أمل الكردفاني - حرب النمذجة

▪لا تتابع عمل الحلاق، فستشعر بأنه لا يعرف ماذا يريد أن يفعل. فيداه تتحركان كعصفورة، تقفز يميناً وتارة يساراً، لأعلى مرة، ولأسفل مرة. فجأة يترك يافوخك ويقطع سبيبتين في الشارب. ثم يتحول إلى فودك الأيمن، ثم يعود ليافوخك، ثم يترك الرأس ويشذب شعرتين في اللحية. وكذلك يفعل الرسام. فهو يشعر بوسواس حين يرى نقطة صغيرة تشوه الرسمة، أو خطاً ما يحتاج لتسوية، أو أصبع قدم غير مستوٍ. فأثناء عمله الأساسي، يمكنه أن ينتقل فجأة لجزء بعيد يصلحه ثم يعود للجزء الرئيسي. لا يبدو (كل من الحلاق والرسام كميكانيكيين). فالميكانيكي، يعتمد على تنقلات هندسية محددة. كما أنهما ليسا باحثين علميين؛ فالباحث يعتمد المنهج ثم يمضي معه بصرامة. لكن الرسام والحلاق إداريان جيدان، فالإداري الجيد، هو الذي يحاول دائماً سد الثغرات الصغيرة بسرعة حتى لا تتسع، ومن ثم تزيد تكاليف المشروع أو تقلل من كسب الربح، أو تضعف المنتج، أو قد تفضي مستقبلاً لإضطراب خط الإنتاج، كما أن الإداري لا يعتمد على الخبرة فقط بل كذلك الإحساس (الحدس) وهذا أيضاً تقارب مع الحلاق والرسام.
يعتمد الحلاق والرسام والإداري على الملاحظة المستمرة لأوجه القصور. وهكذا تكون النتيجة متقنة في حدود الإمكانيات المتاحة. أما السياسي، فهو لا يهتم بسد الثغرات، بل في بعض الأحيان قد يعتمد على توسعة الثغرات لينفذ منها إلى تحقيق إضطراب ما، ثم يستغله لتحقيق مكاسبه السياسية، حتى لو كان هذا السياسي لا يختلق الثغرات أو يساهم في صناعتها. بل يكون هذا السياسي الصامت أكثر خطراً من غيره، إذ يراقب كل شيء عن كثب، ويدفع بوسطاه ليوسع من الثقب، ثم يتركه ليتفاعل مع محيطه فيخلق البيئة المناسبة لإنقضاض السياسي على خصمه فيطرحه أرضاً بالضربة القاضية.
إذاً؛ فهناك ثلاثة أنواع رئيسية من التحركات في رقعة الشطرنج البشرية:
١- التحركات الملتزمة بالقاعدة إلتزاماً صارماً.
٢- التحركات المتبعة دوماً للتقدير الشعوري (الحلاق والرسام).
٣-التحركات السالبة التي تعتمد على التعامل مع الواقع كما هو بكافة ثغراته، بهدف توجيه ذلك الواقع لإحداث الأثر المطلوب Desired effect.
إن أخطر أنظمة الحكم، هي التي تعتمد على الثلاثة أنواع تلك، إذ تترك نوعا رابعاً ووحيداً للشعب، وهو التحرك الإعتباطي داخل النموذج، كما يحدث في دولة كالولايات المتحدة. وهذا التحرك الإعتباطي، يمنحه النموذج وصفاً رناناً وهو "الحرية".
وسنلاحظ أن كل هذه النماذج لا علاقة لها بالأخلاق كمحدد لها، إذ أن الأخلاق نفسها تتحول لعنصر من عناصر العمل، كفرشات الرسام ومقص الحلاق وخطاب السياسي وقرار الإداري وك(نص) القانون.
تتجه العلوم الحديثة كلها اليوم نحو أتمتة العقل البشري، ومن ثم السيطرة عليه. فالأتمتة لم يعد يستخدمها الإنسان بل هي التي توجهه لأسلوب حياة منمذج. اصبح بإمكان الأذكياء المساهمة في صنع الحدث، سواء كان حدثاً سياسياً أو طبياً أو ثقافياً، ولذلك فالأذكياء إما أن ينخرطوا ضمن لوبي، أو سيتم غمر مساهماتهم أو سرقتها، أو حتى التعرض لهجوم منظم وممنهج.
فالإنضواء تحت مؤسسة أضحى شرطاً لأي مثقف. والإنضواء يقوض حرية التفكير، ومن ثم حرية التعبير. وهكذا تصنع الدول مؤسسات القمع تلك كقوقل وفيسبوك وتويتر لفرض نموذج ثقافي وسياسي ما، ولذلك لم تجد أمريكا بداً من محاربة تطبيق صيني بسيط وهو تيك توك. فالصراع ليس بسبب الربح بل بسبب التنافس على فرض النمذجة العالمية. لقد أوردت إذاعة دويتشه فيله DW الألمانية، خبر عزم ترامب حظر تطبيق (تِك توك) في الولايات المتحدة، بحجة الخوف من التجسس، بالرغم من أن تطبيق فيس بوك يبيع كل معلومات الحسابات لأجهزة استخباراتية وتجارية، ورغم لا أخلاقية هذا التصرف من إدارة الفيس بوك بل وانتهاكه للدستور الامريكي ؛ لكن فيسبوك نفسه يفرض قيماً أخلاقية متزمتة جداً حتى أنه عين عضوة في تنظيم الإخوان المسلمين مراقبة للحسابات. وهكذا قد يبدو ذلك تعارضاً أخلاقياً، لكن كما أسلفت فالأخلاق ليس مصدراً للتحركات بل عنصراً فيها. وكل تلك التحركات تهدف لفرض النمذجة على أوسع نطاق. وتبدو حرب الجيل الخامس أوضح دليل على ذلك، ومعه تضخيم فيروس كورونا. فالحرب الحالية والمستقبلية هي حروب النمذجة، وليس التدمير. فإذا كانت قوة سلاح ما تقاس بالقوة التدميرية لذلك السلاح، فقوة السلاح اليوم هي مدى إتساع نطاق قدرته على النمذجة.
وإذا كانت الصين تمتلك تلك الإحترافية العالية فهي الآن اكثر خطورة من الإتحاد السوفيتي سابقاً. لقد كانت الحرب الباردة، ليست فقط تأكيداً على ضعف الإرادة الروسية تنظيرياً وعسكرياً، بل أيضاً ضعفها في النمذجة. فخلال الحرب الباردة، إستخدمت الولايات المتحدة منهج النمذجة بوسائل تقليدية، مثل السينما (هوليوود)، والرياضة (بروسلي ومحمد علي كلاي)، والعلمي (النزول على القمر وحرب الفضاء)، وتوثيق تاريخ العنف الأمريكي كمعيار للإرادة (الكاوبوي والهندي الأحمر)، فإن الإتحاد السوفيتي فشل فشلاً ذريعاً في حرب النمذجة. بالرغم من الثراء التاريخي لروسيا، قبل الثورة وبعدها، ورغم ثراء النظرية الماركسية بمستوياتها الإصلاحية المختلفة. وإزاء إنهيار الإتحاد السوفيتي، وقبلها التحولات الإقتصادية في الصين والتي قادها دينج شياو بينج عام ١٩٧٨، أمسكت الصين برأس الخيط وبدأت في التقعيد لحرب النمذجة. كانت هواوي إعلان حرب النمذجة بالأسلوب الصيني البارد. وهنا استشعرت الولايات المتحدة الخطر. فالمسألة لا تتعلق بالتجسس بل بالنمذجة. وفي أول معركة نمذجة صغيرة بين الخصمين وهي معركة كورونا انتصرت الصين.
حرب النمذجة هي تأثير مباشر علينا كأفراد مساكين، ستحدد لنا القوى الكبرى منهج حياتنا وخياراتنا في الحياة وأسلوب عيشنا وحدود تفكيرنا، فنكون نحن لسنا نحن في الواقع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...