سوزان إبراهيم - تعذيب اللغة في زنزانات الحقيقة..

تُنتِجُ اللغة نظاماً معرفياً معيناً أو أنساقاً معرفية تتحدد غالباً بوعي أبنائها, وقدرتهم على تجديدها ورفدها بدماء تزيدها حيوية وغنى.

تملك اللغة سلطة المعنى, وبالتالي سلطة المعرفة.. هي سلطة إذاً قبل كل شيء,

فمن أين استمدت اللغة سلطتها المطلقة وأغوت بتقديسها في كثير من الأحيان كإله! «في البدء كانت الكلمة وكانت الكلمة روح الله».

لكن اللغة مخلوقٌ في النهاية, والإنسان خالقها ومبدع كل مآلاتها, ولولا وعيه لما كانت لتملك كل تلك القوة.. فكيف قُدِّرَ لها أن تخرج عن طاعته وبدل أن تكون تابعاً له, تصير حاكماً وإلهاً قادراً أحياناً على التسلط والقتل ربما!

يقولون: إن صورةً واحدةً- خاصة في عصر الصورة هذا ووسائل الإعلام المرئية واسعة الانتشار- تساوي عشرات ومئات الكلمات.. فهل هذا حقيقي فعلاً؟

الكلمة طريق إلى معنى.. وكذلك الصورة فهي في النهاية تتوخى توصيل معنى, وقد تكون أسرع في إيصاله, لكن الغاية النهائية واحدة كما أرى.. ما اختلف هو السرعة في الوصول إلى الهدف.

تحمل الكلمة- الجذر الأصل لشجرة اللغة- قدرةً كبيرة على توليد معان جديدة, وكلما تعتقت الكلمة صار لمعناها قدرة أكبر على السحر أحياناً. هل تقدر الصورة التي قَدّمتْ للمتلقي حزمةَ ظرفٍ إنساني في لحظة واحدةٍ منزوعة من سياقاتها الزمنية والمكانية, مقطوعة عن شجرتها الأصلية أن تفعل ما يمكن للغة أن تفعل؟

تعمل اللغة على تفتيح براعم الخيال الإنساني وإطلاق خليط من الأريج والنكهات.. قد تختلف وفق المكان والزمن.. وقد تتكرر المفردات في زمن ومكان آخرين, لتعطي معنى جديداً وصورة جديدة.. في حين تبقى الصورة المقتطعة تحنيطاً لظرفٍ محدد.. هي الشمس في تلك اللحظة.. هو الضوء والظل.. هو اللون والعبق في تلك اللحظة تحديداً ومن تلك الزاوية تحديداً لذلك الإنسان الذي التقطها.. إنها- وكما اللغة- تحمل بصمة صانعها الفكرية والتخييلية.. إنها الحقيقة التي رآها ذلك الإنسان وهو يريد أن يسوّق حقيقته لنعترف بها أولاً ولنعتنقها تالياً.

هي سلطة المعنى الذي يقود إلى معرفةٍ بعينها ما تتوخاه اللغة- وكما توخته الصورة مع بعض الفارق-.

نختلف ونتقاتل على خلفية المعنى.. على قناعات تشكلت بناءً على معنى بعينه.. وتالياً نحن نختلف على أرضية معرفة.. وعلى أرضية سلطة.

كثير من الفضائيات أو الصحف يرفع شعارات مثل: صوت من لاصوت له.. منبر من لا منبر له.. أن تعرف أكثر.. الواقع كما هو...... إلى آخر هذه الشعارات التسويقية لمعنى واحد مرادٍ تفرضه بهدوء على المتلقي وتبسط سلطة معرفتها هي عليه.. ليشاركها ثم ليعتنقها ثم ليبشّر بها. الجميع يسعى إلى سلطة المعرفة الخاصة به وتسييدها.. الجميع يصيرون مبشّرين بحقائقهم هم.. ونحن دون أي مقاومة أحياناً أو مساءلة لتلك المعرفة نسرع للانضواء تحت معانيها.

ثمة من يحتجز اللغة في زنزانات التعذيب: ماذا نسمي فرض معنى- كما يراه شخص يمتلك سلطة ما, أو كما تراه نظرية أثبت برهانها شخص أو أشخاص وفق رؤيتهم- علينا بإلحاحٍ وبأنه المعنى الوحيد والنهائي!

الجميع يكذب لأن الحقيقة أكبر من الجميع.. هي قادرة على خذلهم وتصيّدهم الواحد تلو الآخر بفعل العقل المتسائل والعقل الناقد والعقل الذي لا يعترف بنهائيات لا أساس لها وفق منطق الحياة وتطور الإنسان.

ثمة من يمارس التعذيب على اللغة لتعترف بمعناه ومعرفته وبالتالي بسلطته. ثمة من يحتجزها في قمقمٍ ماضويٍّ لا يمتُّ للعقل بصلة. ثمة من يحرق أصابعها.. ومن يحاول ليَّ عنقها لتعترف.. نعم قد تضطر اللغة تحت التعذيب والتهديد بالإدلاء باعترافات كاذبة لتنجو.. فأي معرفة أنتجت تلك المنتهكّةُ المغتَصبَةُ وأيّ سلطة؟!

هي ليست أزمة لغة.. إنما أزمة معنى.. فالمعنى مصدر كل سلطة.. والسلطة منتِجُ معرفةٍ وهكذا تتبادل السلطة والمعرفة المواقع لتكتمل ولادة اللغة القيصرية.

يمتلك النص اللغوي قراءات كثيرة, ويمكن النظر إليه من كل الجهات والزوايا.. وفي كل قراءة من زاوية ما ثمة معرفة تولد لتقود إلى سلطتها التي تعلن نفسها وحيدة ونهائية.. إنها المعركة بين النص ومنتجي المعاني.. حيث يقف النص أعزلاً أبكماً.. حيث تركه مبدعه في العراء ليراه الجميع ويقرؤوه.. وما كان نعمة التعدد في القراءة والاختلاف يصير نقمة التحديد في إطار القواعد والمحرمات والممكنات.. وحيث يقف سيفُ منتِجِ المعرفة تقفُ الحقيقة- حقيقته مطلَقةً لا تقبل النقاش أو المساءلة أو التغيير مهما مر من زمن على ذلك المعنى الذي أنتج تلك المعرفة التي استطاعت توليد سلطة الإذعان والتسليم..
يبقى سؤال أرِقٌ: لماذا يكرهون الخيال؟!




التفاعلات: مصطفى البحري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...