لم أجد شاعرا في العصر الحديث أثير حوله الجدل مثلما أثير حول الشاعر الكبير الراحل نزار قباني، الذي ملأ الدنيا شعرا وحبا ومعارك، وقد اختلف النقاد والجمهور حول توجه أشعاره كونه اتخذ من المرأة عالما يصوغ من خلاله القصائد، لكن لم يختلف أحد على شاعريته الفذة، ورؤاه الخاصة، ومواقفه الناصعة.
من يقرأ نزار بتأن يكتشف أنه أمام مشروع شعري كبير ومختلف من حيث التناول والأسلوب، وإن كان اشتهر بأشعاره العاطفية الجريئة التي تخوض في أدق تفاصيل جسد المرأة، لتعريه من كل أسراره، ليصبح جسدا مباحا للقراء، حتى سمى بشاعر المرأة، وقد أنكر هذه التسمية ورفضها، لشعوره بالغبن وعدم تقدير مشروعه الإبداعي حق قدره، فقصائد السياسية لا تقل أهمية وشاعرية عن قصائده الأخرى، فقد كان جريئا في تناولها مثلما كان جريئا في تناول جسد المرأة، وكان إبداء رأيه في أي قضية لا يحركه في ذلك سوى ضميره الإبداعى وإيمانه المطلق بما يقول.
وقد جرته جرأته إلى العديد من المعارك التي كان يخرج منها دائما منتصرا، وكما تقول الكاتبة نوال مصطفى في كتابها "نزار.. وقصائد ممنوعة" كما جاء في مجلة "آخر ساعة" المصرية: أنه خرج من كل أزمة منتصرا، ومن كل كمين محمولا على الأكتاف، ومن كل قهر أو قمع أو ظلم أقوى وأنضر وأكثر قدرة على العطاء الفني الإنساني الجميل.
وتحدثنا نوال مصطفى عن قصيدته المعروفة "هوامش على دفتر النكسة" والأزمة التي تعرض لها من جراء هذه القصيدة، وأن عبدالناصر هو الذي حماه، وهو القائل: "إذا كنت قد صرخت في وجه العالم العربي هذا الصراخ الذي وصل إلى حد الهمجية، فلأن الإنسان لا يصرخ عادة إلا حينما تكون مساحة الجرح أكبر من مساحة الطعنة، وكمية دموعه أكبر من مساحة عينيه".
إنها تورد الرسالة التي أرسلها الشاعر الكبير إلى الرئيس جمال عبدالناصر، ورد فعل هذه الرسالة على الرئيس الذي لم يكن قد قرأ الرسالة إلا من خلال النسخة التي أرسلها له الشاعر، وأمر الرئيس يومها أن تلغى كل التدابير التي قد تكون قد اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب من وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة، ويدخل الشاعر إلى مصر متى أراد ويكرم فيها كما كان في السابق.
ويقول نزار: لقد كسر الرئيس عبدالناصر بموقفه الكبير جدا، الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، وبين الإبداع وبين الثورة، واستطاع أن يكتشف بما أوتى من حدس وشمول في الرؤية أن الفن والثورة توأم سياسى ملتصق، وحصانان يجران عربة واحدة. وأن أي محاولة لفصلهما سيحطم العربة، ويقتل الحصانين!
وتورد القصيدة التي أحدثت كل هذا الدوي، لأنها كانت بمثابة (جلد الذات) عقب هزيمة يونيو/حزيران، وإلقاء الضوء على تخلفنا العربى، وعن الأسباب التي أودت بنا إلى هذه الهزيمة، والتى يقول فى مطلعها:
أنعي لكم: يا أصدقائي، اللغة القديمة، والكتب القديمة/ أنعي لكم: كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة/ ومفردات القهر، والهجاء والشتيمة/ أنعي لكم .. أنعي لكم/ نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة. هذا هو الشاعر الكبير نزار قباني الذي كان لا يلبث أن يخرج من معركة ليدخل في غيرها، غير مبال بالعواقب لأنه مؤمن بأن الكلمة باقية أما الجسد فان.
ومن أشهر المعارك التي خاضها نزار معركة قصيدة "المهرولون" التي كتبها كرفض وشهادة له على ما حدث ويحدث في عملية السلام، ويوم نشرت هذه القصيدة أحدثت ردود أفعال قوية بين مؤيد لها ومعارض، تقول القصيدة: سقطت آخر جدران الحياء/ وفرحنا ../ ورقصنا ../ وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء .../ لم يعد يرعبنا شيء / ولا يخجلنا شيء / فقد يبست فينا عروق الكبرياء ..
......
سقطت ../- للمرة الخمسين – عذريتنا../ دون أن نهتز ..أو نصرخ../ أو يرعبنا مرأى الدماء../ ودخلنا في زمن الهرولة../ ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة ../ وركضنا .. ولهثنا ../ وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة. وقد أعدت مجلة روزاليوسف في عددها رقم (3514) الصادر فى (16/10/1995) ملفا احتوى على القصيدة، والسجال القوي الذي دار رحاه بين: نزار قباني وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، حينما أبدى وجهة نظره في قصيدة "المهرولون" وقت نشرها واصفا إياها: "بأنها قصيدة قوية جداً، وقنابل تفرقع في عملية السلام، من دون أن تقدم بديلا عنها".
وأضاف محفوظ في تصريح لجريدة "الحياة" الصادرة في لندن بعد أن نشرت القصيدة: "لقد أعجبتنى رغم اختلافي السياسي معها.."، "إننى لا أنفي إعجانى بها، ومن يشارك نزار قباني موقفه، سيجد فيها تعبيراً قوياً عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية.. وموقف ضعيف".
وأبدى محفوظ تقديره لما حوته القصيدة ضمنا من نداء للعرب بأن يهبوا، واعتبر ذلك أملا نتطلع إليه جميعا، لكنه رأى أن هذا لا يكفى من دون طرح بديل لما يجرى في عملية السلام، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن هذا البديل هو أن نوقف هذه العملية، و"نقعد ساكتين"، ملاحظا أن نزار قباني لم يقل إنه مع الحرب، ولم يقدم أي بديل.
قال: "نعم .. في مثل هذه المواقف لا بد من تقديم البديل، ولا يكفي أن يهاجمهم لأنهم يهرولون ويلهثون، ويقبلون حذاء القتلة، ويفرطون في كل شيء، فالأهم أنه يقول لهم ماذا يفعلون."
وقال: "أعرف أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب، ولا يقدمون خيارا ثالثا، فماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون، هل يجلسون ساكنين بلا فعل، وإذا كان البديل هو الإنتظار السلبي، فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحداً، وإنما يمضي في ابتلاع الأرض".
وجاء رد نزار قباني على نجيب محفوظ ردا قاسياً وعنيفاً، وساخراً، وهو المنشور في نفس العدد من روز اليوسف، نقتطف منه بعض المقاطع، حيث قال:
"الأستاذ نجيب محفوظ، إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريري في صياغة كلماته، ورسولي في سلوكه على الورق، وسلوكه في الحياة، إنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من وسطها .. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة .. أو يدوس على نملة .. أو يغامر .. أو يسافر .. أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين. هو رجل السلام والسلامة، ولا يعرف عنه، أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس .. أو وقف في وجه حاكم أو أمير .. أو صاحب سلطة .. إنه دائما يلبس قفازات الحرير في خطابه الإجتماعي، والسياسي .. ويتصرف (كحكومة الظل) في النظام البريطاني."
ويقول نزار قباني أيضا: "فليعذرني عميد الرواية العربية، إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التي يجلس عليها مع أصدقائه. فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها .. أو نظام روتيني تخضع له، إنها إمرأة عصبية، وشرسة .. تقول ما تريده بأظافرها .. وأسنانها.. القصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص .. والمرتزقة .. وقراصنة السياسة .. وتجار الهيكل.
ويضيف الشاعر قائلا: "هذا موقف الشعر مما يجري على المسرح العربي، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفا).. ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت في قصيدتي حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمام) .. وقدري أن أكون من (حزب الصقور)؟!
ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة .. وكنت مصنوعا من النار .. والبارود؟! ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة في (مقهى الفيشاوي).. وكانت القصيدة عندي، هجمة انتحارية على القبح والإنحطاط، والظلام، والتلوث السياسي والقومي؟!"
ويقول: "ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما أو واعظا، أو خطيبا أو معلم مدرسة.
ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول، وتجد البدائل وتكتب الروشتات للمرضى والمعاقين.
الشعراء ليسوا جنرالات .. ولا يعطون التعليمات، ولا يعلنون الحرب، ولا يوقفونها، ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا في مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية، ولما حولت قنبلة هيروشيما 250 ألف ياباني في ثانية واحدة إلى بشربة تتبخر."
ويختتم مقاله الطويل قائلا: "شكرا لأستاذنا الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي قرأ قصيدتي (المهرولون) فأعجبته شعريا.. ولم تعجبه أيديولوجيا.. وموقفا، وإذا كان الخطاب الشعري قد هز أعماقه، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لا تزال بخير.. وقلبه الكبير لا يزال يفرح بالتماع البروق ، وسقوط الأمطار.
أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة في قضية السلام، فهى بسيطة وهامشية، ولا تفسد للود قضية".
كان نزار قباني ناعما كالحرير في قصائده الرومانسية والعاطفية، وحادا كنصل السيف في قصائده ومواقفه السياسية، ولذا عاش في وجداننا وسيظل لأن الشاعر الذي ينفصل عن قضايا أمته وقضايا وطنه أعتقد أنه لن يعيش طويلا، فبرحيله يخبو مشروعه الإبداعي كما يخبو ضوء الشمس وقت الغروب، أما نزار فما زال حيا بيننا بقصائده ومواقفه التي لا ينساها الزمن ولا التأريخ الأدبي، وكلما مرت علينا ذكرى وفاته في أبريل/نيسان من كل عام يقفز إلى الذاكرة بمشاغباته ومعاركه التي كانت لا تنتهي.
عبده الزراع ـ القاهرة
من يقرأ نزار بتأن يكتشف أنه أمام مشروع شعري كبير ومختلف من حيث التناول والأسلوب، وإن كان اشتهر بأشعاره العاطفية الجريئة التي تخوض في أدق تفاصيل جسد المرأة، لتعريه من كل أسراره، ليصبح جسدا مباحا للقراء، حتى سمى بشاعر المرأة، وقد أنكر هذه التسمية ورفضها، لشعوره بالغبن وعدم تقدير مشروعه الإبداعي حق قدره، فقصائد السياسية لا تقل أهمية وشاعرية عن قصائده الأخرى، فقد كان جريئا في تناولها مثلما كان جريئا في تناول جسد المرأة، وكان إبداء رأيه في أي قضية لا يحركه في ذلك سوى ضميره الإبداعى وإيمانه المطلق بما يقول.
وقد جرته جرأته إلى العديد من المعارك التي كان يخرج منها دائما منتصرا، وكما تقول الكاتبة نوال مصطفى في كتابها "نزار.. وقصائد ممنوعة" كما جاء في مجلة "آخر ساعة" المصرية: أنه خرج من كل أزمة منتصرا، ومن كل كمين محمولا على الأكتاف، ومن كل قهر أو قمع أو ظلم أقوى وأنضر وأكثر قدرة على العطاء الفني الإنساني الجميل.
وتحدثنا نوال مصطفى عن قصيدته المعروفة "هوامش على دفتر النكسة" والأزمة التي تعرض لها من جراء هذه القصيدة، وأن عبدالناصر هو الذي حماه، وهو القائل: "إذا كنت قد صرخت في وجه العالم العربي هذا الصراخ الذي وصل إلى حد الهمجية، فلأن الإنسان لا يصرخ عادة إلا حينما تكون مساحة الجرح أكبر من مساحة الطعنة، وكمية دموعه أكبر من مساحة عينيه".
إنها تورد الرسالة التي أرسلها الشاعر الكبير إلى الرئيس جمال عبدالناصر، ورد فعل هذه الرسالة على الرئيس الذي لم يكن قد قرأ الرسالة إلا من خلال النسخة التي أرسلها له الشاعر، وأمر الرئيس يومها أن تلغى كل التدابير التي قد تكون قد اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب من وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة، ويدخل الشاعر إلى مصر متى أراد ويكرم فيها كما كان في السابق.
ويقول نزار: لقد كسر الرئيس عبدالناصر بموقفه الكبير جدا، الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، وبين الإبداع وبين الثورة، واستطاع أن يكتشف بما أوتى من حدس وشمول في الرؤية أن الفن والثورة توأم سياسى ملتصق، وحصانان يجران عربة واحدة. وأن أي محاولة لفصلهما سيحطم العربة، ويقتل الحصانين!
وتورد القصيدة التي أحدثت كل هذا الدوي، لأنها كانت بمثابة (جلد الذات) عقب هزيمة يونيو/حزيران، وإلقاء الضوء على تخلفنا العربى، وعن الأسباب التي أودت بنا إلى هذه الهزيمة، والتى يقول فى مطلعها:
أنعي لكم: يا أصدقائي، اللغة القديمة، والكتب القديمة/ أنعي لكم: كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة/ ومفردات القهر، والهجاء والشتيمة/ أنعي لكم .. أنعي لكم/ نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة. هذا هو الشاعر الكبير نزار قباني الذي كان لا يلبث أن يخرج من معركة ليدخل في غيرها، غير مبال بالعواقب لأنه مؤمن بأن الكلمة باقية أما الجسد فان.
ومن أشهر المعارك التي خاضها نزار معركة قصيدة "المهرولون" التي كتبها كرفض وشهادة له على ما حدث ويحدث في عملية السلام، ويوم نشرت هذه القصيدة أحدثت ردود أفعال قوية بين مؤيد لها ومعارض، تقول القصيدة: سقطت آخر جدران الحياء/ وفرحنا ../ ورقصنا ../ وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء .../ لم يعد يرعبنا شيء / ولا يخجلنا شيء / فقد يبست فينا عروق الكبرياء ..
......
سقطت ../- للمرة الخمسين – عذريتنا../ دون أن نهتز ..أو نصرخ../ أو يرعبنا مرأى الدماء../ ودخلنا في زمن الهرولة../ ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة ../ وركضنا .. ولهثنا ../ وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة. وقد أعدت مجلة روزاليوسف في عددها رقم (3514) الصادر فى (16/10/1995) ملفا احتوى على القصيدة، والسجال القوي الذي دار رحاه بين: نزار قباني وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، حينما أبدى وجهة نظره في قصيدة "المهرولون" وقت نشرها واصفا إياها: "بأنها قصيدة قوية جداً، وقنابل تفرقع في عملية السلام، من دون أن تقدم بديلا عنها".
وأضاف محفوظ في تصريح لجريدة "الحياة" الصادرة في لندن بعد أن نشرت القصيدة: "لقد أعجبتنى رغم اختلافي السياسي معها.."، "إننى لا أنفي إعجانى بها، ومن يشارك نزار قباني موقفه، سيجد فيها تعبيراً قوياً عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية.. وموقف ضعيف".
وأبدى محفوظ تقديره لما حوته القصيدة ضمنا من نداء للعرب بأن يهبوا، واعتبر ذلك أملا نتطلع إليه جميعا، لكنه رأى أن هذا لا يكفى من دون طرح بديل لما يجرى في عملية السلام، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن هذا البديل هو أن نوقف هذه العملية، و"نقعد ساكتين"، ملاحظا أن نزار قباني لم يقل إنه مع الحرب، ولم يقدم أي بديل.
قال: "نعم .. في مثل هذه المواقف لا بد من تقديم البديل، ولا يكفي أن يهاجمهم لأنهم يهرولون ويلهثون، ويقبلون حذاء القتلة، ويفرطون في كل شيء، فالأهم أنه يقول لهم ماذا يفعلون."
وقال: "أعرف أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب، ولا يقدمون خيارا ثالثا، فماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون، هل يجلسون ساكنين بلا فعل، وإذا كان البديل هو الإنتظار السلبي، فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحداً، وإنما يمضي في ابتلاع الأرض".
وجاء رد نزار قباني على نجيب محفوظ ردا قاسياً وعنيفاً، وساخراً، وهو المنشور في نفس العدد من روز اليوسف، نقتطف منه بعض المقاطع، حيث قال:
"الأستاذ نجيب محفوظ، إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريري في صياغة كلماته، ورسولي في سلوكه على الورق، وسلوكه في الحياة، إنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من وسطها .. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة .. أو يدوس على نملة .. أو يغامر .. أو يسافر .. أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين. هو رجل السلام والسلامة، ولا يعرف عنه، أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس .. أو وقف في وجه حاكم أو أمير .. أو صاحب سلطة .. إنه دائما يلبس قفازات الحرير في خطابه الإجتماعي، والسياسي .. ويتصرف (كحكومة الظل) في النظام البريطاني."
ويقول نزار قباني أيضا: "فليعذرني عميد الرواية العربية، إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التي يجلس عليها مع أصدقائه. فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها .. أو نظام روتيني تخضع له، إنها إمرأة عصبية، وشرسة .. تقول ما تريده بأظافرها .. وأسنانها.. القصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص .. والمرتزقة .. وقراصنة السياسة .. وتجار الهيكل.
ويضيف الشاعر قائلا: "هذا موقف الشعر مما يجري على المسرح العربي، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفا).. ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت في قصيدتي حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمام) .. وقدري أن أكون من (حزب الصقور)؟!
ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة .. وكنت مصنوعا من النار .. والبارود؟! ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة في (مقهى الفيشاوي).. وكانت القصيدة عندي، هجمة انتحارية على القبح والإنحطاط، والظلام، والتلوث السياسي والقومي؟!"
ويقول: "ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما أو واعظا، أو خطيبا أو معلم مدرسة.
ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول، وتجد البدائل وتكتب الروشتات للمرضى والمعاقين.
الشعراء ليسوا جنرالات .. ولا يعطون التعليمات، ولا يعلنون الحرب، ولا يوقفونها، ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا في مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية، ولما حولت قنبلة هيروشيما 250 ألف ياباني في ثانية واحدة إلى بشربة تتبخر."
ويختتم مقاله الطويل قائلا: "شكرا لأستاذنا الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي قرأ قصيدتي (المهرولون) فأعجبته شعريا.. ولم تعجبه أيديولوجيا.. وموقفا، وإذا كان الخطاب الشعري قد هز أعماقه، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لا تزال بخير.. وقلبه الكبير لا يزال يفرح بالتماع البروق ، وسقوط الأمطار.
أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة في قضية السلام، فهى بسيطة وهامشية، ولا تفسد للود قضية".
كان نزار قباني ناعما كالحرير في قصائده الرومانسية والعاطفية، وحادا كنصل السيف في قصائده ومواقفه السياسية، ولذا عاش في وجداننا وسيظل لأن الشاعر الذي ينفصل عن قضايا أمته وقضايا وطنه أعتقد أنه لن يعيش طويلا، فبرحيله يخبو مشروعه الإبداعي كما يخبو ضوء الشمس وقت الغروب، أما نزار فما زال حيا بيننا بقصائده ومواقفه التي لا ينساها الزمن ولا التأريخ الأدبي، وكلما مرت علينا ذكرى وفاته في أبريل/نيسان من كل عام يقفز إلى الذاكرة بمشاغباته ومعاركه التي كانت لا تنتهي.
عبده الزراع ـ القاهرة