نادية عيلبوني - متى يتحرر الدين من سجن السياسة

لم أكن لأتوقع أبدا أن لقائي بتلك المدينة سيكون عكس اشتهائي تماما . أتذكر ما ألمّ بي حين التقيت لأول مرة مدينة القدس. وأتذكر أيضا ذلك المجهود المضني الذي بذلته للسيطرة على أمواج انفعالاتي التي ارتطمت بصخور المدينة ومقابرها وآثارها ومعابدها وأبوابها .
أبدا، لم تكن مشاعري تنتمي في أي منها إلى الارتياح أو القبول. وكان كل شرح مسهب أو مختصر، من ابن خالتي عن معالمها ، يضاعف إحساسي بالوحشة والغربة والخوف. بذلت أقصى ما استطيع لكتمان تلك الانفعالات . لم أكن لأخشى أحدا في هذه اللحظات قدر خشيتي من مواجهة نفسي . وكنت كلما توغلت في قلب المدينة ازدادت لدي مشاعر الاغتراب بطريقة لا تحتمل.
حاولت التخفيف من صدمة ذلك اللقاء . لجأت دونما نجاح، إلى حيلة عقلنة تلك المشاعر. وأعترف أنني كنت في حال من الارتباك والاضطراب الذي لا يمكن معهما فهم تلك العاصفة التي بدأت بالهبوب على كل أحاسيسي . أليست هذه مدينة القدس التي أحببتها عن بعد ؟ ها أنا ذا أجول في شوارعها العتيقة ، وها هو صوت فيروز يصلني نائحا وكأنها تبكي ميتا في صدى أغنيتها " شوارع القدس العتيقة".
عبثا، ذهبت كل جهودي للمصالحة مع تلك المشاعر. كانت السدود والحواجز تحتشد في رأسي مع كل تبرير جديد أقدمه لنفسي . كنت أتساءل بوجع، ما الذي يدعوني إلى ذلك الانسحاب الكلي من مدينة أتعرف إليها لأول مرة ؟ أين هو فضولي لاكتشاف الجديد -كعادتي - عندما أزور مدينة لأول مرة؟
كنت أحاول خنق ذلك السؤال الذي كان يندفع رغما عني : أهذه هي المدينة التي كانت السبب في حروب تاريخية أحرقت الأخضر واليابس وسفكت فيها ، وعلى ترابها ،ومن أجلها دماء آلاف البشر؟ حاولت أن أضع اللوم على من احتلوا المدينة وعبثوا بهويتها ، حاولت وحاولت... وحاولت ، إلا أنني كنت في قرار نفسي أعرف تماما، أن الأسباب الحقيقية لهذا النفور والاغتراب ، تقع في دائرة أخرى محظورة لا يجوز التصريح بها، وإلا انصبت علي لعنة الأموات والأحياء لترميني بكل أنواع الشتائم والاتهامات. ووجدتني بطريقة لا شعورية تماما ، في موقف أدعى للدعابة. هل أقول في موقف أقرب للاعتذار من ذاكرتي التي تجمّعت فيها طيلة كل تلك الأعوام كل ما اختزنه عقلي الباطن عن سحرها ورونقها وجمالها ورمزية قداستها؟
ارتبكت ذاكرتي التي ظلت دهرا، حرثا لما زرعته أمي ومدرستي وانتمائي السياسي عن القدس، وكنت أشبه ما أكون بامرأة أحبت رجلا دون أن تراه ، أحبته لصفاته الفريدة التي كان الجميع يتحدث عنها وعن كمالها في شخصه. وعندما التقته هالها ما رأت منه من صفات نقيضة تدعو إلى الابتعاد والنفور.
لا، لم يكن السبب في ذلك كله هو الاحتلال. الاحتلال الذي تعمدت تجاهله إلى الحد الذي لا أذكر حتى هذه اللحظة، أنني رأيت إسرائيليا واحدا في مناطق القدس الشرقية، لقد نبذت ذاكرتي كل هؤلاء إلى الحد الذي أدى إلى إسقاطهم جميعا عن عينيي ابتداء، ثم عن ذاكرتي تاليا. وظلت حالة الهلع من الصور والمشاهد الحقيقية والرمزية التي رأيتها تحتل ذاكرتي والمكان، إلى الآن.
هذه كنيسة القيامة . هي كنيسة صغيرة لا تحتمل كل هذا التقطيع ، إلا أن رجال الدين تمكنوا من تقسيمها بحسب جنسياتهم ومذاهبهم . في داخلها أقاموا كنيسة للأرمن لا تتجاوز مساحتها الستة أمتار مربعة ربما ، وهنا مثلها للأقباط وأخرى للروس وأخرى للارذوذكس ثم اليونانيين وإلخ ، وإلى جانبها مسجد عمر، وإلى جانبه المسجد الأقصى. وإلى جانب الأقصى يقف حائط المبكى ، وعلى مقربة من كل هذا وذاك المقابر والمزارت الموزعة على مساحة المدينة والتي يدعي أصحاب كل ديانة منها أنه هو دون غيره من يحابيه لله ويحابى ديانته على حساب ديانة الآخرين وعلى حساب حياتهم وجثثهم ودمائهم . لقد أرعبتني فكرة انحياز الله هذه، التي يدعيها الجميع هنا للسيطرة على المكان كله . الصورة كانت نافرة لفكرتي الشخصية التي كونتها عن خالق لا يريد من مخلوقاته معابد بقدر ما يريد تواصلا ورحمة .
هنا في هذا المكان تشوهت صورتي عن الله المحب لكل البشر دون تمييز. وظل السؤال يعاند موروث ذاكرتي ويستفزها : هل كان الله حقا بحاجة إلى كل هذا الكم من المعابد والمقابر وهذا الكم المخيف من الادعاءات والتزييف والتزوير ليثبت عظمته وقداسته؟ هل كان قدر الفلسطينيين أن تكون القدس هنا على أرضهم لكي يجنوا من ورائها كل هذا العنت والإذلال والتشريد والعذاب؟ هل كان الله هو الذي اختار لنا كل هذا الآلام ليحتفظ بأمكنة يدعي البعض أنهم يحفظونها إكراما وإجلالا له ؟هل اختار الله حقا منافستنا على المكان؟
هل أقول أنني تمنيت أن لا تكون القدس في فلسطين ؟ أجل ، لا أنكر ذلك البتة!!!!فما الفائدة من مدينة تصر على الاحتفاظ بأحجارها وأمواتها من الأنبياء والقديسين وغير القديسين، على حساب حياة الإنسان فيها؟ ماذا تساوي القدس دون أهلها؟ وماذا يساوي الأنبياء دون الناس ؟ وما الذي جنيناه نحن من كل هذه الأحجار؟ هل اكتسبنا الجمال أم القداسة؟ جمال ماذا؟ وقداسة من؟ وما هذه القداسة التي بسببها هي بالذات دون غيرها تثار كل تلك الغرائز البدائية الجاهزة دوما للاندفاع ولانقضاض الإنسان على أخيه الإنسان؟ أين صورة الجمال في مشهد أصحاب البيوت الأصليين وهم يهيمون على وجوههم دون مأوى لأن الله وفريق من أتباعه الأموات ضاقت بهم الأرض إلى الحد الذي لم يجدوا فيه غير بيوت سكان القدس؟ أين الحكمة الإلهية من وراء كل هذا؟ كيف يقبل الرب مباركة طرد الناس الآمنين باسمه؟ . لقد طمست كلمة "القدس" و"القداسة" في روحي صورة الإله المحب والرحيم والحاني، وبت أرى وجه آخر لرب "القدس" ، وجه الأنانية والتجبر والانحياز والادعاء والكذب .
هنا في القدس تعرفت على معنى الكراهية في واجهات الأحجار المتجهمة و الخرساء ، في براكين الحقد وهي تنفث حممها من جوف الصخور التي تزيت بهندام القداسة . هنا أدركت خطر المقدسات على السوية العقلية والروحية للبشر . هنا انزاحت تلك الخشبة من عيني لأدرك أن فكرة سمو المقدس بالإنسان ما هي إلا أسطورة ، أو حيلة ارتكبها البشر ، الإخفاء هول الجشع والقبح والأنانية والكراهية التي يحملونها في نفوسهم .
حاولت العثور وأنا أبحث بين جنبات التاريخ الدموي للمدينة ، عن إذا ما ساعد كل هذا المقدس على حماية ساكني هذه القدس منذ ولادتها وحتى الآن، من المآسي و الحروب والمجازر .
هل تمنيت أن تصحو القدس يوما، وقد غيرت نظرتها إلى القداسة؟ هل تمنيت أن تخرج من مقابرها الحجرية المخيفة لتعود إلى حالتها الطبيعية كأية مدينة أخرى ؟ هل تمنيت أن تتخلص القدس من كل ذكورة أنبيائها لتعود إلى طبيعتها الأنثوية كامرأة سوية تتضوع بحنان الأمهات وهي تضم إلى صدرها كل أبنائها وتغمرهم جميعا بالمحبة ذاتها؟
هل تمنيت كل هذا حقا؟
أجل ، تمنيت هذا وأكثر .
وكم أخشى التصريح بهذا الأكثر!
أعرف يقينا أن ما أتمناه لن يتحقق سريعا. كما أدرك أن فهمنا جميعا لمعنى هبة الحياة لا يزال قاصرا ويحتاج إلى تجرع المزيد من الكؤوس المترعة بالدماء والعذابات للوصول إليه.. وأتألم لأن الأيام ستمضي بي قبل أن أشهد ميلاد قدس أخرى.قدس تمضي إلى يومها العادي وهي تتطلع نحو المستقبل... قدس لا تعلو قامة حجارتها فوق قامة أبنائها... قدس لا تمتلك الحق في الترفع على حياة البشر ولا على حقهم في الحياة والكرامة.
سنصل حتما في آخر المطاف لمعرفة أن الله لا يحتاج إلى كل هذه البغضاء المدججة بالغرائز البدائية ليكون ويتحقق في حياتنا..وأن الله لا يطيق سكنى الحجر ، وأنه موجود معنا وبيننا ،وفي بيوتنا ..في إحساسنا الحقيقي جميعا، بالأمن والمساواة .. موجود في هوائنا ومائنا ... في ورودنا وأشجارنا ... في بسمة أطفالنا .. في كل فكرة تعبر عن حلم يخرج من رحم الحياة ويتحقق بيننا، عندها فقط ، سنعرف جميعا، أننا أخطأنا جميعا في حق هذا الإله عندما اعتقلناه محنطا في قبورنا ومعابدنا ومزاراتنا، تماما كما اخطأنا في حق حياتنا.
آمل بمجيء زمن نعي فيه، أن كل بقعة في هذه الأرض تتحقق فيها سويتنا الإنسانية كبشر ، هي قدس أقداسنا.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...