أمل الكردفاني - الموت في البحر وروح عبد الوهاب لاتينوس

لقد تداولت الصحف -ومنها عالمية- وفاة الشاب عبد الوهاب لاتينوس، وهو شاعر صغير السن، ومغمور. تناولت الصحف نبوءاته عن موته غرقاً. لكنه في الحقيقة لم يتنبأ، فلاتينوس، كان يدرك أن الحرية لا تتأتى بالوصول، بل بعدم الوصول، فأن تظل حراً، يعني أن تظل هارباً، ولا يعد الموت إلا استمراراً لحالة الهروب المستمر نحو الحياة..تلك الحياة التي لا يعرف أحد أين تختبي، هنا، أم هناك، أم في لا مكان ولا زمان. لاتينوس، ليس شاعراً فذاً، لكن روحه فذة، روحه حرة. والروح الحرة مضطرمة كأمواج المحيط، لذلك فهما يلتقيان ويتماذجان، ويحتضنان بعضهما. فالروح لا تغرق بل تنحل في الكون.
لا يفهم الأشخاص العاديون تلك الروح، وأقصد بالعاديين ليس أولئك الذين لا يكتبون شعراً، بل أولئك الذين لا يؤرقهم الوجود كثيراً، أولئك المنسحقون في العبور الطيفي بلا صخب. أما الأرواح المُخلَّقة من أوار البراكين، فاضطرامها أكبر من الشعر، أكبر من اللغة، وأكبر من الفن.
روح لاتينوس، روح مبدعة إن أبدعت أم لم تبدع، فهي لا تحتاج لأداة من الخارج لتجسد إبداعها، إن إبداهها في مسها المستمر لتخوم الوجود..، ومن تلك التخوم الهشة، تهبط منحلة في العمق. ولذلك فلاتينوس لم يهرب كما قال من بؤس الحياة ولا حبيبة تضنيه، بل لأنه لا يستطيع إلا العيش هارباً، حتى هناك، في بلاد العالم الأول، سيظل لاتينوس هارباً، هو لا يعرف لماذا؟ يبحث عن سبب مادي، وهو لا يدرك أن الروح الهاربة لا تموت إلا ساعة استقرارها. إنها لا ترغب في الوصول. ولذلك فلاتينوس لم يتنبأ بموته، بل بمواصلة هروبه، وهذا واقع حاله الأبدي. إن فكرة العودة، لا تحبذها الروح الهاربة، الوطن المحدود (لا حدود له عند الروح الهاربة)، المنزل، الأسرة، الحبيبة، المال، كل ذلك عدو تلك الروح.
وهناك نوعان من تلك الروح الهاربة، نوع ينهش من جسد الفن والادب، بشراهة ونهم، لأنها تهرب عبرهما، تنهش بشراهة فلا تبلغ الوصل أبداً، فيجن جنون تلك الروح، وتزداد غوصاً في إلتهام عبودية الوجود لتتحرر، خالقة كونها الخاص بحقيقتها الخاصة. إن أرسطو الذي كتب في كل شيء أساساً لكل معرفة وفن؛ كان يهرب نحو المجهول بقسوة، محطماً ما ظنه عائقاً من النجاة. وأمثاله كثر، كافكا، درويش، طاغور. وأما النوع الثاني فالذين شنقوا أنفسهم عندما وصلوا لحدود اليأس من الإفلات من عبودية أن تكون مُلقى في عراء الوجود هكذا. هؤلاء ينتحرون بطرق متعددة، في سبيل حلم لا يعرفونه حق المعرفة، في سبيل وطن لن يجدوه، في سبيل أنثى تقدس سرها في السماء. إنهم ينتحرون، عندما يختارون إجابة أسئلة صعبة، عندما يختارون الإجابات الأصعب.
لقد اختار لاتينوس الإجابة الأصعب، ومضي في سبيله، هل وصل؟ لا أحد يعلم.. لكن المؤكد أنه الآن يستمر روحاً هاربة في الأزل.
التفاعلات: لينة التجاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...