منذ قرابة 2400 سنة، أي في عام 399 قبل الميلاد، تمت محاكمة “سقراط” بتهمة العصيان بـ[محكمة الشعب] في أثينا. وكانت المحاكمة نتيجة لما قام به “سقراط” من اختراقات للقانون الأثيني تجاوز بها، بحسب مزاعم النائب العام “ميليتوس”، على قدسية الآلهة، وضلَّلَ بها الشباب، ودعا لعبادة آلهة أخرى. وكان الفيلسوف، والحكيم البارز بسمعته السيئة قد تجاوز السبعين ربيعًا آنذاك.
انتهت المحاكمة بتسميم “سقراط” بـ[الشوكران]* بعدما صوَّت نحو 280 من أعضاء هيئة المحلفين المؤلَّفة من 501 مواطن ــ أي الغالبية ــ بتجريم “سقراط”؛ وكان قد ألقى كل من “ميليتوس” بصفته المدّعي العام، و”سقراط” بصفته المدَّعَى عليه أمام هيئة المحلفين خطاباتهم؛ وتمّ رصد مذكرة “سقراط” الدفاعية على نسختين: إحداهما من قِبل “أفلاطون”، والأخرى من قبل المؤرخ والكاتب الموسوعي “زينوفون”. بينما فُقِد خطاب “ميليتوس”.
يجب أن تشكل تلك المحاكمة محطّ اهتمام أولئك المؤمنين بالديمقراطية وسيادة القانون، حيث لا نرى جدلًا حول المعطيات الأساسية بمحاكمة “سقراط”، أو ما الذي جعله مجرمًا بعيون الأثينيين؛ وما قد يعنيه ذلك في وقتنا الراهن.
ففي حال كانت الديمقراطية كحكومة مستقلة من قبل الشعب ميَّالة لقمع المخالف أو المعارض، أو الحكم على المعارضين أو المخالفين للديمقراطية على أنهم حفنة خونة ومخربين، فذلك إذًا يضعنا في مفاضلة مقيتة بين الديمقراطية، أو الحرية الفكرية.
ومن الإجحاف أن نتناول محاكمة “سقراط” على هذا النحو وحسب، متجاهلين مسألة المقتضيات، والواجبات المدنية فيها. فقد أدانت المحكمة “سقراط” لرفضه تحمل شيء من المسؤولية الشخصية لفحوى، وانعكاسات خطاب مشروعه الفلسفي.
وقَبِلَ “سقراط” حكم الإدانة، وتناول [الشوكران] نتيجة لإقراره بسُلطة المحكمة، وسيادة القوانين التي حوكم بموجبها، بالرغم من أنه كان مدرِكًا بأن هيئة المحلفين قد ارتكبت خطأً بتطبيقها للقانون.
وكما هو معروف بأن التهم الجائرة الموجهة ضد “سقراط” كانت مدبَّرة سياسيًا؛ فقد سبق ذلك بأربع سنوات ثورة ديمقراطية أطاحت بالحكم العسكري الذي حكم أثينا لفترة مضطربة.
وقد ألمح المدعي العام “ميليتوس” بانخراط “سقراط” في النظام العسكري الوحشي المناهض للديمقراطية. وحثَّ مواطني أثينا بخطابه في المحكمة على استذكار ذلك.
ونجد أن الصحفي الاستقصائي الأمريكي “أ.ف ستون” في كتابه [محاكمة سقراط / The Trial of Socrates (1988)] يرى أن المحاكمة أشبه ما تكون بديمقراطية مُحاصَرة في موقف دفاعٍ عن ذاتها.
فمن وجهة نظره يجد أن “سقراط” كان عميلًا للنظام العسكري المتمثّل بزمرة عساكر طغاة. بينما يُعتبر “سقراط” ــ وحسبما هو شائع ــ ضحية لانتهازية الادعاء العام، وجهل المواطنين.
أمّا إذا كانت غايتنا أن نفهم محاكمة “سقراط” فعليًا، فالسياسة جانب لا يمكن تجاهله لبلوغ هذه الغاية؛ ولكن بطريقة غير مباشرة. فليس من الصواب أن نتناول ”سقراط” على اعتبار أنه نموذجٌ للفرد المستقل، أو شهيدٌ بسيطٌ في سبيل تحقيق حرية التعبير.
فمنظومة السلوكيات، أو المقتضيات المدنية المطلوبة من المواطنين الأثينيين والتي تجسد الثقافة السياسية الأثينية هي أمر جوهري، ومحقق لاستيعاب المحاكمة.
و”سقراط” لم يُستثنَ من هذه المنظومة باعتباره مواطنًا؛ ما كان له الأثر الكبير على سير المحاكمة. وتُسهم هذه المنظومة بصياغة العلاقة بين الخطابات العامة، والمسؤولية المدنية.
وهنا ندرك سلوكيات “سقراط” و“ميليتوس” و”هيئة المحلفين” المتَّسقة مع تصور الأثينيين عن المسؤولية المدنية؛ وتشديدهم على دور المواطن المسؤول داخل النظام الديمقراطي.
وبذلك نجد أنها قصة عن المشاركة المدنية، وبعيدة من عدة نواح، كل البعد عن سياسات الاعتراف التي تتميز بها المناظرات الأمريكية المعاصرة.
ووفقًا لما زعمه الفيلسوف والكاتب “مكسيموس” في روايته للمحاكمة بأن “سقراط” امتنع عن الرد على الاتهامات الصادرة بحقّه في خطاب “ميليتوس”، والتزم الصمت تجاهها.
والمعارضون عادة ما يتخذون موقفًا يرفضون من خلاله الانخراط في إجراءات المحكمة أو النظام القانوني، كمحاولة للطعن بشرعية نظام سياسي معين. بعكس “سقراط” الذي أقر بسلطة المحكمة، وسيادتها.
حيث شارك بالدفاع عن نفسه كمواطن. ولم يشكّك بشرعية المحاكمة، ولم يسجّل موفقًا مناهضًا للنظام السياسي الجائر؛
فكونه مواطنا يوجب عليه ذلك الامتثال أمام المحكمة، وأمام التهم التي تدين سلوكياته التخريبية والهدَّامة داخل المجتمع.
و نتبيّن من خطاب “سقراط” ــ حسب رصد “أفلاطون” ــ أنه سعى جاهدًا للدفاع عن نفسه، وتفنيد تلك الادعاءات والتهم، وتخطئتها. بل وقدّم نفسه بوصفه مواطنًا صالحًا قام بسلسلة إسهامات للمدنيين في أثينا يستحق أن يُكافأ عليها.
رسَّخ “أفلاطون” التزام “سقراط” المواطن؛ وجسَّد صورة حيَّة للثقافة السياسية الأثينية؛ وبالرغم من إدانته فقد أوضح “سقراط” من خلال [محاورة كريتو]** بأن فكرة الهروب من السجن أمر غير مقبول أخلاقيًا بالنسبة إليه.
وقد شخّص “أفلاطون” في [محاورة كريتو] قوانين أثينا، وجعلها طرفًا في الحوار مع [سقراط الآخر]*** والذي كان ينوي بدوره الهرب من السجن للنّجاة من العقوبة. ولم يقتصر الحوار على القوانين الأثينية المكتوبة وحسب، إذ جسَّد “أفلاطون” السلوكيات، والقيم المدنية الأثينية كذلك.
حيث توجَّهت تلك القوانين والقيم بسؤال “سقراط المتمرد” عّما يجعلها سطحية في نظره، ومتى اكتشف أنها سطحية؟.
وأشارت ــ كونها طرفًا في الحوارــ أنه لولا وجود قوانين تسنّ الزواج، وتحكمه لما قَدِم إلى هذا العالم. ولولا القيم التي تُقرّ بمسؤولية الوالدين أمام القانون تجاه أطفالهم لما تمت تنشئته، والاعتناء به. هذا فضلًا عن التعليم الذي تلقّاه بموجبها. بل إن المحاكمة نفسها أُجريت بشكل لائق بفضل تلك القوانين.
بأي وجه حق يطعن “سقراط” بشرعية القوانين وسلطتها بعد قبوله بها وتأييده لها وتنعّمه بثمراتها؟
لقد كان بوسع “سقراط” أن يهرب، وينجو من سلطة تلك القوانين، ولكن بقاءه كان بمثابة الاعتراف بها، والإقرار بشرعيتها.
وأكدت القوانين بأن المحلفين قد يكونون ظالمين بحكمهم، وقد يكون خطاب تبرئة “سقراط” أفضل من دعوى “ميليتوس”، ولكن تلك الأخطاء بشرية، ولا دور للقوانين فيها.
وتكمن أرجحيّة وقوع الخطأ في الحكم، حيث أن أولئك المحلفين من المواطنين الأثينيين الذين امتثل أمامهم في المحاكمة، كانوا جزءًا من البرنامج الحكومي الذي تبناه “سقراط”، وأكدّ عليه كمنهج في التنشئة والتعليم داخل المجتمع المدني الأثيني؛ حين أمضى عامًا كاملًا كعضو معين في المجلس المكون من 500 عضو مواطن والمكلَّف بإعداد أعمال البرنامج الحكومي، واجتماعات الجمعية الشعبية التشريعية.
وبما أن المحاكمة عقبت ذلك بسبعة سنوات، فقد كان الأحرى بـ“سقراط” أن يرجِّح وقوعهم بالخطأ على أي احتمال آخر، لكونهم بشر، ولا عصمة لهم، وإن وصلوا سدة التشريع والقضاء.
والواقع أنه أدرك ذلك جيدًا حين جادل المجلس باقتراح ينصُّ على محاكمة ــ جماعية ــ لمجموعة من جنرالات في الجيش، أخفقوا بأدائهم العسكري لحماية أطقم السفن التابعة للعسكرية الأثينية، والتي غرقت في معركة بحرية. حيث رأى “سقراط” أن المحاكمة الجماعية أمر غير مناسب من الناحية الإجرائية نسبة لإحالتهم للمحاكمات الفردية. وأن منح أيامٍ خاصة لكل متهم أثيني في المحكمة يُعدّ انتهاكًا للسلوكيات والقوانين. وعليه عارض “سقراط” طرح الاقتراح للتصويت، ولقي معارضات من الأعضاء على ذلك. وأعرب “سقراط” قائلًا عن المحاكمات الجماعية إلى جانب كونها خطأ فادحًا بنظره:
“تظل القوانين صالحة وإن أخلّ المواطنين المسؤولين بتطبيقها، أو حتى إن اختاروا تجاهلها..”
ونجد أن سلوكيات “سقراط” التي انتهجها طيلة فترة محاكمته في الدفاع عن نفسه أمام تهم “ميليتوس” بدلًا من البقاء صامتًا، وفي قبوله للسجن، وفي تناوله لـ[الشوكران] بدلًا من إبداء التضافر مع خطة [كريتو] للهروب؛ سلوكيات تنم عن التزامه المدنيّ كمواطن متقيد بقانون الدولة الأثينية. وإقرار ضمني بحق المحكمة للحكم بشأنه.
ومما لا شك فيه أن “سقراط” كان أكثر بكثير من مجرد مواطن في أثينا. لقد أمضى معظم حياته جنديًا باحثا عن الحقيقة، في مهمة إلهية لمسائل جوهرية وشاملة بنظره كالعدالة، والشجاعة، والحكمة، والاعتدال، والحب، والمعرفة.
وأفنى جهده وملكاته في مطاردة جواب يشفي موجز تساؤلاته في “كيف يحيى الإنسان حياة الكمال؟”، حياة يختارها بمحض إرادته، يفتش عنها، ويختارها، لينتهجها بعيدًا عن حياة الإهمال، وبعيدًا عن الشكل المتفق عليه للحياة المُركّبة من الشهرة والثروة والسلطة.
لم يسَع “سقراط” سوى السخرية من الديمقراطيين الأثينيين كوسيلة لتفنيد ما يُعرف اليوم بـ[حكمة الجماهير]، حيال حججهم بأنهم أقرب للتوفيق، وتحقيق العدل بأمهات المسائل، كأكثرية أو كجماعة بشكل أدق ربما من أي فرد مُنْشَق، حتى ولو كان حكيمًا أو ضليعًا؛ وبصرف النظر عن كون أحدهم ضليعًا حقًا بفن السياسة، فقد افترض “سقراط” ضمنيًا أن ليس ثمة حكيم بينهم، وأنهم ليسوا سوى متوهمين بفكرة أنهم كجماعة أكثر حكمة وحصافة.
والسؤال هنا كيف يمكن لـ“سقراط” أن يسخر من مفهوم المحكمة الجمعية، وأن يخضع لقوانين أثينا في آن واحد، حتى لو لم يتفق على آلية تطبيقها؟ يكمن الجواب البدائي من حيث أن أثينا [مقارنة بأسبرطة مثلًا]، نصَّت بقوانينها على حرية التعبير للعامة، وكانت ثقافتها السياسية فضفاضة، بحيث تتيح المجال للكثير من الممارسات الشخصية. بل إن القوانين الأثينية الأخلاقية بما فيها التقوى، تميل لأن تكون اجرائية أكثر من كونها جوهرية.
وبالتالي فإن النظام الذي يُجَرِّم المعصية، لم يحدد ما هي التقوى. حيث يعود الأمر هنا لهيئة المحلفين لتحدد ما إذ كان فعل ما، أو نمط سلوكي معين، يعد من التجاوزات لضوابط المجتمع أم انه متممًا لها. هذه النصوص القانونية المبهمة خَدَمت “سقراط”، بحيث سمحت له بمتابعة نمط حياته الفلسفي [السقراطي] دون أن يدان.
وكان “سقراط” مُدركًا بأن إلحاحه على محدِّثيه لانتهاج حياة بديلة عن حياتهم المعهودة الخالية من البحث والتفلسف، يضرب بشعبيته. ويرى “سقراط” وفقًا لما رصده ”أفلاطون” في محاورة الدفاع، أن إبحاراته الحوارية مع الآخرين لاستخلاص آرائهم أشبه ما تكون بلدغة ذبابة الخيل المؤلمة، التي تُبَاغِت بلدغتها الخيل الكسول لتحثه على الحركة. ولكننا نتبيّن من استعارته تلك، أن الخيل الكسول ــ أي الشعب الأثيني ــ لم يستيقظ، ولم يسعَ بحثًا عن كمال الحياة، ولم تدفع به اللدغات للفلسفة كما كانت تأمل الذبابة.
ويظهر من خلال أقوال “سقراط”، ومحاورة الدفاع، إدراكه لحياته الفلسفية كسياسي وأخلاقي، وتسخيرها لتحويل أثينا من مجتمع مدني إلى مجتمع عادل، برغم اعترافه ربما لمدى صعوبة بلوغ لذلك. حيث لم يكن التمثيل السياسي في الجمعية الشعبية، أو المشاركة السياسية بشكلها المباشر ــ من اقتراح قوانين ما، أو إرساء تشريعات معينة ــ هدفًا بالنسبة إليه. بل إنه التزم بالفلسفة باعتبارها فاتحة الإصلاح المدني، وذلك بدافع من قيم الثقافة السياسية الأثينية التي تدعو المواطن الصالح لتسخير ملكاته وموارده، ليس فقط لمصلحته الذاتية بل للإصلاح الاجتماعي الشامل.
فالشعراء ينظمون بموهبتهم شعرًا للعامة، والموسيقيين يعزفون طربًا، والشُّجعان يصطَّفون في الطليعة للقتال من أجل وطنهم، والأثرياء يساهمون بإنعاش المشاريع العامة.
وفي تعبير للجنرال ”بريكليس”، من خطبة تأبين نُسبت له في كتاب: [تاريخ الحرب البلوبونيزية]، للمؤرخ “ثوسيديدس” يقول فيه:
“المواطن المهدور هو القطعة المفقودة بفسيفساء الواجبات المدنية؛ إن المشاركة في الحياة العامة هي من سمات الإنسانية، بل هي بالأحرى السمة الإنسانية الأهم..”
وتكمن موهبة “سقراط” في تفانيه وإخلاصه وإدراكه لقيمة الحياة؛ فلم يكن ثريًا ولا مطربًا ولا راقصًا؛ بل كان جوالًا دائمًا في ساحات المدينة، و فضاءاتها، وعلى مقربة من الباعة والمتجولين، متسولًا لحوارات في الروح والأخلاق والمبادئ؛ مؤديًا بذلك واجبه تجاه أثينا ومواطنيها.
إذ لم يتخلّ “سقراط” يومًا عن دور الذبابة في حياة الأثينيين ــ باستثناء فترة خدمته العسكرية ــ رغم نكرانهم لفضائل لدغاتها، ورغبة البعض منهم بسحقها.
وبرغم سخريته من نظامهم الديمقراطي، وحثّه الدائم لهم على اعتزال ملذات الحياة في سبيل البحث عن الحكمة والفلسفة؛ لم يقتصّ الأثينيين منه إلا بهذه المحاكمة، أي في العام 399 قبل الميلاد. فبعد عقود من الزمن يطفو السؤال: ما الذي تغير؟ وما الذي أدان “سقراط”، وأفضى به للمحاكمة والإعدام؟
لقد كفل الأثينيون الحق لكل مواطن بالتعبير عن رأيه، التزامًا منهم بمبدأ حرية التعبير؛ ولم تتغير فكرتهم حيال هذا الحق؛ حيث تقوم حرية التعبير بالنسبة إليهم مقام الفعل، وعليه فلكل فعل ردة فعل بليغة، وانعكاسات محتملة. وهذا يضع المواطنين أمام مسؤولية كبيرة، أي أن المواطنين مسؤولين عن نتائج وانعكاسات خطاباتهم العلنية.
فالمواطن الأثيني على دراية بحجم مسؤوليته حيال الآثار المترتبة على خطابه حين يتحدث في الأماكن العامة والمجالس والجمعيات الشعبية، أو حتى في الساحات المفتوحة.
فحين يدافع المواطن بمضامين خطابه على سبيل المثال عن سياسة ما، وتأتي العواقب في صالحه، فمن الأرجح أن يكون محطّ تكريم وثناء؛ أما إذا نالت الخطابات بمضامينها من العقد الاجتماعي، فالمواطن مسؤول ويُعَاقب بناءًا على ذلك.
كان خطاب “سقراط” مختلفًا، فلم ينادِ بفحواه لسياسات معينة، ولم يخطب بالجمعيات الشعبية، بل كان يخطب بالشوارع. وكان خطابًا مدنيًا، بمعنى أنه تناول مسائل تهم العامة من الناس، وتسعى لتغيير المجتمع؛ ولم تكن انعكاسات خطابه الفلسفي ملحوظة بالبدايات. ولكن من بعد سقوط المجلس العسكري المناهض للديمقراطية والذي كان “سقراط” من أنصاره، استشعر الأثينيون خطاباته بشأن الديمقراطية، لكنهم لم يقتصّوا منه بعد.
وفي أعقاب استعادة الديمقراطية، صدر عفو عام في سنة 403 قبل الميلاد، وبناءًا عليه تم إيقاف الملاحقات القانونية بحق مواطنين مدنيين كانوا قد أدينوا أثناء الفترة القصيرة التي حكم بها المجلس العسكري. وعلى ما يبدو أن هذا العفو قد شمل خطاب “سقراط” السابق بما فيه.
لم يتغير مفهوم “سقراط” حيال مسؤولياته وواجباته تجاه المجتمع، بل واستمر ببث خطابه بين الجموع حتى سنة 399 قبل الميلاد؛ ويترتب على “سقراط” ــ وفقًا لمفهوم المسؤولية المدنية لدى مواطني أثينا ــ أن يدرك ويتقبل نتاج خطاباته العلنية. وعليه ــ باعتباره مواطنًا صالحًا ــ الكفاف عن بث فلسفاته المتغطرسة، والحط والتقليل من شأن التجربة الديمقراطية، لما في ذلك من إعانة للسلطات الاستبدادية.
لكن “سقراط” لديه ربما رأي مختلف حيال ذلك، فهو لا يزال مُتَيقِّنًا بفضيلة دعوة الناس لإدراك أنفسهم أكثر. إضافة إلى حتمية براءة مشروعه الفلسفي من تحفيز فساد المقربين منه.
وبحلول عام 399 قبل الميلاد، أي بعد سقوط النظام المستبد بأربعة أعوام، بدأ الأثينيون بتلقي خطابه بطريقة مختلفة للغاية، رغم أنه لم يغيّر من ممارساته العلنية والتي بدت لهم وكأنها مستوحاة من قادة الحكم العسكري، فلم يعد “سقراط” بنظر غالبية المواطنين نقطة التحول المرتقبة بحياة العامة؛ بل أصبح بالنسبة إليهم مابين خصم ماكر، ومتوهم غير قادر على استيعاب مدى أذيّة خطاباته. وبذلك أُتيح المجال لمرور دعوى “ميليتوس” التي تدين “سقراط”.
كانت نتائج تصويت هيئة المحلفين بالمحاكمة متقاربة، حيث لم تكن تلك محاكمة صورية، والواضح أن “سقراط” منحهم سببًا لإدانته، فلو أنه قدَّم مذكرة دفاع التمس بها عواطفهم، لاستطاع ربما أن يغير النتيجة لصالح قضيته؛ ولكن تقارير“أفلاطون” و”زينوفون” توضِّح أن “سقراط” لم يستمِلهم ولم يستدرّ عطفهم، بل حاججهم، وتحداهم بخطابه الدفاعي، وأظهر عداءه للديمقراطية، وأصرّ على موقفه حيال الفلسفة.
وأشار “زينوفون” أن “سقراط” انتهج هذا الأسلوب كوسيلة غير مباشرة للانتحار ــ أي بمساعدة هيئة المحلفين ــ، حيث ألمح أنه سئم الحياة، وبذلك سمح للأثينيين أن يرسموا نهايته.
ولكن بظني أن تقرير “أفلاطون” كان أكثر إقناعًا؛ فهو يرى أن “سقراط” لم يستطع أن يظل صامتًا، أو أن يقلِّل ــ بحجة الدفاع عن النفس ــ من قيمة حياته التي أفناها بتنوير الآخرين. وبدافع من التزامه، وعمق إدراكه بمسؤوليته الوطنية قاوم حتى النهاية؛ وكان خطابه بمثابة المحاولة العلنية الأخيرة، بل بمثابة الوخزة لإيقاظ زملائه المواطنين الأثينيين، إلى جانب رفضه لخرق القانون والهرب من العقوبة، والذي تتجسد فيه ضريبة المواطنة، بل ضريبة الالتزام، والشجاعة، والاحترام.
فقد جاء خطاب “سقراط” الدفاعي مُحَقِّقًا لتضامنه، ولشجاعته كمواطن؛ ذات الشجاعة التي تدفع بالجنود الأثينيين للموت من أجل وطنهم. ومؤكِّدًا لاحترامه كمواطن تطلَّع لكسب القضاة بالمحاججة المنطقية. ومثبتًا بأن “سقراط” الفيلسوف هو نفسه “سقراط” المواطن الذي دفع ثمن فلسفته. ورغم ذلك بدا للجميع بأن خطابه لم يكن سوى غطرسة فكرية.
وبعيدًا عن المعركة الدرامية بين الديمقراطية والحرية الفكرية، نجد أن محاكمة “سقراط” عبارة عن ملحمة درامية من التضامن المدني، ومأساوية بنتائجها؛ لكنها بذات الوقت تكشف لنا عن المسرح الذي تمنحه الديمقراطية لتسجيل مواقف بطولية لا تُنسى.
اليوم، وفي القرن الحادي والعشرين، نجد أن حرية التعبير بمأزق بليغ مع الهوية الفردية والجماعية. هناك قيمة حقيقية لو نتفكر بمركزية الواجبات المدنية في محاكمة “سقراط” لحظة تأسيسه لتاريخ الفكر الحر، والسلوك الديمقراطي. ما الذي نكون قد خسرناه لو لم يكن لمفهوم المسؤولية المدنية المتجسد بعلاقة “سقراط” بمدينته الديمقراطية، نصيبًا من تفكيرنا وسلوكنا كمدنيين؟
المصدر
*[الشوكران]: نبتة سامَّة.
**[محاورة كريتو]: إحدى حوارات “سقراط” مع صديقه كريتو التي كتبها “أفلاطون”.
***[سقراط الآخر]: تمثل شخصية افتراضية لسقراط ظهرت في المحاورات التي كتبها “أفلاطون”.
انتهت المحاكمة بتسميم “سقراط” بـ[الشوكران]* بعدما صوَّت نحو 280 من أعضاء هيئة المحلفين المؤلَّفة من 501 مواطن ــ أي الغالبية ــ بتجريم “سقراط”؛ وكان قد ألقى كل من “ميليتوس” بصفته المدّعي العام، و”سقراط” بصفته المدَّعَى عليه أمام هيئة المحلفين خطاباتهم؛ وتمّ رصد مذكرة “سقراط” الدفاعية على نسختين: إحداهما من قِبل “أفلاطون”، والأخرى من قبل المؤرخ والكاتب الموسوعي “زينوفون”. بينما فُقِد خطاب “ميليتوس”.
يجب أن تشكل تلك المحاكمة محطّ اهتمام أولئك المؤمنين بالديمقراطية وسيادة القانون، حيث لا نرى جدلًا حول المعطيات الأساسية بمحاكمة “سقراط”، أو ما الذي جعله مجرمًا بعيون الأثينيين؛ وما قد يعنيه ذلك في وقتنا الراهن.
ففي حال كانت الديمقراطية كحكومة مستقلة من قبل الشعب ميَّالة لقمع المخالف أو المعارض، أو الحكم على المعارضين أو المخالفين للديمقراطية على أنهم حفنة خونة ومخربين، فذلك إذًا يضعنا في مفاضلة مقيتة بين الديمقراطية، أو الحرية الفكرية.
ومن الإجحاف أن نتناول محاكمة “سقراط” على هذا النحو وحسب، متجاهلين مسألة المقتضيات، والواجبات المدنية فيها. فقد أدانت المحكمة “سقراط” لرفضه تحمل شيء من المسؤولية الشخصية لفحوى، وانعكاسات خطاب مشروعه الفلسفي.
وقَبِلَ “سقراط” حكم الإدانة، وتناول [الشوكران] نتيجة لإقراره بسُلطة المحكمة، وسيادة القوانين التي حوكم بموجبها، بالرغم من أنه كان مدرِكًا بأن هيئة المحلفين قد ارتكبت خطأً بتطبيقها للقانون.
وكما هو معروف بأن التهم الجائرة الموجهة ضد “سقراط” كانت مدبَّرة سياسيًا؛ فقد سبق ذلك بأربع سنوات ثورة ديمقراطية أطاحت بالحكم العسكري الذي حكم أثينا لفترة مضطربة.
وقد ألمح المدعي العام “ميليتوس” بانخراط “سقراط” في النظام العسكري الوحشي المناهض للديمقراطية. وحثَّ مواطني أثينا بخطابه في المحكمة على استذكار ذلك.
ونجد أن الصحفي الاستقصائي الأمريكي “أ.ف ستون” في كتابه [محاكمة سقراط / The Trial of Socrates (1988)] يرى أن المحاكمة أشبه ما تكون بديمقراطية مُحاصَرة في موقف دفاعٍ عن ذاتها.
فمن وجهة نظره يجد أن “سقراط” كان عميلًا للنظام العسكري المتمثّل بزمرة عساكر طغاة. بينما يُعتبر “سقراط” ــ وحسبما هو شائع ــ ضحية لانتهازية الادعاء العام، وجهل المواطنين.
أمّا إذا كانت غايتنا أن نفهم محاكمة “سقراط” فعليًا، فالسياسة جانب لا يمكن تجاهله لبلوغ هذه الغاية؛ ولكن بطريقة غير مباشرة. فليس من الصواب أن نتناول ”سقراط” على اعتبار أنه نموذجٌ للفرد المستقل، أو شهيدٌ بسيطٌ في سبيل تحقيق حرية التعبير.
فمنظومة السلوكيات، أو المقتضيات المدنية المطلوبة من المواطنين الأثينيين والتي تجسد الثقافة السياسية الأثينية هي أمر جوهري، ومحقق لاستيعاب المحاكمة.
و”سقراط” لم يُستثنَ من هذه المنظومة باعتباره مواطنًا؛ ما كان له الأثر الكبير على سير المحاكمة. وتُسهم هذه المنظومة بصياغة العلاقة بين الخطابات العامة، والمسؤولية المدنية.
وهنا ندرك سلوكيات “سقراط” و“ميليتوس” و”هيئة المحلفين” المتَّسقة مع تصور الأثينيين عن المسؤولية المدنية؛ وتشديدهم على دور المواطن المسؤول داخل النظام الديمقراطي.
وبذلك نجد أنها قصة عن المشاركة المدنية، وبعيدة من عدة نواح، كل البعد عن سياسات الاعتراف التي تتميز بها المناظرات الأمريكية المعاصرة.
ووفقًا لما زعمه الفيلسوف والكاتب “مكسيموس” في روايته للمحاكمة بأن “سقراط” امتنع عن الرد على الاتهامات الصادرة بحقّه في خطاب “ميليتوس”، والتزم الصمت تجاهها.
والمعارضون عادة ما يتخذون موقفًا يرفضون من خلاله الانخراط في إجراءات المحكمة أو النظام القانوني، كمحاولة للطعن بشرعية نظام سياسي معين. بعكس “سقراط” الذي أقر بسلطة المحكمة، وسيادتها.
حيث شارك بالدفاع عن نفسه كمواطن. ولم يشكّك بشرعية المحاكمة، ولم يسجّل موفقًا مناهضًا للنظام السياسي الجائر؛
فكونه مواطنا يوجب عليه ذلك الامتثال أمام المحكمة، وأمام التهم التي تدين سلوكياته التخريبية والهدَّامة داخل المجتمع.
و نتبيّن من خطاب “سقراط” ــ حسب رصد “أفلاطون” ــ أنه سعى جاهدًا للدفاع عن نفسه، وتفنيد تلك الادعاءات والتهم، وتخطئتها. بل وقدّم نفسه بوصفه مواطنًا صالحًا قام بسلسلة إسهامات للمدنيين في أثينا يستحق أن يُكافأ عليها.
رسَّخ “أفلاطون” التزام “سقراط” المواطن؛ وجسَّد صورة حيَّة للثقافة السياسية الأثينية؛ وبالرغم من إدانته فقد أوضح “سقراط” من خلال [محاورة كريتو]** بأن فكرة الهروب من السجن أمر غير مقبول أخلاقيًا بالنسبة إليه.
وقد شخّص “أفلاطون” في [محاورة كريتو] قوانين أثينا، وجعلها طرفًا في الحوار مع [سقراط الآخر]*** والذي كان ينوي بدوره الهرب من السجن للنّجاة من العقوبة. ولم يقتصر الحوار على القوانين الأثينية المكتوبة وحسب، إذ جسَّد “أفلاطون” السلوكيات، والقيم المدنية الأثينية كذلك.
حيث توجَّهت تلك القوانين والقيم بسؤال “سقراط المتمرد” عّما يجعلها سطحية في نظره، ومتى اكتشف أنها سطحية؟.
وأشارت ــ كونها طرفًا في الحوارــ أنه لولا وجود قوانين تسنّ الزواج، وتحكمه لما قَدِم إلى هذا العالم. ولولا القيم التي تُقرّ بمسؤولية الوالدين أمام القانون تجاه أطفالهم لما تمت تنشئته، والاعتناء به. هذا فضلًا عن التعليم الذي تلقّاه بموجبها. بل إن المحاكمة نفسها أُجريت بشكل لائق بفضل تلك القوانين.
بأي وجه حق يطعن “سقراط” بشرعية القوانين وسلطتها بعد قبوله بها وتأييده لها وتنعّمه بثمراتها؟
لقد كان بوسع “سقراط” أن يهرب، وينجو من سلطة تلك القوانين، ولكن بقاءه كان بمثابة الاعتراف بها، والإقرار بشرعيتها.
وأكدت القوانين بأن المحلفين قد يكونون ظالمين بحكمهم، وقد يكون خطاب تبرئة “سقراط” أفضل من دعوى “ميليتوس”، ولكن تلك الأخطاء بشرية، ولا دور للقوانين فيها.
وتكمن أرجحيّة وقوع الخطأ في الحكم، حيث أن أولئك المحلفين من المواطنين الأثينيين الذين امتثل أمامهم في المحاكمة، كانوا جزءًا من البرنامج الحكومي الذي تبناه “سقراط”، وأكدّ عليه كمنهج في التنشئة والتعليم داخل المجتمع المدني الأثيني؛ حين أمضى عامًا كاملًا كعضو معين في المجلس المكون من 500 عضو مواطن والمكلَّف بإعداد أعمال البرنامج الحكومي، واجتماعات الجمعية الشعبية التشريعية.
وبما أن المحاكمة عقبت ذلك بسبعة سنوات، فقد كان الأحرى بـ“سقراط” أن يرجِّح وقوعهم بالخطأ على أي احتمال آخر، لكونهم بشر، ولا عصمة لهم، وإن وصلوا سدة التشريع والقضاء.
والواقع أنه أدرك ذلك جيدًا حين جادل المجلس باقتراح ينصُّ على محاكمة ــ جماعية ــ لمجموعة من جنرالات في الجيش، أخفقوا بأدائهم العسكري لحماية أطقم السفن التابعة للعسكرية الأثينية، والتي غرقت في معركة بحرية. حيث رأى “سقراط” أن المحاكمة الجماعية أمر غير مناسب من الناحية الإجرائية نسبة لإحالتهم للمحاكمات الفردية. وأن منح أيامٍ خاصة لكل متهم أثيني في المحكمة يُعدّ انتهاكًا للسلوكيات والقوانين. وعليه عارض “سقراط” طرح الاقتراح للتصويت، ولقي معارضات من الأعضاء على ذلك. وأعرب “سقراط” قائلًا عن المحاكمات الجماعية إلى جانب كونها خطأ فادحًا بنظره:
“تظل القوانين صالحة وإن أخلّ المواطنين المسؤولين بتطبيقها، أو حتى إن اختاروا تجاهلها..”
ونجد أن سلوكيات “سقراط” التي انتهجها طيلة فترة محاكمته في الدفاع عن نفسه أمام تهم “ميليتوس” بدلًا من البقاء صامتًا، وفي قبوله للسجن، وفي تناوله لـ[الشوكران] بدلًا من إبداء التضافر مع خطة [كريتو] للهروب؛ سلوكيات تنم عن التزامه المدنيّ كمواطن متقيد بقانون الدولة الأثينية. وإقرار ضمني بحق المحكمة للحكم بشأنه.
ومما لا شك فيه أن “سقراط” كان أكثر بكثير من مجرد مواطن في أثينا. لقد أمضى معظم حياته جنديًا باحثا عن الحقيقة، في مهمة إلهية لمسائل جوهرية وشاملة بنظره كالعدالة، والشجاعة، والحكمة، والاعتدال، والحب، والمعرفة.
وأفنى جهده وملكاته في مطاردة جواب يشفي موجز تساؤلاته في “كيف يحيى الإنسان حياة الكمال؟”، حياة يختارها بمحض إرادته، يفتش عنها، ويختارها، لينتهجها بعيدًا عن حياة الإهمال، وبعيدًا عن الشكل المتفق عليه للحياة المُركّبة من الشهرة والثروة والسلطة.
لم يسَع “سقراط” سوى السخرية من الديمقراطيين الأثينيين كوسيلة لتفنيد ما يُعرف اليوم بـ[حكمة الجماهير]، حيال حججهم بأنهم أقرب للتوفيق، وتحقيق العدل بأمهات المسائل، كأكثرية أو كجماعة بشكل أدق ربما من أي فرد مُنْشَق، حتى ولو كان حكيمًا أو ضليعًا؛ وبصرف النظر عن كون أحدهم ضليعًا حقًا بفن السياسة، فقد افترض “سقراط” ضمنيًا أن ليس ثمة حكيم بينهم، وأنهم ليسوا سوى متوهمين بفكرة أنهم كجماعة أكثر حكمة وحصافة.
والسؤال هنا كيف يمكن لـ“سقراط” أن يسخر من مفهوم المحكمة الجمعية، وأن يخضع لقوانين أثينا في آن واحد، حتى لو لم يتفق على آلية تطبيقها؟ يكمن الجواب البدائي من حيث أن أثينا [مقارنة بأسبرطة مثلًا]، نصَّت بقوانينها على حرية التعبير للعامة، وكانت ثقافتها السياسية فضفاضة، بحيث تتيح المجال للكثير من الممارسات الشخصية. بل إن القوانين الأثينية الأخلاقية بما فيها التقوى، تميل لأن تكون اجرائية أكثر من كونها جوهرية.
وبالتالي فإن النظام الذي يُجَرِّم المعصية، لم يحدد ما هي التقوى. حيث يعود الأمر هنا لهيئة المحلفين لتحدد ما إذ كان فعل ما، أو نمط سلوكي معين، يعد من التجاوزات لضوابط المجتمع أم انه متممًا لها. هذه النصوص القانونية المبهمة خَدَمت “سقراط”، بحيث سمحت له بمتابعة نمط حياته الفلسفي [السقراطي] دون أن يدان.
وكان “سقراط” مُدركًا بأن إلحاحه على محدِّثيه لانتهاج حياة بديلة عن حياتهم المعهودة الخالية من البحث والتفلسف، يضرب بشعبيته. ويرى “سقراط” وفقًا لما رصده ”أفلاطون” في محاورة الدفاع، أن إبحاراته الحوارية مع الآخرين لاستخلاص آرائهم أشبه ما تكون بلدغة ذبابة الخيل المؤلمة، التي تُبَاغِت بلدغتها الخيل الكسول لتحثه على الحركة. ولكننا نتبيّن من استعارته تلك، أن الخيل الكسول ــ أي الشعب الأثيني ــ لم يستيقظ، ولم يسعَ بحثًا عن كمال الحياة، ولم تدفع به اللدغات للفلسفة كما كانت تأمل الذبابة.
ويظهر من خلال أقوال “سقراط”، ومحاورة الدفاع، إدراكه لحياته الفلسفية كسياسي وأخلاقي، وتسخيرها لتحويل أثينا من مجتمع مدني إلى مجتمع عادل، برغم اعترافه ربما لمدى صعوبة بلوغ لذلك. حيث لم يكن التمثيل السياسي في الجمعية الشعبية، أو المشاركة السياسية بشكلها المباشر ــ من اقتراح قوانين ما، أو إرساء تشريعات معينة ــ هدفًا بالنسبة إليه. بل إنه التزم بالفلسفة باعتبارها فاتحة الإصلاح المدني، وذلك بدافع من قيم الثقافة السياسية الأثينية التي تدعو المواطن الصالح لتسخير ملكاته وموارده، ليس فقط لمصلحته الذاتية بل للإصلاح الاجتماعي الشامل.
فالشعراء ينظمون بموهبتهم شعرًا للعامة، والموسيقيين يعزفون طربًا، والشُّجعان يصطَّفون في الطليعة للقتال من أجل وطنهم، والأثرياء يساهمون بإنعاش المشاريع العامة.
وفي تعبير للجنرال ”بريكليس”، من خطبة تأبين نُسبت له في كتاب: [تاريخ الحرب البلوبونيزية]، للمؤرخ “ثوسيديدس” يقول فيه:
“المواطن المهدور هو القطعة المفقودة بفسيفساء الواجبات المدنية؛ إن المشاركة في الحياة العامة هي من سمات الإنسانية، بل هي بالأحرى السمة الإنسانية الأهم..”
وتكمن موهبة “سقراط” في تفانيه وإخلاصه وإدراكه لقيمة الحياة؛ فلم يكن ثريًا ولا مطربًا ولا راقصًا؛ بل كان جوالًا دائمًا في ساحات المدينة، و فضاءاتها، وعلى مقربة من الباعة والمتجولين، متسولًا لحوارات في الروح والأخلاق والمبادئ؛ مؤديًا بذلك واجبه تجاه أثينا ومواطنيها.
إذ لم يتخلّ “سقراط” يومًا عن دور الذبابة في حياة الأثينيين ــ باستثناء فترة خدمته العسكرية ــ رغم نكرانهم لفضائل لدغاتها، ورغبة البعض منهم بسحقها.
وبرغم سخريته من نظامهم الديمقراطي، وحثّه الدائم لهم على اعتزال ملذات الحياة في سبيل البحث عن الحكمة والفلسفة؛ لم يقتصّ الأثينيين منه إلا بهذه المحاكمة، أي في العام 399 قبل الميلاد. فبعد عقود من الزمن يطفو السؤال: ما الذي تغير؟ وما الذي أدان “سقراط”، وأفضى به للمحاكمة والإعدام؟
لقد كفل الأثينيون الحق لكل مواطن بالتعبير عن رأيه، التزامًا منهم بمبدأ حرية التعبير؛ ولم تتغير فكرتهم حيال هذا الحق؛ حيث تقوم حرية التعبير بالنسبة إليهم مقام الفعل، وعليه فلكل فعل ردة فعل بليغة، وانعكاسات محتملة. وهذا يضع المواطنين أمام مسؤولية كبيرة، أي أن المواطنين مسؤولين عن نتائج وانعكاسات خطاباتهم العلنية.
فالمواطن الأثيني على دراية بحجم مسؤوليته حيال الآثار المترتبة على خطابه حين يتحدث في الأماكن العامة والمجالس والجمعيات الشعبية، أو حتى في الساحات المفتوحة.
فحين يدافع المواطن بمضامين خطابه على سبيل المثال عن سياسة ما، وتأتي العواقب في صالحه، فمن الأرجح أن يكون محطّ تكريم وثناء؛ أما إذا نالت الخطابات بمضامينها من العقد الاجتماعي، فالمواطن مسؤول ويُعَاقب بناءًا على ذلك.
كان خطاب “سقراط” مختلفًا، فلم ينادِ بفحواه لسياسات معينة، ولم يخطب بالجمعيات الشعبية، بل كان يخطب بالشوارع. وكان خطابًا مدنيًا، بمعنى أنه تناول مسائل تهم العامة من الناس، وتسعى لتغيير المجتمع؛ ولم تكن انعكاسات خطابه الفلسفي ملحوظة بالبدايات. ولكن من بعد سقوط المجلس العسكري المناهض للديمقراطية والذي كان “سقراط” من أنصاره، استشعر الأثينيون خطاباته بشأن الديمقراطية، لكنهم لم يقتصّوا منه بعد.
وفي أعقاب استعادة الديمقراطية، صدر عفو عام في سنة 403 قبل الميلاد، وبناءًا عليه تم إيقاف الملاحقات القانونية بحق مواطنين مدنيين كانوا قد أدينوا أثناء الفترة القصيرة التي حكم بها المجلس العسكري. وعلى ما يبدو أن هذا العفو قد شمل خطاب “سقراط” السابق بما فيه.
لم يتغير مفهوم “سقراط” حيال مسؤولياته وواجباته تجاه المجتمع، بل واستمر ببث خطابه بين الجموع حتى سنة 399 قبل الميلاد؛ ويترتب على “سقراط” ــ وفقًا لمفهوم المسؤولية المدنية لدى مواطني أثينا ــ أن يدرك ويتقبل نتاج خطاباته العلنية. وعليه ــ باعتباره مواطنًا صالحًا ــ الكفاف عن بث فلسفاته المتغطرسة، والحط والتقليل من شأن التجربة الديمقراطية، لما في ذلك من إعانة للسلطات الاستبدادية.
لكن “سقراط” لديه ربما رأي مختلف حيال ذلك، فهو لا يزال مُتَيقِّنًا بفضيلة دعوة الناس لإدراك أنفسهم أكثر. إضافة إلى حتمية براءة مشروعه الفلسفي من تحفيز فساد المقربين منه.
وبحلول عام 399 قبل الميلاد، أي بعد سقوط النظام المستبد بأربعة أعوام، بدأ الأثينيون بتلقي خطابه بطريقة مختلفة للغاية، رغم أنه لم يغيّر من ممارساته العلنية والتي بدت لهم وكأنها مستوحاة من قادة الحكم العسكري، فلم يعد “سقراط” بنظر غالبية المواطنين نقطة التحول المرتقبة بحياة العامة؛ بل أصبح بالنسبة إليهم مابين خصم ماكر، ومتوهم غير قادر على استيعاب مدى أذيّة خطاباته. وبذلك أُتيح المجال لمرور دعوى “ميليتوس” التي تدين “سقراط”.
كانت نتائج تصويت هيئة المحلفين بالمحاكمة متقاربة، حيث لم تكن تلك محاكمة صورية، والواضح أن “سقراط” منحهم سببًا لإدانته، فلو أنه قدَّم مذكرة دفاع التمس بها عواطفهم، لاستطاع ربما أن يغير النتيجة لصالح قضيته؛ ولكن تقارير“أفلاطون” و”زينوفون” توضِّح أن “سقراط” لم يستمِلهم ولم يستدرّ عطفهم، بل حاججهم، وتحداهم بخطابه الدفاعي، وأظهر عداءه للديمقراطية، وأصرّ على موقفه حيال الفلسفة.
وأشار “زينوفون” أن “سقراط” انتهج هذا الأسلوب كوسيلة غير مباشرة للانتحار ــ أي بمساعدة هيئة المحلفين ــ، حيث ألمح أنه سئم الحياة، وبذلك سمح للأثينيين أن يرسموا نهايته.
ولكن بظني أن تقرير “أفلاطون” كان أكثر إقناعًا؛ فهو يرى أن “سقراط” لم يستطع أن يظل صامتًا، أو أن يقلِّل ــ بحجة الدفاع عن النفس ــ من قيمة حياته التي أفناها بتنوير الآخرين. وبدافع من التزامه، وعمق إدراكه بمسؤوليته الوطنية قاوم حتى النهاية؛ وكان خطابه بمثابة المحاولة العلنية الأخيرة، بل بمثابة الوخزة لإيقاظ زملائه المواطنين الأثينيين، إلى جانب رفضه لخرق القانون والهرب من العقوبة، والذي تتجسد فيه ضريبة المواطنة، بل ضريبة الالتزام، والشجاعة، والاحترام.
فقد جاء خطاب “سقراط” الدفاعي مُحَقِّقًا لتضامنه، ولشجاعته كمواطن؛ ذات الشجاعة التي تدفع بالجنود الأثينيين للموت من أجل وطنهم. ومؤكِّدًا لاحترامه كمواطن تطلَّع لكسب القضاة بالمحاججة المنطقية. ومثبتًا بأن “سقراط” الفيلسوف هو نفسه “سقراط” المواطن الذي دفع ثمن فلسفته. ورغم ذلك بدا للجميع بأن خطابه لم يكن سوى غطرسة فكرية.
وبعيدًا عن المعركة الدرامية بين الديمقراطية والحرية الفكرية، نجد أن محاكمة “سقراط” عبارة عن ملحمة درامية من التضامن المدني، ومأساوية بنتائجها؛ لكنها بذات الوقت تكشف لنا عن المسرح الذي تمنحه الديمقراطية لتسجيل مواقف بطولية لا تُنسى.
اليوم، وفي القرن الحادي والعشرين، نجد أن حرية التعبير بمأزق بليغ مع الهوية الفردية والجماعية. هناك قيمة حقيقية لو نتفكر بمركزية الواجبات المدنية في محاكمة “سقراط” لحظة تأسيسه لتاريخ الفكر الحر، والسلوك الديمقراطي. ما الذي نكون قد خسرناه لو لم يكن لمفهوم المسؤولية المدنية المتجسد بعلاقة “سقراط” بمدينته الديمقراطية، نصيبًا من تفكيرنا وسلوكنا كمدنيين؟
المصدر
*[الشوكران]: نبتة سامَّة.
**[محاورة كريتو]: إحدى حوارات “سقراط” مع صديقه كريتو التي كتبها “أفلاطون”.
***[سقراط الآخر]: تمثل شخصية افتراضية لسقراط ظهرت في المحاورات التي كتبها “أفلاطون”.