صابر رشدي - سعيد الكفراوي.. اللقاء الأخير

منذ إسبوعين تقريبا، نشرت علي صفحتي صورة قديمة مر عليها أكثر من عام ، لزيارة قمنا بها للعم سعيد الكفراوي الكاتب الكبير والصديق العزيز، بمنزله بهضبة المقطم: الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان. والصديق العزيز. رؤوف عبدالحميد وانا. حينها، ظن الكثيرون أنها صورة التقطت حديثا. عندما تقابلنا بعدها قال لي:
وريني الصورة.
أعطيته الهاتف، بدا فرحا كطفل وهو يتأمل حفاوة الأصدقاء به. ثم راح يدقق في الصورة ويبتسم. من جهتي، لم تسعدني هذه الفرحة الغامرة، التي سيطرت عليه. حركت داخلي مشاعر غامضة، إنه يقرأ التعليقات باهتمام غريب، عرفت. أى مدارات يذهب إليها هذا الشيخ الجميل. ولكني ابتلعت غصتي وصمت. نبهته إلى تعليق الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد. الذي كان يتمنى أن يكون معنا في هذه الزيارة.
اقترح علينا عم سعيد زيارته. نقضي يوم معه. ابراهيم عبد المجيد. عبد المنعم رمضان. رؤوف عبدالحميد وانا.
كعادته يقوم رؤوف بأعباء الرحلة بسيارته. ذهب إلى هضبة الاهرام. احضر إبراهيم أولا. ثم مر على منعم بفيصل، ثم أتوا إلى بالجيزة لننطلق جميعا إلى هضبة المقطم .
هناك. فوجئت برؤف يهبط من السيارة ويحضر من الحقيبة الخلفية سياج متحرك خاص بعبد المجيد. يستند اليه بيديه الاثنتين كانت مفاجأة محزنة، كنت أراه يستند إلى " عكاز" بيد واحدة بعد مشاكل ركبته. عندما أمسكت بيده ليتساند على صرخ. كتفه ممزقة، ولكن الأربطة مخفية تحت القميص. وصعدنا الدرج بصعوبة.
عم سعيد الكفراوي. كان في انتظارنا. وحيدا، منطفئا. الرجل ضئيل البنية أصلا، وزنه انخفض كثيرا . ١٧ كيلو كما حدثنا، وزاد عمره عشرون عاما على الأقل في الفترة الأخيرة، كنا في حضرة شبح دمره السرطان. لكن مع مرور الوقت وحديث الذكريات . وتناول قطه الجاتوه والشاى بحليب والقهوة والمياه الغازية. ومحبة رؤوف له وقيامه بكل أعباء تقديم هذه الأشياء كابن له. انه يحفظ تفاصيل البيت جيدا. لكثرة تواصله معه.
الكفراوي. أنهكه موت السيدة أحلام، زوجته الفاضلة، رحلت بهذا المرض اللعين، أيضا، منذ عامين أو ثلاثة تقريبا. أسلمه إلى الهم والانهيار الصحي. واستحالة استكمال المسيرة دون انتكاسات عميقة، ولحظات طافحة بالألم. كانا متحابان، ومتفاهمان على نحو فريد. قضيا معا رحلة الحياة في تناغم روحي يستحق التأمل.
في هذه الجلسة. لاحظت ملامح عم سعيد وهى تنبض بالحياة رويدا رويدا. الوجه يضىء مع ضحكاتنا المشتركة. ويسترد هذه السنوات التي أضافها المرض بقسوة على عاتقه. ذكرياته جميلة دائما . لايسىء لأحد. الرجل واحد من كبار الحكائين في زمننا. يملك كاريزما سحرية في هذا الصدد، صعب مقاطعته أذا انطلق في الحديث بصوته الخفيض وأدائه العذب. بدأ الجميع التنافس في هذا الجانب الجميل من الحياة. كل يعرف اللحظة التي يبدأ فيها بالتقاط الخيط. أوقاتا قليلة. كانت مشاعره تتصاعد فرحة في ليلة مفعمة بالبهجة. بدأ متوهجا. مؤتلقا. ولكن ثمة ومضات حزن خاطف كانت ترتسم على محياه بين حين وآخر. خاصة مع اقتراب رحيلنا عنه. كانت اللحظات تمر ثقيلة. كان لايريدنا الانصراف. امكثوا قليلا. كان يقول.
في النهاية. وعند ذهابنا. تساند ابراهيم عبد المجيد على منعم و رؤوف. واخذني عم سعيد إلى الشرفة الواسعة التي تطل أشجار ونباتات عطرة زرعها بنفسه بحديقة العمارة. قال بحزن : لقد اتفقنا على هذا الأنتريه، انا واحلام ليكون جلسة مريحة بالشرفة ولكن ا البائع أحضره بعد وفاتها بأربعة أيام.
كنت أخر من قام بتوديعه، شعرت بأنه يتمهلني. لمحت في عينيه المزيج المرعب لشعور الفقد والخوف من الوحدة، كان الانطفاء يرخي ظلاله على هذا الوجه الطيب.وكان الزمن ينحت أثاره مرة أخرى. وكانت اللحظة بأكملها تشي بأنه اللقاء الأخير.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...