراء ، فالحكام زائلون والأمة باقية ، والسلام على من سمع ووعى ووفق لخدمة بلاده وسعى ، فـ ” إنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ . ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ” .
أقول : لله در ذلك الزعيم السياسي العظيم الذي يعرف للشعر وظيفته وهو في ميدان السياسة ، وللسياسة دروبها ودهاليزها وبريقها ولكل مشتغل بها شأن يغنيه ، وقد يرى أن الأدب عامة ليس له هذا الدور في التأثير على الشعوب . بل قد يرى أن هذه هي المقدمة التي كانت سبباً في الحكم بالحبس على الزعيم محمد فريد ، وليس في عباراتها ما يدعو للمساءلة القانونية ولكن النيابة اعتبرته شريكاً للمؤلف في التهمة ، هذا مع العلم بأن بعض قصائد الديوان قد نشرت في الجرائد من قبل ، ولكنه الاستبداد والطغيان وتخويف الوطنيين والمجاهدين الشرفاء حتى يظل الاحتلال جاثماً على صدور البلاد .
أما مقدمة الشيخ جاويش فلم نعثر عليها في المراجع التي تحت أيدينا .
ذكرنا في الحلقة السابقة أن محكمة جنايات القاهرة أصدرت حكمها في أغسطس عام 1910م على الشاعر علي الغاياتي بالحبس لمدة سنة ، وعلى الزعيم محمد فريد بالحبس لمدة ستة أشهر وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش بالحبس لمدة ثلاثة أشهر وتم تنفيذ الحكم فيه فوراً لأنه كان داخل مصر .
أما الزعيم محمد فريد فقد عاد إلى مصر تلبيةً لدعوة من طالبوه بالعودة وعلى رأسهم ابنته الكبرى وتم تنفيذ الحكم فيه أيضاً وقد أرسلت الحكومة إليه من يساومه لإطلاق سراحه مقابل التنازل عن بعض مبادئه ، ولكن الرجل رفض هذه المساومات رفضاً باتاً وأتم مدة حبسه كأي سجين وطني مخلص . . . وهكذا يكون المخلصون ، أما تجار المبادئ فتعْساً لهم وخسراناً وبواراً لتجارتهم .
أما بالنسبة للشيخ علي الغاياتي فقد كان في إستانبول حين صدر الحكم عليه غيابياً وقد أثر ذلك على مجرى حياة الرجل كما ذكرنا تأثيراً شديداً ، فارتحل إلى سويسرا حيث أقام في العاصمة ، وكانت منطلق جهاده حيث أصدر جريدةً باللغة الفرنسية بعنوان : ” منبر الشرق ” .
وكان ذلك في عام 1922م ، وظل الرجل يجاهد في منفاه عن طريق جريدته حتى عاد إلى مصر عام 1937م ، واستأنف الرجل جهاده عن طريق جريدة ( منبر الشرق ) ، ولكنها هذه المرة قد صدرت باللغة العربية وكانت بحق منبراً للشرق حيث كانت صحيفةً وطنيةً إسلاميةً أخلاقيةً تتولى الدفاع عن القضية الوطنية في مصر وعن قضايا العروبة ، وتكافح في صبر وثبات من أجل حرية واستقلال الشعوب الشرقية بصفة عامة حتى ترمي عن كاهلها نير الاحتلال الأجنبي الذي يذيقها الذل والهوان بيده وأيدي عملائه ويمتص دماءها بنهب ثرواتها وتسخيرها في خدمة أغراضه الدنيئة ويتركها في بؤس وشقاء إلا من وقف إلى جواره من الخونة والعملاء من أبناء هذه الشعوب الذين دفعوا دينهم وأوطانهم ثمناً لمتعهم ودنياهم لأنهم يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً .
ولنقرأ معا بعض ما جاء في ديوان الشيخ الشاعر علي الغاياتي :
قد مر بنا أنه أعجب بالزعيم الكبير مصطفى كامل – يرحمه الله – واعتنق بمبادئ الحزب الوطني الذي ألفه ذلك الزعيم وبلغ من شدة إعجابه بمصطفى كامل أن نظم قصيدة أهداها إليه جاء فيها :
اصـــدع بـــقـولك إن أردت مقالا فالقوم جندك إن دعوت رجالا
لم تدر مصر سوى حماك تؤمه فــــــتــــــــــــرى بــــه آلامــهـا آمالا
أقبل على الـوطن العزيز بصارم لا تدرك الأعداء مــنـه كــلالا
وختمها بقوله :
فآداب على إنهاض أمتك التي ترجو وراء خطاك الاستقلالا
ثم نظم قصيدة بعنوان : ( وطن يناجي ربه ) جاء فيها :
رب إن الــــبـــلاد أرهــقها الظلم وحـــــــــاقــــــت بـــــأهـلها البأساء
رب إن الصدور أحرجها الوجد وأودت بـــــــــــــهـــــــــــــــــــــا الأرزاء
فـــــــــتــــــدارك بــــلــطــفـك النيل حتى لا تجارى حياة مصر دماء
أما القصائد التي حوكم بسببها فإليك بعضاً منها :
قصيدة بعنوان : ( طيف الوطنية ) يندد فيها بالظلم والاحتلال جاء فيها :
وعــــداة مـــــلــكوا الأمر ولم يـــــحــــفـــــظوا للشعب في حـــق ذماما
وولاة أقــــســــمــوا أن يسجدوا كـــــلـــمـــا رام الــــعــــدا مــنهـم مراما
رب مــــاذا يـــصنع المصري إن جاوز الـــــصـــبـــر مدى الصـدر فقاما
طال يوم الظلم في مــصر ولم نــــدر بـــــعـــــد الــــيــــوم للــعـدل مقاما
هـــــل يـــــرى الــمـحـتل أنا أمة منذ عرفنا السلم لا ندرى الــخصاما
أو يــــرى الـــــظالـــم فــينا أننا نــــحـــمـــل الــعسـف ولا نـبغي انتقاما
زعـــــمــــوا زُورا فــمـــا من أمة ســـامــــــهــــا الـــعـــسـفَ ظلوم ثم داما
كـــتب النصر لشعب ناهض في ســـبـــيـل المجد لا يخشى الحماما
أما قصيدته التي يندد فيها بالخديوي عباس الثاني فهي :
أعــــبــــاس هـــذا أخــــر الـــعــهد بيننا فــــلا تــخش منا بعد ذاك عتابا
أيـــــرضــــيــــك فــــينا أن نكون أذلة نـــــنــــال إذا رُمــــنا الحياة عقابا
ونــــيــــأس مـــن آمـــالنا فــيـك كلما قضيت علينا أن نكون غضابا
وأرضـــــيــــت أعـــداء الــبــلاد وأهلها وأصليتنا بعد ( الوفاق ) عـذابا
رُويـــــدك يـــا عـــبــــاس لا تـبلغ المدى ولا تـــســتـــمــع للــظالمين خطابا
فما يبتغي ( جورست )[1] إلا مكيدة تـــحـــــول أفــــلام السلام حرابا
وهـــــا قـــد رمـــى حــرية الـقول رمية بــــســـهــمك تجني للبلاد خرابا
ثم نظم قصيدةً للتنديد بالوزارة القائمة آنذاك وكان بطرس غالي هو رئيس تلكم الوزارة ونختار من هذه القصيدة :
ألا أمـــــطـــر الله الوزارة نقمة ولا بـــلــــغـــت مــما تروم مراما
تحاول أن تقضى علينا بإثمها ولكن سنلقى دون ذاك آثـاما
وزارة خــــداع أقــــامــتـــه بـيننا يد الحاكمين الآثمين فــقاما
وعندما امتنعت هذه الوزارة عن حضور جلسات مجلس شورى القوانين فراراً من مناقشات الأعضاء التي أزعجتها وأظهرت عجزها وفشلها في إدارة شئون البلاد .
قال مندداً بطوائف الشعب :
يا أيها الوزراء ماذا نابكم حتى هجرتم صورة النواب
إلى أن قال :
فتزلزلت أقدامكم من هولها وهـــرعــتـمو فزعاً إلى الأبواب
ورضــيــتـمو الهرب المعيب لأنه خير من الإفلاس عند حساب
عارٌ علــــيـــكم أن يقال وزارة لم تدر إن ســئــلت بيان جواب
ومن قصيدة أخرى نظمها عام 1910م :
طــــال لــــيـــل الــبلاد والشعب سار لا يــــرى غــــيـــر هذه الظلمات
ظــــلــــمـــات مــن الـــمــظـالم أودت بـــــضـــــيـــاء الحياة بعد الحياة
يشتكي الشعب والقضاة خصوم فلمن يشتكى خصام القضاة
هكذا كان الرجل شجاعاً كما رأيت فواجه المخطئ بخطئه ولو كان أكبر مسئول في الدولة ، وأعلن رأيه بصراحة وقد دفع ثمن ذلك كله من الشتات والغربة وفراق الأهل والأوطان وشظف العيش وتحمله صابراً راضياً ما دام ذلك في سبيل وطنه حتى أذن الله له بالفرح وعاد إليه عام 1937م .
لما حُكم على الشيخ عبد العزيز جاويش للمرة الثانية 1909م نظم قصيدةً يخاطبه فيها ، نشرها في ديوان ( وطنيتي ) ، وقد جاء فيها :
يا ساكن السجن الكريم وأنت نعم الأكرم
مـــا الـــســـجـــن للـــــشــرفــاء إلا رفـــعـــة وتـــنـعم
أنــــت الـــبــريء ومن يخالك مـــــجرم هو مجرم
وسبب هذه المحاكمة أن الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير جريدة ” اللواء ” نشر مقالاً في ذكرى حادثة قرية دنشواي بدلتا مصر بالوجه البحري بتاريخ 28 من يونيو سنة 1909م ، وقد اعتبرت النيابة العمومية هذا المقال طعناً في حق بطرس باشا غالي رئيس المحكمة التي أصدرت حكمها في تلك الحادثة ، وكان وزيراً للحقانية وقتها وتولى رئاسة المحكمة بنفسه !!
وكذلك طعناً في أحمد فتحي زغلول ( شقيق سعد زغلول ) أحد أعضاء هذه المحكمة ، لذلك تم رفع الدعوى العمومية أمام محكمة عابدين الجزئية وصدر الحكم بتغريم الشيخ جاويش أربعين جنيهاً ، ولكن النيابة استأنفت ونظرت القضية أمام محكمة الجنح المستأنفة فتعدل الحكم إلى الحبس لمدة ثلاثة أشهر وقد قوبل الحكم بالاستياء الشديد من فئات الشعب ، ورداً على ذلك جمع الشعب اكتتاباً لصنع وسام للشيخ جاويش لمناسبة الحكم عليه تقديراً لحسن بلائه وقدم إليه هذا الوسام في حفلة تكريم أقيمت له بفندق ” شبرد ” يوم 22/ من نوفمبر سنة 1909م عقب خروجه من السجن ، وهكذا يكرم الأحرار .
أما المحكمة التي حكمت في حادثة دنشواى ، فكان حكمها كالتالي :
في يوم 27/ من يونيو 1906م صدر الحكم بشنق أربعة من المصريين وبالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين ، وبالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاماً على شخص واحد ، وبها لمدة سبع سنوات على ستة من المصريين ( المتهمين في نظر المحكمة ) وبالحبس لمدة عام مع الجلد على ثلاثة وبالجلد على خمسة ، وقد جُلد كل واحد من هؤلاء بكرباج ( سوط ) له خمسة ذيول !! . وقررت المحكمة تنفيذ الحكم في اليوم التالي مباشرةً وفي قرية دنشواى نفسها حيث نصبت المشانق ووضعت آلات الجلد ، ولعنة الله على الظالمين .
ومن العجب أن يرقى أحمد فتحي زغلول إلى وكيل لوزارة الحقانية ، وتقام له حفلة في فندق ” شبرد ” بهذه المناسبة سنة1907م ويعلق أمير الشعراء أحمد شوقي على هذه المناسبة بالأبيات التالية ( التي أرسلها في مظروف إلى المحتفلين فلما فتحوه كتموا ما بداخله ) :
إذا ما جمعــــتــــم أمـركم وهَمَمْتُمُ بتقديم شـــيـــئ للوكـيل ثمين
خــــذوا حــبــل مــشـنوق بغير جريرة وسروال مجلــود وقـيـد سجين
ولا تــــعــرضوا شعري عليه فحسبه من الشعر حكم خطه بيمين
ولا تــــقـــرؤوه في شــــبرد بل اقرؤوا على ملإٍ مـــن دنــشواى حزين
وحادثة دنشواى بإيجاز شديد عبارة عن صدام بين بعض الضباط الإنجليز وأهل القرية ، حيث ذهب هؤلاء الضباط لصيد الحمام بالبنادق من أجران القمح ( الجرن مكان واسع تحمل إليه أعواد القمح ليتم درسها فيه حتى ينفصل الحب عن القش ) .
وتسببت الطلقات النارية في حرق أحد الأجران وإصابة امرأة من أهل القرية فخرج أهل القرية محتجين على ذلك وحدثت بينهم وبين الضباط الإنجليز مشاجرة أدت إلى إصابة ضابط بجرح في رأسه ، ففر هارباً إلى قرية مجاورة لينجو بنفسه ولكنه أصيب بضربة شمس بسبب طول المسافة التي قطعها ماشياً سقط بعدها ميتاً على الأرض ، فعوقب الأهالي بالأحكام القاسية التي مرت على جريمة لم يرتكبوها .
ومن الظلم والجبروت أن بقية الكتيبة الإنجليزية تحركت إلى مكان الحادث وأثناء سيرها وجدت الضابط المتوفى بسبب ضربة الشمس ووجدت فلاحاً بجواره يقدم إليه قدحاً من الماء فحسبوه أحد المعتدين فانهالوا عليه ببنادقهم ضرباً وطعناً حتى هشموا رأسه وسقط قتيلاً بينهم وذهب دمه هدراً ولم يحاكم أحد بسببه من الضباط الإنجليز .
هذا هو الجو العام الذي كان بجاهد فيه أولئك الأبطال ، فرحم الله الشيخ علي الغاياتي والشيخ عبد العزيز جاويش ومن سار على هذا الدرب المبارك في جميع العصور .
[1] جورست هو المندوب السامي البريطاني الذي تم تعيينه بعد استقالة كرومر .
ولد بمدينة دمياط عام 1884م وأتم تعليمه بها واشتغل به ثم انتقل إلى القاهرة عام 1907م . بدأ حياته صحفياً وهو في مراحل الصبا ، فعمل محرراً بجريدة الجوائب المصرية في صحف الحزب الوطني المتعاقبة ثم تفجرت منه ينابيع الموهبة الشعرية فاتجه إلى الشعر فنظم القصائد التي تفيض غيرةً وجرأةً ووطنيةً وإخلاصاً وحباً لوطنه ، وقد جمع تلك القصائد في ديوان أصدره سنة 1910م وجعل عنوانه: ” وطنيتي ” .
فقام كل من الزعيم محمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش بكتابة مقدمة لهذا الديوان ، حيث كان صاحبه محرراً بجريدة اللواء وهي إحدى جرائد الحزب الوطني الذي تزعمه محمد بك فريد بعد مصطفى كامل ويرأس تحريرها الشيخ عبد العزيز جاويش .
وقد أثار هذا الديوان ضجةً ودوياً مجلجلاً حين صدوره وتعرض صاحبه لقضية كان لها أثر كبير على مجرى حياته فقد أوعزت الحكومة القائمة آنذاك ( الوزارة ) برفع الدعوى العمومية أمام القضاء ضد كل من : المؤلف والزعيم محمد فريد والشيخ جاويش بتهمة أن ما جاء في الديوان من قصائد فيه عيب في ذات ولي الأمر ( الخديو عباس حلمي الثاني حينئذ ) حاكم مصر بالإضافة إلى التحريض على كراهية الحكومة وازدرائها وتحبيذ الجرائم السياسية .
وقد حكمت محكمة جنايات القاهرة في أغسطس 1910م على صاحب الديوان بالحبس لمدة سنة ونظراً لأنه كان خارج الوطن حيث فر إلى إستانبول في يوليو 1910م ، حينما علم أن الحكومة تريد القبض عليه بعد أن صادرت الديوان ، فقد صدر الحكم ضده غيابياً كما صدر الحكم على الزعيم محمد فريد بالحبس ستة أشهر وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش بالحبس ثلاثة أشهر مع التنفيذ وتم تنفيذ الحكم فيه فوراً .
وذلك لكتابة كل منهما مقدمة لهذا الديوان كما أمرت بمصادرة الديوان . ونظراً لأن الزعيم محمد فريد كان خارج الوطن فقد حذره بعض أعضاء الحزب الوطني من الحضور إلى مصر حتى لا يلقى مصير الشيخ جاويش . بينما طالبه البعض بالحضور حتى لا يقال : إنه قد تهرب من الحكم ، ومن أعجب العجب أن تكون ابنته الكبرى على رأس الطالبين له بالحضور إلى مصر ، فقد ذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن الزعيم أن ابنته الكبرى : أرسلت إليه خطاباً بتاريخ 14/ من أغسطس سنة 1910م تقول فيه :
” ولنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به على الشيخ عبد العزيز جاويش ، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم وما تحملتم الهوان في سبيل وطنكم . وختمت خطابها بقولها : وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن ” .
ويعلق الأستاذ عبد الرحمن الرافعي على ذلك قائلاً : فهذه البطولة التي تتجلى في ذلك الخطاب الكريم هي ثمرة الوطنية الحقة التي غرسها زعيم في أقرب الناس إليه وأعزهم لديه .
رحم الله تلك الابنة الكريمة التي ترى سجن أبيها شرفاً له من أن يقال : إنه هرب من السجن . وأين بناتنا من هذه الابنة العظيمة بحق ؟ ونحن نكتب هنا المقدمة التي كتبها الزعيم محمد فريد ، وهي بعنوان :
تأثير الشعر في تربية الأمم :
” الشعر من أفضل المؤثرات في إيقاظ الأمم من سباتها وبث روح الحياة فيها كما أنه من المشجعات على القتال ، وبث حب الإقدام والمخاطرة بالنفس في الحروب ، لذلك نجد الأشعار الحماسية من قديم الزمان شائعةً لدى العرب وغيرهم من الأمم المجيدة كالرومان واليونان وغيرهم .
وليس من ينكر أن الأنشودة الفرنسية التي أنشأها الضابط الفرنسي ( روجيه دي ليل ) وسميت المارسلييز كانت من أقوى أسباب انتصار فرنسا على ملوك أوربا الذين تألبوا على إخماد روح الحرية في مبدأ ظهورها .
لذلك كتب الكاتبون منا كثيراً في ضرورة وضع القصائد والأغاني الوطنية ليحفظها الصغار ، ويترنموا بها في أوقات فراغهم ولينشدوها في ساعات لعبهم بدل هذه الأغاني والأناشيد التي يرددها أطفال الأزقة ، وخصوصاً في ليالي شهر رمضان المبارك ، كما كتبوا في تغيير الأغاني التي تنشر في الأفراح ، وكلها دائرة حول نقطة واحدة ، هي الغرام ووصف المحبوب بوصفات ما أنزل الله بها من سلطان .
لقد كان من نتيجة استبداد حكومة الفرد سواء في الغرب أو الشرق إماتة الشعر الحماسي ، وحمل الشعراء بالعطايا على وضع قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء ، وابتعادهم عن كل ما يربي النفوس ويغرس فيها حب الحرب والاستقلال ، كما كان من نتائج هذا الاستبدال خلو خطب المساجد من كل فائدة تعود على المستمع حتى أصبحت كلها تدور حول موضوع التزهيد في الدنيا والحض على الكسل وانتظار الرزق بلا سعي ولا عمل .
تنبهت لذك الأمم المغلوبة على أمرها فجعلت من أول مبادئها وضع القصائد الوطنية والأناشيد الحماسية باللغة الفصحى للطبقة المتعلمة ، وباللغة العامية لطبقة الزراع والصناع وسواهم من العمال غير المتعلمين ، فكان ذلك من أكبر العوامل في بث روح الوطنية بين جميع الطبقات ، ويسرني أن هذه النهضة المباركة سرت في بلادنا ، فترك أغلب الشعراء نظم قصائد المديح للأمراء والحكام ، وصرفوا هممهم واستعملوا مواهبهم في وضع الأشعار الوطنية وإرسالها في وصف الشئون السياسية التي تشغل الرأي العام ، وقد لاحت ( وطنيتي ) في طليعة هذه النهضة الميمونة الرشيدة .
ومما يزيد في سروري أن شعراء الريف وضعوا عدة أناشيد وأغاني في مسألة دنشواى وما نشأ عنها ، وفي المرحوم مصطفى كامل باشا ومجهوداته الوطنية ، وفي موضوع قناة السويس ورفض الجمعية العمومية لمشروعها وأخذوا ينشرونها في أفراحهم وسمرهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة ، وهي حركة مباركة إن شاء الله تدل على أن مجهودات الوطنيين قد أثمرت ووصل تأثيرها إلى أعماق القلوب في جميع طبقات الأمة وتبشر باقتراب زمن الخلاص من الاحتلال ومن سلطة الفرد بإذن الله .
فعلى حضرات الشعراء أن يقلعوا عن عادة وضع قصائد المديح في أيام معلومة ومواسم معدودة وأن يستعملوا هذه المواهب الربانية العالية في خدمة الأمة وتربيتها ، بدل أن يصرفوها في خدمة الأغنياء وتملق الأمراء والتقرب من الوزراء ، فالحكام زائلون والأمة باقية ، والسلام على من سمع ووعى ووفق لخدمة بلاده وسعى ، فـ ” إنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ . ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ” .
أقول : لله در ذلك الزعيم السياسي العظيم الذي يعرف للشعر وظيفته وهو في ميدان السياسة ، وللسياسة دروبها ودهاليزها وبريقها ولكل مشتغل بها شأن يغنيه ، وقد يرى أن الأدب عامة ليس له هذا الدور في التأثير على الشعوب . بل قد يرى أن هذه هي المقدمة التي كانت سبباً في الحكم بالحبس على الزعيم محمد فريد ، وليس في عباراتها ما يدعو للمساءلة القانونية ولكن النيابة اعتبرته شريكاً للمؤلف في التهمة ، هذا مع العلم بأن بعض قصائد الديوان قد نشرت في الجرائد من قبل ، ولكنه الاستبداد والطغيان وتخويف الوطنيين والمجاهدين الشرفاء حتى يظل الاحتلال جاثماً على صدور البلاد .
أما مقدمة الشيخ جاويش فلم نعثر عليها في المراجع التي تحت أيدينا .
ذكرنا في الحلقة السابقة أن محكمة جنايات القاهرة أصدرت حكمها في أغسطس عام 1910م على الشاعر علي الغاياتي بالحبس لمدة سنة ، وعلى الزعيم محمد فريد بالحبس لمدة ستة أشهر وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش بالحبس لمدة ثلاثة أشهر وتم تنفيذ الحكم فيه فوراً لأنه كان داخل مصر .
أما الزعيم محمد فريد فقد عاد إلى مصر تلبيةً لدعوة من طالبوه بالعودة وعلى رأسهم ابنته الكبرى وتم تنفيذ الحكم فيه أيضاً وقد أرسلت الحكومة إليه من يساومه لإطلاق سراحه مقابل التنازل عن بعض مبادئه ، ولكن الرجل رفض هذه المساومات رفضاً باتاً وأتم مدة حبسه كأي سجين وطني مخلص . . . وهكذا يكون المخلصون ، أما تجار المبادئ فتعْساً لهم وخسراناً وبواراً لتجارتهم .
أما بالنسبة للشيخ علي الغاياتي فقد كان في إستانبول حين صدر الحكم عليه غيابياً وقد أثر ذلك على مجرى حياة الرجل كما ذكرنا تأثيراً شديداً ، فارتحل إلى سويسرا حيث أقام في العاصمة ، وكانت منطلق جهاده حيث أصدر جريدةً باللغة الفرنسية بعنوان : ” منبر الشرق ” .
وكان ذلك في عام 1922م ، وظل الرجل يجاهد في منفاه عن طريق جريدته حتى عاد إلى مصر عام 1937م ، واستأنف الرجل جهاده عن طريق جريدة ( منبر الشرق ) ، ولكنها هذه المرة قد صدرت باللغة العربية وكانت بحق منبراً للشرق حيث كانت صحيفةً وطنيةً إسلاميةً أخلاقيةً تتولى الدفاع عن القضية الوطنية في مصر وعن قضايا العروبة ، وتكافح في صبر وثبات من أجل حرية واستقلال الشعوب الشرقية بصفة عامة حتى ترمي عن كاهلها نير الاحتلال الأجنبي الذي يذيقها الذل والهوان بيده وأيدي عملائه ويمتص دماءها بنهب ثرواتها وتسخيرها في خدمة أغراضه الدنيئة ويتركها في بؤس وشقاء إلا من وقف إلى جواره من الخونة والعملاء من أبناء هذه الشعوب الذين دفعوا دينهم وأوطانهم ثمناً لمتعهم ودنياهم لأنهم يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً .
ولنقرأ معا بعض ما جاء في ديوان الشيخ الشاعر علي الغاياتي :
قد مر بنا أنه أعجب بالزعيم الكبير مصطفى كامل – يرحمه الله – واعتنق بمبادئ الحزب الوطني الذي ألفه ذلك الزعيم وبلغ من شدة إعجابه بمصطفى كامل أن نظم قصيدة أهداها إليه جاء فيها :
اصـــدع بـــقـولك إن أردت مقالا فالقوم جندك إن دعوت رجالا
لم تدر مصر سوى حماك تؤمه فــــــتــــــــــــرى بــــه آلامــهـا آمالا
أقبل على الـوطن العزيز بصارم لا تدرك الأعداء مــنـه كــلالا
وختمها بقوله :
فآداب على إنهاض أمتك التي ترجو وراء خطاك الاستقلالا
ثم نظم قصيدة بعنوان : ( وطن يناجي ربه ) جاء فيها :
رب إن الــــبـــلاد أرهــقها الظلم وحـــــــــاقــــــت بـــــأهـلها البأساء
رب إن الصدور أحرجها الوجد وأودت بـــــــــــــهـــــــــــــــــــــا الأرزاء
فـــــــــتــــــدارك بــــلــطــفـك النيل حتى لا تجارى حياة مصر دماء
أما القصائد التي حوكم بسببها فإليك بعضاً منها :
قصيدة بعنوان : ( طيف الوطنية ) يندد فيها بالظلم والاحتلال جاء فيها :
وعــــداة مـــــلــكوا الأمر ولم يـــــحــــفـــــظوا للشعب في حـــق ذماما
وولاة أقــــســــمــوا أن يسجدوا كـــــلـــمـــا رام الــــعــــدا مــنهـم مراما
رب مــــاذا يـــصنع المصري إن جاوز الـــــصـــبـــر مدى الصـدر فقاما
طال يوم الظلم في مــصر ولم نــــدر بـــــعـــــد الــــيــــوم للــعـدل مقاما
هـــــل يـــــرى الــمـحـتل أنا أمة منذ عرفنا السلم لا ندرى الــخصاما
أو يــــرى الـــــظالـــم فــينا أننا نــــحـــمـــل الــعسـف ولا نـبغي انتقاما
زعـــــمــــوا زُورا فــمـــا من أمة ســـامــــــهــــا الـــعـــسـفَ ظلوم ثم داما
كـــتب النصر لشعب ناهض في ســـبـــيـل المجد لا يخشى الحماما
أما قصيدته التي يندد فيها بالخديوي عباس الثاني فهي :
أعــــبــــاس هـــذا أخــــر الـــعــهد بيننا فــــلا تــخش منا بعد ذاك عتابا
أيـــــرضــــيــــك فــــينا أن نكون أذلة نـــــنــــال إذا رُمــــنا الحياة عقابا
ونــــيــــأس مـــن آمـــالنا فــيـك كلما قضيت علينا أن نكون غضابا
وأرضـــــيــــت أعـــداء الــبــلاد وأهلها وأصليتنا بعد ( الوفاق ) عـذابا
رُويـــــدك يـــا عـــبــــاس لا تـبلغ المدى ولا تـــســتـــمــع للــظالمين خطابا
فما يبتغي ( جورست )[1] إلا مكيدة تـــحـــــول أفــــلام السلام حرابا
وهـــــا قـــد رمـــى حــرية الـقول رمية بــــســـهــمك تجني للبلاد خرابا
ثم نظم قصيدةً للتنديد بالوزارة القائمة آنذاك وكان بطرس غالي هو رئيس تلكم الوزارة ونختار من هذه القصيدة :
ألا أمـــــطـــر الله الوزارة نقمة ولا بـــلــــغـــت مــما تروم مراما
تحاول أن تقضى علينا بإثمها ولكن سنلقى دون ذاك آثـاما
وزارة خــــداع أقــــامــتـــه بـيننا يد الحاكمين الآثمين فــقاما
وعندما امتنعت هذه الوزارة عن حضور جلسات مجلس شورى القوانين فراراً من مناقشات الأعضاء التي أزعجتها وأظهرت عجزها وفشلها في إدارة شئون البلاد .
قال مندداً بطوائف الشعب :
يا أيها الوزراء ماذا نابكم حتى هجرتم صورة النواب
إلى أن قال :
فتزلزلت أقدامكم من هولها وهـــرعــتـمو فزعاً إلى الأبواب
ورضــيــتـمو الهرب المعيب لأنه خير من الإفلاس عند حساب
عارٌ علــــيـــكم أن يقال وزارة لم تدر إن ســئــلت بيان جواب
ومن قصيدة أخرى نظمها عام 1910م :
طــــال لــــيـــل الــبلاد والشعب سار لا يــــرى غــــيـــر هذه الظلمات
ظــــلــــمـــات مــن الـــمــظـالم أودت بـــــضـــــيـــاء الحياة بعد الحياة
يشتكي الشعب والقضاة خصوم فلمن يشتكى خصام القضاة
هكذا كان الرجل شجاعاً كما رأيت فواجه المخطئ بخطئه ولو كان أكبر مسئول في الدولة ، وأعلن رأيه بصراحة وقد دفع ثمن ذلك كله من الشتات والغربة وفراق الأهل والأوطان وشظف العيش وتحمله صابراً راضياً ما دام ذلك في سبيل وطنه حتى أذن الله له بالفرح وعاد إليه عام 1937م .
لما حُكم على الشيخ عبد العزيز جاويش للمرة الثانية 1909م نظم قصيدةً يخاطبه فيها ، نشرها في ديوان ( وطنيتي ) ، وقد جاء فيها :
يا ساكن السجن الكريم وأنت نعم الأكرم
مـــا الـــســـجـــن للـــــشــرفــاء إلا رفـــعـــة وتـــنـعم
أنــــت الـــبــريء ومن يخالك مـــــجرم هو مجرم
وسبب هذه المحاكمة أن الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير جريدة ” اللواء ” نشر مقالاً في ذكرى حادثة قرية دنشواي بدلتا مصر بالوجه البحري بتاريخ 28 من يونيو سنة 1909م ، وقد اعتبرت النيابة العمومية هذا المقال طعناً في حق بطرس باشا غالي رئيس المحكمة التي أصدرت حكمها في تلك الحادثة ، وكان وزيراً للحقانية وقتها وتولى رئاسة المحكمة بنفسه !!
وكذلك طعناً في أحمد فتحي زغلول ( شقيق سعد زغلول ) أحد أعضاء هذه المحكمة ، لذلك تم رفع الدعوى العمومية أمام محكمة عابدين الجزئية وصدر الحكم بتغريم الشيخ جاويش أربعين جنيهاً ، ولكن النيابة استأنفت ونظرت القضية أمام محكمة الجنح المستأنفة فتعدل الحكم إلى الحبس لمدة ثلاثة أشهر وقد قوبل الحكم بالاستياء الشديد من فئات الشعب ، ورداً على ذلك جمع الشعب اكتتاباً لصنع وسام للشيخ جاويش لمناسبة الحكم عليه تقديراً لحسن بلائه وقدم إليه هذا الوسام في حفلة تكريم أقيمت له بفندق ” شبرد ” يوم 22/ من نوفمبر سنة 1909م عقب خروجه من السجن ، وهكذا يكرم الأحرار .
أما المحكمة التي حكمت في حادثة دنشواى ، فكان حكمها كالتالي :
في يوم 27/ من يونيو 1906م صدر الحكم بشنق أربعة من المصريين وبالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين ، وبالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاماً على شخص واحد ، وبها لمدة سبع سنوات على ستة من المصريين ( المتهمين في نظر المحكمة ) وبالحبس لمدة عام مع الجلد على ثلاثة وبالجلد على خمسة ، وقد جُلد كل واحد من هؤلاء بكرباج ( سوط ) له خمسة ذيول !! . وقررت المحكمة تنفيذ الحكم في اليوم التالي مباشرةً وفي قرية دنشواى نفسها حيث نصبت المشانق ووضعت آلات الجلد ، ولعنة الله على الظالمين .
ومن العجب أن يرقى أحمد فتحي زغلول إلى وكيل لوزارة الحقانية ، وتقام له حفلة في فندق ” شبرد ” بهذه المناسبة سنة1907م ويعلق أمير الشعراء أحمد شوقي على هذه المناسبة بالأبيات التالية ( التي أرسلها في مظروف إلى المحتفلين فلما فتحوه كتموا ما بداخله ) :
إذا ما جمعــــتــــم أمـركم وهَمَمْتُمُ بتقديم شـــيـــئ للوكـيل ثمين
خــــذوا حــبــل مــشـنوق بغير جريرة وسروال مجلــود وقـيـد سجين
ولا تــــعــرضوا شعري عليه فحسبه من الشعر حكم خطه بيمين
ولا تــــقـــرؤوه في شــــبرد بل اقرؤوا على ملإٍ مـــن دنــشواى حزين
وحادثة دنشواى بإيجاز شديد عبارة عن صدام بين بعض الضباط الإنجليز وأهل القرية ، حيث ذهب هؤلاء الضباط لصيد الحمام بالبنادق من أجران القمح ( الجرن مكان واسع تحمل إليه أعواد القمح ليتم درسها فيه حتى ينفصل الحب عن القش ) .
وتسببت الطلقات النارية في حرق أحد الأجران وإصابة امرأة من أهل القرية فخرج أهل القرية محتجين على ذلك وحدثت بينهم وبين الضباط الإنجليز مشاجرة أدت إلى إصابة ضابط بجرح في رأسه ، ففر هارباً إلى قرية مجاورة لينجو بنفسه ولكنه أصيب بضربة شمس بسبب طول المسافة التي قطعها ماشياً سقط بعدها ميتاً على الأرض ، فعوقب الأهالي بالأحكام القاسية التي مرت على جريمة لم يرتكبوها .
ومن الظلم والجبروت أن بقية الكتيبة الإنجليزية تحركت إلى مكان الحادث وأثناء سيرها وجدت الضابط المتوفى بسبب ضربة الشمس ووجدت فلاحاً بجواره يقدم إليه قدحاً من الماء فحسبوه أحد المعتدين فانهالوا عليه ببنادقهم ضرباً وطعناً حتى هشموا رأسه وسقط قتيلاً بينهم وذهب دمه هدراً ولم يحاكم أحد بسببه من الضباط الإنجليز .
هذا هو الجو العام الذي كان بجاهد فيه أولئك الأبطال ، فرحم الله الشيخ علي الغاياتي والشيخ عبد العزيز جاويش ومن سار على هذا الدرب المبارك في جميع العصور .
[1] جورست هو المندوب السامي البريطاني الذي تم تعيينه بعد استقالة كرومر .