خير جليس ماري القصّيفي - نحن القرّاء كم نحتاج إلى التواضع!

لعلّ من السهل أن نعرف ما الذي يربط الكاتب بمؤلَّفه، إذ غالبًا ما يفضح الكتاب نفسه الخلفيّات المتنوّعة الكامنة وراء وضعه. لكنّ العلاقة المقابلة، تلك التي تربط الكتاب بالقارئ، هي التي يصعب رصد حركتها. وإذا كان من المتوقّع أن يقوم الكاتب، وهو شخص مفرد، بالتعريف عن كتابه عبر مقابلات وإجابات تحليليّة، أو بواسطة نقاد يقومون بالكشف عمّا يمكن أن يكون جوهر الكتاب، فإنّه من الصعب جدًّا أن نعرف ما هو القارئ – القرّاء الذين لا حصر لهم – وما هي ثقافتهم وخلفيّاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وما هي قدرتهم على الاستيعاب والفهم والتحليل.
إنّ التقاط علاقة الكتاب بالقارئ، أو القارئ بالكتاب، مهمّة عسيرة وشاقّة. ولكنّ ثمّة جانبًا من هذه العلاقة أكثر بروزًا وأشدّ تأثيرًا من سواه. إنّ عددًا كبيرًا من القرّاء يعلن نفسه، ويتباهى هؤلاء بعدد الكتب التي قرأوها، في مختلف الميادين وعن كلّ الموضوعات، حتّى أنّ قسمًا مهمًّا منهم، من شتّى الطبقات الاجتماعيّة، يضع المطالعة في أوّل اهتماماته. ويساوي هؤلاء، في المطالعة، بين المجلّات الفنّيّة في صالونات تزيين الشعر وكتب جبران ودواوين نزار قبّاني، إلى سواها من المؤلّفات.
وبغضّ النظر عن أنواع الكتب التي يطالعها الناس، يبقى السؤال الأهمّ: هل يبقى الإنسان هو نفسه بعد قراءة كتاب ما، أم من المفترض أن يغيّر اطّلاعه على هذا الكتاب شيئًا ما ويضيف جانبًا إيجابيًّا، خاصًّا ومميّزًا؟
إذا كان الأمر هكذا، فمن المتوقّع إذًا أن يكون كلّ الذين تعاطوا مع الكتاب، أيّ كتاب ذي مضمون ولغة، قد ارتقوا في سلّم القيم والمناقب. ولكنّ الأمر غير ذلك في غالب الأحيان، فإنّ كثيرًا من الذين يتباهون بانكبابهم على المطالعة ليل نهار إنّما هم أشبه بطاولاتٍ تراكمت فوقها أنواع الكتب من دون أن يدخل ما في هذه الكتب في جوهر الطاولة، ويغيّر شكلها ولونها ووظيفتها. وإذا كانت المكتبة مليئة رفوفها بالكتب والموسوعات فلا يعني أنّ هذه الرفوف كائنات مثقّفة ومطّلعة.
يفخر رجل في العقد السادس من العمر بأنّه يقرأ أيّ كتاب يقع تحت يده، أو أيّ مجلّة أو جريدة، ويتحدّث بإسهاب عمّا يحفظه، وشعرًا ونثرًا وحكمًا وطرائف. في اختصار هو موسوعة متنقّلة، ولكن هل جعل ذلك منه إنسانًا مختلفًا ومميّزًا؟ وهل يتوافق إطّلاعه هذا مع مواقفه المتشنّجة في الانتخابات البلديّة والاختياريّة، حين عادى من لا يتوافق مع مصالحه الخاصّة؟
وتلك الجامعيّة الشابّة التي قرأت كمًّا كبيرًا ممّا أصدرته اللغة الفرنسيّة، وما تُرجم إلى هذه اللغة، لماذا لا تستطيع أن تجري حوارًا هادئًا ورصينًا وعقلانيًّا، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والمواقف العصبيّة وردّات الفعل المريضة؟
وذاك المثقّف الذي يصل إلى المقهى متأبّطًا عشرات المجلّات والصحف والكتب، يوزّعها أمامه مظهرًا سعة علمه وتعدّد ثقافاته وتنوّعها، كيف يمكن أن يكون هو نفسه الموظّف الذي يمارس النميمة ويتحرّش بزميلته ويساير ربّ عمله؟
الأمثلة أكثر من أن تحصى، وكلّها يقول إنّه لا يكفي أن نقيم إحصاء لعدد الكتب التي بيعت أو أن نشيد بالنجاح الذي حقّقته معارض الكتب، بل الرهان الحقيقيّ هو في ما تفعله هذه الكتب بالقرّاء الذين من المفترض أن يتحوّلوا بعد كلّ كتاب أشخاصًا أكثر حريّة وعدالة وتسامحًا وتجرّدًا، وإلّا كانوا ببغوات تلقي ما لُقّنته.
قد يكون من الوهم أن نطالب القرّاء، كلّ القرّاء، بهذا التحوّل العجائبيّ، ولو كان الأمر بمثل هذه السهولة لكان رجال الدين بقراءاتهم المتسامية، والفلاسفة بنظريّاتهم النقديّة، والشعراء بعوالمهم الفردوسيّة والأدباء بأحلامهم التغييريّة... قدّيسين وأبطالًا، ولكان العالم مكانًا أفضل للعيش. ولكنّ الأمر أصعب من ذلك بكثير، والمطالعة التي يضعها الناس – أكثر الناس كذبًا وادّعاء – في مقدّم لائحة هواياتهم لم تستطع أن تتحوّل عصًا سحريّة أو دواء عجائبيًّا.
يعترف القرّاء "الحقيقيّون" بأنّ حياتهم قد تغيّرت نحو الأفضل بعد قراءة رواية أو قصيدة. ويقولون إنّ المطالعة قد عرّفتهم على أنفسهم وعلى العالم المحيط بهم، وساعدتهم في تحمّل الكثير من مشقّات الحياة وتقبّل مصاعبها. فما قرأوه لم يكن مجرّد معلومات متراكمة، بل أضحى جزءًا من كيانهم ونسغًا يغذّي جفافهم ودمًا نابضًا في عروقهم، فصاروا أشخاصًا آخرين، أقوى وأوثق وأبهى.
وإذا كانت عمليّة الإبداع مخاضًا عسيرًا ومؤلمًا، يأتي بمولود جديد، فإنّ دور المتلقّي لا يمكن أن يكون أقلّ ألمًا وعذابًا. فالمتلقّي الجدّي حين يقرأ إنّما يعي أن طريقًا صعبًا وممتعًا يمتدّ أمامه، وكلّ ما كان يعرفه ويشعر به ويحفظه ويؤمن به قد يتعرّض في أيّ لحظة من مهمّة القراءة إلى ثورة وانقلاب أو على الأقلّ إلى تبدّل ما. وهذا لا يمكن أن يتمّ بسهولة، فالعمليّة الجراحيّة التجميليّة مثلًا تحسّن صورتنا على المدى الطويل ولكن ليس بلا ثمن باهظ.
أمّا إذا كانت المطالعة لا تهدف إلّا إلى تضييع الوقت، مثلما يفعل بعض الناس في أثناء الرحلات مثلًا، أو على شاطئ البحر، أو عند المزيّن أو لاستجلاب النعاس والنوم، أو لدى سماع الموسيقى، فإنّ هذه المطالعة الحصريّة لا تعيد خلق ذلك المتلقّي من جديد ولا تصنع منه إنسانًا آخر. وكلّ ما يمكن أن تفعله هو "قتل" الوقت أو تكديس معلومة جديدة تكون مدار حديث في الصالونات. لا يمكن أن تتمّ القراءة من دون تعب، ولا يمكن ألّا يشعر القارئ بالإرهاق مع توالي الصفحات مهما كان النوع الذي يكتشف عوالمه.
طبعًا نحن نتحدّث عن الكتب الكتب!
إنّ عمليّة المطالعة رحلة في رمال متحرّكة، أو تسلّق جبال، أو سباحة في محيط هائج، أو تفتيش عن مخرج في غابة أفريقيّة، لا يمكن أن تتمّ من دون مشقّة ترافقها متعة الاستكشاف والتحدّي والتفاؤل بالوصول. ولهذا فمن غير اللائق أن ينتقل المرء من مطالعة كتاب إلى آخر بسرعة قياسيّة وكأنّه في مباراة رياضيّة، فكيف يبدأ المغامر رحلة جديدة قبل أن ترسخ في رأسه ذكريات الرحلة السابقة، يستعيد محطّاتها ويستخلص دروسها، ويدوّن نتائجها ويحفظ جغرافيّتها وتاريخها ووجوهها. وحين "يهضم" المغامرة التي صارت جزءًا منه ينطلق في رحاب مغامرة جديدة.
يعترف قرّاء حقيقيّون بأنّ حياتهم قد تغيّرت نحو الأفضل بعد قراءة رواية أو قصيدة،
ويقولون إنّ المطالعة جعلتهم أشخاصًا آخرين،
أقوى وأوثق وأبهى
إنّ الأديب الكثير الإنتاج والقارئ السريع الاستهلاك متشابهان، كلاهما فقد القدرة على الاستمتاع بما يفعله. وإذا كان الأوّل محكومًا بضرورات العرض والطلب وحاجات السوق والتجارة فإنّ الثاني يلجأ إلى الكتب مدمنًا وهاربًا من واقع لا قدرة له على تغييره. قد يقول بعض الدعاة إلى تشجيع المطالعة: لا بأس، أليس ذلك أفضل من الابتعاد عن الكتب والقراءة؟ قد يكون الاعتراض منطقيًّا، ولكنّ الإدمان مهما كان هدفه يحمل في داخله بذور هلاكه. والهاربون من واقعهم لا يجرؤون على حمل الرسالة التي من المفترض أن يُطلب منهم حملها والشهادة لها. وما يقال عن الكتب يصحّ أيضًا على المسرح والسينما، فإنّ الأعداد الهائلة من مشاهدي الأفلام السينمائيّة لا تعني أنّ جمهورًا مثقّفًا وذوّاقة قد نشأ، والاندفاع إلى أحد العروض المسرحيّة لا يعني أنّ هؤلاء المشاهدين قد خرجوا من المسرح وهم يحملون هموم المجتمع والناس، وأنّ كلّ الذين شاهدوا "بافاروتي" وسمعوه متعوّدون سماع الأوبرا. وإذا كان صحيحًا أنّ في لبنان عشرين ألف متذوّق لذها النوع من الموسيقى، فهنيئًا لنا هذا المستوى الثقافيّ الرفيع!
إنّ كثرًا من الذين حضرو حفلة المدينة الرياضيّة لا يملكون تسجيلًا واحدًا لهذا النوع الموسيقيّ، ومثلهم كمثل الذين يشاهدون مباريات كرة السلّة الذين كانوا إلى المس القريب يجهلون كلّ شيء عن هذه اللعبة، فصاروا اليوم يحفظون أسماء اللاعبين، وهذا في رأيهم كاف لكي يتحدّثوا حديث العارفين عن أداء أولئك اللاعبين.
إنّ الأعداد المرتفعة لمتتبّعي مباريات كرة السلة لا تعني أنّ جمهورًا رياضيًّا قد نشأ، وإنّ ازدحام السير أمام صالات السينما أو المدينة الرياضيّة لا يعني قطّ أنّ الحركة الثقافيّة في موسم عزّها، فلماذا لا يزدحم السير أمام معرض تشكيليّ مثلًا؟ ولماذا لا نسمع بأخبار الذين يسافرون إلى الخارج لحضور حفلات موسيقيّة مثلما سمعنا بالذين أتوا من الخارج ليشاهدوا "بافاروتي" ويسمعوه؟ وأن يحفظ أحدهم القصائد العربيّة بدءًا بامرئ القيس وصولًا إلى أحدث ما نشرته الصفحات الثقافيّة في الصحف، لا يعني في الضرورة أنّ هذا "الأحدهم" قد صار مثقّفًا، ما دامت أخلاقه ومبادئه تشكّل ما يشبه "علبة مسنّنات محكمة الإغلاق، تسيّر الفكر والعمل في اتّجاه واحد، ويمدّها بالقوّة محرّك ذو مصدر وحيد، لا غير، لتتزوّد بالوقود" على ما يقول إدوار سعيد في كتابه "صور المثقّف"، متابعًا أنّ "الجانب الأصعب لكونك مثقّفًا هو أن تمثّل بعملك وتدخّلاتك ما تجاهر به، من دون أن تتحوّل تصلّبًا إلى مدرسة، أو إلى ما يشبه آلة ذاتيّة الحركة تعمل بأمرة نظام أو منهج ما" (ص 122).
كم نحتاج، نحن القرّاء، إلى كثير من الخجل، حين نحوّل الكلمات مثّلجات ملوّنة، نوحي لأنفسنا بأنّنا نحارب بها حرّ الصيف ولهيبه. وكم نحتاج، نحن القرّاء، إلى كثير من التواضع قبل أن نعلن أمام الملأ وبالفم الملآن، المستوى الرفيع الذي وصلنا إليه كمثقّفين.



* ملحق النهار – السبت 17 تمّوز 1999


هنري ماتيس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...