د. محمد سمير عبد السلام - تفكيك الحدث، و تعدد مستويات الواقع في قصص من أمريكا اللاتينية

بيت مسكون مختارات قصصية من أدب أمريكا اللاتينية ل خوليو كورتاثر، و بورخيس، و رولفو، و كتاب، و كاتبات أخريات، ترجمة: محمد إبراهيم مبروك، و قد صدر عن دار أخبار اليوم، كتاب اليوم – أغسطس 2013، و تتنوع التيمات الفنية، و التقنيات القصصية في المختارات بين النزوع إلى التجريب في بنية الحدث المفككة، و تقاطع الأزمنة، و الثقافات، و إبراز العبث، و صوره الفلسفية، و تجسداته في العوالم الافتراضية، و البنى الاجتماعية في آن.
إن القارئ يقع في بنية الحكاية كمؤول في نصوص عديدة؛ لأنها قد تقوم بالدرجة الأولى على الغموض الإبداعي للشخصية؛ و من ثم تتداخل مع أطياف النصوص الأدبية، و الثقافية، أو تمارس حالة من الأداء في تداعيات الكتابة، و إنتاجية النص للحدث، و تحولاته السحرية، أو المضادة للأصل، و المفاهيم السابقة المتعلقة ببنية الشخصية، و تاريخها.
و قد يسخر النص من بنيته، و من التفسير الواحد للحدث؛ و هو ما يستدعي صراعا بين التأويلات، و الرؤى التي ينتجها القارئ إزاء الحدث المفكك، أو الاستعاري؛ و هو ما يماثل خطاب بول ريكور حول فكرة (نزاع التأويلات)؛ إذ يرى أن طرح أرسطو للتفسير بوصفه قول شيء عن شيء، قد أحدث ثغرة في النظرية محض المنطقية، و الأنطولوجية للتواطؤ في المعنى، ثم يعزز ريكور من نظرية التفسير المدركة كفهم لدلالات ذات معان عديدة؛ فعلم التفسير ليس عاما، و إنما نظريات منفصلة، و متقابلة، و يقع التحليل النفسي في جانب من هذا الصراع.
(راجع، بول ريكور، في التفسير، محاولة في فرويد، ترجمة: وجيه أسعد، أطلس للنشر و التوزيع بدمشق، ط1، سنة 2003 ص ص 30- 32 – 33).
و تطرح النصوص القصصية المختارة أبنية متعارضة أحيانا، توحي بأن القارئ سيشارك في تأويل الحدث من زوايا، و رؤى عديدة، تؤكد أن التفسير يخضع لأبنية ثقافية، و فكرية، و اصطلاحية عديدة من جهة، و أن النص يمارس إنتاجية متعددة في المتواليات المنطقية التي قد تشير إلى سخرية جمالية مقصودة، و محفزة للتأويل من جهة أخرى.
و قد نلاحظ اهتماما ثقافيا من الكتاب، و الكاتبات بالتفاصيل الصغيرة، و ما تحمله من دلالات جمالية، و نعاين استنزافا للزمن في بعض النصوص التي تفكك العلاقة بين الموت، و الحياة؛ مثل نص كورتاثر، أو العلاقات بين الثقافات المتباينة؛ كما هو عند بورخيس.
و من التيمات الفنية الرئيسية في المجموعة: الاستبدال، و تجاوز الواقع، و السخرية من بنية الحدث، و تفكيك البنى الثقافية، و الغموض الإبداعي للشخصية، و نسبية الرؤى، و الأفعال الأدائية.
أولا: الاستبدال، و تجاوز الواقع في بيت مسكون لخوليو كورتاثر:
تتصل أصالة المنزل في وعي، و لاوعي البطل، و أخته إيريني بذكريات الطفولة، و حلم الاتساع الكوني، و قد أقاما وحيدين، و رفضا الزواج، و مارس كل منهما حياة افتراضية؛ فالبطل أحب كتب الأدب الفرنسي، و أحبت أخته حياكة المفارش الملونة، رغم عدم حاجتها لبيعها، ثم نرى تشكيل البيت الجمالي، و عمقه، ووجود ضجة صماء غامضة تأتي من جهة باب مصنوع من البلوط، و يتحدث كل منهما عن احتلال للأماكن، وفقدان لأشيائهما الحميمة، ثم يخرجان بعدها إلى الشارع.
إننا أمام استبدال افتراضي نصي للمنزل، يوحي بتأثير البنى الاجتماعية المؤسسة لمخاوف الفقدان، و العدم؛ فكل منهما يتمنى حياة مشبعة بالاتساع؛ مثل تلك الأطياف الاستعارية التي تمارس الاستبدال، أو الترانسفير الخيالي.
إنهما يرغبان في الشعور بخلود المنزل، و أصالته؛ و كأنه منزل فني نبع من لوحة، أو من أحلام اليقظة المقاومة للفقدان، و للغياب.
هل تمارس الأطياف الاستعارية طردا، أم تفكيكا لبنية المنزل الصلبة، و تاريخه في وعي الشخصيتين؟
إن الاستبدال يسخر من أي وجود حقيقي مؤقت، باتجاه تشكيل استعاري للمنزل، يتوحد بالعالم الداخلي للشخصيتين؛ و يؤكد ذلك حدوث الضجة الغامضة من ممر جواني مواز لعمق الحياة الأدبية الداخلية لهما، و كذلك توحد الإشارات النصية إلى الضجة المحسوسة، بالإشارات إلى أصوات إيريني الحلمية القادمة من اللاوعي.
و تصنع الأشياء الصغيرة عالما يحفر أثرا فنيا يقاوم الفقدان، و التهميش في النص؛ كالكتب، و المفارش الصغيرة، و الساعة، و المفتاح، و غيرها؛ فهي آثار لامتلاك عالم واسع، حلمي، و يسعى لتجاوز الغياب.
إن الشخصيتين تسعيان لتجاوز الواقع عبر ترانسفير مضاد، و استنزاف للزمن في استباق حدث الموت في عوالم افتراضية قيد التشكل في نص كورتاثر.
ثانيا: السخرية من بنية الحدث في قصة كليوتيلده لخوان رولفو:
يستعيد الراوي / البطل في قصة رولفو فكرة الحب الممزوج بالموت، أو القتل، أو التضحية في الذاكرة الجمعية، و في الأخيلة الممتدة من نصوص الأدب؛ و كأننا نشاهد تضحية استعارية جديدة بإيفيجينيا ابنة أجاممنون، أو عودة صاخبة، و خصيبة لتموز في حب ممزوج بالموت، كما يسعى راوي رولفو إلى تحطيم الشكل عن طريق تعارض المتواليات السردية، و السخرية من بنية الحدث عن طريق اختلاف الروايات، و زوايا النظر الجمالية للموضوع.
و بصدد السخرية، و التجريب في نسيج النص القصصي عند أدباء أمريكا اللاتينية، يرى فرناندو أليجريا أن الأدب المضاد يشير إلى هدم الأشكال، و محو الحدود بين الأنواع؛ إذ يحمل العمل الأدبي - في داخله – نفيه الذاتي، و يرى أن رواية الحجلة لخوليو كورتاثر؛ هي رواية مضادة، تقوم على تهكمية الطرح، و السخرية من قصص العادات الأسباني، و كذلك الرواية التي تمثل بلاغة وصفية إيهامية.
(راجع، فرناندو أليجريا، الأدب المضاد، أدب أمريكا اللاتينية، القسم الثاني، تنسيق، و تقديم: سيزار فرناندث مورينو، ترجمة: أحمد حسان عبد الواحد، مراجعة: د. شاكر مصطفى، المجلس الوطني للثقافة، و الفنون، و الآداب بالكويت، سنة 1988، ص ص 45- 47 – 48).
إن التهكم يسهم في التعددية البنائية للحدث؛ و من ثم إعادة تشكيله بصور تأويلية عديدة في تداعيات الكتابة، و طرق القراءة، و التلقي معا.
و يقوم نص رولفو القصصي على بنية حكائية بسيطة؛ و هي استدعاء الراوي / البطل لحدث قتله لزوجته كليوتيلده عقب سباب، و مشادة كلامية، و اكتشافه لعلاقات حب عديدة أقامتها بشكل واضح، و لكنه يروي الحدث نفسه بصور مختلفة، و يمزج بين عودة كليوتيلده كظل، أو طيف ثقيل، و حضورها الممزوج بخصوبة الحب في وعيه، و لاوعيه؛ و كأن الظل يسخر من متوالية الموت الأولى الصاخبة. و تكرار الحب الافتراضي، يسخر من متوالية الانفصال العبثي المتكررة بينهما.
تناهض متوالية كليوتيلدة كظل موتها السابق في الحدث الرئيسي للنص؛ فهي متوالية لحياة فائقة تتجاوز الموت من خلاله؛ فالبطل يرى ظلها فوق رأسه، و يشبه الظل شجرة مصابة بخدوش، و قد حدثه لمرات حتى يمضي، و لا يضايق الناس، و الظل ينظر بكل جزء فيه، و يبدو كأنه يقطر دما.
لقد امتزج صخب الدم بالحياة الاستعارية للطيف الذي يشبه أطياف هملت، و مكبث؛ فهو يقع بين الموت، و الحياة الممتدة التي تسخر من الموت الممثل لنواة النص، و يلتحم بصورة الشجرة التي ارتبطت بملك الغابة في الغصن الذهبي لفريزر؛ و كأن الظل يكتسب حضورا دائريا مهيبا يتجاوز منظومة التعارض بين الحضور، و الغياب؛ و هو كشف مضاعف نفاذ، ينظر بكل جزء فيه إلى الداخل؛ و كأنه يمحو الموت، و يستعيده دائما في تناقض، يناهض إلحاح الحدث الأول على الراوي.
أما المتوالية الأخرى تبدو فيها كليوتيلده كحبيبة تنام في هدوء، و يحتضن البطل يديها أحيانا، ثم يروي جانبا مختلفا من حدث القتل، يقترن برفضها النوم إلى جواره، ثم عنفه الأدائي غير الواعي، و خروجه من المنزل.
يستعيد البطل بكارة الحب الممزوجة ببكارة العنف الصاخب الذي بدا غريبا عنه، أو أقوى من حضوره الشخصي في الرواية الثانية؛ و كأنه يقدم تضحية مؤجلة بهذا الجسد الاستعاري الذي يستعصي على الموت؛ لأنه يطل مرة أخرى في عودة للحب تشبه عودة الخصوبة في الذاكرة الجمعية.
ثالثا: تفكيك البنى الثقافية في قصة المحارب، والأسيرة لبورخيس:
يقوم نص بورخيس القصصي على توثيق سردي إبداعي لرواية ذكرها كروتشه لبابلو الشماس حول محارب يدعى دروكتولفت؛ و هو محارب بربري متناقض بين القسوة، و البساطة، و الود، و قد حملته الحروب إلى رافينا، و شاهد بها تجليات حضارية جمالية؛ مثل تماثيل المرمر، و معابد، و صروح معقدة التصميم، و قد ألهمته المدينة؛ فصار كاللومبارديين، ثم يروي حكاية عن امرأة إنجليزية انتقلت إلى البربرية بشكل مثير للشفقة، فشربت من دم ساخن لغنم مذبوح، و يجسد النص سلطة المكان الثقافية على وعي بعض الشخصيات، أو يفكك البنى الثقافية الانفصالية بين الأنا، و الآخر في الحالات الفردية.
إن البربري المتحضر، و المرأة التي تحولت إلى البربرية، قد مارس كلاهما تعاطفا ثقافيا مرتبطا بالمكان، و إيحاءاته، و أحلامه، و تجسيده لتناقضات ثقافية عالمية ترتبط بتاريخ الإنسان، و ذاكرته الجمعية.
و يشير التراث الإنساني الحضاري، و الأدبي إلى العلاقات المعقدة بين الثقافات، و تجسداتها المختلفة؛ فتوينبي يحلل لقاء البربري بالحضارة، و امتداده في نصوص هومر في تاريخ الحضارة الهيلينية، و يمارس أندريه مالرو نوعا من التمازج الإبداعي بين متاحف الحضارات المختلفة في المذكرات المضادة، و ينحاز بطل رواية عملاق ماروسي - لهنري ميلر- لثقافة اليونان، و يكشف كونديرا عن التناقضات الفلسفية، و الثقافية في عمق الشخصيات، و خطابها في رواية فالس الوداع.
و يحرص بورخيس على تفكيك علاقات البنى الثقافية عبر محورين:
الأول: داخلى؛ فالشخص يحمل بداخله تداخلا إنسانيا عالميا بين الأنساق المتباينة من التوجهات الثقافية نحو الجمال، أو البربرية، و تكشف إنتاجية النص، و صيرورة الحياة عن تطور انحيازاته المبنية على حالة تداخل أصلية.
الثاني: تفاعلي؛ أي يقع بين شخصيات متباينة تمارس حالة معقدة من التداخل، و التناقض الثقافي؛ و يمثله اللقاء الفني الذي أحدثه نص بورخيس بين المرأة، و الرجل البربري المتحضر؛ فكل منهما مارس حالة من التمرد، و التجاوز لهويته الثقافية في تشابه، يناهض الاختلاف في محتوى هذا التجاوز نفسه؛ إذ اتجهت المرأة إلى البربرية؛ وعلامتها في النص الدماء التي تذكرنا بمرحلة الصيد البدائية، و حديث فرويد عن الطوطم، و التابو، و علامة العمارة الجمالية في حالة الرجل تمثل المدنية، و يتأكد فيها حس النهضة الإنساني، و ما يرتبط به من تعال روحي.
رابعا: الغموض الإبداعي للشخصية في قصة ماتيلده إسبيخو لأمبارو دابيلا:
يمتزج المكان الحلمي، بتفرد الشخصية، و عالم الموسيقى الافتراضي، و تنازع التأويلات التي ينتجها النص، و حالات القراءة الممكنة لمضمون الشخصية في قصة ماتيلده إسبيخو لأمبارو دابيلا؛ فقد سعت البطلة / الراوية لاستئجار شقة من ماتيلدة العجوز المتفردة الغامضة، و شعرت الراوية بحضرة المكان الحلمية الأصيلة؛ و كأنها تعيش في زمن آخر؛ فشاهدت أثاثا من طراز لويس الخامس عشر، و لمبات جاز، و ميداليات عليها نقش ملائكي، و مرايا كبيرة، و ذاقت لديها نوعا من الشاي الصيني الأصيل النادر، و نعاين حنين العجوز لأزواجها الموتى، ثم استرجاعها لدروس الموسيقى مع زوج البطلة / الراوية، ثم كرمها في معاملتهما، ثم يتجه الحكي إلى أن المرأة قاتلة لأزواجها بسم نادر، و مذنبة.
و تتنازع – في السرد – روايتان؛ هما: الأولى: حنين الشخصيتين للمرأة و عالمها الافتراضي الإبداعي، و الثانية: صورتها في المتوالية القصصية التي تصفها بالمذنبة، و القاتلة.
الأشياء الصغيرة تشكل عالما حلميا إبداعيا في النص، و في كتابة أمبارو دابيلا؛ فهي تنقل البطلة إلى عالم يتجاوز تواضع وضعها الاجتماعي، و تمنح مفردات الواقع شاعرية خاصة، و بعيدة عن عالم الموت الذي كان خفيا في شخصية العجوز، و تتصارع الروايتان عن الشخصية، و تمثلان تفكيكا لصورة المرأة، و تطرحان أسئلة حول عالم الشخصية الفلسفي، و الثقافي في النص، و هو ما يذكرنا بمقال السيد بنيت، و السيدة براون لفرجينيا وولف؛ إذ أكدت أنها تمثل الحياة نفسها، و أنه يجب تحمل المتقطع، و الغامض، و الشظوي في تلقي الشخصيات الروائية. (راجع، فرجينيا وولف، السيد بنيت، و السيدة براون، نظرية الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث، ترجمة: د. أنجيل بطرس سمعان، مراجعة: د. رشاد رشدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 200).
يستدعي غموض الشخصية – إذا – نوعا من التأويل المضاعف؛ و يتمثل في تنازع الروايات حول الشخصية كما هو في أدب أمريكا اللاتينية، و منح القارئ إمكانية إنتاج روايات أخرى محتملة حول الشخصية؛ فقد تشير العجوز في النص إلى المستوى غير الواعي من الصراع بين الموت، و الجماليات الافتراضية للحياة.
خامسا: نسبية الرؤى، و الأفعال الأدائية في قصة الخاتم لإلينا جارو:
الخاتم في قصة إلينا جارو هو العلامة التي تتمركز حولها نسبية الرؤى الاجتماعية، و الفلسفية في القصة؛ فهو يجسد في وعي البطلة / الأم حلما جماليا تعويضيا عن تواضع وضعها الاجتماعي بعد سلب ممتلكات العائلة، و مقتل ابنها، و يمثل أداة للسخرية، و العبث عند أدريان، و أقرانه السفاحين، و نعاين علامات النص من وجهة نظر الأم التي تجسد أدريان كسفاح، و صانع لسحر أسود لابنتها، و من وجهة نظر الفتاة التي حزنت فجأة على مقتله بواسطة الأم.
ثمة نسبية للحقائق الجمالية في النص، و إن بدت علامة الخاتم نفسها مفككة في تقاطع الرؤى الجمالية؛ فهو عالم شاعري مفقود عند المرأة، و أداة قهر، و امتلاك عند أدريان، و علامة حب ممزوج بالألم في وعي، و لاوعي الفتاة.

د. محمد سمير عبد السلام – مصر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...