- وقال عن تاريخ المتهمين
أما عن تاريخ المُتهمين فلا ننسى أنَّ شفيق منصور كان من المتهمين فى اغتيال بطرس باشا غالى سنة 1910 وقُبض عليه .. ولكن أُفرج عنه لنقص فى تشريع قانون العقوبات .. وصدَر أمر قاضى الإحالة بأن لا وجه لإقامة الدعوى ضده.
أمَّا عن محمود اسماعيل .. ِفهو أخ لشفيق منصور .. خُلق من طينه وطُبع على الشرِّ مثله .. فهو يكره الانجليز كراهية مُتأصِّلة فى نفسه.
إنَّ محمود اسماعيل بمثابة أركان حرب شفيق منصور .. فهو الذى كان يرسُم الخطط وكيفية ارتكاب الجرائم .. كما علَّم بعض أفراد الجمعية كيفية استعمال القنابل فى الحوادث.
وأمَّا عن الأخوين عبد الفتاع عنايت وعبد الحميد عنايت فأخوهما الأكبر محمود عنايت صديق شفيق منصور .. ولقد اعتُقل محمود عنايت ضمن من اعتُقلوا فى تهمة إلقاء قنبلة على السلطان حسين كامل واعتُقل محمود عنايت بسبب القضية زمنًا طويلا.
- وبعد شرح تاريخ باقى المتهمين أضاف سعادة النائب :
لقد شرحتُ لحضراتكم أدوار هذه القضية. وفصَّلتُ وقائعها. وقد أجهدتُ نفسى فيها حِرصًا على العدل وعلى سُمعة البلاد كما قدَّمتْ.
وقد وضعَت العدالة يدَها على من عاثوا فى الأرض فسادًا .. عَبثوا بالقانون لعواطف شِرِّيرة .. غلَت فى صدورهم فأصَمَّتهُم عن صوت العقل وأعمَتهم عن نور الحق.
لقد اطمأنَّ ضميرى واقتنع بأنَّ مَن قدمتُهم للقضاء العادل لينالوا جزاء شرورهم هُم الجناة السَّفَّاكون .. وأرجو أنَّ ما اقتنعتُ به بحق. سيُقنع ضمائركم فتَمحُون هذه الأخطار الخَطِرة .. وتردُّون عن البلاد بُؤسًا وشقاءً كان المتهمون مَجلبة له.
فنحن الآن يا حضرات المستشارين .. أمام خطر داهم .. إن لم نقف فى سبيله .. سِرنا فى الهاوية .. فعلى حضراتكم أولاً .. ثم على كل مصرى خَبَر الحياة .. وعلى الأخصّ قادة الأفكار فيها .. واجبٌ خطيرٌ شريف .. إنَّ الأمة المصرية تمقُتُ بطبيعتها الاعتداء وقتل النفس التى حرَّم الله قتلها حانقة أشد الحنَق على هذه الفئة الضالة .. التى اتخذت سَفك الدماء صناعة ووسيلة .. ونرجو أن يكون من وراء حُكمكم العادل عِبرة وذكرى لأمثال هؤلاء المتهمين .. حتى لا يعود صغار الأحلام والطائشون إلى اللعب بالنار ولكن هذا العلاج وحده لا يكفى لاستئصال المرض من أساسه.
نعم .. إنَّ قصاص القضاء العادل سيُعيد إلى البلاد حظًا وافرًا من السَّكينة يُمكِّنها من أن تسير فى طريق التقدُّم والارتقاء .. ذلك الطريق الطويل الكثير العَثرَات .. فإذا ما سِرنا بحكمة وأصالة رأى .. قطَعنا الطريق فى وقت قصير قضَى سِوانا فى اجتيازه وقَطعِه قُرونًا .. والحكمة تقضى بالقضاء على هذا المرض الذى وإن كان مَحصورًا الآن فى فئة من الأغرار ضعيفى العقول .. إلا أنه يُخَشى أن تسرى عدواه إلى شبابنا الناهض الذى تفخر به البلاد .. ولها فيه رجاء عظيم .. يُخشَى أن تسرى إليه هذه العدوى فتلتوى هذه الغًصون الرَّطبة على الشَّر .. وهنا الطَّامة الكُبرى.
وها هى نصيحة جلالة الملك المحبوب الساهر على سعادة بلاده والعامل على إعلاء شأنها مسطورة فى خطاب العرش .. يجب أن تكون منقوشة فى صدر كل مصرى لما فيها من العلاج الشافى.
الآن يا حضرات المستشارين .. قد قمتُ بواجبى فى هذه القضية فأطلب منكم أن تستأصلوا اليوم هذه الجرثومة الفاسدة بأشد ما فى القانون فليس فى ذلك من قسوة إذ نحن فى ظروف شديدة توجِب ذلك.
- مرافعة ابراهيم الهلباوى بك عن شفيق منصور :
قَبِلنا هذه المأمورية القاسية .. مأمورية أن نكون لسان حال هؤلاء التُّعساء .. ونحن نعتقد أننا أمام محكمة تصُمُّ آذانها عن كل ما هو خارج عن موضوع الدعوى .. تُقدِّر ظروف الاتهام وظروف الحادث والأدلة كما تُقدرها فى القضايا الأخرى .. هذا رجاء زاد تحقُّقًا عندما أعلن سعادة الرئيس فى جلسة أول أمس أنَّ هذه المحكمة لا تعنى بشىء من السياسة وأنها تَقصِر نظرها على المسائل العادية كما تنظُر بقية القضايا .. زدنا إيمانًا بأنها تُحقق العدل فتُعاقب بقدر الجُّرم .. وتبرِّىء من تعتقد فيهم البراءة.
نعتقد هذا .. ولكن يا حضرات المستشارين .. الظروف التى أثَّرت فى هذه القضية .. والنتائج التَّعِسة التى لحقت بالبلاد .. من المستحيل ونحن نؤدى هذه المأمورية ألا نتأثر بها .. ولكن هذا التأثر يجب أن يقف عند حد هو ما يعنى أنَّ القاضى عندما يُقدِّر أسباب الجريمة .. وعندما يُقدِّر النتائج التى ترتَّبت علي الجريمة .. وعندما يُقدِّر حالة المتهم وتربيته .. تلك هى الأركان الأربعة التى نعتقد أنها ستكون بحسب القانون أساس بحثنا فنقف عندها.
سعادة النائب العام بدأ مرافعته بأن وصفَ شفيق منصور بأنه زعيم العصابة التى ارتكبت هذه الجريمة .. ونحن مع اعترافنا بحُسن تقديره وبالنتائج الباهرة التى وُفِّق اليها فى تحقيق هذه القضية نستسمحه فى أننا نخالفه.
نعم .. أخذ حَضرته يشرح موقف شفيق منصور من التُّهمة كشريك فى الجناية .. ويتكلم عن التطبيق القانونى بالنسبة له .. ثم قال :
عرضتُ على حضراتكم أنكم الآن تعالجون مَرضَى أُصيبوا بجنون الوطنية .. وأريد أن أتكلم عن شيوع هذه الجرائم .. وهو يدعو أحيانًا إلى التشدُّد فى العقوبة .. وهو يدعو أحيانًا إلى التلطُّف فيها.
فالجريمة التى وقعت والتى أخَذ بعض الجرائد الانجليزية يُندِّد بها علينا .. والتى أنتَجت الإنذار البريطانى الذى يقول إنَّا لا نستحق من أجلها أن نكون بين الأمم المتحضِّرة .. هذه الجريمة من واردات أو روبا.
إنَّ أوروبا التى تمنُّ علينا فى كثير من الأحيان بأنَّ ما نحن فيه من حضارة هو من ناحيتها .. يجب أن تقبل أيضًا إلى حدٍّ ما .. أنَّ الجُّرم السياسى هو من ناحيتها أيضا .. فلم يكن الجُّرم السياسى موطنه هذه البلاد أبدًا بل لقد أتى مرض القتل السياسى من الغرب مع مرض الزُّهرى تمامًا .. يجب أن تقبل أوروبا هذا أيضًا .. فهى مُلوَّثة فى جميع أرجائها بمثل هذه الجرائم وبأفظع منها.
أكبر صيحة نرفعها فى وجه مُعلِّمتنا أوروبا .. بأنَّ تسعين فى المائة ممَّن جُرُّوا إلى هذا السبيل .. هم الذين طوَّحَت بهم المقادير وتعلَّموا فى رُبوعها تلك جناية خُلقية .. لا غربية ولا شرقية.
نريدُ استئصال هذه الجراثيم .. القاضى مهما كان لديه من الوسائل لا يستطيع القضاء على الجراثيم .. أحسن علاج أن تعيش الأمم خاضعة للنظام .. إعدام غُلامين أو خمسة أو ستة مثل هؤلاء السُّفهاء لم يعمل فينا على إصلاح الداء .. إنما يرجع الداء إلى أنَّ الأمم ينبغى أن تعيش فيما بينها مُحترِمة لقواعد النظام.
مُعظم العلماء يميلون الآن أيضا فى أوروبا التى نتعلم عنها .. إلى نبذ عقوبة الإعدام .. فإليكم ولو أنِّى أمام محكمة فى أمة صغيرة غير مُعترف للغرب أنها تُعطى حِكمًا وأمثلة للعدل .. ولكن ليس للعدل وطن ولا للحكمة دار .. إذا استطعتُ أن أقدِّم بين يديكم أنَّ هذه العقوبة علاج خطير تنفُر منه النفس إلا فى الأوقات الخطِرة .. فإنى أستطيع أن أقول صونوا الهيئة الاجتماعية من خطر هؤلاء السُّفهاء .. انتفعوا من قوَّة هؤلاء الشُبان فقد ينفعون إذا تابوا .. وقد تُصلِح المقادير من أمرهم .. وخُصوصًا وأنَّ عقوبة الجرائم السياسية مَبنية دائما على خطأ التقدير .. هؤلاء البُغاة يذكرون أنهم ارتكبوا الجريمة بحُسن نية .. هم كالمجنون الذى يتوهَّم خوفه من البرىء فيقتله .. فى عُرفهم هو قصْد الخير .. أنا لا أطلب منكم أن تحترموا هذا وإنما وأنتم تزِنون قدر العقوبة .. عليكم أن تزنوها بقدر فِكر الجانى .. أعفَى القانون القاصر من عقوبة الإعدام لأنه عرَف أنه لا يَقدِر على تمام التقدير الظروف كلها.
هُم مرضَى. ُعرضوا على طبيب ينظر فى أمرهم دون غلٍّ وحقد. أنتم تعالجون مرضَى الأرواح كما يُعالِج الطبيب مَرضَى الأجسام.
ومن أجل هذا أستطيع أن أقول إنَّ هؤلاء المجرمين يستحقون عدلكم .. هذه الدار تُمثِّل رحمة الله فى الأرض .. فأطلبها منكم لهؤلاء الأغرار.
هُنالِك سببٌ أتضرَّع إليكم أيضًا بأن يكون سبب رحمة .. هذه الجريمة كان يَرمى خطرها إلى إيذاء العلاقة بين مصر وانجلترا .. فكان ما لا بُدَّ منه .. أن تتدخل السياسة الانجليزية .. وقد تدخلت واحتمَلت مصر أن تُكفِّر عن هذه الجريمة .. دفعَت تعويضًا لا يقل عن نصف مليون جنيه فهؤلاء الأغرار الأشرار حمَّلونا كل هذا المَصاب .. لهم الحق أن يقولوا إنَّ سعادة النائب العام قال "ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب" لكنَّ حكمة الله يجب ألا تُنسى.
اتفَقَت كل الأئمة على أن دفْع الدِّية ينفى توقيع العقوبة .. وقد دفعَت مصر الدِّية .. فأرجو أن تُدخلوا ذلك فى اعتباركم.
وأرجو أن يعرف الانجليز أنَّا أمة تعرف الجميل .. وتعرف الرحمة فنرجوا ألا يؤاخذونا بما فعَل السُّفهاءُ مِنَّا.
قِيل لكم أمس إنَّ هذه القضية الأولى من نوعها التى تعرض على القضاء المصرى .. وأنا أعتقد أن عودة القضاء فيها إلى نظامه العادى قد جعلتها بين أيدى قضاة ممَّن تتشرَّف بهم الأمم فيما يتعلق بصيانة المصالح فأؤكِّد لكم أنَّ الطمأنينة قد عادت فى كثير من البلاد.
لا أقول إنَّ الانجليز غير عادلين .. ففخر للأمة الانجليزية عدالتها ولكن إذا اعتزَّ المصرى بعودة قضائه النَّظر فى أموره كلها .. فإنما هذا ترضية لشعوره واحساسه بالعبء الذى يُلقى على عاتقه.
حضرات المستشارين : أهل المتهمين يتقدمون جميعًا طالبين الرحمة مع اعترافهم بما حدث.
- دفاع الأستاذ وهيب دوس عن شفيق منصور :
- حضرات المستشارين :
- فرضَ القانون فيما فرضَ ضمانًا لحُسن سياسة القضاء وإقامة العدل بين الناس .. أن لا يتقدم مُتهم أمام هيكل قضائكم الجنائى دون أن يرافقه فى هذه المرحلة الأليمة محام يتولى الدفاع عنه .. محام يشترك معكم فى شرف خدمة القانون .. ويرتفع عن أوساط المتهمين إلى الوسط الذى يُفهم فيه معنى العدالة كما تفهمونه أنتُم .. ويُقدِّر أغراض الشارع التى وَكلَ إليكم تحقيقها كما تُقدرونها .. فيعرض عليكم كما يحب أن يعرض بريئًا أو مُذنبًا ويصوِّر لكم العواطف التى اجتاحت نفسه وعصَفَت بوجدانه فأفقدته أسمَى ما يتحلى به الإنسان فى انسانيته .. وأرقى ما يَطمح فى السُّمو إليه من فضيلة الرفق والتضحية والتسامح التى لو سادت لما اجترم مجرم جُرمه ولما قامت الحاجة إلى نظام قضائى.
أوجب القانون هذا .. مع افتراض أن يكون بين هؤلاء مُعترف أو مُتلبس بجريمته دون أن يُحَرم هذا الفريق من هذه المساعدة .. أو يُقلِّل من أهميتها بالنسبة له .. فكان قضاؤكم باطلا إذا لم يسترشد بدفاع المحامين الذين أصبحوا رُكنًا أساسيًا فى القضاء الجنائى تسعى إلى تحقيق قيامه نفس السلطة التى تُقيم الدعوى إذا قصَّر المتهم فى حق نفسه فلم يَسْع إليه أو حتى إذا رفضَهُ هو رفضًا باتًا.
لم يكن هذا الوجوب عَبثًا يا حضرات المستشارين .. لأن المهمة التى شرَّفنا الشارع بتقليدنا إياها – مُهمة الدفاع عن المتهمين أمامكم – لا تقوى النفوس البشرية أن تجمع بينها وبين مُهمة القضاء .. فنفس القاضى وهو يجلس للقضاء عُرضة لتنازع العوامل المختلفة .. والأهواء المتباينة .. بحُكم مركزه يتبين مَصاب المجنى عليه .. فيتصوَّر حال من أصابهم الجانى بجنايته ليُقدِّر مبلغ أثرها فيهم ليسترشد بذلك فى حُكمه .. وعليه أيضًا أن يتبين نفسية المتهم .. وما تفاعَل فى نفسه من الأغراض والشَّهوات .. ومبلغ أثرها فى حُسن تقديره لِما أقَدم عليه .. على القاضى أن يحيط بهذا وذاك وهو بغير شك عُرضة للخطأ فى التقدير بين مُختلف هذه الأهواء والشهوات .. ومن هنا وُجِدت الحاجة إلى من يُقيم الدعوى ومن يُدافع فيها .. ليتفرغ القاضى إلى وزن ما يُعرض عليه دون إجهاد فى البحث عما يجب أن يُعرَض.
لهذا كان شرف المحاماة عظيمًا بهذا المكان الأسمَى الذى حلَّت فيه تحت هذا النظام ..ولهذا جئنا نُدافع أمامكم عن هؤلاء المتهمين تقديرًا لهذا الشرف رغم ما أرجَف به الكثيرون من تشويه جمال هذا الموقف الذى نقفه كمحامين نرتدى هذا الرِّداء .. ونخلع فيه عن أنفسنا كل رداء آخر قد يُعطِّل من جهودنا فيما لو أعرناه التفاتنا وجارَيْنا هؤلاء المُرجفين فى إعارته اعتبارنا.
يظُن العامة يا حضرات المستشارين .. أنَّ اعتراف المتهم باجترام الجرم يخفِّفُ عِبء القضاء على القاضى ويُهوِّن له سبيل الحكم فى الدعوى لقد ضلَّ العامَّة فى زعهمِهم .. وأمامكم الفُرصة سانحةً لخدمة العدالة بالقضاء على هذه الضلالة.
إذا أنكر المتهم وأقيمت عليه البيِّنة كان عمل القاضى هيِّنا فهو لا يتقيد إلا بالعمل المادى .. وهذا قد أقِيم عليه الدليل .. فلا ينبغى إلا توقيع العقاب فيوقِعه القاضى وهو قرير العين .. طيب النفس للخدمة التى أدَّاها
للمجتمع.
أمَّا المتهم المُعترف بجريمته فيتقدَّم لقاضيه وسريرته على كفَّيه يبسطها أمامه مُطالبًا إيَّاه بأن يحل نفسه محله .. ويتصورها مَحوطة بظروفه وأن يَنزل إلى دَركِه فى الفهم وفى مبلغ أثر الحوادث فيه .. يُطالبه بكل هذا لأن القضاء لا يقوم إلا بتفهُّم هذا جميعه .. ومن أجل ذلك ترك لكم ذلك المدى الواسع بين أقصى العقوبة وأدناها .. والمفروض فى جميع الأحوال أنَّ الفعل المادى واحد .. ولا يجىء الفرق فى الحكم إلا لاختلاف ما يفهمه القاضى من جميع تلك العناصر المختلفة والأهواء المتباينة.
لهذا كانت مأموريتكم يا حضرات المستشارين فى حال المتهم المعترف أشقُّ وأدقُّ منها فى أى ظرف آخر .. حتى فى حالة الجريمة التى يعتذر المتهم عنها بإحدى شهوات النفس الأولية كالانتقام والغيرة والسرقة للفاقة .. والغضب لعدم ضبط العواطف.
فإذا كان هذا هو حالكم فى تَبيُّن تلك الشهوات الأولية .. فكم يكون واجبكم أشقُّ إذا كانت مُقدمات الجريمة تشتبك فيها العواطف وتأخذ فيها الشهوات بعضها بأعناق بعض .. وتتناقض فيها الحالة النفسية للمتهم الواحد تناقضًا لا يتَّفق مع النتيجة على ظاهر الحال ولا يمكن فهمه إلا بالجهد والعنَت.
لهذا كان إشفاقى على نفسى .. وعلى حضرات زملائى الذين كُلِّفوا بالدفاع فى هذه الدعوى عن المُعترفين من المتهمين .. وكان اشفاقى أعظم على حضراتكم .. وفى أعناقكم مسئولية الحُكم وعليكم وحدكم تبِعته وضمائركم بين ضلوعكم تستحكم لِتَلَمُّس قبَس النور فى هذا الظلام الحالك .. فلا تكادون تتَّبعونه حتى يَختفى .. وبدون هذا القبَس لا تملكون الحُكم ولا تذوقون طعم الراحة إذا أنتم حكمتُم.
حضرات المستشارين : ستخلون إلى أنفسكم إذا ما فرغنا نحن من القيام بواجبنا .. وسَتعرضُون أمام خيالكم الجريمة بما أحاط بها من ظروف مُفجِعة .. وما ترتَّب عليها من نتائج بعيدة المدى .. قد يكون من أثرها تعطيل تقدُّم البلد أحقابًا أو أجيالاً .. سَتعرضون أمام خيالكم المجنى عليه عائدًا من بلاده بعد أن قضَى فيها شهور راحته .. وتارًكا وارءه إخوانًا وخلاَّنا على أمل لقائهم قريبًا .. عائدًا ونفسه مملوءة بالآمال فى المستقبل وقلبه مُفعمٌ بالمشروعات التى ينوى أن يَخدم بها وطنه.
سيأتى حتمًا فى هذه الصورة خيال زوج ذلك الشهيد وفخرها واعتزازها بهذا الذى يُمثِّل لها الرجولة الحقَّة .. وأملها فى أن يُخلِّد لها من الذِّكر الطيب ما يشتريه الناس بأرواحهم كاسبين.
ستتمثَّلون هذا جميعه وغيره مما يَعرض للمفكر عميق التفكير وتتصورون أنَّ تلك الحياة النابضة .. وذلك الجِّسم القوى وتلك المواهب والآمال تتهدَّم فى لحظة واحدة. فإذا بقائد الجيش لا يقوى على الكلام. وإذا بالموت يتسلل إيه برغم ما أحاط به من أصدقاء وأحباب .. وإذا بالبرق تتجاوب أسلاكه بخبر الفاجعة .. وإذا بالرجل المملوء حياة ونشاطًا طالما ملأ بهما ميادين القتال رهين حُفرة تضيقُ به ويضيقُ بها.
يا حضرات المستشارين : إذا تعاقَبت هذه الصُّور المُفزعة أمامكم فثارت نفوسكم للحق .. وهمَّت بتوقيع العقاب على المجرم .. فتذكروا أنكم ورثتم أولياء الدم فى نظام القضاء الحديث .. ولكن الإرث انتقل اليكم بعد أن تجرَّد من عاطفة الغضَب والانتقام .. انتقل اليكم للقصاص العدل القصاص الذى فيه الحياة .. فتذكروا هذا ولا تنسوا أنَّ للمسألة وجهًا آخر يجب استعراض صُوره كذلك استعراضًا دقيقًا قبل أن تقولوا كلمتكم الأخيرة .. وبها تتعلق أرواح هؤلاء الأغرار.
- وبعد شرح الأستاذ المفوَّه تلك المؤثرات التى دفعت المتهمين إلى القتل اختتم يقول :
تذكروا يا حضرات المستشارين إذا ما وضعتُم القلم على القِرطاس وقبل أن يجرى به قضاؤكم .. أنَّ هؤلاء الشبان قضوا أعوامًا انغمسوا فيها فى الجريمة دون أن يكون لهم فى ذلك مصلحة.
تذكروا أنَّ لهم عائلات يُلبسها حكمكم السَّواد .. وأمَّهاتٌ وأخوات تخفِق قلوبهنَّ حُنوًّا وعطفًا .. وتجزع نفوسهنًّ هلعًا واشفاقًا .. وأنَّ لهم عليكم دَيْنًا لا تملكون سداده إذا حَمَّ القضاء.
خاطَروا بأنفسهم وتعرضوا للموت قتلا أو حُكمًا فى سبيل مصر بحسب مُعتقدهم .. والأعمال بالنيات .. وهذا دين يشغل ذمة كل مصرى عليكم فيه نصيبكم .. مُوَفُّونه فى حُكمكم بإقالتهم من عَثرتهم .. وإنكم بإذن الله لفاعلون.
ملاحظة : قُضى فى هذه الجناية بإعدام جميع المتهمين.
" انتهى "
أما عن تاريخ المُتهمين فلا ننسى أنَّ شفيق منصور كان من المتهمين فى اغتيال بطرس باشا غالى سنة 1910 وقُبض عليه .. ولكن أُفرج عنه لنقص فى تشريع قانون العقوبات .. وصدَر أمر قاضى الإحالة بأن لا وجه لإقامة الدعوى ضده.
أمَّا عن محمود اسماعيل .. ِفهو أخ لشفيق منصور .. خُلق من طينه وطُبع على الشرِّ مثله .. فهو يكره الانجليز كراهية مُتأصِّلة فى نفسه.
إنَّ محمود اسماعيل بمثابة أركان حرب شفيق منصور .. فهو الذى كان يرسُم الخطط وكيفية ارتكاب الجرائم .. كما علَّم بعض أفراد الجمعية كيفية استعمال القنابل فى الحوادث.
وأمَّا عن الأخوين عبد الفتاع عنايت وعبد الحميد عنايت فأخوهما الأكبر محمود عنايت صديق شفيق منصور .. ولقد اعتُقل محمود عنايت ضمن من اعتُقلوا فى تهمة إلقاء قنبلة على السلطان حسين كامل واعتُقل محمود عنايت بسبب القضية زمنًا طويلا.
- وبعد شرح تاريخ باقى المتهمين أضاف سعادة النائب :
لقد شرحتُ لحضراتكم أدوار هذه القضية. وفصَّلتُ وقائعها. وقد أجهدتُ نفسى فيها حِرصًا على العدل وعلى سُمعة البلاد كما قدَّمتْ.
وقد وضعَت العدالة يدَها على من عاثوا فى الأرض فسادًا .. عَبثوا بالقانون لعواطف شِرِّيرة .. غلَت فى صدورهم فأصَمَّتهُم عن صوت العقل وأعمَتهم عن نور الحق.
لقد اطمأنَّ ضميرى واقتنع بأنَّ مَن قدمتُهم للقضاء العادل لينالوا جزاء شرورهم هُم الجناة السَّفَّاكون .. وأرجو أنَّ ما اقتنعتُ به بحق. سيُقنع ضمائركم فتَمحُون هذه الأخطار الخَطِرة .. وتردُّون عن البلاد بُؤسًا وشقاءً كان المتهمون مَجلبة له.
فنحن الآن يا حضرات المستشارين .. أمام خطر داهم .. إن لم نقف فى سبيله .. سِرنا فى الهاوية .. فعلى حضراتكم أولاً .. ثم على كل مصرى خَبَر الحياة .. وعلى الأخصّ قادة الأفكار فيها .. واجبٌ خطيرٌ شريف .. إنَّ الأمة المصرية تمقُتُ بطبيعتها الاعتداء وقتل النفس التى حرَّم الله قتلها حانقة أشد الحنَق على هذه الفئة الضالة .. التى اتخذت سَفك الدماء صناعة ووسيلة .. ونرجو أن يكون من وراء حُكمكم العادل عِبرة وذكرى لأمثال هؤلاء المتهمين .. حتى لا يعود صغار الأحلام والطائشون إلى اللعب بالنار ولكن هذا العلاج وحده لا يكفى لاستئصال المرض من أساسه.
نعم .. إنَّ قصاص القضاء العادل سيُعيد إلى البلاد حظًا وافرًا من السَّكينة يُمكِّنها من أن تسير فى طريق التقدُّم والارتقاء .. ذلك الطريق الطويل الكثير العَثرَات .. فإذا ما سِرنا بحكمة وأصالة رأى .. قطَعنا الطريق فى وقت قصير قضَى سِوانا فى اجتيازه وقَطعِه قُرونًا .. والحكمة تقضى بالقضاء على هذا المرض الذى وإن كان مَحصورًا الآن فى فئة من الأغرار ضعيفى العقول .. إلا أنه يُخَشى أن تسرى عدواه إلى شبابنا الناهض الذى تفخر به البلاد .. ولها فيه رجاء عظيم .. يُخشَى أن تسرى إليه هذه العدوى فتلتوى هذه الغًصون الرَّطبة على الشَّر .. وهنا الطَّامة الكُبرى.
وها هى نصيحة جلالة الملك المحبوب الساهر على سعادة بلاده والعامل على إعلاء شأنها مسطورة فى خطاب العرش .. يجب أن تكون منقوشة فى صدر كل مصرى لما فيها من العلاج الشافى.
الآن يا حضرات المستشارين .. قد قمتُ بواجبى فى هذه القضية فأطلب منكم أن تستأصلوا اليوم هذه الجرثومة الفاسدة بأشد ما فى القانون فليس فى ذلك من قسوة إذ نحن فى ظروف شديدة توجِب ذلك.
- مرافعة ابراهيم الهلباوى بك عن شفيق منصور :
قَبِلنا هذه المأمورية القاسية .. مأمورية أن نكون لسان حال هؤلاء التُّعساء .. ونحن نعتقد أننا أمام محكمة تصُمُّ آذانها عن كل ما هو خارج عن موضوع الدعوى .. تُقدِّر ظروف الاتهام وظروف الحادث والأدلة كما تُقدرها فى القضايا الأخرى .. هذا رجاء زاد تحقُّقًا عندما أعلن سعادة الرئيس فى جلسة أول أمس أنَّ هذه المحكمة لا تعنى بشىء من السياسة وأنها تَقصِر نظرها على المسائل العادية كما تنظُر بقية القضايا .. زدنا إيمانًا بأنها تُحقق العدل فتُعاقب بقدر الجُّرم .. وتبرِّىء من تعتقد فيهم البراءة.
نعتقد هذا .. ولكن يا حضرات المستشارين .. الظروف التى أثَّرت فى هذه القضية .. والنتائج التَّعِسة التى لحقت بالبلاد .. من المستحيل ونحن نؤدى هذه المأمورية ألا نتأثر بها .. ولكن هذا التأثر يجب أن يقف عند حد هو ما يعنى أنَّ القاضى عندما يُقدِّر أسباب الجريمة .. وعندما يُقدِّر النتائج التى ترتَّبت علي الجريمة .. وعندما يُقدِّر حالة المتهم وتربيته .. تلك هى الأركان الأربعة التى نعتقد أنها ستكون بحسب القانون أساس بحثنا فنقف عندها.
سعادة النائب العام بدأ مرافعته بأن وصفَ شفيق منصور بأنه زعيم العصابة التى ارتكبت هذه الجريمة .. ونحن مع اعترافنا بحُسن تقديره وبالنتائج الباهرة التى وُفِّق اليها فى تحقيق هذه القضية نستسمحه فى أننا نخالفه.
نعم .. أخذ حَضرته يشرح موقف شفيق منصور من التُّهمة كشريك فى الجناية .. ويتكلم عن التطبيق القانونى بالنسبة له .. ثم قال :
عرضتُ على حضراتكم أنكم الآن تعالجون مَرضَى أُصيبوا بجنون الوطنية .. وأريد أن أتكلم عن شيوع هذه الجرائم .. وهو يدعو أحيانًا إلى التشدُّد فى العقوبة .. وهو يدعو أحيانًا إلى التلطُّف فيها.
فالجريمة التى وقعت والتى أخَذ بعض الجرائد الانجليزية يُندِّد بها علينا .. والتى أنتَجت الإنذار البريطانى الذى يقول إنَّا لا نستحق من أجلها أن نكون بين الأمم المتحضِّرة .. هذه الجريمة من واردات أو روبا.
إنَّ أوروبا التى تمنُّ علينا فى كثير من الأحيان بأنَّ ما نحن فيه من حضارة هو من ناحيتها .. يجب أن تقبل أيضًا إلى حدٍّ ما .. أنَّ الجُّرم السياسى هو من ناحيتها أيضا .. فلم يكن الجُّرم السياسى موطنه هذه البلاد أبدًا بل لقد أتى مرض القتل السياسى من الغرب مع مرض الزُّهرى تمامًا .. يجب أن تقبل أوروبا هذا أيضًا .. فهى مُلوَّثة فى جميع أرجائها بمثل هذه الجرائم وبأفظع منها.
أكبر صيحة نرفعها فى وجه مُعلِّمتنا أوروبا .. بأنَّ تسعين فى المائة ممَّن جُرُّوا إلى هذا السبيل .. هم الذين طوَّحَت بهم المقادير وتعلَّموا فى رُبوعها تلك جناية خُلقية .. لا غربية ولا شرقية.
نريدُ استئصال هذه الجراثيم .. القاضى مهما كان لديه من الوسائل لا يستطيع القضاء على الجراثيم .. أحسن علاج أن تعيش الأمم خاضعة للنظام .. إعدام غُلامين أو خمسة أو ستة مثل هؤلاء السُّفهاء لم يعمل فينا على إصلاح الداء .. إنما يرجع الداء إلى أنَّ الأمم ينبغى أن تعيش فيما بينها مُحترِمة لقواعد النظام.
مُعظم العلماء يميلون الآن أيضا فى أوروبا التى نتعلم عنها .. إلى نبذ عقوبة الإعدام .. فإليكم ولو أنِّى أمام محكمة فى أمة صغيرة غير مُعترف للغرب أنها تُعطى حِكمًا وأمثلة للعدل .. ولكن ليس للعدل وطن ولا للحكمة دار .. إذا استطعتُ أن أقدِّم بين يديكم أنَّ هذه العقوبة علاج خطير تنفُر منه النفس إلا فى الأوقات الخطِرة .. فإنى أستطيع أن أقول صونوا الهيئة الاجتماعية من خطر هؤلاء السُّفهاء .. انتفعوا من قوَّة هؤلاء الشُبان فقد ينفعون إذا تابوا .. وقد تُصلِح المقادير من أمرهم .. وخُصوصًا وأنَّ عقوبة الجرائم السياسية مَبنية دائما على خطأ التقدير .. هؤلاء البُغاة يذكرون أنهم ارتكبوا الجريمة بحُسن نية .. هم كالمجنون الذى يتوهَّم خوفه من البرىء فيقتله .. فى عُرفهم هو قصْد الخير .. أنا لا أطلب منكم أن تحترموا هذا وإنما وأنتم تزِنون قدر العقوبة .. عليكم أن تزنوها بقدر فِكر الجانى .. أعفَى القانون القاصر من عقوبة الإعدام لأنه عرَف أنه لا يَقدِر على تمام التقدير الظروف كلها.
هُم مرضَى. ُعرضوا على طبيب ينظر فى أمرهم دون غلٍّ وحقد. أنتم تعالجون مرضَى الأرواح كما يُعالِج الطبيب مَرضَى الأجسام.
ومن أجل هذا أستطيع أن أقول إنَّ هؤلاء المجرمين يستحقون عدلكم .. هذه الدار تُمثِّل رحمة الله فى الأرض .. فأطلبها منكم لهؤلاء الأغرار.
هُنالِك سببٌ أتضرَّع إليكم أيضًا بأن يكون سبب رحمة .. هذه الجريمة كان يَرمى خطرها إلى إيذاء العلاقة بين مصر وانجلترا .. فكان ما لا بُدَّ منه .. أن تتدخل السياسة الانجليزية .. وقد تدخلت واحتمَلت مصر أن تُكفِّر عن هذه الجريمة .. دفعَت تعويضًا لا يقل عن نصف مليون جنيه فهؤلاء الأغرار الأشرار حمَّلونا كل هذا المَصاب .. لهم الحق أن يقولوا إنَّ سعادة النائب العام قال "ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب" لكنَّ حكمة الله يجب ألا تُنسى.
اتفَقَت كل الأئمة على أن دفْع الدِّية ينفى توقيع العقوبة .. وقد دفعَت مصر الدِّية .. فأرجو أن تُدخلوا ذلك فى اعتباركم.
وأرجو أن يعرف الانجليز أنَّا أمة تعرف الجميل .. وتعرف الرحمة فنرجوا ألا يؤاخذونا بما فعَل السُّفهاءُ مِنَّا.
قِيل لكم أمس إنَّ هذه القضية الأولى من نوعها التى تعرض على القضاء المصرى .. وأنا أعتقد أن عودة القضاء فيها إلى نظامه العادى قد جعلتها بين أيدى قضاة ممَّن تتشرَّف بهم الأمم فيما يتعلق بصيانة المصالح فأؤكِّد لكم أنَّ الطمأنينة قد عادت فى كثير من البلاد.
لا أقول إنَّ الانجليز غير عادلين .. ففخر للأمة الانجليزية عدالتها ولكن إذا اعتزَّ المصرى بعودة قضائه النَّظر فى أموره كلها .. فإنما هذا ترضية لشعوره واحساسه بالعبء الذى يُلقى على عاتقه.
حضرات المستشارين : أهل المتهمين يتقدمون جميعًا طالبين الرحمة مع اعترافهم بما حدث.
- دفاع الأستاذ وهيب دوس عن شفيق منصور :
- حضرات المستشارين :
- فرضَ القانون فيما فرضَ ضمانًا لحُسن سياسة القضاء وإقامة العدل بين الناس .. أن لا يتقدم مُتهم أمام هيكل قضائكم الجنائى دون أن يرافقه فى هذه المرحلة الأليمة محام يتولى الدفاع عنه .. محام يشترك معكم فى شرف خدمة القانون .. ويرتفع عن أوساط المتهمين إلى الوسط الذى يُفهم فيه معنى العدالة كما تفهمونه أنتُم .. ويُقدِّر أغراض الشارع التى وَكلَ إليكم تحقيقها كما تُقدرونها .. فيعرض عليكم كما يحب أن يعرض بريئًا أو مُذنبًا ويصوِّر لكم العواطف التى اجتاحت نفسه وعصَفَت بوجدانه فأفقدته أسمَى ما يتحلى به الإنسان فى انسانيته .. وأرقى ما يَطمح فى السُّمو إليه من فضيلة الرفق والتضحية والتسامح التى لو سادت لما اجترم مجرم جُرمه ولما قامت الحاجة إلى نظام قضائى.
أوجب القانون هذا .. مع افتراض أن يكون بين هؤلاء مُعترف أو مُتلبس بجريمته دون أن يُحَرم هذا الفريق من هذه المساعدة .. أو يُقلِّل من أهميتها بالنسبة له .. فكان قضاؤكم باطلا إذا لم يسترشد بدفاع المحامين الذين أصبحوا رُكنًا أساسيًا فى القضاء الجنائى تسعى إلى تحقيق قيامه نفس السلطة التى تُقيم الدعوى إذا قصَّر المتهم فى حق نفسه فلم يَسْع إليه أو حتى إذا رفضَهُ هو رفضًا باتًا.
لم يكن هذا الوجوب عَبثًا يا حضرات المستشارين .. لأن المهمة التى شرَّفنا الشارع بتقليدنا إياها – مُهمة الدفاع عن المتهمين أمامكم – لا تقوى النفوس البشرية أن تجمع بينها وبين مُهمة القضاء .. فنفس القاضى وهو يجلس للقضاء عُرضة لتنازع العوامل المختلفة .. والأهواء المتباينة .. بحُكم مركزه يتبين مَصاب المجنى عليه .. فيتصوَّر حال من أصابهم الجانى بجنايته ليُقدِّر مبلغ أثرها فيهم ليسترشد بذلك فى حُكمه .. وعليه أيضًا أن يتبين نفسية المتهم .. وما تفاعَل فى نفسه من الأغراض والشَّهوات .. ومبلغ أثرها فى حُسن تقديره لِما أقَدم عليه .. على القاضى أن يحيط بهذا وذاك وهو بغير شك عُرضة للخطأ فى التقدير بين مُختلف هذه الأهواء والشهوات .. ومن هنا وُجِدت الحاجة إلى من يُقيم الدعوى ومن يُدافع فيها .. ليتفرغ القاضى إلى وزن ما يُعرض عليه دون إجهاد فى البحث عما يجب أن يُعرَض.
لهذا كان شرف المحاماة عظيمًا بهذا المكان الأسمَى الذى حلَّت فيه تحت هذا النظام ..ولهذا جئنا نُدافع أمامكم عن هؤلاء المتهمين تقديرًا لهذا الشرف رغم ما أرجَف به الكثيرون من تشويه جمال هذا الموقف الذى نقفه كمحامين نرتدى هذا الرِّداء .. ونخلع فيه عن أنفسنا كل رداء آخر قد يُعطِّل من جهودنا فيما لو أعرناه التفاتنا وجارَيْنا هؤلاء المُرجفين فى إعارته اعتبارنا.
يظُن العامة يا حضرات المستشارين .. أنَّ اعتراف المتهم باجترام الجرم يخفِّفُ عِبء القضاء على القاضى ويُهوِّن له سبيل الحكم فى الدعوى لقد ضلَّ العامَّة فى زعهمِهم .. وأمامكم الفُرصة سانحةً لخدمة العدالة بالقضاء على هذه الضلالة.
إذا أنكر المتهم وأقيمت عليه البيِّنة كان عمل القاضى هيِّنا فهو لا يتقيد إلا بالعمل المادى .. وهذا قد أقِيم عليه الدليل .. فلا ينبغى إلا توقيع العقاب فيوقِعه القاضى وهو قرير العين .. طيب النفس للخدمة التى أدَّاها
للمجتمع.
أمَّا المتهم المُعترف بجريمته فيتقدَّم لقاضيه وسريرته على كفَّيه يبسطها أمامه مُطالبًا إيَّاه بأن يحل نفسه محله .. ويتصورها مَحوطة بظروفه وأن يَنزل إلى دَركِه فى الفهم وفى مبلغ أثر الحوادث فيه .. يُطالبه بكل هذا لأن القضاء لا يقوم إلا بتفهُّم هذا جميعه .. ومن أجل ذلك ترك لكم ذلك المدى الواسع بين أقصى العقوبة وأدناها .. والمفروض فى جميع الأحوال أنَّ الفعل المادى واحد .. ولا يجىء الفرق فى الحكم إلا لاختلاف ما يفهمه القاضى من جميع تلك العناصر المختلفة والأهواء المتباينة.
لهذا كانت مأموريتكم يا حضرات المستشارين فى حال المتهم المعترف أشقُّ وأدقُّ منها فى أى ظرف آخر .. حتى فى حالة الجريمة التى يعتذر المتهم عنها بإحدى شهوات النفس الأولية كالانتقام والغيرة والسرقة للفاقة .. والغضب لعدم ضبط العواطف.
فإذا كان هذا هو حالكم فى تَبيُّن تلك الشهوات الأولية .. فكم يكون واجبكم أشقُّ إذا كانت مُقدمات الجريمة تشتبك فيها العواطف وتأخذ فيها الشهوات بعضها بأعناق بعض .. وتتناقض فيها الحالة النفسية للمتهم الواحد تناقضًا لا يتَّفق مع النتيجة على ظاهر الحال ولا يمكن فهمه إلا بالجهد والعنَت.
لهذا كان إشفاقى على نفسى .. وعلى حضرات زملائى الذين كُلِّفوا بالدفاع فى هذه الدعوى عن المُعترفين من المتهمين .. وكان اشفاقى أعظم على حضراتكم .. وفى أعناقكم مسئولية الحُكم وعليكم وحدكم تبِعته وضمائركم بين ضلوعكم تستحكم لِتَلَمُّس قبَس النور فى هذا الظلام الحالك .. فلا تكادون تتَّبعونه حتى يَختفى .. وبدون هذا القبَس لا تملكون الحُكم ولا تذوقون طعم الراحة إذا أنتم حكمتُم.
حضرات المستشارين : ستخلون إلى أنفسكم إذا ما فرغنا نحن من القيام بواجبنا .. وسَتعرضُون أمام خيالكم الجريمة بما أحاط بها من ظروف مُفجِعة .. وما ترتَّب عليها من نتائج بعيدة المدى .. قد يكون من أثرها تعطيل تقدُّم البلد أحقابًا أو أجيالاً .. سَتعرضون أمام خيالكم المجنى عليه عائدًا من بلاده بعد أن قضَى فيها شهور راحته .. وتارًكا وارءه إخوانًا وخلاَّنا على أمل لقائهم قريبًا .. عائدًا ونفسه مملوءة بالآمال فى المستقبل وقلبه مُفعمٌ بالمشروعات التى ينوى أن يَخدم بها وطنه.
سيأتى حتمًا فى هذه الصورة خيال زوج ذلك الشهيد وفخرها واعتزازها بهذا الذى يُمثِّل لها الرجولة الحقَّة .. وأملها فى أن يُخلِّد لها من الذِّكر الطيب ما يشتريه الناس بأرواحهم كاسبين.
ستتمثَّلون هذا جميعه وغيره مما يَعرض للمفكر عميق التفكير وتتصورون أنَّ تلك الحياة النابضة .. وذلك الجِّسم القوى وتلك المواهب والآمال تتهدَّم فى لحظة واحدة. فإذا بقائد الجيش لا يقوى على الكلام. وإذا بالموت يتسلل إيه برغم ما أحاط به من أصدقاء وأحباب .. وإذا بالبرق تتجاوب أسلاكه بخبر الفاجعة .. وإذا بالرجل المملوء حياة ونشاطًا طالما ملأ بهما ميادين القتال رهين حُفرة تضيقُ به ويضيقُ بها.
يا حضرات المستشارين : إذا تعاقَبت هذه الصُّور المُفزعة أمامكم فثارت نفوسكم للحق .. وهمَّت بتوقيع العقاب على المجرم .. فتذكروا أنكم ورثتم أولياء الدم فى نظام القضاء الحديث .. ولكن الإرث انتقل اليكم بعد أن تجرَّد من عاطفة الغضَب والانتقام .. انتقل اليكم للقصاص العدل القصاص الذى فيه الحياة .. فتذكروا هذا ولا تنسوا أنَّ للمسألة وجهًا آخر يجب استعراض صُوره كذلك استعراضًا دقيقًا قبل أن تقولوا كلمتكم الأخيرة .. وبها تتعلق أرواح هؤلاء الأغرار.
- وبعد شرح الأستاذ المفوَّه تلك المؤثرات التى دفعت المتهمين إلى القتل اختتم يقول :
تذكروا يا حضرات المستشارين إذا ما وضعتُم القلم على القِرطاس وقبل أن يجرى به قضاؤكم .. أنَّ هؤلاء الشبان قضوا أعوامًا انغمسوا فيها فى الجريمة دون أن يكون لهم فى ذلك مصلحة.
تذكروا أنَّ لهم عائلات يُلبسها حكمكم السَّواد .. وأمَّهاتٌ وأخوات تخفِق قلوبهنَّ حُنوًّا وعطفًا .. وتجزع نفوسهنًّ هلعًا واشفاقًا .. وأنَّ لهم عليكم دَيْنًا لا تملكون سداده إذا حَمَّ القضاء.
خاطَروا بأنفسهم وتعرضوا للموت قتلا أو حُكمًا فى سبيل مصر بحسب مُعتقدهم .. والأعمال بالنيات .. وهذا دين يشغل ذمة كل مصرى عليكم فيه نصيبكم .. مُوَفُّونه فى حُكمكم بإقالتهم من عَثرتهم .. وإنكم بإذن الله لفاعلون.
ملاحظة : قُضى فى هذه الجناية بإعدام جميع المتهمين.
" انتهى "