أمل الكردفاني - ضرورة عدم وجود مساواة

أصبحنا وأصبح الملك لله، وبدأنا التنظير كالعادة، والتنظير لعنة الإنسان الأولى (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً). ومن الشعارات الفارغة التي لم تجد لها تنظيراً كافياً هو شعار المساواة، من زاوية غير قانونية، أي زاوية سوسيولوجية واقتصادية، ولكن الليبراليين كانوا أول من إنتقد المساواة، أما في جمهورية أفلاطون، فهناك طبقية، وتأكيد على أهمية اللا مساواة، ومع ذلك فشعار المساواة يرفعه السياسيون دائماً وتتلقاه الشعوب بفرح، رغم أن هذه الشعوب نفسها لا تمارس أي سلوك ينم عن إيمانها بضرورة المساواة، فمقولة (أحب لأخيك ما تحب لنفسك)، طوباوية جداً، وغير دقيقة، ذلك أنه لا يمكن أن يحب المرء لنفس ما يحبه للآخرين، وإلا لما تنافس الناس على مظاهر الدعة والترف، فتفاخروا بالذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. ولكن الجملة الأوفق، هي أن نقول: (إكره لأخيك ما تكرهه لنفسك) رغم ما في هذه الجملة أيضاً من قصور ولكنه قصور أقل درجة من الأولى؛ لأنها منطقية أكثر.
فالمساواة، كلمة رنانة، ككلمات كثيرة يرددها الناس بعاطفتهم لا بعقولهم، ثم يعملون ضدها بعقولهم وليس بعاطفتهم. وهذه المساواة هي التي أفشلت الماركسية، واللا سلطوية، وكل سرديات اليوتوبيا الحالمة. إذ لو تساوى الناس أجمعين لتعطلت الحياة تعطلاً شاملاً، فلا بد من قوي وضعيف، غني وفقير، عامل وصاحب عمل، خادم ومخدوم. ولو أصبحت دولة من الدول غنية جداً بحيث أضحى كل مواطنيها أغنياء، فستضطر لاستجلاب فقراء، ليعملوا لهم ما لا يعمله إلا الفقراء، من أنشطة تحتاج لضعة النفس، وبذل المشقة، ولا يقوم بتلك الأنشطة إلا من أحوجه الفقر إليها، إلا قليلا.
فلو تساوى الناس في العلم لما تقدمت العلوم، ولو تساووا في المال، لافتقروا أجمعين، ولو تساووا في الجمال لمات معنى الجمال، بل حتى لو تساووا في الفقر لعمت الفوضى. فالفقر بدوره درجات. ويجعل الله بعضكم لبعض سِخْريَّاً، لتتحرك الحياة الإنسانية إلى الأمام، فعدم المساواة هو كالموت تماماً، فلولا الموت لما انتهى الظلم ولما تصارع الناس وقضوا على بعضهم البعض ولما تدافعوا، فيدفع بعضهم بعضا. ولو خلد الإنسان لافتقرت روحه لجدة النشاط، والرغبة في التفكير والعمل، ولخامره القنوط والملل..ففكر في الموت أكثر من الحياة، باحثاً عنه متمنياً له دون جدوى. أليس في الموت خلاص أيضاً؟
لقد قامت بعض دول الخليج بالتخلي عن العمالة الأجنبية، وهي دول تتمتع أغلب شعوبها بالرفاهية، والمال، ومن لا يملكون الكثير، تكفل لهم الدولة رعاية مجانية من تعليم وصحة ودعم إقتصادي، فما الذي سيدعوهم للعمل في أنشطة لا يتحملها إلا فقراء الهند والبنغال والسودان ومصر وغيرهم؟ طبعاً لن يجدوا، وإن وجدوا فهم قلة لن تفي بالغرض، وهذه من مساوئ غنى الدولة، ولم يرفع الصين إلا فقراؤها، لرخص العمالة عندهم، فالقميص الذي ينتجه عامل أمريكي بعشرة دولارات، ينتجه عامل صيني بنصف سنت، فالصين بها أكثر من مليار ومائتي مليون بني آدم، أغلبهم فقراء، يكفيهم من العيش أدناه، ويعملون كما يعمل ثور الحقل وحمار السقائيين. فهل لو صدقت الشيوعية، وأضحى الصينيون جميعا متساوين، كان بإمكانها أن تنافس الدول الأخرى إنتاجاً؛ من زراعة وتصنيع ورعي وصيد..الخ؟
المساواة، هي المساواة، مهما قيل بأن هناك مساواة حقيقية وأخرى عددية، فهذا وهم، فالمساواة العددية هي ما يمكن أن نطلق عليه مسمى المساواة وأما غير ذلك فتوفيق أخلاقي، ولا علاقة بين المساواة والتوفيق الأخلاقي. فالتوفيق نظرة إحسان، والمساواة لا تُعنى بالإحسان، والتوفيق تقدير من الآخر لحقوق غيره، والمساواة لا تقدير فيها لذلك. فالمجتمع الألماني، الذي ينفق دافعوا الضرائب فيه ملايين على الدعم الإجتماعي لمن لا يعمل، ليس مساواة، بل إحسان وصدقة، دافعها العاطفة وليس العقل. وعندما اعتبر نيتشة ومن بعده هتلر (وهم ألمانيان) أن المعاقين والمرضى والمجانين عالة على الإنسان السوبر، مما يجيز التخلص منهم، فهذه ليس من باب عدم المساواة بل في الواقع من باب المساواة نفسها. ولكنها مساواة لا إنسانية، أي لا تتفق وروح العاطفة والخير الإنساني. ومع ذلك فقد شكك نيتشة في تلك الروح الطيبة، وقال بأن من يعطون المتسول مالاً لا يعطونه له من باب الخير، ولكن لأنهم يتخيلون أنفسهم مكان ذلك المتسول فيجزعون. وقد يكون ما قاله نيتشة وأمّن عليه الليبراليون حقيقة، ولكننا لا يمكن لنا أن نتجاهل الأثر الطيب ولو أنكرنا الدافع الطيب.
ولذلك فالدول الغنية -كدول الخليج وبعض الدول الأوروبية- لا سبيل لها إلا استيراد فقراء. رغم أن استيرادها للفقراء استغلال للفقر لو نظرنا إليه على نحو عاطفي، كما نظر ماركس لفائض القيمة الذي هو في الأصل حق للعامل وليس لرب العمل، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يتمسك دائماً بالخير المطلق، ولا كذلك بالشر المطلق، إذ لو امتنعت دول الخليج مثلاً عن استيراد الفقراء لأن هذا استغلال لآلام الفقر؛ فأين ستتوفر للفقراء في أقاصي الأرض كالهند والبنغال وغيرهما فرص لإطعام أبنائهم وتعليمهم وعلاجهم. وهكذا فلا سبيل أمامنا إلى الإعتراف بأن الخير ليس دائماً ما يكون خيراً ولا الشر دائماً ما يكون شراً، ولذلك تسقط النظريات الكبرى عندما تبحث عن اليوتوبيا، فيدعوا الإنسان بالشر دعاءه بالخير، فيكره شيئاً وهو خير له، ويحب شيئاً وهو شر له. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
هذه هي فلسفة الحياة..
صباح الخير على الجميع.
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...