لكن هل الحياة الإنسانية بالفعل، لا تعترف بالواحدية. لا تعترف ببطل واحد؟ في الواقع، رغم كل تلك الشبكة من العلاقات، إلا أن للقصة البشرية دائماً بطل واحد. إننا عندما نتحدث عن شبكة علاقات فنحن نتحدث عنها من خلال الأنا. فالعالم كله يتمحور حولنا، حول الذات التي تعيه. وحتى بالنسبة للمؤلفات المتعالية، سنجد أنها أيضاً تتمحور حول الإله الذي يخاطب هذا العالم. فقط تنتقل البطولة من أنا إلى أنا متعالية. وحتى كتب التاريخ لابد أن يكون بطلها مكاناً ما أو زماناً محدداً أو واقعة مركزية تمثل محور الدراما التاريخية. وكلما تشتت الصور واتسعت العلاقات من حولنا، فإننا نعيد ترتيبها وتنظيمها وتنقيحها لتتفق مع ذواتنا. مع الأنا البطل دائماً، لأن العلاقات يجب أن تخدم هذه الأنا وإلا فإنها لا تفقد معناها بقدر فقدان الأنا لكينونتها، وتشتتها هي لتضحى بلا أي قيمة. ولذلك فإن الأنا لا تعتمد فقط على الأصدقاء بل أيضا على الأعداء لتتمكن من رسم حدود علاقاتها. إن من ليس له أعداء هو في الواقع ليس له أصدقاء. لأنه لا يملك معايير للعلاقات بسبب هلامية الذات.. يمكننا أن نراقب الوجود بكلياته، وبأفراده، وسنجده دائماً يتأسس على شبكة علاقات تخدم كل منها موجوداً ما. إن تبادل المصالح لا يلغي الفردية بقدر ما يعزز رسوخها. فلولا الفردية لانتفى أي دافع للفعل. وعلى هذا فتلك الغايات الفردية تظل فردية، ولكنها لا يمكن أن تتحقق إلا داخل شبكة علاقات. إن النظريات التي حاولت إلغاء الفرد (الفرد هنا كرقم إحصائي بغض النظر عن طبيعته)، هذه النظريات فشلت في رؤية اللُّحمة الجماعية قبل التمركز الفردي. لذلك يقول بعض الليبرالين أمثال باستيا وغيره أن الليبرالية تنطلق من خير الفرد إلى خير الجماعة، واليسارية تنطلق من خير الجماعة إلى خير الفرد. وهذه الرؤية (في حقيقتها) تلغي كل من الليبرالية واليسارية على حد سواء، أو تدمج بينهما فيتطابقا مع إختلاف الوسائل. إننا (على المستوى الفلكي) داخل مجرات، والمجرة عبارة عن شبكة من العلاقات الفيزيائية (قوانين) تمنح كل كوكب أو نجم ثباته وصيرورته (ميلاده وحياته وموته). وكذا الحال بالنسبة لكل الأشياء الأصغر، لذلك فهذا القانون يجب أن يتسع ليشمل المجرات كلها، والتي لا بد لها أن تترابط بدورها في شبكة علاقات مجراتية لخدمة كل مجرة على حدة.
إننا عندما نبني العلاقات، لا بد أن نستخدم ضمائر الجر في العربية وضائر الملكية في الإنجليزية؛ فلا بد أن تكون الأشياء تحت خدمة بعضها البعض، تتملكها كلياً أو جزئياً، أو تتبادل التملك لتكون خادمة تارة ومخدومة تارة أخرى، حرة تارة وعبدة تارة أخرى.
لماذا هذه النظرة البراغماتية؟
في الواقع، إن التأكيد على الأنا، يخدمنا دائماً، يخدمنا لأنه يوفر لنا الأرضية العقلانية لتقييم صادق وفاعل دائماً. فعندما نتحدث عن خيانة الجاسوس لوطنه، يجب أولاً -وبناء على التأكيد الأنوي- أن نعرف أن الوطن قد خان هذا الجاسوس أولاً. فالخيانة هي خيانة فقدان ذلك التمحور حول الذات. (إنني لا استخدم الأنا والذات كمترادفين)، سندرك أن شبكة العلاقات (الإقليم، الشعب، السلطة ذات السيادة)، تناءت عن خدمة ذلك الفرد الجاسوس. إن كل خيانة (عاطفية أو آيدولوجية) هي خيانة مضادة لخيانة سابقة، أي لعلاقة لم تعد قادرة على إشباع الأنا. فهي علاقة ناقصة، والنقص هو خيانة للكمال النسبي المنشود منها. عندما تلجأ الأقليات للأجنبي، فإنها تعلن وقوفها ضد خيانة الشبكة التي تربطها بباقي مكونات الدولة. فلا يمكننا تخوين الأكراد أو الأمازيغ أو الكتلونيين، بل علينا أن نبحث عن القصور في شبكة علاقات هؤلاء الكلية. وعندما يخون أحد الزوجين الآخر، فيجب أن نبحث عن القصور في تلك العلاقة. وعندما يصارع الأفارقة أمواج البحر، فلا يجب أن نسميهم مهاجرين غير شرعيين، بل أشخاص يبحثون عن شبكة علاقات جديدة. وكل تلك الأمثلة توضح لنا العقلانية التي تؤسس لها نظرية الأنا والآخر داخل شبكة العلاقات تلك، تلك العقلانية التي تجعلنا نضع أيدينا على موضع الجرح الحقيقي وليس المتوهم، ومن ثم معرفة الحلول الناجعة بدلاً عن السير في ظلال الحقيقة.