قبل نحو سبعة قرون شهد العالَم جائحة كبيرة عُرفت باسم "الطاعون الأسود". ظهر ذلك الوباء في الشرق، كما هو شأن وباء كورونا، ثمّ زحف إلى الغرب، وقيل إنّ عدد ضحاياه ناهَز خمسين مليوناً، ولمّا استقرّ في أوروبا أَهلك ثلث سكّانها. لم يفتك "الطاعون الأسود" بعشرات الملايين من الأنفُس، فحسب، بل حفرَ قبراً لحقبة القرون الوسطى، ودفنها فيه، وفتحَ ملفَّ عصر النهضة، فالعصر الحديث.
وليس من الغريب أن تكون الكوارث والأوبئة والحروب هي التي تقترح، أحياناً، انتقال العالَم من حقبة إلى أخرى، تطوي واحدة، وتُمهِّد لغيرها، وعلى هذا المنوال من التعاقُب يمضي التاريخ من مرحلةٍ إلى مرحلة أخرى. وقد جرى توثيق ذلك إمّا بالمؤلّفات التاريخيّة أو بالمرويّات السرديّة.
كان الشاعر الإيطالي "بوكاشيو" في الخامسة والثلاثين من عمره حينما ضرب الوباء مدينة فلورنسا في العام 1348، ورأى بعَينه ما نتج عنه من هلاكٍ عمَّ بلاده، فأتى على نصف أهلها، فخطر له أرْشَفة تلك الجائحة بطريقةٍ غير معهودة. لم يكُن بوكاشيو مؤرِّخاً، بل كان شاعراً، فتخطّى عثرتَيْ المؤرِّخ والشاعر، ليوثِّق بالسرد ما أصبح أشهر عمل له صلة بالطاعون الأسود، وهو كِتاب "الديكامرون" الذي نُشِر في العام 1353، وهو العام الذي انحسر فيه الطاعون الأسود من العالَم.
في "الديكامرون" اصطنعَ بوكاشيو إطاراً سرديّاً احتوى على مئة حكاية ترويها عشر شخصيّات لاذت بالفرار من فلورنسا إلى أريافها لاتّقاء شرّ الوباء الذي فتكَ بالمدينة، وتعاهدت أن تروي كلّ شخصيّة حكاية واحدة في اليوم، فكان أن اجتمعت مئة حكاية خلال الأيّام العشرة التي أمضتها في الريف. في التمهيد الطويل للكِتاب وصفَ بوكاشيو الطاعون المريع، وتساقُط الضحايا أكداساً، وبذلك أعطى ذريعة للشخصيّات لحجْر نفسها في مكانٍ آمن، فتروي حكايات تزجي بها الوقت بعيداً عن ميدان الموت. السرد يُكافئ الموت، وبالموت يُمكن مُقايَضة السرد، فلكي تحيا، ينبغي عليك أن تروي؛ ذلك هو القانون الذي سنّته شهرزاد في كِتاب "ألف ليلة وليلة".
ليس من السخرية، ولا من التفجُّع، القول، إنّ الطاعون الأسود أَكسب الأدب الإنساني مثالاً أدبيّاً فريداً من نَوعه؛ كِتاب "الديكامرون" يكاد يُطابِق كِتاب "ألف ليلة وليلة" في شكله العامّ، غير أنّ منطق السرد في الكِتاب الإيطالي يختلف عنه في الكِتاب العربي. فهل توفِّر المآسي مادّة دسمة للآداب، وكيف تكون العزلة التي فرضها وباء كورونا مفيدة للكُتّاب؟ عن هذا أقول، إنّه ما من نموذجٍ أدبي مرموق القيمة إلّا استلهم حدثاً جللاً، أو دار في أفقه؛ حرب طروادة، على سبيل الذكر، كانت وراء ظهور "الإلياذة"، ولها أمثلة كثيرة في المَلاحِم القديمة، وفي المرويّات السرديّة الوسيطة، وفي روايات العصر الحديث، ممّا يتعذّر حصره في هذه المقالة.
ومع ذلك، فليس يجوز الاحتفاء بالأوبئة لكي تظهر الأعمال الأدبيّة العظيمة. لكنّ تلك الأوبئة تطرح على الكُتّاب سؤال الانصراف إلى الكتابة، باعتبارها مُكافِئاً للحياة الاجتماعيّة، ففي ظلّ حالة الحذر من المُخالَطة، والفزَع من الإصابة، يذهب الكاتِب إلى الخيار المُتاح له: الاعتكاف على عمله، والإفصاح عمّا يريد قوله. ذلك ما اقترحه كِتاب "الديكامرون"، فلولا العزْل الريفي الذي أُرغمت عليه شخصيّات الكِتاب لما توفَّرت لها الفُرصة لبناء ذلك العالَم المتخيَّل للكِتاب، وهو عالَم مُوازٍ للعالَم الذي عاشوا فيه.
ما حدث في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي وقع بحذافيره تقريباً في أوّل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، جائحة أخرى تجتاح العالَم منذ مطلع العام 2020، فتُصيب الملايين، وتخطف أرواح مئات الآلاف، وتُعلن عن شراهتها في التهامِ الأرواح البشريّة. واتّخذ مَسارها مَسار الطاعون الأسود، المَسار الذي بدأ من الشرق وانتهى بالغرب، فأَرغم أكثر من نصف سكّان العالَم على مُلازَمة بيوتهم في حجْرٍ إجباري فرضته الحكومات، أو طَوعيّ اتّخذه الناس حمايةً لأنفسهم، وتعثَّر الاقتصاد، وتفشَّت البطالة، وانتعش العنف، وتضاعفت مشاعر العزلة والكآبة، وشقَّ الوباء العالَمَ إلى شقَّين: شقّ تولّى أمره العُلماء والأطبّاء، فحذَّروا من خطر الوباء، وسعوا إلى مُكافحته بشتّى السبُل، بداية من الامتناع عن المُخالَطة وصولاً إلى ابتكار لقاح يوقف هذا الهجوم المريع لفيروس كوفيد-19، وشقّ آخر تولاّه الوعّاظ والدُعاة، فرأوا في الوباء نذيراً ربّانيّاً لكبْح جماح الغطرسة الدنيويّة التي انزلق إليها معظم الناس، فبالغوا في الطمع، وأسرفوا في الجشع، وانغمسوا في اللّذات، وجَهروا بالمَعاصي، وها هو درس الله لهم: فتْكٌ من غير رحمة، واغتيالٌ صريح من دون رأفة، ومن وجهة نظر هؤلاء فإنّ وباء كورونا عبرة لمَن لا يعتبر ودرْسٌ لمَن حادَ عن الطريق المُستقيم.
ليس في واردي الفصل بين الموقفَين، فهُما ممّا تنفثه حالة الفَزَع الاجتماعي في ظلّ الشعور بالخطر، ولكن يحقّ لي إبداء الرأي فيهما، فمن جهة أولى تخلَّق فيروسٌ فاتِك في الصين، ولم يُحسم أمر تخلّقه إن كان طبيعيّاً أم صناعيّاً، ثمّ باغتَ العالَم، بأن أعلنَ عن نفسه قاتلاً في غياب أيّ حصانة تُقارعه، ففضح هشاشة التقدُّم العِلمي، وهتكَ عرض المناعة الصحيّة التي شاعت بين الناس ضدّ الأوبئة، وبذلك وضعَ الفيروس القاتِل العِلمَ في تحدٍّ غير مسبوق في حصاده للأرواح البشريّة، وإذ فتك الطاعون الأسود بخمسين مليوناً قبل سبعة قرون، فليس ينبغي قبول عددٍ مُماثلٍ من الضحايا في ظلّ تقدُّم العلوم الصحيّة والوقائيّة، تنبغي المقاومة، وذلك يلزم تسليم القيادة لخبراء الصحّة، والإصغاء إليهم، فهم أدرى بالخطر الذي يُحيق بالعالَم، ولا يجوز التشويش عليهم بالتفاسير المُبهمة، والشروح الغامضة، والقرارات المُرتجلة، فكلّها تهرب من مُواجهة حقيقة الوباء الذي لم يخفِ هدفه.
ولكنْ من جهة ثانية، فإنّ نقطة التماس بين القيَم التقليديّة، وفي الصلب منها القيَم الدينيّة، وبين القيَم الحديثة، وفي القلب منها القيَم الدنيويّة، أصبحت في وضعٍ حرج جدّاً، فمرّة ترجِّح هذه ومرّة ترجِّح تلك، بحسب مَوقع الفرد ورؤيته لنفسه في المُجتمع الذي يعيش فيه، فلا انحسرت القديمة من العالَم، ولا اكتسبت الحديثة شرعيّتها الكاملة، وكلّما تزعزع نِظام الطبيعة جرّاء ظهور كوارث طبيعيّة أو صناعيّة، تنتعش الأفكار الوعظيّة القائلة بغضب الله على عِباده المارقين، عباده الذين جاوَزوا حدّ الطاعة، فليس لهم إلّا الاتّعاظ بالكارثة، وهو خداع نفسٍ يتنكّر بالتقوى، وبالخمول العقلي، الذي يريد انتزاع شرعيّة له بتفسير كوارث الطبيعة على أنّها من غضب الله. ما يكشف حضور التخيّلات السحريّة والدينيّة في العصر الحديث الذي توهّم أصحاب الحداثة أنّه نجحَ في إيجاد قطيعة مع تركة الماضي بكلّ ما فيها من خرافات وأساطير ومُعتقدات.
وعلى هذا فأرجّح، بل وأتمنّى، أن يكون هذا الانقسام القيَمي والنفسي والأخلاقي الذي سبّبته جائحة كورونا مُحفّزاً للكتّاب ليجعلوا منه خلفيّة لأحداث رواياتهم، وأشعارهم، وفنونهم، وتأمّلاتهم، خلفيّة تحتضن هذا النزاع العميق الذي شطر العالَم إلى شطرَين، وتخلع عليه أهميّة عظيمة الشأن، فتتمرّغ الأحداث في بيئة مُتخيّلة يمتزج فيها الالتباس والارتباك بالخَوف والفزع، وهو أمر يضع تحت بصر الكتّاب موضوعات جديرة بالاهتمام، فما عاد من المُتاح الانشغال بتوافه الأمور، فمسؤوليّة الكاتِب تتخطّى حدود الاهتمام بالأنانيّات المريضة، وتتجاوز الوقائع العارضة التي لا تثمر عن أدبٍ يندرج في تيّار الأدب العالَمي، ويلزم أن يذهب الكاتِب إلى لبّ المُشكلات الكبرى، حيث يتبصّر الإنسان بهويّته البشريّة في عالَمٍ يمور بها.
قد يُسهم هذا الوباء في تهذيب "الاستعراضات" الثقافيّة التي لا نفع فيها إلّا على اعتبار ما يراه رُعاتها من أهميّة بالنسبة إليهم، ومعظمها يخلو من أيّ قيمة رفيعة تُثري المَعرفة الإنسانيّة، وتكاد تكون "كرنفالات" خالية من المضمون الذي كانت عليه الكرنفالات الشعبيّة، والغاية منها خلْع الأهميّة على القائمين بها، وليس الانفتاح على التجارب الثقافيّة للأُمم والتفاعُل معها، وقد يحدّ هذا الوباء من نَهَمِ دور النشر في التنفُّع والإثراء من طبْع كُتبٍ رخيصة بأثمانٍ باهظة يدفعها غُشماء الأدب ليحوزوا بها مكانةً اعتباريّة يتبجّحون بها، وقد يحدّ هذا الوباء من سيول الغُثاء التي يستفرغها مُعظم الكتّاب؛ لأنّهم لم يُراعوا عرفاً واحداً من أعراف الكتابة السليمة، وأخيراً قد يُنبِّه هذا الوباء القرّاء، وهُم الفئة الكبيرة التي تتلقّى الآداب بسائر أنواعها، فيكفّوا عن التلهّي بما لا قيمة فكريّة أو جماليّة له.
لست من المُتشائمين، ولا من المُتطيّرين، ولا من المُحبَطين، ولا من اليائسين، ولكنّي أرصد تحوّلات الثقافة في كثيرٍ من حقولها الأساسيّة في المُجتمعات العربيّة، فأرى فيها ركوداً جلفاً، وتسطيحاً ساذجاً، وتعتيماً على الحقائق، وانشغالاً عدميّاً في ما لا يرتقي بالذائقة الإنسانيّة، ويُثريها، ولا يفتح الأُفق أمام القارئ لينهل من المَعارف الإنسانيّة رفيعة الشأن.
لقد هَيمنت الرداءة، وسيطرَ سوء القول، وكأنّ الإنسانَ كائنٌ سابِحٌ في عالَمٍ سائل لا صلابة فيه، عالَم هلامي من ناحية المَبنى والمَعنى أشاعَ هَوساً في التمركُز حول الذوات الفرديّة التي انقطعت عن سياقات التاريخ والمَعرفة، وانشغلت بذواتها المُغلقة، فما عادت بحاجة إلى الآخرين. ربّما يُزعزع وباء كورونا ركائز العدميّة التي ضربت أطنابها في غير مكان، ويَضع حدّاً لجهل الإنسان بنفسه وعالَمه، فيُعيد ترميم ذاته قبل فوات الأوان.
*ناقد وباحث من العراق
وليس من الغريب أن تكون الكوارث والأوبئة والحروب هي التي تقترح، أحياناً، انتقال العالَم من حقبة إلى أخرى، تطوي واحدة، وتُمهِّد لغيرها، وعلى هذا المنوال من التعاقُب يمضي التاريخ من مرحلةٍ إلى مرحلة أخرى. وقد جرى توثيق ذلك إمّا بالمؤلّفات التاريخيّة أو بالمرويّات السرديّة.
كان الشاعر الإيطالي "بوكاشيو" في الخامسة والثلاثين من عمره حينما ضرب الوباء مدينة فلورنسا في العام 1348، ورأى بعَينه ما نتج عنه من هلاكٍ عمَّ بلاده، فأتى على نصف أهلها، فخطر له أرْشَفة تلك الجائحة بطريقةٍ غير معهودة. لم يكُن بوكاشيو مؤرِّخاً، بل كان شاعراً، فتخطّى عثرتَيْ المؤرِّخ والشاعر، ليوثِّق بالسرد ما أصبح أشهر عمل له صلة بالطاعون الأسود، وهو كِتاب "الديكامرون" الذي نُشِر في العام 1353، وهو العام الذي انحسر فيه الطاعون الأسود من العالَم.
في "الديكامرون" اصطنعَ بوكاشيو إطاراً سرديّاً احتوى على مئة حكاية ترويها عشر شخصيّات لاذت بالفرار من فلورنسا إلى أريافها لاتّقاء شرّ الوباء الذي فتكَ بالمدينة، وتعاهدت أن تروي كلّ شخصيّة حكاية واحدة في اليوم، فكان أن اجتمعت مئة حكاية خلال الأيّام العشرة التي أمضتها في الريف. في التمهيد الطويل للكِتاب وصفَ بوكاشيو الطاعون المريع، وتساقُط الضحايا أكداساً، وبذلك أعطى ذريعة للشخصيّات لحجْر نفسها في مكانٍ آمن، فتروي حكايات تزجي بها الوقت بعيداً عن ميدان الموت. السرد يُكافئ الموت، وبالموت يُمكن مُقايَضة السرد، فلكي تحيا، ينبغي عليك أن تروي؛ ذلك هو القانون الذي سنّته شهرزاد في كِتاب "ألف ليلة وليلة".
ليس من السخرية، ولا من التفجُّع، القول، إنّ الطاعون الأسود أَكسب الأدب الإنساني مثالاً أدبيّاً فريداً من نَوعه؛ كِتاب "الديكامرون" يكاد يُطابِق كِتاب "ألف ليلة وليلة" في شكله العامّ، غير أنّ منطق السرد في الكِتاب الإيطالي يختلف عنه في الكِتاب العربي. فهل توفِّر المآسي مادّة دسمة للآداب، وكيف تكون العزلة التي فرضها وباء كورونا مفيدة للكُتّاب؟ عن هذا أقول، إنّه ما من نموذجٍ أدبي مرموق القيمة إلّا استلهم حدثاً جللاً، أو دار في أفقه؛ حرب طروادة، على سبيل الذكر، كانت وراء ظهور "الإلياذة"، ولها أمثلة كثيرة في المَلاحِم القديمة، وفي المرويّات السرديّة الوسيطة، وفي روايات العصر الحديث، ممّا يتعذّر حصره في هذه المقالة.
ومع ذلك، فليس يجوز الاحتفاء بالأوبئة لكي تظهر الأعمال الأدبيّة العظيمة. لكنّ تلك الأوبئة تطرح على الكُتّاب سؤال الانصراف إلى الكتابة، باعتبارها مُكافِئاً للحياة الاجتماعيّة، ففي ظلّ حالة الحذر من المُخالَطة، والفزَع من الإصابة، يذهب الكاتِب إلى الخيار المُتاح له: الاعتكاف على عمله، والإفصاح عمّا يريد قوله. ذلك ما اقترحه كِتاب "الديكامرون"، فلولا العزْل الريفي الذي أُرغمت عليه شخصيّات الكِتاب لما توفَّرت لها الفُرصة لبناء ذلك العالَم المتخيَّل للكِتاب، وهو عالَم مُوازٍ للعالَم الذي عاشوا فيه.
ما حدث في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي وقع بحذافيره تقريباً في أوّل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، جائحة أخرى تجتاح العالَم منذ مطلع العام 2020، فتُصيب الملايين، وتخطف أرواح مئات الآلاف، وتُعلن عن شراهتها في التهامِ الأرواح البشريّة. واتّخذ مَسارها مَسار الطاعون الأسود، المَسار الذي بدأ من الشرق وانتهى بالغرب، فأَرغم أكثر من نصف سكّان العالَم على مُلازَمة بيوتهم في حجْرٍ إجباري فرضته الحكومات، أو طَوعيّ اتّخذه الناس حمايةً لأنفسهم، وتعثَّر الاقتصاد، وتفشَّت البطالة، وانتعش العنف، وتضاعفت مشاعر العزلة والكآبة، وشقَّ الوباء العالَمَ إلى شقَّين: شقّ تولّى أمره العُلماء والأطبّاء، فحذَّروا من خطر الوباء، وسعوا إلى مُكافحته بشتّى السبُل، بداية من الامتناع عن المُخالَطة وصولاً إلى ابتكار لقاح يوقف هذا الهجوم المريع لفيروس كوفيد-19، وشقّ آخر تولاّه الوعّاظ والدُعاة، فرأوا في الوباء نذيراً ربّانيّاً لكبْح جماح الغطرسة الدنيويّة التي انزلق إليها معظم الناس، فبالغوا في الطمع، وأسرفوا في الجشع، وانغمسوا في اللّذات، وجَهروا بالمَعاصي، وها هو درس الله لهم: فتْكٌ من غير رحمة، واغتيالٌ صريح من دون رأفة، ومن وجهة نظر هؤلاء فإنّ وباء كورونا عبرة لمَن لا يعتبر ودرْسٌ لمَن حادَ عن الطريق المُستقيم.
ليس في واردي الفصل بين الموقفَين، فهُما ممّا تنفثه حالة الفَزَع الاجتماعي في ظلّ الشعور بالخطر، ولكن يحقّ لي إبداء الرأي فيهما، فمن جهة أولى تخلَّق فيروسٌ فاتِك في الصين، ولم يُحسم أمر تخلّقه إن كان طبيعيّاً أم صناعيّاً، ثمّ باغتَ العالَم، بأن أعلنَ عن نفسه قاتلاً في غياب أيّ حصانة تُقارعه، ففضح هشاشة التقدُّم العِلمي، وهتكَ عرض المناعة الصحيّة التي شاعت بين الناس ضدّ الأوبئة، وبذلك وضعَ الفيروس القاتِل العِلمَ في تحدٍّ غير مسبوق في حصاده للأرواح البشريّة، وإذ فتك الطاعون الأسود بخمسين مليوناً قبل سبعة قرون، فليس ينبغي قبول عددٍ مُماثلٍ من الضحايا في ظلّ تقدُّم العلوم الصحيّة والوقائيّة، تنبغي المقاومة، وذلك يلزم تسليم القيادة لخبراء الصحّة، والإصغاء إليهم، فهم أدرى بالخطر الذي يُحيق بالعالَم، ولا يجوز التشويش عليهم بالتفاسير المُبهمة، والشروح الغامضة، والقرارات المُرتجلة، فكلّها تهرب من مُواجهة حقيقة الوباء الذي لم يخفِ هدفه.
ولكنْ من جهة ثانية، فإنّ نقطة التماس بين القيَم التقليديّة، وفي الصلب منها القيَم الدينيّة، وبين القيَم الحديثة، وفي القلب منها القيَم الدنيويّة، أصبحت في وضعٍ حرج جدّاً، فمرّة ترجِّح هذه ومرّة ترجِّح تلك، بحسب مَوقع الفرد ورؤيته لنفسه في المُجتمع الذي يعيش فيه، فلا انحسرت القديمة من العالَم، ولا اكتسبت الحديثة شرعيّتها الكاملة، وكلّما تزعزع نِظام الطبيعة جرّاء ظهور كوارث طبيعيّة أو صناعيّة، تنتعش الأفكار الوعظيّة القائلة بغضب الله على عِباده المارقين، عباده الذين جاوَزوا حدّ الطاعة، فليس لهم إلّا الاتّعاظ بالكارثة، وهو خداع نفسٍ يتنكّر بالتقوى، وبالخمول العقلي، الذي يريد انتزاع شرعيّة له بتفسير كوارث الطبيعة على أنّها من غضب الله. ما يكشف حضور التخيّلات السحريّة والدينيّة في العصر الحديث الذي توهّم أصحاب الحداثة أنّه نجحَ في إيجاد قطيعة مع تركة الماضي بكلّ ما فيها من خرافات وأساطير ومُعتقدات.
وعلى هذا فأرجّح، بل وأتمنّى، أن يكون هذا الانقسام القيَمي والنفسي والأخلاقي الذي سبّبته جائحة كورونا مُحفّزاً للكتّاب ليجعلوا منه خلفيّة لأحداث رواياتهم، وأشعارهم، وفنونهم، وتأمّلاتهم، خلفيّة تحتضن هذا النزاع العميق الذي شطر العالَم إلى شطرَين، وتخلع عليه أهميّة عظيمة الشأن، فتتمرّغ الأحداث في بيئة مُتخيّلة يمتزج فيها الالتباس والارتباك بالخَوف والفزع، وهو أمر يضع تحت بصر الكتّاب موضوعات جديرة بالاهتمام، فما عاد من المُتاح الانشغال بتوافه الأمور، فمسؤوليّة الكاتِب تتخطّى حدود الاهتمام بالأنانيّات المريضة، وتتجاوز الوقائع العارضة التي لا تثمر عن أدبٍ يندرج في تيّار الأدب العالَمي، ويلزم أن يذهب الكاتِب إلى لبّ المُشكلات الكبرى، حيث يتبصّر الإنسان بهويّته البشريّة في عالَمٍ يمور بها.
قد يُسهم هذا الوباء في تهذيب "الاستعراضات" الثقافيّة التي لا نفع فيها إلّا على اعتبار ما يراه رُعاتها من أهميّة بالنسبة إليهم، ومعظمها يخلو من أيّ قيمة رفيعة تُثري المَعرفة الإنسانيّة، وتكاد تكون "كرنفالات" خالية من المضمون الذي كانت عليه الكرنفالات الشعبيّة، والغاية منها خلْع الأهميّة على القائمين بها، وليس الانفتاح على التجارب الثقافيّة للأُمم والتفاعُل معها، وقد يحدّ هذا الوباء من نَهَمِ دور النشر في التنفُّع والإثراء من طبْع كُتبٍ رخيصة بأثمانٍ باهظة يدفعها غُشماء الأدب ليحوزوا بها مكانةً اعتباريّة يتبجّحون بها، وقد يحدّ هذا الوباء من سيول الغُثاء التي يستفرغها مُعظم الكتّاب؛ لأنّهم لم يُراعوا عرفاً واحداً من أعراف الكتابة السليمة، وأخيراً قد يُنبِّه هذا الوباء القرّاء، وهُم الفئة الكبيرة التي تتلقّى الآداب بسائر أنواعها، فيكفّوا عن التلهّي بما لا قيمة فكريّة أو جماليّة له.
لست من المُتشائمين، ولا من المُتطيّرين، ولا من المُحبَطين، ولا من اليائسين، ولكنّي أرصد تحوّلات الثقافة في كثيرٍ من حقولها الأساسيّة في المُجتمعات العربيّة، فأرى فيها ركوداً جلفاً، وتسطيحاً ساذجاً، وتعتيماً على الحقائق، وانشغالاً عدميّاً في ما لا يرتقي بالذائقة الإنسانيّة، ويُثريها، ولا يفتح الأُفق أمام القارئ لينهل من المَعارف الإنسانيّة رفيعة الشأن.
لقد هَيمنت الرداءة، وسيطرَ سوء القول، وكأنّ الإنسانَ كائنٌ سابِحٌ في عالَمٍ سائل لا صلابة فيه، عالَم هلامي من ناحية المَبنى والمَعنى أشاعَ هَوساً في التمركُز حول الذوات الفرديّة التي انقطعت عن سياقات التاريخ والمَعرفة، وانشغلت بذواتها المُغلقة، فما عادت بحاجة إلى الآخرين. ربّما يُزعزع وباء كورونا ركائز العدميّة التي ضربت أطنابها في غير مكان، ويَضع حدّاً لجهل الإنسان بنفسه وعالَمه، فيُعيد ترميم ذاته قبل فوات الأوان.
*ناقد وباحث من العراق