عقيل هاشم - الشاعر الدكتور "حميد الصائح" "ما بعد القصيدة وشعر ضد الخراب"

الشاعر يحاول دائما خلق عالم شعري متحرر بالمعني الحرفي للكلمة، فالشعر استمرار للفلسفة الشعرية الباحثة عن الجمال في اللغة ، فالشعر في تصور الشاعر نشيد الجمال وفرصة للتأمل والرؤية والدهشة ما يشبه لوحات فنية، تحمل كل ألوان الحلم والحياة العمل «الشِعريّ» كما يستخدمها الشاعر، وهو يحاول تجاوز مفهوم «القصيدة» إلى «ما بعد القصيدة»، الذي يعني به «النصّ المُركّب» الذي تتداخل فيه أجناس من الكتابة، بل يتداخل الصوت والصدى في مقاطع هذا العمل، ولكن لكل منهما فضاءه ومساحته، مثلما يتداخل صوت الشاعر الحديث مع تلك الأصوات القديمة، فيعيد إحياءها، ليعيش معها وبها، مساحات من التأمّل في العلاقات المتعددة. وإلى ذلك، فإن الشعر- «أسمى من أن تختزله في جمل وتعابير وألفاظ، بعضُها يُجاورُ بعضاً…»، فالشعر هو «بناءٌ وعمارة تنأى بنفسها عن مألوف العمارة والبناء.»..
أصدر الشاعر العراقي المغترب د.حميد الصائح عددا من المجاميع الشعرية (التفاعلية ) من ضمنها (دع كل شيء)و (شهيق جماعي) وستكون هاتان المجموعتان قيد الدرس،في هذه النصوص و الذي يؤكد الشاعر على استمراره في خلق شعر لا يعرف حدودا ولا ينغلق في تصور معين؛ نصوص متمردة غايتها التحرر من رقابة الكتابة ومشرطها، أشبه ماتكون بقصائد ثورية.. فالعنوان الذي اختاره يحيل القارئ إلى مجموعة من القراءات والتأويلات، لذا ليس من السهل حصر قراءة للعنوان في زاوية معينة بل جزء من المتن ،ويمكن للقارئ تصنيف النصوص الشعرية ضمن قصائد ذاتية ودرامية وانسانية ... التي اعتمدت بنية روائية ترتكز إلى تسلسل «أرشيفي» لأحداث العراق الدامية ، نجده وقد جسد ذلك بإيقاع الوجع العراقي زمنياً. والذي لم يعرف الاستقرار أو الاسترخاء، فقد جاءت النصوص بصورة رومانسية سوداء، حيث يولد الحب تحت ضلال الموت وهستيريا الواقع شعورا منعدما. ومن ثمة فإنه يدفع المتلقي إلى إعادة طرح مفهوم قصائد الخراب والاغتراب ..
(شهيق جماعي )
اجدادي
انا سليل الاسئلة
ابنها الذي لم يرث شيئا
اجدادي :اولئك التائهون
حتى هذه اللحظة
تاخذهم عواصف الطبيعة والتاريخ
والروايات القادمة من المقابر
اذن هي نصوص جاءت مزيج من عدة لغات استعارية تشكل هذا الكم من الحنين واللوعة والفقد ، الذي يحاول الشاعر رسمها لنا بلغة متحررة و رسالة احتجاج ، مزيج من البوح والتمني والانتظار، الذي يخلق أحيانا نوعا من اللااستقرار الشعوري. يجعل من مخيلة الشاعر رهينة اللحظات العابرة التي تتأرجح بين الانتماء واللاانتماء ، افكار تكاد تنفلت من سياج الذاكرة من الاحتجاج والعتب على ماضي الوطن . والتعبير عن الحالة النفسية ينتصر فيه الإحساس بالخيبة عادة ما تكون مرادفة للحنين.
(دع كل شيء)
ياوطني
افتح قلبي
تلبي مثل كتاب مهمل
لاتقرا عن تاريخ الناس ،اسمع نبضه
لاتقرا عن خوف التاريخ
وانباء الثورات.
إذن يمكن القول، إن جمال اللغة وتلقائية البوح وعذوبة المفردات والتعابير الجريئة تجعل من هذا النصوص فرصة لإعادة طرح مفهوم حيرة الشاعر عندما يمر بتجربة الاغتراب وجذوره بالوطن .و إن الشاعر لا ينظر إلى الحنين بصفته ضعف بل يجعل منه نافذة إلى روح الأشياء والجمال والدهشة . فالشعر ينطلق ليشمل العالم الخارجي، حيث تظهر روح الشاعر في حالة من الانفصال عن العالم المادي، نحو عالم مجرد يحمل ألوان الحرية والتمرد..
(شهيق جماعي)
ندم فائض
ليس وقتا مناسبا ،اتفق معك
لقد جئنا متاخرين كثيرا
لكن هناك شيئا مت سيحدث
من مشجب اللغات
ستزحف الكلمات راجفة
يحثها الصمت على البوح بمالايقال.
هذا التحول الوجداني الذي تعرفه ذات الشاعر. فيتحرر العالم الخارجي، لذا فالشاعر يجعل من تجربته الشعرية فضاء ؛ وهذا التحرر لا يتحقق إلا من خلال التحولات النفسية التي تؤثر بدورها على الرؤية الشعرية والبحث المستمر عن الآخر في القصيدة
(دع كل شيء)
تجاعيد
على سبيل الهروب
توقفت عند عينيك
تدهني صورتي
وفحيح السنين على جبهتي
الشاعر ركز على الجانب العاطفي، حيث تتقاطع التجربة الواقعية مع التجربة الشعرية؛ ما أعطى قصائد تعبير عن الحياة بلغة منبعثة من أعماق الحس الوجداني. فالانفعالات العاطفية كعاطفة الحب، والشوق والحنين والانتظار تجعل الشاعر في حالة من العطش؛ حيث يتحول الحب إلى أشبه بإكسير الخلود. كما أن استعمال التشبيه والاستعارة بشكل كبير يوضح عمق العلاقة التي تجمع بين الحبيب والمحب.
(شهيق جماعي)
ندم فائض
ليس وقتا مناسبا،اتفق معك
لقد جئنا متاخرين كثيرا
لكن هناك شيئا ماسيحدث
من مشجب اللغات
ستزحف الكلمات راجفة
يحثها الصمت على البوح بمالايقال
الشاعر في نصوصه لا يتوقف عن التشبه بالحبيبة وتشبيهها بصفات مأخوذة من الطبيعة أو القاموس الرومانسي. إن النزعة الرومنطيقية هي أساس الكتابة عند الشاعر لأن القصيدة في نظره هي التجلي الروحي لكل الأحاسيس والآلام. وبذلك فإن الشاعر يربط الصدق الفني بالتجربة الشعرية، فما يكتبه ليس خيالا، وإنما تجارب عاشها، يحاول نقلها إلى القارئ عن طريق لغة شعرية استعارية، تتحول الأنا عبرها من الطابع المكشوف إلى الطابع المجرد حيث تجتمع الذات/الانا.
(دع كل شيء)
الحب
الحب ميزان بكفة واحدة
فلاتنتظري هناك عند سن الجبل
حيث التلال اثداء
والمغامرون رضع
إذن يمكن القول، إن هذه النصوص الشعرية جاءت لتؤكد مواصلة الشاعر خلق مشاهد شعرية هي مزيج من اجتماع الذكريات بالحاضر. فالكتابة دائما هي كشف من التحرر والرفض التام لكل أشكال التابوهات في الشعر. كما أن الشاعر يبحث عن خلق متنفس جديد للشعر القصائد، كلها تشير بوضوح إلى انشغالات القصائد بالموت والحياة. وهنا اقول ان الحياة لغز غامض، والموت مُعَرَّف، لا يحتاج إلى تفسير بينما الحياة تحتاج عشرات التفسيرات في ظل الحرب.
(شهيق جماعي)
الان
انارجل في الستين
السنوات العشر المقبلة ليس في صالحي
السنوات الخمي المقبلة ليس في صالحي
بل السنة الحالية ،وربما الان
الان ليس في صالحي
نصوص تقطع الأنفاس بإيقاعها النفسي , وبما تمر به من أحداث, يعرضها الشاعر بلغة شعرية مدهشة, حيث يتتابع المعنى دون توقف, وبرشاقة دون بذخ إنشائي فائض عن حاجة النص .
وما بين الوقائع في المحيط الموضوعي, وبين ما يدور في مخيلة الشاعر تصل إلى حدود الوهم, وخلط الواقع بالمتخيل, بما يشبه الهذيان أحيانا,وهنا يتكيء النص على واقعة حقيقية ليذهب بمقولة النص إلى أفق التحريض.
دع كل شيء))
الشهداء
عند البناية المهجورة التي يحرسها الظلام
تاتيكم السماء خلسة لتنام ليلة هناك
راجفة من الدفء حالمة بالطيور الندية
تفطر مع المتظاهرين عند الصباح
ترش بالشمس الطرق
تطفو تشوهات العلاقات الانسانية على أسطح الحياة الاجتماعية لكن البحث عن جذور هذه التشوهات يتطلب الحفر في البنى الاجتماعية، كل ذلك قرأناه في هذه النصوص وكما تخيلها الشاعر ،سيرة حرب وعن كلِّ من آلمه وخساراته أن يرى كيف: «تبدلتْ القيمُ في المجتمع، وجرت في المنطقة أهوالٌ لايكاد المرء يصدق تقلباتها ونتائجها المدمرة.. أطاحت الحروب بكل ماهو جميل وتفرق الناسحدَّ الهوان، وتفرقت دماءُ الأبرياء.
(شهيق جماعي)
سبايكر
ثمة خطا ما
يستدعي اعادة الوجود مرة اخرى
يبدا الخطا
منذ ان اوفد الدليل دما للقوافل
واخبرنا بماحصل
وفي ذات الوقت الذي يلعن فيه الشاعر العالم وينعى خرابه نراه يحتفي بما يمكن أن يكون منقذاَ لهذا العالم من الخراب نراه يحتفي بالمرأة بشكل عام كما لو أنهُ يريد القول بأن تأنيث العالم هو طريق خلاصه , وكأنه يريد القول أن الأحتفاء بقيمة المراة التي هي صنو الخير والمحبة والخصب والنماء طريقة لتهدئة ضراوته , وأن العالم , هذا العالم الخرِب إذا ما نُظٍرَ إليه بمنظار المراة وسيتخلى عن بعض قسوته وشراسته وسيبدو قابلا للعيش فيه وصالحا للحياة .
وسط الكم الهائل من الكوابيس والهواجس والمخاوف والهذيان والجنون والمقابر والموت والقتل والرصاص والمجازر والطغاة والحروب والمرارات التي حشرهاا لشاعر في متن قصائده نعثر على قصائد ومقاطع شعرية حالمة تنتصر للحياة وتحتفي بالمرأة .والشاعر الذي أرهقه العالم بمآسيه وحروبه وخرابه لا ينفك يبحث عن مهرب لائق كمعادل موضوعي.
.
(دع كل شيء)
امراة الشمعدان
خذي مايدل عليك
ودعي مايدل علي
لااحد
فاتركي المقبرة مطلية بالفطن ودم الحشائش
اتركي حطام العروش
حيث الكلام سحر والحب رسائل
على العموم الشاعر ومن خلال نصوصه وضِعَ بقصد مساءلة العالم مساءلة الحياة وقول ما يعتمل في النفوس من هواجس ومخاوف , ونيابة عن الكثيرين يقول الشاعر هذه المخاوف فالشعر هنا لا يهادن ولا يمالي ولا يعنيه أن يكون جميلا وحالما بقدر ما يعنيه أن يخلخل الثوابت ويحرك السواكن , شعر كالذي نتحدث عنه من أهدافه نقل العدوى إلى المتلقي ليصير هو الآخر ثائراً غاضباً حانقاً راغبا في التغيير للأفضل , ليصير شاعرا،ً .
هذه إطلالة سريعة على نصوص الشاعر الشعرية , سيما وأن الشاعر الذي لم يكن لديه ما يخفيه في عرض همومة وهموم من بعد عن وطنه.
(شهيق جماعي)
متظاهر سلمي)
ليبق رداؤك ابيض
بيدك مفاتيح الوطن
حقوله
واقماره
واطفاله
وعده المديد
وكعادته الشاعر لا بد من أن يتبنى موقفا من الذي يحدث ولهذا نراه الآن ينحاز للحياة وللسلام بعد أن سقطت الأقنعة وبانت النوايا , وإلى أن تنتهي اهذه الكوابيس سيظل الشاعر يدحض بشعره كل هذا العبث وكل هذا الخراب حيث الموت هنا واقعي أكثر من أي وقت مضى..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...