أول لقاء صحفي مع الأستاذ زهير الخويلدي.. أجرى الحوار : كمال الكافي

غياب التفلسف عند العرب انحطاط سببه التصحر الثقافي
سعي الباحث التونسي زهير الخويلدي من أجل بلورة جملة من النصوص النقدية بهدف الارتقاء بالثقافة والتشجيع على النقد الفلسفي والاجتهاد في الدين وتهذيب الذوق وتحفيز الناس على المطالعة وعلى احترام العلم وأهله؛ أفضى به إلى الفوز بلقب أفضل «كاتب باحث» في مسابقة أفضل الكتاب والنقاد لعام 2009. هذا الفوز جاء نتيجة لعمل دؤوب قام به الخويلدي منذ عام 2003 وحصوله على مرتبة الأستاذية في الفلسفة سنة 1996 وشروعه في نيل درجة الدكتوراه حول الفلسفة المعاصرة، فعن فوزه بهذه الجائزة يقول زهير: جاء هذا الفوز محصلة لكتابات شاركت بها في عدد المنتديات والمواقع والمجلات الإلكترونية في القارة السابعة العالم الافتراضية، فسنة 2009 اعتبرها سنة استثنائية لأنها زاخرة بالنشاط حاولت خلالها الربط بين النشاط الثقافي العمومي الذي أمارسه في العديد من الفضاءات وبين نشر هذه المداخلات في المنتديات والمواقع الإلكترونية، كما اهتممت هذه السنة التي بلغت فيها الأربعين عامًا بتطبيق المناهج الفلسفية والعلمية في القضايا التي تطرح داخل الثقافة التي انتمي إليها، وخاصة في علاقة إما بشخصيات عربية أو تونسية أو حتى الشخصيات الفلسفية وفي علاقته بالإشكاليات التي تطرحها اللحظة الراهنة والمستجدات التي تطرح في الثقافة العربية.

دوافع ذاتية وموضوعية
ويمضي الخويلدي كاشفًا الدافع الذي شجعه على البحث الفلسفي بقوله: هناك العديد من الدوافع أهمها دافع ذاتي؛ فأنا منذ نعومة أظافري مغرم بالمطالعة والكتاب وأشجع الجميع على التثقيف وعلى النهل من العلوم، واعتبرت ذلك فريضة على كل إنسان وينبغي أن يطلبه من المهد إلى اللحد، وحاولت أن يكون محبا للعلم ومجدا في طلبه وكانت المطالعة رؤيتي للعالم والنافذة التي من خلالها أتصل بالناس وأحاول أن أسافر عبر الكتب وعبر الثقافة إلى العوالم التي لا أستطيع أن أراها، عامل ثاني وهو عامل موضوعي من خلال الأشتغال في التربية والتدريس وأخوض العديد من التجارب التعليمية من خلال عملي الدوري في التعليم تفاجئنا العديد من الإشكاليات والأفكار، أحاول أن أروضها وأقربها للإفهام وأوبؤها داخل الثقافة واللغة العربية وأنقلها من الفلسفة الغربية سواء انكليزية أو فرنسية إلى لغة الضاد، هذا العمل الموضوعي يوفر لي منهجية كافية تجعلني أكتب بشكل مستمر خاصة من خلال التجربة الحوارية التي أجريها مع طلبتي ومن خلال الحوارات التي أجريها عند مجالستي لزملائي في التدريس وبعض المثقفين الذين تربطني بهم علاقات صداقة، وهذا ما يثري تجربتي ويشجعني على الكتابة، إضافة إلى انخراطي في العديد من وحدات البحث في الجامعة التونسية ومن خلال البحوث التي أكلف بها، وهو ما كون لدي خبرة في هذا المجال.

تصحّر ثقافي
وفي مقارنة بين واقع الفلسفة العربية بين الأمس واليوم يضيف زهير: أرى أن العرب في الماضي أسسوا فلسفة كانت ذات منزع كوني وحاولوا بها أن يقرؤوا الوجود وأن ينظروا للمدينة والتحضر وبلغوا العالمية ويمكن أن تذكر العديد من الفلاسفة العرب بداية من الكندي ثم الغزالي ثم الفارابي وابن رشد وهم علماء ورياضيين وفيزيائيين كبار، وأيضًا فلسفة اليوم اذ عندما نتحدث عنها فهي بالأساس الفلسفة الغربية بشقيها الفلسفة القارية الفرنسية والألمانية، وأيضا الفلسفة الأنجلوسكسونية التحليلية، وأنا أحاول أن أزاوج بين الاثنين معًا، أريد أن أتحرى نسبيًّا من الإرث الفرنسي والثقافة اللاتينية وانفتح على التقاليد الأنجوسكسوني لأن فيه العديد من الإضافات والتحليلات الجديدة وخاصة مقولة العولمة وكيف نفهمها، وهو ما يعني أن الفلسفة الأنجلوسكسونية يمكن بها الدخول إلى هذا الزمن بزاد معرفي ونقدي هام يمكننا من التواصل معها ونقدها في جوانبها السلبية والاستفادة منها بجوانبها الايجابية، ولذلك أرى إنه من الضروري أن ننظر إلى فلسفة الأمس من منظار فلسفة اليوم؛ لأن العلاقة بينها علاقة جدلية وعلاقة استيعاب وتجاوز من أجل بناء فلسفة مستقبلية. مع الإشارة إلى أننا نعاني في الآونة الأخيرة من غياب التفلسف وهذا في حد ذاته مظهر تدحرج وانحطاط، وذلك يعود إلى نوع من التصحر الثقافي الذي أصاب العرب في العولمة نتيجة هيمنة الثورة الرقمية ونتيجة تسيّد الصورة وحضارة المشهد ومجتمع الفرجة وسيطرة مبدأ المردود والبضاعة. فهناك اعتراض على تعليم الفلسفة وعلى الاشتغال بالفلسفة، وهناك ممانعة لهذا الفكر وهي صادرة من عدة جهات سواء من جهة الرأي العام والإنسان العادي الجمهور الذي يعيش على ما هو مشترك وعلى المعارف المتداولة وعلى التقاليد والعادات أو من قبل العلماء ومن قبل الفقهاء أيضًا رجال الدين يحرّمون ذلك، ثم هناك ممانعة من طرف السلطة التي تمنع القول الفلسفي برغم من مزاياه ومكاسبه ومنافعه.. لذلك يجب تشجيع أطفالنا على دراسة الفلسفة وحب القراءة والمطالعة والاستفادة من تجارب الآخرين في النقد والتحليل والغوص والذهاب بعيدًا في طرح الأسئلة، ولا حل لنا غير فلسفة عربية تنبع من القران الكريم وتتكلم بلغة الضاد نستطيع من خلالها تفسير الواقع واستشراف المستقبل.

مراجعات ومشاريع كبرى
ويتابع زهير حديثه مشيرًا إلى أن هناك العديد من الكتابات وهناك مراجعات ومشاريع كبرى للعرب في مجال الفكر والفلسفة بدأت بعد نكسة 67 والتي توجت الآن بنقد ذاتي لدولة الاستقلال في الدول العربية التي كانت مستعمرة وتحركت جميع الكتابات حول مقولة أساسية وهي مقولة النهضة العربية، وهذه الكتابات اعتمدت على مسلكين تقريبًا إما مسلك تقليد المحدثين وخاصة الفلسفة الغربية في مناهجها العلمية وعرضها، ومسلك ثاني تمثل في إعادة إحياء القديم في شكل تحقيقات وتلخيص وإعادة نشر تلك الكتب التي كانت تنعت بالصفراء في ما مضى وإعادة طبعها ونشرها في مجلدات أنيقة والإبقاء على هيئتها في مستوى المضمون كما وجدت في الماضي، والتشبث بتلك المقولات دون تجديد ولا نقد وبالتالي نحن أمام اتجاهين، الكاتب الحديث الموالي للفلسفة الغربية والكاتب التقليدي أيضًا الذي يعترف بعجزه عن الإبداع وبأن خير القرون هي القرون الأولى؛ لهذا فنحن الآن نعيش فراغًا وعدم إبداع، وهذا في حد ذاته ابتعاد عن ما ينبغي أن يكون.. ينبغي أن ندعو إلى اتجاه ثالث في الفلسفة وهو طريق الذي يمارس الإبداع لأننا توقفنا عند مستوى شعار التجديد، شعار النهضة والإصلاح، شعار الثورة ، شعار البناء، كلها مقولات، كلها واجهات ولكننا لم ننتج نصًّا جديدًا واحدا نعبر فيه عن الإبداع الحقيقي.

حالة الوأد والغربة
ويمضي الخويلدي في حديثه مستعرضًا التجاوب العربي مع الفلاسفة المعاصرين بقوله: هناك تجاوب وهناك إنصات إلى البحوث الجامعية والأطروحات التي تناقش من خلال المجلات والدوائر العلمية الضيقة، وهناك نوع من التراكم لنصوص جيدة في الجامعات العربية، وهناك تجارب مهمة بدأها المسيحيون العرب في القرن الماضي خاصة في لبنان وسوريا ومصر أيضًا، وتوجت الآن بتجربة فلسفية كبيرة في المغرب العربي، نحن في تونس إحدى فصولها ولكن على مستوى الفضاء العمومي هناك انحصار وتجاوب محدود لهذه الإبداعات الفلسفية وخاصة في العلاقة بالترجمة لأنه لا يمكن أن تترجم نصًّا لا يقرأ فيما بعد، لأن الترجمة عادة في بدايتها الأولى رديئة في حاجة إلى تطوير وفي حاجة الى مقارنات وتوسيع تجربة الترجمة لكي يقع التعريف بالمنتوج العربي في لغات أخرى مثل ما ترجم لمحمد عابد الجابري إلى الألمانية وترجمة بعض النصوص الاجتهادية إلى الفرنسية هي مجرد بدايات ولابد أن نؤسس مثل ما أسميته في كتابي الأول «حسن الضيافة اللغوية» تعبيرًا عن العلاقة التي تؤسسها الترجمة بين الهوية العربية والغيرية.أي لابد من الخروج من خصوصيتنا إلى الكونية والعالمية أولا بالخروج من التفكير بالهوية فقط ومسألة الملة والمشاكل والأسئلة التي طرحت فيما مضى والتفكير في أسئلة جديدة تهم الإنسانية جمعاء ونشارك مع الآخر في صياغة كونية أخرى ونطرح مشاكل أخرى.. وأنا اعتبر الفلسفة التي لدينا غير كافية طالما أنه ليس هناك قراء وليس هناك جمهور وتشجيع من المؤسسات الرسمية التي ينبغي أن تكثف الاهتمام على المستوى الإعلامي والأكاديمي الجامعي بالفلسفة وخاصة بالفكر العقلاني والنقدي وتشجع على هذه العملية النادرة الصعبة التي تحتاج إلى تبني كي نخرجها من حالة الوأد وحالة الغربة.

خدعة التناقض
ويختم زهير حديثه متناولاً العلاقة التي تربط الفلاسفة المغاربة بإخوانهم بالشرق بقوله:
هناك خدعة يريدون تصديرها والسبب هو الإعلام وهو وجود تناقض بين أهل المشرق وأهل المغرب، وهذا لم يكن موجود في الماضي لأن أهل المغرب كانت لديهم رحلة علم نحو المشرق وأهل المشرق كانوا يأتون إلى المغرب ويستفيدون من علماء وحكماء المغرب، الشيء الذي خلق تراكم وجدل وردود وعديدة هي المسامرات التي كانت تجري في القصور ولدينا المدونة العربية تركت لنا العديد منها مثل الحوار بين النحو والمنطق، مثل حوار الرازيين أبو حاتم والفخر حول مسألة النبوة، والحوار الشهير بين ابن رشد والغزالي وهو حوار غير زمني لأنهما لم يتعاصرا في وقت واحد ويعبران عن نضج الفلسفة العربية وأنها بنيت من خلال جناحيها أي المشرق والمغرب. فالفلسفة العربية كانت تحاول أن ترى الواقع والوجود من مقولة العقل وكان النص القرآني هو النور الهادي الذي من خلاله تحاول أن تقرأ فصول الطبيعة وتستشرف نواميس الكون فانقسمت الفلسفة العربية إلى 3 أبعاد؛ نظرية في المعرفة، ونظرية في الوجود، ونظرية في القيم. وأسست تصور للمدينة عبر عنه بتجلي الفيلسوف الكبير الذي سمى بالمعلم الثاني الفارابي والذي ترك لنا تصور للمدينة لم يكتف فقط بنقل معنى جمهورية أفلاطون وإنما تصور المدينة الفاضلة على ضوء المعمورة وكاجتماع وسيط يؤدي إلى اجتماع كبير وحاول من خلال تعريفها بالسلب عندما ترك لنا فصولاً عن ما ليس مدينة فاضلة، وبالتالي فإن الفلسفة العربية هي رؤية متكاملة لها تصور للمعرفة والوجود والمدينة والأخلاق، ونحن في حاجة إلى فلسفة عملية، تشرع القيم وتؤسس للمعنى من زاوية الدين القيم الذي هو تدين روحي طبيعي مدني من خلاله يتصالح الإنسان مع ذاته ومع الإنسان الآخر."

أجرى الحوار كمال الكافي تونس

عن جريدة المدينة السعودية بتاريخ الثلاثاء, 23 فبراير 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...