أدب السجون أوسكار وايلد - سر السجين..

عدت إلى منزلي في مساء ذلك اليوم منهكا مكدودا على إثر جهد صحفي شاق، فتهالكت على كرسي الوثير وأدرت المذياع ورحت أستمع إلى أنغام موسيقية راقصة ناعمة النبرات.
وكان النعاس خيم على رأسي وأخذ يمد سلطانه على سمعيـ فإذا الأنغام تعلو تارة وتنخفض أخرى... وبينما أنا بين الإغفاء والنوم إذا برنين التلفون يردني إلى اليقظة، فما إن رفعت السماعة إلى أذني حتى ابتدرني صوت رئيس قسم الأخبار يقول لي:
أهذا أنت ... كاريتون؟!
فتثاءبت ملء شدقي وقلت في صوت أثقله الكرى: (نعم... وخيرا إن شاء الله) .
قال:( كأنك نائم... أو يخالطك نعاس؟).
قلت: (إنها ليلة راحة لي... أم حرام على مخبر جنائي أن يستمتع بليلة هانئة وهادئة؟).
فصاح الرئيس قائلا: (إن نومك في هذه الليلة حرام وألف حرام فالمحافظ فيليب ينتظر الساعة أن توافيه لترافقه إلى سجن بانتونفيل في زيارة ذات أهمية خاصة لمناسبة تنفيذ حكم الإعدام في فلتشر.. فاغلب ظني أن الرجل قد راقه أسلوبك الذي تناولت به قضيته في مختلف أدوار محاكمته فوقع اختياره عليك دون سائر زملائك من مخبري الصحف الأخرى بآخر حديث يودع به الحياة... هنيئا لك يا كاريتون هذه الثقة الغالية. وهذا التقرير العظيم من محكوم عليه بالإعدام...!)
فلما وصلت إلى السجن كان في انتظاري رئيس الحرس الذي قادني إلى حيث كان ينتظرني المحافظ، فانطلقت وإياه إلى غرفة الموت. فلما دخلنا أغلق جندي شاكي السلاح الباب. ووقع نظري من خلال الضوء الخابي على فلتشر المتكئ على حافة سريره ورأسه بين يديه... فما أن رآني حتى قام عن حافة سريره وتقدم يستقبلني باشا ويقول لي: تعال يا صديقي لأروي لك حكاية أغلب ظني أنك ستحار ان تنشرها في صحيفتك أم تطويها ولقد كنت أعتزم أن أدفنها معي في قبري... بيد أن هاتفا يهتف بي أن السر الذي أثقل صدري وألجم لساني ينبغي ألا تطلع شمس الغد حتى أكون قد كشفت القناع عنه فلم يعد هناك أحد يؤذيه إفشاؤه!
نعم... لقد غدوت اليوم في حل من أن أجهر على رؤوس الأشهاد ومن غير حرج، بأنني من دم زوجتي براء..!
ونظر إلى المحافظ لبرهة ثم تحول إلى فلتشر وقال له:
ألا تريد أن تراجع محامين قبل أن تدلي إلى الصحف بتصريحات قد لا تجديك وقد لا يجيز القانون نشرها؟
قال فلتشر: "كلا... يا سيدي المحافظ، فلا نفع يعود علي مما أزمعت أن أفضي به، بل أعتقد بأن الصحافة قد لا تحفل به في قليل أو كثير، وإنما هدفي شيء واحد بعد أن تناهت إلى أنباء أحداث هذا المساء، وهو أن أعيد الأمور إلى نصابها قبل أن يسبق السيف العذل وينفذ في حكم القضاء". وقال فلتشر:
  • ليس في الوقت فسحة للتحدث في هذا... حسبك أن تستمع إلى ما سأقول ورجائي إليك، أن لا تقاطعني فيما أرويه لك مهما بلغ من غرابة وعجب.
وها هي القصة ذاتها كما رواها إليّ في غرفة الموت... رجل مشرف على الإعدام شنتقاً وعلى وشك أن يستودع روحه يد باريها بعد ساعات قلائل. فتحدث فلتشر إلى قائلا: "غنك تعلم يا سيدي الصحفي أدوار هذه القضية... إني أشتغل بالعلوم الطبيعية وأقوم بدراسات وبحوث... أما متاعبي فبدأت منذ أخدت مشاغل دراستي وبحوثي جل اهتمامي وتطغى على معظم أوقاتي مما سبب لي العجز معه على الوفاء بحقوق واجباتي الزوجية. وكانت زوجتي تصغرني بقرابة عشرين سنة... لهذا كان من الطبيعي أن تكون ناقمة علي طول انصرافي للقيام بتجاربي وانكبابي على كتبي... مما أدى هذا إلى إهمالي رعاية شؤونها وإغفالي بتجاربي سحابة نهاري وقسما من ليلي، فلا تراني طيلة اليوم إلا منصرفا إلى طعامي أو متهالكا تعبا في فراشي. ولقد أدركت لكثرة ما كان ينتابها من ضيق وضجر... وما تبدل من طباعها ومزاجها من تغير، إن مسلكي لم يكن وقعه في نفسها بالهين اليسير. وعلمت أن هذا الأمر بات مني معالجة الحال بالحكمة والروية وحسن التقدير!
فبدأت منذ ذلك الحين أخصص فترة من أوقات وفراغي لأوفر لها أسباب الرفاهية، فأفضى ذلك عليها نوعا من الرضى وراحة البال والاطمئنان. بيد أنه لم ينقض على هذا الهناء، زمن طويل حتى أدركت أنني بدأت اتراجع في بحوثي العلمية وأتخلف بمراحل عن أبحاث زملائي فعزت عليّ جهودي وآمالي وسهر الليالي وراودتني نفسي على معاودة استئناف نشاطي العلمي من جديد... ولكن سرعان ما جابهتني تلك المعضلة المستعصية التي عجزت عن حلها. فقد كان علي إما أن أرضي عملي على حساب زوجتي، أو إن أرضي زوجتي على حساب عملي، بعد أن فشلت في إقناعها بأنها وعملي ينبغي أن يكونا حليفين لا خصمين ما دام نجاح تجاربي وجهودي عائدين لها قبل سواها بالهناء.
لقد كان هدفي ومبتغاي أن أحقق لها ما عقدت عليّ من آمال كبار، فأصبح كما عاهدتها يوم اتفقنا على الزواج أهلاً لزهوها وفخارها... وزاد القدر الآسي في الكيد لي والتنكيل بي فحرمتني نعمة النسل، وأعتقد أنه لوكان لنا بنون لأضحى الحال غير الحال.. فقد كانت مشاغل تنشئتهم ومكابدة تربيتهم كفيلة أن تلهيها عن انتقادي وتسد ثغرة تقصيري! وهكذا بدأت زوجتي تعود إلى سابق نقمتها وسخطها، بل هددت بهجري، فعزمت أن أهمل عملي في خطوة لإرضائها واسترجاع مودتها.
ولكن خطوتي هذه جاءت واأسفاه بعد فوات الأوان... إذ كانت زوجتي قد وقعت، في تلك الاثناء بغرام طالب شاب التقت به في حفلة راقصة.. وبلغ إعجابها به أنها لم تحاول ستر حبها له، بل صارحتني به بدون مواربة أو استحياء وأنها لا تريد أن تضيع زهرة شبابها مع من لا يتذوق للشباب طعماً ولا يقيم للعمر وزناً!
وعدت ذات ليلة إلى منزلي فإذا الدار خاوية وإذا رسالة زوجتي تقول لي فيها أنها قد ذهبت إلى غير رجعة ، وعلمت أن زوجتي رحلت مع حبيبها الطالب الشاب الوسيم روجرز. أظلمت الدنيا في عيني وفكرت أن أضع حدا لحياتي بعد أن تنكر لي دهري وتحطم صرح هنائي ... لكن عدلت عن هذه الفكرة لافتقاري للشجاعة.
فأمضيت تلك الليلة وأنا أشعر بالكرب واليأس والقنوط... وبينما أنا غارق في شجوني محطم النفس كسير الخاطر، أيقظني من سبات ذهولي رنين متواصل عنيف صادر من جرس الباب... فتحاملت على ساقاي المتخاذلتين. فما راعني حين فتحت الباب إلا شاي يندفع بين يدي، ويا لفرط دهشتي حين تبنيت فيه الطالب الشاب روجر بعينه! كان في حالة يرثى لها من الفزع والهلع. وهجم على ذراعي بكفيه وصرخ بي في صوت ينتفض رعبا وهولا قائلا: أتصدقني؟! أقسم بالله ما قصدت قتلها جرى عراك بيني وبينها ثم لا أدري بعدها ما جرى..! إن ذهولا أصابني لا محالة... ما عساي أن أصنع؟ بربك قل لي.. ماذا أقول ومن يصدق أني بريء؟ أدركني أرحمني...!
وقال فلتشر، لما سألت الشاب عما جرى أخبرني أنه رشح لمنصب رفيع في معهد علوم التكنولوجيا... فكانت فرصة ذهبية تفتح له أبواب المستقبل الزاهر والمركز المرموق والمرتب الموفور. وكان روجرز يريد أن يزف إلى زوجتي حينما يلتقي بها في منزلنا الساحلي... فلما خلا بها بذلك المنزل أطلعها بتفصيلات مهامه التي أوكلت إليه ووصف بلذة أهمية البحوث وعمق نظرياته وما يتطلب بها من مشقة وجلد وسهر ومثابرة...
وإني لأتخيل شعور زوجتي التي خبرت طباعها حين بدا على روجر ذلك الشغف العظيم وتلك اللهفة الكبرى لتولي منصبه العلمي الجديد، وحين تكشف لها أن زوجها العتيد ليس أقل ولعا بالعلوم والدراسة والبحوث من زوجها المنبوذ...! إني لأتخيل مدى ما أصابها من المرارة والخيبة وما اعتمل به صدرها من أزمة نفسية جامحة حين تبين لها أنها خدعت من جديد وأنها لن تلبث أن تسلب مرة أخرى حقوقها الطبيعية كامرأة تريد أن تحيا حياة ملؤها الحب والدفء والحنان.
فإن كنت يا سيدي في شك مما صورت لك من حالها فاسمع ما قاله روجرز والرعب يكاد يلجم لسانه، قال: وبينما أنا مسترسل في شرح مشاعري نحو عملي الجديد بحماس إذا هي انتصبت واقفة وقد ومضت عينها وتقلصت شفتاها... ثم أطبقت علي وراحت تهزني بيديها هزا عنيفا صدع كياني وهز أعصابي، وصرخت صرخة مجنونة وصاحت بصوت مرتفع قائلة: هيهات... إن هذا محال.. لن تضيع مني مثلما ضاع زوجي!.
ومضى روجرز في سرد مأساته قائلا:
وهنا... تملكني الفزع وملأ قلبي رعبا وأشفقت أن تكون أصابتها لوثة مفاجئة.. فلممت أطرافي ودفعتها عني بشدة، وفجأة رأيتها تترنح مائلة إلى ظهرها ثم تهاوت إلى الأرض بطولها. ولعل أصاب حافة التمثال الرخامي فشجته شجا... ثم سقطت على الأرض دون أن تنهض... ونظرت فإذا بجسمها الممدود لا يبدي حراكا ورأيت رأسها غارقا في بركة من الدم. فأنبكيت فوقها أتفحصها... فإذا هي جثة هامدة!
فلما بلغ الشاب المذعور هذا المدى من قصته المفجعة رحت أملي الطرف في شبابه الغض الذي يوشك أن تعصف به العواصف وبالآمال الكبيرة المعقودة عليه وحدثت نفسي قائلا: لقد فرغ منك يا جورج، وغدوت بعد الذي جرى أمرا مضيعا ولا فائدة من استمرار حياتك ولم يعد لك في الدنيا لا أمل ولا هدف! أما هذا الشاب النابغ وقد شرع يخطو قدما نحو مستقبل مشرق ولامع يتقدم بخطى ثابتة للقيام بدور هام في خدمة وطنه.. أين النجم الهاوي من الكوكب الصاعد؟
واستقر رأيي على ما ينبغي أن أفرضه على نفسي وأن أدع القضاء يتولى عني ما جبنت عن الأقدام عليه بوضع حد لحياتي وأؤمن النجاة للشاب فحياته أجدى على الدنيا وأنفع. فلما استقر رأيي على هذه الفكرة قلت لروجر: هيا.. اذهب في طريقك.. ودعني أحمل عنك وزر هذه التهمة والله معك... فإن سألت فأزعم أنك كنت في مسرح كذا.. هيا واختفي، وإياك أن ترني وجهك بعد الآن.
ومضى الشاب فورا بعد أن قطع لي عهدا بتحقيق مشيئتي، ثم انطلقت لساعتي إلى منزلي الساحلي. وهناك سلمت نفسي للشرطة. أما باقي القصة فأنت تعرفها.
فلما فرغ فلتشر من سرد قصته خر على فراشه بادي الإعياء، ورأيت على سماه آيات الدعة وهدوء النفس وراحة الوجدان. وخرج المحافظ عن صمته وقال الرأي عندي أن نمسك بتلابيب روجرز فعند الشاب مفتاح السر والخبر اليقين.
وعندما توجهت أنا والمحافظ إلى المعهد العلمي الذي يعمل فيه روجرز أخبرني وليم بولتون أن سيارة صدمت روجرز منذ يومين وأنه لفظ أنفاسه!
فصاح المحافظ مبهوتا: يا للعجب العجاب... والله لم أسمع في حياتي قصة أغرب من هذه القصة التي لا يستطيع المرء أن يستوعبها! . ومضينا في خطى ثقيلة تجتاز أروقة السجن... في طريقنا إلى دنيا الحرية وعالم الوجود...!


يشار، إلى أن "سر السجين" للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد هي مقتطفات من كتاب "مختارات من روائع القصص العالمية" من إعداد منير وجوزيف عبود، والذي يضم بين دفتيه باقة من القصص القصيرة لكتاب لمعت أسماؤهم في سماء الأدب الأوروبي والأمريكي في القرن التاسع عشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...