خيري حسن - بين "الشيخ" و"المثقف".. كلمة!

(محافظة بني سويف - شتاء 1985)
في مدخل بيتنا المتواضع، كان يجلس أبي، على حصيرة مصنوعة من نبات البردي، وأمامه "وابور جاز" قديم، له صوت عالٍ يسمعه كل من يمر بالشارع!
بعد دقائق يبدأ في عمل"كوبين"من الشاي، على مزاجه، وكأنه امتلك الدنيا وما عليها. ذات يوم جاء صديق له اسمه عم "فتحي أبو صالح"- وكان قبطياً- قصير القامة، ضخم الجسد قليلاً. باسم الوجه كثيراً. ومن فرط إنسانيته، وبشاشة وجهه، وطيبة قلبه، لا تستطيع أن تعرف، أهو قبطي أم مسلم؟ غير أن المؤكد لكل أهل القرية، أن عم فتحي- هكذا يناديه الجميع - كان إنساناً مصرياً حتى النخاع. جمع بداخله بسهولة شديدة، وبساطة جميلة، كل سماحة الأديان السماوية، التي جعلت منه إنساناً فوق العادة. هو الآن يجلس بجوار أبي وفي يده كوباية شاي تقيلة (سكر..وشاي)!
***
(مدينة طنطا. صيف 1981)
أبي بدأ يحكي - ضمن ما كان يحكي دائماً في مثل هذه الجلسات - عن المصادفة التي جمعته ذات يوم بالشيخ الطبلاوي. يحكيها بسعادة، وخشوع، وفرح واضح في صوته، الذي يكاد يعلو على صوت "وابور الجاز" الذي أمامه. حدث هذا اللقاء، عندما كان في زيارة لمدينة طنطا. وفي مدخلها، لمح سائق السيارة الأجرة التي يستقلها -أبي- فضيلة الشيخ الطبلاوي، واقفاً وسط جمع من الناس. ودون أن يستأذن السائق الركاب! خالف خط السير. وبرعونة شديدة، ومغامرة غير محسوبة. قطع الطريق عكس الاتجاه، ليقف بالسيارة بجوار الشيخ. ثم قال للركاب:"الشيخ الطبلاوي يا رجالة"! قال الركاب فى نفس واحد: وهم يتزاحمون للنزول:"بركاتك يا مولانا". وتدافعوا واحداً وراء الآخر للسلام عليه. ونجحوا جميعاً في ذلك..!
هذه الحكاية كان أبي لا يملَّ من ذكرها، مراراً، وتكراراً، بمناسبة وبدون مناسبة. وكان عم "فتحي أبو صالح" يسمعها- كلما حضر ذكرها - باهتمام شديد، ولافت للنظر. في هذه الجلسة سأله صديق لهما، لا أذكر اسمه الآن: "طيب وهو أنت مالك ومال الشيخ الطبلاوي يا أبو صالح؟".. نظر أبي للرجل باستهجان وغضب رافضاً سؤاله من أصله! غير أن عم "فتحي" كان أكثر سماحة مع سؤال السائل. فنظر له بابتسامة، لحظة احتسائه ما بقي في كوب الشاي الصغير الذي بين يده.. وقال له: "مالي إزاي؟ أما إنك راجل مش فاهم حاجة بصحيح!! يا جدع صوته حلو.. صوته حلو يا بني آدم! وانفجروا جميعاً في الضحك، تحت سحاب دخان السجائر والمعسل وصوت الوابور الذي لا يهدأ! ثم أكمل قائلاً: "هيه الست أم كلثوم مش بنسمعها كلنا؟".. فرد الجالسون وقد زاد عددهم: "عندك حق يا عم فتحي.. والله"! ثم حكى لهم قائلاً: "عندما زرت العراق للعمل بها، وجدت العراقيين هناك - وكان بينهم شيعة - يسمعون الشيخ الطبلاوي؛ مثلما يسمعون الست أم كلثوم"!
***
(شارع عبد الخالق ثروت - 2017)
على مسرح نقابة الصحفيين، يجلس الشيخ الطبلاوي، لتلاوة آيات من الذكر الحكيم. كنت وقتها ضمن مجموعة من الزملاء في حفل تكريم جوائز النقابة. الكل سعيد بالجائزة. وأنا سعيد أكثر؛ لأنني سأنجح في أن أُسلم على الشيخ، مثلما فعل أبي قبل سنوات. الآن هو انتهى من القراءة. الزميل محمود كامل مشرف النشاط الثقافي مع مجلس النقابة، يسلمه شهادة تكريم. هو الآن في طريقه للخروج. وأنا أتحرك ناحيته. القاعة مزدحمة. أواجه صعوبة في الوصول إليه. نعم أقترب منه كثيراً. لكن غيري يقترب أكثر مني. هو بهدوء وابتسامة، وسماحة - رغم كبر سنه - يسلم على الجميع. يشير بيده للجميع. أخيراً نجحت في الوصول إليه والسلام عليه. لكنني- للأسف- فشلت في أن أحكي له، حكاية حب عم "فتحي أبو صالح" - وهو القبطي- لصوته المصري الأصيل!
***
(مدينة أهناسيا - 1989)
تقع تلك المدينة جنوب غرب محافظة بني سويف. ذات صباح، ذهبت مع صديق لي، للجلوس مع شاعر المدينة الشهير وقتها - ومازال - نور سليمان. صعدت إليه في بيته بالدور الثاني. حجرة صغيرة بها شباك يطل على شجرة كافور مزروعة على حافة الترعة. بدأ يسمع مني بإعجاب - ربما مجاملة منه لا أكثر - ما أكتبه من شعر عامية وزجل. بعدما انتهيت من الإلقاء، وانتهى هو من السيجارة التي كانت في يده. سألني: هل قرأت لبيرم التونسي؟ قلت: لا. قال: إذن اذهب إلى مكتبة الهيئة، بجوار سينما قصر ثقافة بني سويف، وستجد دواوينه هناك. من بيته استقللت سيارة أجرة للقصر. اشتريت كل ما وجدته لبيرم التونسي. ركبت سيارة أجرة عائداً لقريتي. صبي السائق يسألني عن الأجرة. وضعت يدي في جيبي، لم أجد ولا مليم. جلست صامتاً دقائق، لا أعرف ماذا أفعل؟ وماذا أقول له؟ بجواري يجلس رجل سبعيني، يرتدي جلباباً بلدياً مهندماً. ضحك وهو يمسك الكتب التي بين يدي، ونظر فيها وهو يقول: "أعمال بيرم التونسي.. وكمان.. دراسة د. يسري العزب عن أزجاله..عظيم والله". ثم هز رأسه، وهو يمد يده ليعطي للصبي حسابه، بعدما أدرك أن ليس معي ما أدفعه له. ثم التفت لي وأعاد الكتب مرة أخرى، وهو يودعني عند محطة الوصول بخطوات مسرعة، حتى غاب عن عيني وسط زحام الناس والسيارات المزعجة.
***
(القاهرة - 2019)
أجلس الآن في دار الأدباء بشارع قصر العيني. بجواري الصديق الكاتب محمد الشافعي. نحضر حفل توقيع كتاب للصديق ناصر النوبي وآخرين. على المنصة الكاتبة نجوى عبد الرحمن المديرة العام لدار "لوتس" للنشر. والدكتور يسري العزب، وبجوارهما شاعر لا أعرفه. بدآ يتبادلان أشعاراً لم أسمعها من قبل، كتبها شاعر سمعت اسمه مرات عديدة، لكنني لم أقرأ أو أسمع شعره. إنه الشاعر الراحل زكي عمر. بعد اللقاء تركت "الشافعي" يكمل الحفل، وجلست معهما في مكتب د. يسري، ليسمعني حكاية هذا الشاعر الكبير الذي نجهله، ولا نعرف عنه إلا القليل. د. يسري في هذا اللقاء كان حزيناً. ومحبطاً، بدرجة شديدة، لأن السفارة الأمريكية بالقاهرة، رفضت - وترفض- لمرات متكررة، السماح له بالسفر إلى أمريكا لرؤية أولاده هناك! الآن هو يتحدث بإعجاب شديد عن الشاعر الذي ظُلم حياً وميتاً "زكي عمر" صاحب قصيدة "مدد - مدد" التي سُرقت منه، كما وضح لي بالدلائل، والوقائع، والمستندات، ونُسبت لشاعر آخر، بالزور والبهتان! كان الرجل يحكي وهو حزين بسبب الظلم الذي تعرض له زكي عمر، بنفس إحساسه بالظلم، والقهر الذي يتعرض له هو نفسه - مع الفارق - من تعنت، وتوحش، وصلف، الإدارة الأمريكية، ومنعه - دون أي أسباب منطقية وموضوعية - من السافر إلى بلد الحريات، في الوقت الذي كان - فيما يبدو - يشعر فيه باقترب ساعة الرحيل وانتهاء الأجل! يومها كنت أُريد أن أحكي له عن ديوان بيرم الذي اشتريته قبل سنوات. وعن سيارة الأجرة. وصبي السائق. والشخص الذي لا أعرفه ولا يعرفنى، ولكنه يعرف بيرم التونسي ويسري العزب، ودفع لي أجرة السيارة، ربما لأنني أحمل بين يدي ديوان شعر يحمل اسميهما معاً. لكن حالة الحزن التي كان عليها الرجل، منعتني من الكلام. بعد دقائق تركته مع الشاعر "عوض الشيخ". وأمامه علبة سجائر أوشكت على النفاد. وعدة أكواب من القهوة والشاي فارغة!
***
(القاهرة - 2020)
أول أمس.. مات المثقف يسري العزب وكان صوته "كلمة". وأمس.. مات الشيخ الطبلاوي وكان صوته.. "كلمة"! هذه الكلمة كانت من أجل مصر!
لقد سافر الشيخ - رحمه الله - للقري، والمدن، والنجوع.. ولف العالم شرقه، وغربه، ليسمع العالم من صوته كلمة.. الله. وليعرف - هذا العالم - أن مصر وطن، بمواهب أبنائه، حالة خاصة فى التاريخ لا تتكرر!
وسافر المثقف يسري العزب - رحمه الله - إلى القرى، والمدن، والنجوع، والكفور، ليسمع ويُسمع العالم أصوات مواهب حقيقية، تقول للعالم إن مصر وطن؛ بمواهب أبنائه، حالة خاصة فى التاريخ، لا تتكرر!
ومن هنا نسأل؛ ألا يستحقان أن تنعيهما مصر - التي عاشا لها - ببيانات رسمية صادرة عن مؤسسات الدولة الحكومية، ولو بكلمات، وسطور قليلة! هذه الكلمات - فيما أظن - ستكون أصيلة، وعظيمة، وجميلة، في معانيها، أمام مصر "الشعبية"- التي نامت ليلة وفاة المثقف حزينة. ونامت ليلة وفاة الشيخ حزينة. لأنها - أي مصر - أحبت الشيخ كما أحبت المثقف! وحزنت بشدة عليهما. هذه الكلمات -أيضاً- ستكون رسالة للعالم بأن مصر -الدولة- لا تنسى، ولا تتجاهل، كل من أعطاها جهده، وفكره، وعرقه، وإبداعه.. حتى.. ولو كان هذا الجهد.. كلمة!

خيري حسن.






https://www.facebook.com/khiry.hasan.1/posts/1599240703564984

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...