تحيلنا الكاتبة السيناوية / فاطمة فهمى البيك في روايتها : " ثمة بين " – منذ البداية - إلى الرمز المستغلق ، والذى لا يشى إلا بالغرابة، والقلق، الدهشة، والخوف، الترقب لما سيكون من أحداث، " فثمة بين" عنوان مثير، غرائبى، فماذا ستتكشف الرواية عن مفاتح لكشف هذه الستور اللغوية ؟! . وربما تجىء بداية الرواية أكثر غموضاً كذلك، لكنها تكشف عن صوفية خاصة، أو ما أسميها : " صوفية الذات والبوح"، للواقع الذى تسيَّده الهذيان والقلق، والخوف، والسكون والصمت كذلك، وهى فلسفة للذات أمام قبح العالم وإحداثياته المتدافعة ؛التراكبية، الفوضوية، والغريبة كذلك ، تقول في المقدمة : ( هذه ليست حياة . . إنها هذيان روح ضلت السكني في غيابات لا تطاق وواقع غير محتمل .. صدقوني .. ليست حكايات السمر المغني، بل فراسة عقل كان يبحث عن مخرج من الم ووجع الواقع القائم فلم يجد له سبيل إلا هذا .. فراح يحلق فيه متمتعا ورافضا وساخطا .. شعر بالأمان بعيدا عاليا .. شعر بالاطمئنان في الخروج منه والتفرد بالمأمول والممكن حتي لو كان غير واقعي .. ماذا فعل فينا الواقع غير كل هذا الألم .. ثمة فراق لابد منه .. ثمة فرصة لإختراق الشرنقة .. ثمة بين). ... هنا ، ربما تتكشف لنا بعض مغاليق العنوان الملغز، فهى رواية رافضة للواقع، ساخرة، فانتازيا لعالمنا الذى ساد فيه الظلم والرهبوت، وكثرت فيه المحاكمات للأبرياء، وصراع السلطة من أجل مناصب زائلة، أو من أجل رؤيوية تحكم المجتمعات؛ لكنها لا تقدر حتى أن تجهر بذلك، فتماهينا، وتخاتلنا عبر السرد الإدهاشى الساحر، وعبر سيميائية اللغة، والواقعية السحرية، إلى عالمنا / ذواتنا كقراء، في محاولة منها لتجييش القارىء معها لصنع أحداث الرواية، عبر قراءة الواقع عبر الأحداث، وعبر التبئير، ومركزية السرد التراكمى الترميزى، فهى بداية تسرد حكايتها، وتفتح أبواب قلبها وضلوعها بالحب للعالم، في مسحة صوفية، أو إيمانية حالمة، عبرعلاقتها بالعصفور الحبيس في القفص، والزائر الغريب الذى ظنته حبيبها، فإذ به غريب كذلك، فتتشبث بالإيمان الذى يسكنها، وتتمسك بحبل الله الذى ينجيها، فقد أسلمت له كل مقاليدها، وتوقن أنه سيخرجها من كل أزمة، ثم تحيلنا بعد مشهدية العصفور والقفص ودلالتهما إلى ظلم بعض القضاة من خلال صدور أوامر عليا بالحكم على فتاة بالإعدام لأنها أهانت الجنود، لتتحول الدراما إلى تراجيديا السرد السيميائى الساحر، والواقعى المهيب، ثم نراها تدافع عن الفتاة ضد الرصاص، لكنها الأوامر صدرت وتحول العالم إلى صمت أمام دوى الجبروت والرصاص، لتنهى المشهد بفنتازيا رائعة ، سيميائية، وبمفارقات عبر الإزاحة، تزيح السرد والحكاية بجملة واحدة : ( صرخت ..أغلقوا التلفاز .. لا أريد أن أري هذا المسلسل أيها الجبناء في وطن هزلي ..يالحسرتى .. وألمى .. ومرارات لا تنته). إنها إذن لم تسرد ، بل كانت تشاهد، وأرادت مخاتلة القارىء لتوقعنا في شرك النص، وتتلبسنا منذ البداية بهذه الأحداث التراجيدية المثيرة . ولعلنا نلمح اجادة الكاتبة في رسم الصور البصرية التشكيلية لتدخلنا بتشاركية إلى الأحداث، فهى تصنع الحياة ؛ عبر متتالياتها القصصية هنا، والتي وضعت عليها اسم رواية، وسنوافقها على ذلك باعتبارية " هذه رواية الصور المتدافعة ، الواقعية والسحرية، التى ينتضمها خيط السرد لموضوعات ومعان وقضايا تحيط بنا في مجتمعاتنا، وتربطها شخصية الراوى العليم / الراوية التى تجترح العتمة لتسرد لنا الواقع / الحياة في شكل مشاهد سينمائية مثيرة، تراجيدية ، لكنها تشير إلى الواقع المرير كذلك . ولعلى أشير إلى انها متوالية قصصية من رؤيانا لمشهدية الحكاية / الحدوتة التى تفضح الواقع ، وإن جاءت على شكل حدوتة للجدة، فهى تخشى كذلك الرهبوت وتخاف من ظلم قد يقع عليها ،لذا تماهينا كل الوقت بحكايات عن الجدة التى أصابها الخرف وأشارت جارتها لأن تذهب إلى طبيب نفسى، وعن الرؤى التى تتخيلها وقصص الموت، وهى حيل سردية بارعة لتخفى جوهر السرد عبر الحدوتة بين الولد والجدة ، وعبر القصة داخل فن الرواية،تقول : (سوف أحكي لك قصة مسرور، اجلس، بدت علامات الاستغراب عليه وهو يجلس ويقول أحب قصصك ياتيته، رحت أحكي : كم قتل بسيفه البتار مسرور هذا .. كم أزهق من أرواح بالأمر دون رغبة منه أو حتي الرفض .كم من حسناوات .. يامسرور،كم من فتيات لايعرفن الحكي يامسرور،كم من ثوار وجوعى صرخوا .. عيش وحرية،لم تكن الدكة الخشبية من تحتي تتقبلني، فلقد تحولت ألواحها إلى حجارة صلبة خشنة مدببة، تململت وبدا أننى لم أعد أطيق السكوت أو الرضا بواقعي المزري .. قال مسرور الصامت بجواري .. كفاكي تيته .. دعي الملك للمالك انظري إلي الحائط .. قلت أى حائط .. قال هذا المتلون الهش الذي تنفذ منه الكلمات إلي حيث تفشي أسرارنا .. قلت لا أري حوائط .. قال انظري إلي السقف إذن .. لن تري الحائط أنظري إلي السقف وحدقي وأفهمي تيته .. لقد تعبت منك .. افهمي) . إن الولد قد فهم الرمز، إذن الجدة لا تهذى وإن تصنعت الإيهام بالخرف، فهى تحكى لحفيدها حكاية من الزمن القديم، والولد الصغير كذلك يخاف من البطش، بما يشير إلى مأزومية الواقع؛ وجبروت السلطة، والتي تسترجع فيها المثل الشعبى القديم : " اسكت .. هُسْ .. الحيطان ليها ودان " . ولعلنا في الفصل الثالث نلمح فانتازيا السرد المبهر عبر محاكمة جحا تاريخيا ؛ وعبر المحكمة الهزلية باعتبار الشاهد حمار جحا، فهو الذى سيعرف صاحبه، وغير ذلك من الحكايات التى تشير إلى الظلم، والمحاكمات غير الإنسانية التى تُمارس في حق الأبرياء، وهى بصفة فطرية نراها تدافع عن جحا ، وتقول : إنه مظلوم، كما دافعت من قبل عن فتاة المسلسل ومحاكمتها ورميها بالرصاص كذلك ، ثم تنهى الحكاية بحديث مزدوج مع حفيدتها عن الدروس الخصوصية وثراء المدرسين ، وهى مشكلات يعانى منها مجتمعنا في مصر، فنراها تسلط الضوء عليها وعلى غيرها من المشكلات لتنقلنا ألى الواقع عبر سيمياء السرد كذلك ، ولعل تلك التقارنية والتشابكية لما هو واقعى وسيميائى هو الطريق الأنجع والأصوب للهروب من سطوة الواقع وقسوته، ومحاولة منها لعدم المسائلة عما تكتب،- فيما بعد - فهى حكايات مُحالة إلى قصص خيالية، ومشاهدات تلفازية وسينمائية، وأحلام، وهو الأمر الذى دعاها لأن تذكر ذلك في المقدمة على أنه هذيان، لا واقع حقيق .. كما نلمح انها مزجت بين تقنيات السرد وحكاية جحا عبر الحدوتة التى تحكيها لحفيدها ؛وهذا لعمرى قمة المماهاة؛ والإحكام في تعمية السرد، كى تسرد لنا الواقع من بعيد، لتتحاشى الوقوع في انتقادية ظلم الحكام والسلطات ،والقضاة أحياناً . لذا نراها تمرزج بين الحقيقة والخيال، عبر الجدة التى قررت نأن تعيش في دار المسنين، ، لكن دار المسنين تشترط قيوداً ولجاناً وموافقات غير انسانية منها : أن يتم تحويل المعاش كله إلى الدار. ثم رأيناها تذهب لدى عيادة المرضى النفسيين لتبدأ دوامة الصراع داخل عقلها الصغير،فتتدافع أحداث كثيرة في رأس الجدة،ويقرر الطبيب تكرار المهدىء لها، لكنها كانت تشاهد عبر اللاوعى صوراً لأطفال وكراريس وبحر ؛والشارع المكتظ بالمارة وتجمعات كثيرة لإناس يحيطون بها ويوقعونها على السلم ،وكان مساً من الجنون أصابها بعد أن انهال عليها الصاعدون إلى العيادة بالضرب،وهى قد شتمتهم جميعاً بينما كان الدكتور يهدىء من روعهم وهكذا تتوالى الحكاية المأزومة لشخصية الجدة ؛التى ترى ما لا يرونه أهلها، لكنها تلهج بالحكمة مع كل ذلك، وكأنها في قمة وعيها أيضاً .
إننا أمام مسرح العبث، الجنون ، ورواية يتشابك فيها الحقيقى باللامرئىْ، والواقعى بالمتخيل، والخاص بالعام، وتنسحب على المجتمع بمشكلاته لتكشف عوراته، فهل هى المريضة؟ أم نحن؟ وهل هى على صواب؟ أم أننا نحن الذين على خطأ؟ وهى في كل الأحيان تخاتلنا بالسرد السيميائى الحالم الجميل . ولعل طيف حبيبها يأتيها ( الحلم ببراءة العالم عبر الحب ) ياتيها طيف المحبوب حينما تتعقد الأمور ليطلب منها أن تغلق غرف روحها، ولقد رأت ملائكة بملابس بيضاء مكتوب على صدر أحدهم " مصحة الملائكة " فودعت عصفورها المحبوس في القفص وخرجت بعكازها إلى البراح،لتهرب، حيث محطة القطار القادم، لقد قررت الهرب من جحيم البيت لتستقل أول قطار مع الفجر، وكان أن حدث لتبدأ رحلة المجهول الجديدة . وفى القطار رأت العديد من المواقف وأناساً وتذكرت محطمو التماثيل الذين ينتشون بتحطيمهم تلك التماثيل لأنها شرك بالله، وكأنها تسقط ذلك على عصر نعيشه، عشناه أثناء الثورة من محاربة الصوفية، وتحطيم التماثيل والمتاحف، وكأنها معركة الجنون تتداعى داخل عقلها الذى لم يتحمل صور ما حدث للناس بعد الثورة 2011م من مواقف وقتل وتشريد وتحطيم للتراث الحضارى بدعاوى الجاهلية، والإمارة المزعومة وغير ذلك، وكأنها عبر الإستدعاء الذاتى شاهد على العصر،أو ذاكرة تسرد شريط حياتنا في مصر، وكيف عاش الشعب سنوات من الخوف والهلع، وربما هذا ما أثر عليها كذلك، لنراها في قطار مجهول، وحولها أناس لا تعرفهم ،ووجوه غريبة، والقطار يسير، والأيام تمر، وهى تريد الحرية المفقودة . وعبر القطار رأت الطلبة وانتقدت التعليم الجامعى، والتعليم العام وغير ذلك، وكأنها تسرد لنا عبر السياق أمراض المجتمع/لا مرضها، وواقعنا الحقيق،لا المتخيل، وتكشف عوراتنا وبيروقراطيتنا في التعامل مع كبار السن كذلك، ومع الجميع في كل مناحى الحياة. ولعلنا نلحظ حكاياتها لتهانى في القطار فتاة الجامعة وحواديتها عن أم العيال والعروس لتدخل إلى دائرة السرد الحكائى لتنتقد الأوضاع عبر فنتازيا السرد لإمرأة طاعنة في السن – لن يحاسبها أحد- ولا القانون، لذا جاءت موضوعات السرد مرتبطة بجنون ما؛ أو من خلال مفارقات الحكى السابقة لتحيلنا إلى ذواتنا المأزومة ومشكلاتنا المجتمعية والحياتية عبر سرد لا يمل منه القارىء، بل يستدعى عطفاً وشفقة وتشاركية في الحدث أيضاً . ثم رأيناها تنزل من القطار لتحل ضيفة على الشيخ مطاوع والد تهانى التى تعرفت عليها في القطار ،ليتم الحاقها بدار الأيتام في الصعيد بأسيوط لتبدأ حياة جديدة ،أو انها هربت من الواقع المشين بمزاجيتها لتعيش بمفردها وتختلى بحبيبها في الحلم كذلك . ولعمرى تجىء النهاية المأساوية / الجميلة، عبر الفنتازيا ، فقد جاء أهلها وزوجها ليأخذوها من دار الأيتام فتجمع أهل الدار حولها؛لا يريدونها الرجوع فقد أحاطتهم بحبها، لتتفكك شيفرة العنوان الملغز للرواية في آخر جملة،عبر مشهدية إنسانية رائعة، لعجوز ترفض العودة مع زوجها وأولادها لتعيش بقية عمرها مع من احبوها ،فى ملجأ الأيتام عبر حوارية غاية في الشفقة، والحب والإنسانية كذلك ، تقول : (أرجوكم، إيه الحكاية .. رد أحدهم إنهم هنا جاءوا كي يأخذوكي منا، صدمني القول، يأخذونني منكم، من هم .. من هم ..؟ قالت وهي تخلط القول بالدموع .. ناس .. ناس امرأة كثيرة البكاء ورجل يقول أنه زوجها وابنائهما ..، فهمت، إنها ابنتي .. قلت لهم وكلي يرتجف ودموعي تسبقني .. وأنتم هل ترضون أن أترككم .. ؟ كان ردهم اشبه بالهدير في صوت واحد لا .. أبدا .. مش ممكن .. قلت لهم حاضر وأنا لن أترككم أبدا .. بس بشرط .. قالت التى تحتضني .. إحنا موافقين علي أي شرط .. قلت لهم شرطي حين أموت تدفنوني أنتم هنا بقريتكم في هذه الأرض الطيبة، ازدادت نحيبا وبكاء وهي تلفني بذراعيها .. قلت لهم الآن ممكن تتركوني أتصرف أنا .. أعدكم لن أذهب لن أغادركم لن أذهب أبدا .. ثمة بين بين البينين وهاأنا في بين لا رجوع فيه ). وفى النهاية : نحن امام رواية انسانية، تروى الواقع المشين الذى أدى بهذه العجوز في النهاية إلى الهروب لتختلى بالذات ، وتعيش من يحوطونها بالحب، بعد أن اتهموها بالجنون والخرف، لكنها استطاعت بمهارة ان تقلنا إلى واقعنا الحالى، لتقدم رواية متماسكة الأركان وملغزة حتى النهاية : (ثمة بين بين البينين وهاأنا في بين لا رجوع فيه). إنها الرواية التى تفتح لنا أفق التأمل، وتضعنا امام ذواتنا ،وواقعنا، ومشكلاتنا، ثم تهرب، تنسحب لتعيش حياة جديدة، مع من يعرف قيمتها، قيمة الجدة، التراث، الأصالة مقابل المعاصرة المخيفة المرعوبة لحياتنا التى تغير فيها كل شىء ، كما تعيد لنا الرواية رسم الواقع دون رتوش، وكأنها شاهد على العصر، أو امرأة من جيل آخر تنظر إلى تغير الحال، فلا يعجبها هذه التغيرات إلى الأسوأ، لكنها نجحت بشكل كبير في تقديم سرد مختلف، لرواية تخش إلى قلوبنا، رواية تتميز بفنتازيا السرد ، لتكشف لنا أمراض المجتمع ومشكلاته ، وهى لا تقدم الحلول، وليس مطلوباً منها ذلك، لكنها تضعنا أمام انسانيتنا الغائبة؛ لنصفق لها بقوة ، للسرد الماتع الجميل، الإدهاشى المائز، والذى تستخدم فيها حيلاً لغوية ،ومماهاة بالسرد لتقدم لنا الواقع الحق، عبر متن المتوالية القصصية، أو " رواية الصورة " كما أصطلح"، أو الرواية التى تقدم المشاهد السينمائية / المسرحية لحياتنا عبر تنويعات السرد، وجمالياته المائزة، وعبر تداخل انواع أدبية ، وأسلوبية ،لتراوح بين اللغة الفصيحة، واللهجة البسيطة ، لكنها نجحت بمهارة واقتدار في لضم عقد هارمونية السرد الماتع، المائز، لتحيلنا إلى فنتازيا الحياة عبر الواقع الآنى، وعبر سيميائية سرد سحرى متميز، وفنتازى، فلا نملك معها كقراء إلا أن نقرأ حتى النهاية ، ونتماهى مع السرد الإنسانى العتيق، عبر ذاتها / ذواتها / حلمها في التحرر من أدران الواقع ومشكلاته راجية تغييراً جذرياً له،عبر حياة جديدة/ حياتها، واقعنان ولو في ملجأ الأيتام .
أن الروائية / فاطمة فهمى البيك تضع قدميها برسوخ في حقل الرواية الوسيع، وتقدم لنا رواية ماتعة، مائزةن ملغزة، إدهاشية، عبر مماهتنا بالسرد الفنتازى السيميائى، وعبر سيموطيقا سرد جديد، جميل، ومرهق، ورائع ومهيب أيضاً
حاتم عبدالهادى السيد
إننا أمام مسرح العبث، الجنون ، ورواية يتشابك فيها الحقيقى باللامرئىْ، والواقعى بالمتخيل، والخاص بالعام، وتنسحب على المجتمع بمشكلاته لتكشف عوراته، فهل هى المريضة؟ أم نحن؟ وهل هى على صواب؟ أم أننا نحن الذين على خطأ؟ وهى في كل الأحيان تخاتلنا بالسرد السيميائى الحالم الجميل . ولعل طيف حبيبها يأتيها ( الحلم ببراءة العالم عبر الحب ) ياتيها طيف المحبوب حينما تتعقد الأمور ليطلب منها أن تغلق غرف روحها، ولقد رأت ملائكة بملابس بيضاء مكتوب على صدر أحدهم " مصحة الملائكة " فودعت عصفورها المحبوس في القفص وخرجت بعكازها إلى البراح،لتهرب، حيث محطة القطار القادم، لقد قررت الهرب من جحيم البيت لتستقل أول قطار مع الفجر، وكان أن حدث لتبدأ رحلة المجهول الجديدة . وفى القطار رأت العديد من المواقف وأناساً وتذكرت محطمو التماثيل الذين ينتشون بتحطيمهم تلك التماثيل لأنها شرك بالله، وكأنها تسقط ذلك على عصر نعيشه، عشناه أثناء الثورة من محاربة الصوفية، وتحطيم التماثيل والمتاحف، وكأنها معركة الجنون تتداعى داخل عقلها الذى لم يتحمل صور ما حدث للناس بعد الثورة 2011م من مواقف وقتل وتشريد وتحطيم للتراث الحضارى بدعاوى الجاهلية، والإمارة المزعومة وغير ذلك، وكأنها عبر الإستدعاء الذاتى شاهد على العصر،أو ذاكرة تسرد شريط حياتنا في مصر، وكيف عاش الشعب سنوات من الخوف والهلع، وربما هذا ما أثر عليها كذلك، لنراها في قطار مجهول، وحولها أناس لا تعرفهم ،ووجوه غريبة، والقطار يسير، والأيام تمر، وهى تريد الحرية المفقودة . وعبر القطار رأت الطلبة وانتقدت التعليم الجامعى، والتعليم العام وغير ذلك، وكأنها تسرد لنا عبر السياق أمراض المجتمع/لا مرضها، وواقعنا الحقيق،لا المتخيل، وتكشف عوراتنا وبيروقراطيتنا في التعامل مع كبار السن كذلك، ومع الجميع في كل مناحى الحياة. ولعلنا نلحظ حكاياتها لتهانى في القطار فتاة الجامعة وحواديتها عن أم العيال والعروس لتدخل إلى دائرة السرد الحكائى لتنتقد الأوضاع عبر فنتازيا السرد لإمرأة طاعنة في السن – لن يحاسبها أحد- ولا القانون، لذا جاءت موضوعات السرد مرتبطة بجنون ما؛ أو من خلال مفارقات الحكى السابقة لتحيلنا إلى ذواتنا المأزومة ومشكلاتنا المجتمعية والحياتية عبر سرد لا يمل منه القارىء، بل يستدعى عطفاً وشفقة وتشاركية في الحدث أيضاً . ثم رأيناها تنزل من القطار لتحل ضيفة على الشيخ مطاوع والد تهانى التى تعرفت عليها في القطار ،ليتم الحاقها بدار الأيتام في الصعيد بأسيوط لتبدأ حياة جديدة ،أو انها هربت من الواقع المشين بمزاجيتها لتعيش بمفردها وتختلى بحبيبها في الحلم كذلك . ولعمرى تجىء النهاية المأساوية / الجميلة، عبر الفنتازيا ، فقد جاء أهلها وزوجها ليأخذوها من دار الأيتام فتجمع أهل الدار حولها؛لا يريدونها الرجوع فقد أحاطتهم بحبها، لتتفكك شيفرة العنوان الملغز للرواية في آخر جملة،عبر مشهدية إنسانية رائعة، لعجوز ترفض العودة مع زوجها وأولادها لتعيش بقية عمرها مع من احبوها ،فى ملجأ الأيتام عبر حوارية غاية في الشفقة، والحب والإنسانية كذلك ، تقول : (أرجوكم، إيه الحكاية .. رد أحدهم إنهم هنا جاءوا كي يأخذوكي منا، صدمني القول، يأخذونني منكم، من هم .. من هم ..؟ قالت وهي تخلط القول بالدموع .. ناس .. ناس امرأة كثيرة البكاء ورجل يقول أنه زوجها وابنائهما ..، فهمت، إنها ابنتي .. قلت لهم وكلي يرتجف ودموعي تسبقني .. وأنتم هل ترضون أن أترككم .. ؟ كان ردهم اشبه بالهدير في صوت واحد لا .. أبدا .. مش ممكن .. قلت لهم حاضر وأنا لن أترككم أبدا .. بس بشرط .. قالت التى تحتضني .. إحنا موافقين علي أي شرط .. قلت لهم شرطي حين أموت تدفنوني أنتم هنا بقريتكم في هذه الأرض الطيبة، ازدادت نحيبا وبكاء وهي تلفني بذراعيها .. قلت لهم الآن ممكن تتركوني أتصرف أنا .. أعدكم لن أذهب لن أغادركم لن أذهب أبدا .. ثمة بين بين البينين وهاأنا في بين لا رجوع فيه ). وفى النهاية : نحن امام رواية انسانية، تروى الواقع المشين الذى أدى بهذه العجوز في النهاية إلى الهروب لتختلى بالذات ، وتعيش من يحوطونها بالحب، بعد أن اتهموها بالجنون والخرف، لكنها استطاعت بمهارة ان تقلنا إلى واقعنا الحالى، لتقدم رواية متماسكة الأركان وملغزة حتى النهاية : (ثمة بين بين البينين وهاأنا في بين لا رجوع فيه). إنها الرواية التى تفتح لنا أفق التأمل، وتضعنا امام ذواتنا ،وواقعنا، ومشكلاتنا، ثم تهرب، تنسحب لتعيش حياة جديدة، مع من يعرف قيمتها، قيمة الجدة، التراث، الأصالة مقابل المعاصرة المخيفة المرعوبة لحياتنا التى تغير فيها كل شىء ، كما تعيد لنا الرواية رسم الواقع دون رتوش، وكأنها شاهد على العصر، أو امرأة من جيل آخر تنظر إلى تغير الحال، فلا يعجبها هذه التغيرات إلى الأسوأ، لكنها نجحت بشكل كبير في تقديم سرد مختلف، لرواية تخش إلى قلوبنا، رواية تتميز بفنتازيا السرد ، لتكشف لنا أمراض المجتمع ومشكلاته ، وهى لا تقدم الحلول، وليس مطلوباً منها ذلك، لكنها تضعنا أمام انسانيتنا الغائبة؛ لنصفق لها بقوة ، للسرد الماتع الجميل، الإدهاشى المائز، والذى تستخدم فيها حيلاً لغوية ،ومماهاة بالسرد لتقدم لنا الواقع الحق، عبر متن المتوالية القصصية، أو " رواية الصورة " كما أصطلح"، أو الرواية التى تقدم المشاهد السينمائية / المسرحية لحياتنا عبر تنويعات السرد، وجمالياته المائزة، وعبر تداخل انواع أدبية ، وأسلوبية ،لتراوح بين اللغة الفصيحة، واللهجة البسيطة ، لكنها نجحت بمهارة واقتدار في لضم عقد هارمونية السرد الماتع، المائز، لتحيلنا إلى فنتازيا الحياة عبر الواقع الآنى، وعبر سيميائية سرد سحرى متميز، وفنتازى، فلا نملك معها كقراء إلا أن نقرأ حتى النهاية ، ونتماهى مع السرد الإنسانى العتيق، عبر ذاتها / ذواتها / حلمها في التحرر من أدران الواقع ومشكلاته راجية تغييراً جذرياً له،عبر حياة جديدة/ حياتها، واقعنان ولو في ملجأ الأيتام .
أن الروائية / فاطمة فهمى البيك تضع قدميها برسوخ في حقل الرواية الوسيع، وتقدم لنا رواية ماتعة، مائزةن ملغزة، إدهاشية، عبر مماهتنا بالسرد الفنتازى السيميائى، وعبر سيموطيقا سرد جديد، جميل، ومرهق، ورائع ومهيب أيضاً
حاتم عبدالهادى السيد