«بين قاتل يذبح ضحاياه بدم بارد وفيلسوف يتجرع كأس السمّ بكل شجاعة ومجاهد خارج عن إرادة القانون يساق إلى مقصلته مرفوع الرأس رابط الجأش، اختلفت التسميات لشخصيات
شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ.
أخذ القضاة الخمسمائة أماكنهم على المقاعد الخشبية المغطاة بحصير الخيزران، واستوى الرئيس على منصّة عالية يلتصق بها مباشرة رماة السهام الذين يقومون بوظيفة الشرطة اليوم، وعلى مقربة منه كان ثمة صندوق صغير يضع القضاة فيه الأوراق التي تحمل إدانتهم للمتهم أو تبرئتهم له.
الطغاة الثلاثون
كان الجمهور المؤلف بكامله من الرجال قد توافد، منذ الصباح الباكر، لحضور الجلسة العامة لمحاكمة الشيخ الجليل سقراط. كان الصباح جميلا يحمل معه غناء العصافير تحت أشعة الشمس الدافئة، فنحن في أثينا في صبيحة ربيعية سنة 399 قبل الميلاد، تلك المدينة المؤلفة من عشرة آلاف منزل مكوم بعضها فوق بعض، بشوارعها الضيقة وبيوتها المتلاصقة من الخشب والقرميد المطلي بالكلس الأبيض، ومن فوقها تسْطع أشعة شمس البحر الأبيض المتوسط. كانت أثينا قد ابتدعت للتو نظاما سياسيا فريدا يسمى بالديمقراطية، يتمتع به جميع الذكور الذين أتموا الخدمة العسكرية في إدارة المدينة والدولة، بعد أن اجتازت نظام «الطغاة الثلاثين» الذي أقامه الأثيني «كرينياس» بعد تحرر أثينا من قبضة غريمتها إسبارطة ومنافستها القوية، لتنتهي بذلك تلك المعاناة الرهيبة التي دامت سبعة وعشرين عاما وتعود المؤسسات الديمقراطية إلى العمل، وبينها القضاء، تلك المؤسسة التي يتطوع إليها القضاة ويتم اختيارهم بطريقة القرعة عبر انتقاء ستة آلاف قاض كل سنة يوزعون على اثنتي عشرة محكمة لكل منها خمسمائة قاض.
المتشرد والحكيم
في ذلك الصباح، أخذ القضاة الخمسة أماكنهم لمحاكمة شيخ جليل جلس على عتبة المنصة، كان المتهم ذا لحية بيضاء، حافي القدمين، يغطي جسمه بوشاح من الصوف الرخيص بعد أن عاش سنوات البؤس لوالده النحات «سوفرونيسك» ووالدته القابلة «فيلاريت»، إنه سقراط المتهم بجرم عدم إيمانه بآلهة المدينة وإفساده لشباب أثينا، والذي بات لذلك ينتظر عقوبة الإعدام.
كان سقراط حينذاك في السبعين من عمره، خاليا من مظاهر الأناقة والوسامة التي كان يتمتع بها الأثينيون، يكتفي بوشاح أبيض رخيص من الصوف، يسير على الدوام حافي القدمين في الصيف والشتاء، يمثل صورة المتشرد والحكيم في آن واحد، فهو لم يرث حرفة والده النحات منذ ولادته بأثينا عام 469 قبل الميلاد، كاسرا بذلك التقاليد الجارية، حيث كان الابن يرث صنعة والده، لم يرث تلك الصنعة ولم يمارس أي مهنة أخرى بقدر ما اكتفى بالتجوال في أنحاء المدينة، يحاور المواطنين سائلا إياهم على الدوام عن مفاهيمهم الأخلاقية والسياسية، يعترض الناس، ولاسيما الشباب منهم، في الشوارع والأزقة والساحات العامة وتحت ظلال أشجار الزيتون لمدة خمسين عاما، يحاورهم ولا يكف عن مناقشتهم، رافضا أي أجر على الدروس التي أضحى يلقيها عليهم بعد أن أصبحت أثينا تحفل بالفلاسفة والخطباء والسياسيين الذين لا يفتؤون يبحثون عن الطلاب والمريدين والذين أطلق عليهم اسم «السفسطائيين»، إيمانا منه بأن ممارسته للفلسفة هي ممارسة عملية وعفوية وطريقة للحياة لا تستحق الأجر والمقابل، فتجّمع حوله المئات من التلاميذ، الذين كان على رأسهم أفلاطون، إلى درجة أضحت معها صلته بأفراد مجتمعه أوثق من صلته بأفراد أسرته (كان سقراط متزوجا من السيدة إكزانيت وأبا لثلاثة أطفال) بعد أن نذر لهم نفسه وتعاليمه وأضحى زاده الأول والأخير هو مناقشة الشباب في شؤون العدالة والأخلاق، يجادلونه ويتحدّونه ويسخرون منه أحيانا أخرى، ولعل هذا ما جعل أحد المسرحيين يتخذ من سقراط موضوعا لمسرحيته الساخرة بعنوان «السحاب» التي صور فيها سقراط داخل سلّة معلّقة في الهواء وهو يخاطب الغيوم ويستوحيها في إيجاد حلول صالحة لقضايا بلاده وأمته.
سقراط.. في قفص الاتهام
تسارعت الأحداث شيئا فشيئا، وبدا وكأن سقراط يقترب من حتفه بعد أن تشبّع بأفكاره جيل لا يستهان به من الشباب، وبعد أن أثار حنق الديمقراطيين الكارهين له، واعترف بأنه يعمل مدفوعا من قبل شيطانه (لم يقصد به ما نفهمه اليوم من كلمة شيطان)، والشيطان بالنسبة إليه هو الإلهام الداخلي الذي أسماه بالضمير الذي يملي عليه اختيار آرائه الدينية والأخلاقية بنفسه، وليس كما هي مرسومة من طرف الغير أو تلك التي تؤخذ عن قومه، لتوجه إليه سريعا تهمة إفساد الشباب وعدم الإيمان بآلهة أثينا.
وعندما كانت القوانين السارية تسمح لأي مواطن بأن يوجه التهمة التي يريد إلى أي مواطن يريد (نظرا إلى غياب نيابة عامة توجه الاتهام في ذلك الوقت) ويبقى على المحكمة أن تصغي فقط للأطراف قبل أن تصدر حكمها بطريقة الاقتراع السري، فقد بادر كل من «ليكون» و«أنتيوس» (وهما ديمقراطيان متصلبان، و«أنتيوس» تاجر جلود تخلى ابنه عنه ليلتحق بالفيلسوف سقراط وشاعر ناشئ اتخذ من الشعر والخطابة حرفة له ورأى في سقراط منافسا لا بد من التخلص منه) إلى توجيه الاتهام إلى سقراط الذي لم يجد غضاضة في مصادقة أبناء هؤلاء الارستقراطيين وتبادل الرأي معهم حول العدالة والفضيلة والمعرفة، لكونه يؤمن بالأفراد ولا يؤمن بالأحزاب، وتلك جريمة لا تغتفر في عهود الاضطراب السياسي.
كانت لائحة الاتهام قد أعدت سريعا من طرف المعارضين لسقراط، وكان مما جاء فيها: «إن هذا الساحر الأشعث المهلهل، الذي لا عمل له سوى الانتقال من مكان إلى آخر لاعتراض الشباب والطعن في معتقداتهم الأخلاقية والدينية والنيل من مواقفهم الفكرية والسياسية، قد أثار عليه الكثيرين من رجال المدينة، ومنهم الآباء الذين أنكرهم أبناؤهم والسياسيون الذي سفّه آراءهم ومواقفهم والسفسطائيون الذين طالما هزأ بهم وسخر من تعاليمهم بشكل يتعارض مع تراثنا الديني والأخلاقي، فأتينا اليوم للاقتصاص في هذه المحاكمة العادلة والفريدة».
سقراط وسلاح الهجوم
لم تمض سوى ساعات قليلة حتى أصدرت المحكمة قرارها باقتياد سقراط للمثول أمامها وأمام قضاتها الخمسمائة بعد توصلها بلائحة الاتهام المرفوعة ضده. وبعد أن سمع سقراط بالتهمة الموجهة إليه، جاء دوره للدفاع عن نفسه بنفسه حسب ما كانت تقتضيه القوانين السارية حينذاك، رغم أنها أتاحت لأحد المحامين إعداد دفاع مناسب يعطى للمتهم لحفظه غيبا وترديده أمام المحكمة، لهذا فقد تطوّع «ليزياس»، أمهر المحامين في أثينا، لكتابة دفاع سقراط باعتباره أكثر معرفة من هذا الأخير بالقوانين والأساليب التي تؤثر على القضاة. وحينما تقدم «ليزياس» بمذكرة الدفاع إلى سقراط، رفض هذا الأخير قبولها قائلا: «ليزياس، أعرف جيدا بأن خطابك جميل جدا، لكنه لا يشبهني إطلاقا. هل تعتقد أن معطفا أنيقا وحذاء جميلا يليقان بي»، كان سقراط يقول ذلك ل«ليزياس» وهو يمنحه ابتسامة عريضة وينهض واقفا لإثارة دفاعه ويهمهم قائلا لكاتب المحكمة وقد قلب الساعة المائية التي تقيس الوقت الذي يجب أن يستغرقه هذا الدفاع (كان من حق المتهم أن يستغرق دفاعه فقط نفس الوقت الذي استغرقته خطابات الاتهام): لا تتردد في ضبط الوقت وضبط ساعتك، فأنا لن أستغرق الوقت الكثير، أنا لست خطيبا أو سياسيا بالمعنى المفهوم للكلمة بقدر ما أنا رجل حوار وجدال ونقاش، ولعل هذا أمر لا يفيد المحكمة ولا يفيد في إثارة عطف قضاتها، إنه لحظ سعيد للشباب إذا كنت أنا المفسد الوحيد لهم وكان جميع الأثينيين مصلحين لهم، فقد قمت بتحقيق واستجوبت جميع الأشخاص الذين يسمونهم علماء وتأكدت من أنهم لا يعلمون شيئا، ولكم في ذلك أن تسألوا عرّافة «معبد دلفس» التي قالت ولا تزال تقول لمرات ومرات إنني أعلم الناس، فلا شك في أنني أعلم الناس لأن الآخرين يعتقدون أنهم يعلمون بعض الأشياء في حين أنهم لا يعلمون شيئا، أما أنا فإنني أعلم بأنني لا أعلم أي شيء».
كانت تلك الكلمات التي قالها سقراط قد شكلت دهشة كبيرة لدى القضاة الخمسمائة وأضحكت البعض منهم إلى درجة أنها أغضبت رئيس المحكمة الذي احتجّ على تلك الضجة التي أحدثتها كلمات سقراط، وطالب الجميع بالتزام الصمت والهدوء قبل أن يتابع سقراط حديثه ويتكلم عن شيطانه, أو بالأحرى عبقريته، ويعلن حقه في إطاعة هذا الصوت الداخلي واتباع نصائحه ويصرخ بصوت مرتفع محذرا القضاة من الحكم عليه بالموت».. إنني سأتابع تدريس الفلسفة كما في السابق إذا ما برئت ساحتي، إذا قتلتموني أيها الأثينيون فلن تجدوا رجلا مثلي، إن أبولون قد وضعني هنا لأبقي على هذه المدينة في حالة من اليقظة، فإذا ما أعدمت فإن الله سيغرقكم في نوم أبدي»، منهيا دفاعه بكلمات ساخطة دون أن يسترحم القضاة كما جرت العادة في مثل تلك الحالات وغيرها لدى المتهمين الذين يحيطون أنفسهم أثناء المحاكمة بأبنائهم لإثارة العطف واستدرار الشفقة، قائلا من جديد: «لن أثير عطف المحكمة ولن أستدر شفقتها ولن أحيط نفسي بأبنائي لهذا الغرض، لكنني أطلب منكم أن يكون حكمكم لي بالمكافأة وليس بالسجن والغرامة أو الإعدام كما يطالب به المنافسون لي الذين ادّعوا أنهم علماء، فليس من المعقول أن يطلب إنزال الموت بي بناء على تهم جائرة لا أساس لها من الصحة، كما أنني لا أريد السجن لأنني سأمضي أيامي خاضعا لأوامر رجال الضابطة العدلية، أما الغرامة النقدية فلا يمكنني دفعها لأنني رجل فقير ولا أتوفر عليها (رغم أن أصدقاءه وتلاميذه، وعلى رأسهم أفلاطون، أعربوا خلال الجلسة عن استعدادهم لدفع الغرامة النقدية في حال تقريرها)، لهذا أتمنى أن يتم إطلاق سراحي».
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب
نشر في المساء يوم 20 - 07 - 2011
شكلت محاكماتها منعطفات إنسانية بعد أن شكلت كلمات البعض منها نورا يضيء الطريق نحو الحرية وإحراق الطغاة ومستعبدي الناس وينير الدرب للمعذبين في الأرض ويرشدهم إلى طريق الخلاص، طريق التحرّر من الظلم والاستعمار، بينما شكلت كلمات آخرين شعاعا نحو الظلم والاستبداد والقتل والهمجية والاستعباد.. كلمات صغيرة اختلفت باختلاف الزمن والمكان والغاية، لكنها التقت جميعها، في النهاية، لتشكل في ما بينها مداد الحبر الذي كتبت به أسماء هؤلاء في ذاكرة الزمن، وتشابكت خيوطها بطريقة غير مألوفة تاهت معها الحقائق وضللت معها العدالة في البداية قبل أن تظهر الحقيقة في النهاية.. كلمات أنهت حياة الكثير منهم عبر محاكمات عادلة وأخرى ظالمة، فكانت فعلا أشهر المحاكمات في التاريخ.
أخذ القضاة الخمسمائة أماكنهم على المقاعد الخشبية المغطاة بحصير الخيزران، واستوى الرئيس على منصّة عالية يلتصق بها مباشرة رماة السهام الذين يقومون بوظيفة الشرطة اليوم، وعلى مقربة منه كان ثمة صندوق صغير يضع القضاة فيه الأوراق التي تحمل إدانتهم للمتهم أو تبرئتهم له.
الطغاة الثلاثون
كان الجمهور المؤلف بكامله من الرجال قد توافد، منذ الصباح الباكر، لحضور الجلسة العامة لمحاكمة الشيخ الجليل سقراط. كان الصباح جميلا يحمل معه غناء العصافير تحت أشعة الشمس الدافئة، فنحن في أثينا في صبيحة ربيعية سنة 399 قبل الميلاد، تلك المدينة المؤلفة من عشرة آلاف منزل مكوم بعضها فوق بعض، بشوارعها الضيقة وبيوتها المتلاصقة من الخشب والقرميد المطلي بالكلس الأبيض، ومن فوقها تسْطع أشعة شمس البحر الأبيض المتوسط. كانت أثينا قد ابتدعت للتو نظاما سياسيا فريدا يسمى بالديمقراطية، يتمتع به جميع الذكور الذين أتموا الخدمة العسكرية في إدارة المدينة والدولة، بعد أن اجتازت نظام «الطغاة الثلاثين» الذي أقامه الأثيني «كرينياس» بعد تحرر أثينا من قبضة غريمتها إسبارطة ومنافستها القوية، لتنتهي بذلك تلك المعاناة الرهيبة التي دامت سبعة وعشرين عاما وتعود المؤسسات الديمقراطية إلى العمل، وبينها القضاء، تلك المؤسسة التي يتطوع إليها القضاة ويتم اختيارهم بطريقة القرعة عبر انتقاء ستة آلاف قاض كل سنة يوزعون على اثنتي عشرة محكمة لكل منها خمسمائة قاض.
المتشرد والحكيم
في ذلك الصباح، أخذ القضاة الخمسة أماكنهم لمحاكمة شيخ جليل جلس على عتبة المنصة، كان المتهم ذا لحية بيضاء، حافي القدمين، يغطي جسمه بوشاح من الصوف الرخيص بعد أن عاش سنوات البؤس لوالده النحات «سوفرونيسك» ووالدته القابلة «فيلاريت»، إنه سقراط المتهم بجرم عدم إيمانه بآلهة المدينة وإفساده لشباب أثينا، والذي بات لذلك ينتظر عقوبة الإعدام.
كان سقراط حينذاك في السبعين من عمره، خاليا من مظاهر الأناقة والوسامة التي كان يتمتع بها الأثينيون، يكتفي بوشاح أبيض رخيص من الصوف، يسير على الدوام حافي القدمين في الصيف والشتاء، يمثل صورة المتشرد والحكيم في آن واحد، فهو لم يرث حرفة والده النحات منذ ولادته بأثينا عام 469 قبل الميلاد، كاسرا بذلك التقاليد الجارية، حيث كان الابن يرث صنعة والده، لم يرث تلك الصنعة ولم يمارس أي مهنة أخرى بقدر ما اكتفى بالتجوال في أنحاء المدينة، يحاور المواطنين سائلا إياهم على الدوام عن مفاهيمهم الأخلاقية والسياسية، يعترض الناس، ولاسيما الشباب منهم، في الشوارع والأزقة والساحات العامة وتحت ظلال أشجار الزيتون لمدة خمسين عاما، يحاورهم ولا يكف عن مناقشتهم، رافضا أي أجر على الدروس التي أضحى يلقيها عليهم بعد أن أصبحت أثينا تحفل بالفلاسفة والخطباء والسياسيين الذين لا يفتؤون يبحثون عن الطلاب والمريدين والذين أطلق عليهم اسم «السفسطائيين»، إيمانا منه بأن ممارسته للفلسفة هي ممارسة عملية وعفوية وطريقة للحياة لا تستحق الأجر والمقابل، فتجّمع حوله المئات من التلاميذ، الذين كان على رأسهم أفلاطون، إلى درجة أضحت معها صلته بأفراد مجتمعه أوثق من صلته بأفراد أسرته (كان سقراط متزوجا من السيدة إكزانيت وأبا لثلاثة أطفال) بعد أن نذر لهم نفسه وتعاليمه وأضحى زاده الأول والأخير هو مناقشة الشباب في شؤون العدالة والأخلاق، يجادلونه ويتحدّونه ويسخرون منه أحيانا أخرى، ولعل هذا ما جعل أحد المسرحيين يتخذ من سقراط موضوعا لمسرحيته الساخرة بعنوان «السحاب» التي صور فيها سقراط داخل سلّة معلّقة في الهواء وهو يخاطب الغيوم ويستوحيها في إيجاد حلول صالحة لقضايا بلاده وأمته.
سقراط.. في قفص الاتهام
تسارعت الأحداث شيئا فشيئا، وبدا وكأن سقراط يقترب من حتفه بعد أن تشبّع بأفكاره جيل لا يستهان به من الشباب، وبعد أن أثار حنق الديمقراطيين الكارهين له، واعترف بأنه يعمل مدفوعا من قبل شيطانه (لم يقصد به ما نفهمه اليوم من كلمة شيطان)، والشيطان بالنسبة إليه هو الإلهام الداخلي الذي أسماه بالضمير الذي يملي عليه اختيار آرائه الدينية والأخلاقية بنفسه، وليس كما هي مرسومة من طرف الغير أو تلك التي تؤخذ عن قومه، لتوجه إليه سريعا تهمة إفساد الشباب وعدم الإيمان بآلهة أثينا.
وعندما كانت القوانين السارية تسمح لأي مواطن بأن يوجه التهمة التي يريد إلى أي مواطن يريد (نظرا إلى غياب نيابة عامة توجه الاتهام في ذلك الوقت) ويبقى على المحكمة أن تصغي فقط للأطراف قبل أن تصدر حكمها بطريقة الاقتراع السري، فقد بادر كل من «ليكون» و«أنتيوس» (وهما ديمقراطيان متصلبان، و«أنتيوس» تاجر جلود تخلى ابنه عنه ليلتحق بالفيلسوف سقراط وشاعر ناشئ اتخذ من الشعر والخطابة حرفة له ورأى في سقراط منافسا لا بد من التخلص منه) إلى توجيه الاتهام إلى سقراط الذي لم يجد غضاضة في مصادقة أبناء هؤلاء الارستقراطيين وتبادل الرأي معهم حول العدالة والفضيلة والمعرفة، لكونه يؤمن بالأفراد ولا يؤمن بالأحزاب، وتلك جريمة لا تغتفر في عهود الاضطراب السياسي.
كانت لائحة الاتهام قد أعدت سريعا من طرف المعارضين لسقراط، وكان مما جاء فيها: «إن هذا الساحر الأشعث المهلهل، الذي لا عمل له سوى الانتقال من مكان إلى آخر لاعتراض الشباب والطعن في معتقداتهم الأخلاقية والدينية والنيل من مواقفهم الفكرية والسياسية، قد أثار عليه الكثيرين من رجال المدينة، ومنهم الآباء الذين أنكرهم أبناؤهم والسياسيون الذي سفّه آراءهم ومواقفهم والسفسطائيون الذين طالما هزأ بهم وسخر من تعاليمهم بشكل يتعارض مع تراثنا الديني والأخلاقي، فأتينا اليوم للاقتصاص في هذه المحاكمة العادلة والفريدة».
سقراط وسلاح الهجوم
لم تمض سوى ساعات قليلة حتى أصدرت المحكمة قرارها باقتياد سقراط للمثول أمامها وأمام قضاتها الخمسمائة بعد توصلها بلائحة الاتهام المرفوعة ضده. وبعد أن سمع سقراط بالتهمة الموجهة إليه، جاء دوره للدفاع عن نفسه بنفسه حسب ما كانت تقتضيه القوانين السارية حينذاك، رغم أنها أتاحت لأحد المحامين إعداد دفاع مناسب يعطى للمتهم لحفظه غيبا وترديده أمام المحكمة، لهذا فقد تطوّع «ليزياس»، أمهر المحامين في أثينا، لكتابة دفاع سقراط باعتباره أكثر معرفة من هذا الأخير بالقوانين والأساليب التي تؤثر على القضاة. وحينما تقدم «ليزياس» بمذكرة الدفاع إلى سقراط، رفض هذا الأخير قبولها قائلا: «ليزياس، أعرف جيدا بأن خطابك جميل جدا، لكنه لا يشبهني إطلاقا. هل تعتقد أن معطفا أنيقا وحذاء جميلا يليقان بي»، كان سقراط يقول ذلك ل«ليزياس» وهو يمنحه ابتسامة عريضة وينهض واقفا لإثارة دفاعه ويهمهم قائلا لكاتب المحكمة وقد قلب الساعة المائية التي تقيس الوقت الذي يجب أن يستغرقه هذا الدفاع (كان من حق المتهم أن يستغرق دفاعه فقط نفس الوقت الذي استغرقته خطابات الاتهام): لا تتردد في ضبط الوقت وضبط ساعتك، فأنا لن أستغرق الوقت الكثير، أنا لست خطيبا أو سياسيا بالمعنى المفهوم للكلمة بقدر ما أنا رجل حوار وجدال ونقاش، ولعل هذا أمر لا يفيد المحكمة ولا يفيد في إثارة عطف قضاتها، إنه لحظ سعيد للشباب إذا كنت أنا المفسد الوحيد لهم وكان جميع الأثينيين مصلحين لهم، فقد قمت بتحقيق واستجوبت جميع الأشخاص الذين يسمونهم علماء وتأكدت من أنهم لا يعلمون شيئا، ولكم في ذلك أن تسألوا عرّافة «معبد دلفس» التي قالت ولا تزال تقول لمرات ومرات إنني أعلم الناس، فلا شك في أنني أعلم الناس لأن الآخرين يعتقدون أنهم يعلمون بعض الأشياء في حين أنهم لا يعلمون شيئا، أما أنا فإنني أعلم بأنني لا أعلم أي شيء».
كانت تلك الكلمات التي قالها سقراط قد شكلت دهشة كبيرة لدى القضاة الخمسمائة وأضحكت البعض منهم إلى درجة أنها أغضبت رئيس المحكمة الذي احتجّ على تلك الضجة التي أحدثتها كلمات سقراط، وطالب الجميع بالتزام الصمت والهدوء قبل أن يتابع سقراط حديثه ويتكلم عن شيطانه, أو بالأحرى عبقريته، ويعلن حقه في إطاعة هذا الصوت الداخلي واتباع نصائحه ويصرخ بصوت مرتفع محذرا القضاة من الحكم عليه بالموت».. إنني سأتابع تدريس الفلسفة كما في السابق إذا ما برئت ساحتي، إذا قتلتموني أيها الأثينيون فلن تجدوا رجلا مثلي، إن أبولون قد وضعني هنا لأبقي على هذه المدينة في حالة من اليقظة، فإذا ما أعدمت فإن الله سيغرقكم في نوم أبدي»، منهيا دفاعه بكلمات ساخطة دون أن يسترحم القضاة كما جرت العادة في مثل تلك الحالات وغيرها لدى المتهمين الذين يحيطون أنفسهم أثناء المحاكمة بأبنائهم لإثارة العطف واستدرار الشفقة، قائلا من جديد: «لن أثير عطف المحكمة ولن أستدر شفقتها ولن أحيط نفسي بأبنائي لهذا الغرض، لكنني أطلب منكم أن يكون حكمكم لي بالمكافأة وليس بالسجن والغرامة أو الإعدام كما يطالب به المنافسون لي الذين ادّعوا أنهم علماء، فليس من المعقول أن يطلب إنزال الموت بي بناء على تهم جائرة لا أساس لها من الصحة، كما أنني لا أريد السجن لأنني سأمضي أيامي خاضعا لأوامر رجال الضابطة العدلية، أما الغرامة النقدية فلا يمكنني دفعها لأنني رجل فقير ولا أتوفر عليها (رغم أن أصدقاءه وتلاميذه، وعلى رأسهم أفلاطون، أعربوا خلال الجلسة عن استعدادهم لدفع الغرامة النقدية في حال تقريرها)، لهذا أتمنى أن يتم إطلاق سراحي».
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب
نشر في المساء يوم 20 - 07 - 2011