هنا سيناء أرض الله الخضراء في مصر ، أرض الشعر ، والسحر ، والنخيل ، والجمال ، حيث الصحراء تبدو كطاووس يصدح في بريّة الخلود ، وحيث التلال والسحب المتراكمة يتلألأ قمر الشعر بخيال جامح وطموح ، وهناك حيث المتوسط يصدح البحر لشمخ نخيل يهدر بالحب والبراءة والصمت المقدس النبيل .زانه الشعر : سحابة الوجود وماء الحياة والوجود ، وظل الله على الأرض الخضراء التى يفترشها سعيداً : الانسان والعالم والكون والحياة.
من كل هذا الزخم النورانى أمسك الشعراء بعباءة الشعر الثمينة ورتقوا على فخامتها نقوشهم الصغيرة وتربعت قصيدة النثر – فيما أحسب – صدارة المشهد السيناوى؛وكأنهم وهم المتمسكون بقوة بالتراث والأصالة يقولون للعالم : نحن هنا في برية الخلود نصنع المعاصرة والتمدين ولكن بنكهة الأصالة متدثرين بالموروث واللغة العربية ومعاجم الحب في صحراء سيناء الشاسعة ليقدموا الجديد المتمدين ، والتراثىالمتشرنق بمعاصرة دافقة تندغم مع المنجز العالمىوالعربى للشعرية الجديدة عبر بوابة قصيدة النثر التى تستشرف آفاق الحداثة والكونية والابستمولوجيا لتسبح ويسبح معها الشعراء في سيناء بمصرنا الخالدة في عباءة الشعر العالمى المعاصر ، وحيث الرؤى المغايرة والتحولات التى تنصهر يخرج الشعر في سيناء مقدساً وجميلاً ليدلل الى سيموطيقا الحياة والكون والعالم، وفى هذا الجمال السامق وجدنا شاعرنا الباسق / حسونة فتحى محمد ، يغزل لقصيدة النثر ثوباً مغايراً ، فهو يغزل من صوف روحه عبق الكلمات النورانية الصادحة بالجمال الباذخ الأثير .
وعبر ديوانه : " قصائد فرت من الحرب " يطالعنا الشاعر السيناوى / حسونة فتحىبالكثير من الدهشة المثيرة ، والتفاصيل المشهديةالتى تتوزع عبر ديوانه الأكثر اشراقاً ، كما تتنوع قصائده بين مشهدية الأحداث الصغيرة جداً ، وبين العادى والمألوف اليومى حيث المكان يضفى روعة مغايرة عبر زمانية تكشف عمق اللحظة التىيستشرفها كأفق كونى ممتد ، يقول في قصيدته " شرفة الخامسة صباحاً " : ( النيل يعبر غابة / من كتل خرسانية / كتل خرسانية هائلة / تشق الضباب الكثيف / العابرون / رجل بلا خطايا ليلية / يمارس رياضة الصباح / امرأة تحمل فةق رأسها خبزاً / رجل نظافة يكنس قمامة / وأحلاماً خلّفها المساء)
انه يصور المشهد هنا من شرفته / صباحاً ، حيث حدد الزمكانية عبر العنوان ، وحيث الصورة تشى بمشهدية يلتقطها دون أن يتدخل فيها – سوى الوصف – فالنيل والعابرون وأحلام البسطاء برغيف الخبز ( امرأة تحمل فوق رأسها خبزاً ) مستعيراً " التناصالقرآنى في سورة يوسف عبر براعة التضمين الاستدعائى للقصص القرآنى ، ومع ذلك يحدد الزمانية هنا :" أحلام المساء ، " ليدلل الى الحالة النفسية المجتمعية لأحلام البسطاء كعامل النظافة الذى يسعى لكسب قوته ، وصورة الذى يمارس الرياضة ، وتلك المرأة التىتجىء بالخبز من الفرن وكلها مشاهد مجتمعية تجمع مشهدية النيل ، وعرق الغلابة ومعاناتهم اليومية؛ لنراها كعارفة لبواطن الأمور تحاول أن تسرق روحه قمة الخبز في أرض القاهرة الشاهقة ، لكنه لا يكتف بذلك بل يعود الى ذاته في نهاية النص / القصيدة ليتخير موضع قدمه من هذه المشاهداتية ، يقول : ( وأنا كعمود اضاءة بلا رفيق ..
كحاملة الخبز " .فهو يعود بنا الى الذات / ذاته ، حيث الوحدة وعمود الاضاءة الذى ينير دون جدوى في وجود شمس الصباح ، كذاته المحترقة التى تشبه حاملة الخبز كدليل للمعاناة اليومية والوحدة التى دللت اليها شرفة الحجرة / شرفة العالم والكون والحياة ، تلك التى تطل على نيل القاهرة الممتد .
وفى قصيدته : " زهرة البستان " نجده يؤكد تلك المشهدية ذاتها ، بل ويكرر ذات المكان : " القاهرة " بل وتحديداً في الليل متجاوزاً صباح شرفة النيل الى سمر ليل القاهرة الساهرة متجاوزاً الصورة الوصفية الى مشهدية أكثر اشراقاً حيث المساء يقشّر تفاح الحديث مع فتاة تشبه " كارمن " / الأسطورة البطلة التى تظهر بنكهة العنب ، وتنفض عنها النعاس الشهى ، ومع كل ذلك الجمال وتلك الفتنة نراه وكأنه مازال في الشرفة / شرنقة ذاته / رؤيته للعالم - من بعيد – اذ يصف المشهد مكتفياً بلذة اللحظة التى سرقت قلبه بلحظ عينيها الفاتنتين دون أن يشتبك معها ، يقول : ( المشاهد القاهرية / تغلق الليلة أبوابها / مساء يقشر تفاح الحديث ويصطفى العبارة / الفتاة :ل / ذات الابتسامة قاهرية المشهد / ( تنفض عن عينيها نعاس الوقت ) / تفيض ، مثل كارمن .. بنكهة العنب / ودون أن تدّعى قراءة الطالع / سرقت عيناها / تفاصيل ما خطّ في باطن القلب) .
وعبر قصائده : " القصيرة جداً " : اختفاء ، في عيد الحب ، فراغ ، ندى ، في الصباح ، يشرع شاعرنا في الحكى والوصف والتقاط اللحظة الشعرية الراهنة بفطريتها وعذوبتها ورقتها ووصف تفاصيلها ، دون أن يكون مشاركاً – كذلك – في صنع حدث ما ، أو أن يشتبكمعها ، أو مع الأحداث فقط نراه يبتسم ويسرد الحكايات ، فقط هو يحادثها / يحادث ذاته التخيلية ، يتلذذ معها بالحديث عن سوريالية المعنى دون أن يتداخل في المسرود عنه ، وكأنه يعيد الوصف المشاهداتى من الخارج ليعبر عبر الانزياحات الى الذات المتأملة / الحالمة ، وتلك لعمرى براعة منه كنحلة تصب رحيق زهراتها المختلفة في خلية الذات المتهالكة / الوحيدة / البعيدة / القلقة / العامرة بالحب والشجن والفتون بأنثى الدفء التى ربما لن تجىء ، لذا لا غرو أن نشاهده يتعرى في وقت الظهيرة ليحدثنا عن بحر روحه الهائمة عبر سفينة الحياة التى لا تستقر عند شاطىء ما ، سوى شاطىء الروح / العالم / السدم / اللاميتافيزيقا ، يقول : ( سأتعرى تماماً / من رغبتى في ضحك أو بكاء/مؤكد ../ لن أكون في نعومة بحيرة .. وعذوبة جدول/ أنا المالح القديم الهائج الحل موتاى/ لكننى/ كلما عبرت سفينة / تحمل أحلاماً ورؤساً يانعة
امتصصت ملحى ../ وهدهدت موتاى/ وأعدت سيرتى الأولى/ قطرة ماء / تحنّ لحضن سمائها ).
اذن هو يتعرى من الواقع المادى ليعبر بالواقع الى سماوات وأحلام تمتد الى صيرورة الزمان ، حيث المنشأ الأول : قطرة ماء تحن لحضن السماء الحنون ، وهو هنا يخالف قانون الطبيعة الأولى للانسان المخلوق من ذرة تراب أولاً ، ثم تخلق نطفة في قرار مكين بعد ذلك – ماء مهين - ومع ذلك فهو يقصد الصفاء الذاتى عبر أبستمولوجيا العالم لماء الانسان السيرورى الذى يختلط بالطين لتتشكل عجينة الحياة ، أى أنه يحن الى الكينونة الأولى للانسان الذى يحن الى التراب الذى خلق منه ، ثم الماء الذى أجراه على الطين ، كما يحن الجان الى النار ، الا أنه هنا كائن مائى يحن الى سماوات محلقة عبر عالم الكون ، وفى هذا تعبير أكثر سموقاً واشراقاً وزهواً ينم عن شاعرية تحلق في سماء العالم الممتد للكون الفسيح المترامى الأطراف .
وفى قصيدته : " مشاهد صباحية " – من شعر الهايكو – نلحظ استيلاء الصباح على فؤاد الشاعر ، كما ألمحنا في قصائده من قبل – والصباح كما نعرف يشى بالاشراق والجمال والنور والدفء والسطوع والطزاجةزبكارة الرؤية ، ومع شعر الهايكو الذى يغوص في جماليات الطبيعة ويشى بمفارقات الذات يحيلنا / حسونة فتحى الى بيئته ، الى سيناء – وان لم يصرح باسمها - الى البداوة وقطعان الأغنام ، وصوت الناى ، يقول : ( قطيع الأغنام / يتبع الراعى للبعيد / مستمعون
وعازف ناى متفرد ).
انها مشهدية التصور للطبيعة الساحرة التى تميز شعرية الهايكو عبر المعنى السوريالى/ التجريدى / المشاهداتى / الذهنى ، حيث تبدو الفكرة متحققة عبر الصور المركبة بين المشاهد المتواترة للصحراء وقطيع الأغنان الذى يتبع الراعى في البادية ، والمستمعون لصوت الناى الوحيد الذى تفرد عزفه عبر دوال ومدلولات المعنى السيموطيقىالتخييلى ، وعبر المفارقة التى صنعها صوت الناى – على استحياء غير ملحوظ – ليتماس صوت الناى مع عزف صمت الصحراء الممتد ، وليترك للقارىء فرصة للتأمل والتفكير والتشاركية عبر المكان – في الصحراء – التى تحمل التجريد والتقشف والتصحر والخشونة والحياة القاسية ، وتحمل الأهوال والمخاطر ، والسحر والجمال الزاعق للجمال المتبدى من مشهدية الاتساع الممتد للرمال والجبال والهضاب والسهول الشاسعة ، وحيث شمس الله الساطعة تزعق في سرة الجمال الكونىالالهى الممتد .
وتتوالى مقاطع الهايكو عبر المشاهد الصباحية لنرى شعاع الشمس الذى يتمدد في الخلف بفعل " المواجهة " ، الا أن الظل يتمدد في صمت هنا ، وهى ليست مفارقة بالطبع ، في قوله : ( نواجه الشعاع / فيتمدد الظل خلفنا / صامتاً .)
وأرى المفارقة عبر جمالياتها حين يقول : " يتمدد الظل خلفنا زاعقاً " فهو يجىء بالصورة المعكوسة في أبهى صورها – فيما أظن – لأن الظل من طبيعته الصمت والسكون ،فأن نعطيه الحركة فهى المفارقة بعينها – بالطبع ، وهى احدى مقومات بنائية قصيدة الهايكو كذلك . وتتوالى المقاطع القصيرة للهايكو فيحدثنا عن الفراشة التى تحلق في القريب ، لا لغرض التحليق ، وانما خشية فقد ظلها ، وهنا أبهى صور للمفارقة عبر نسيج الهايكوالتراكبى ، يقول : "فراشة تحلق بالقرب/ربما تخشى فقد ظلها ".ومن جماليات الهايكو ما رأيناه هنا عبر المشاهد الصباحية لصورة الرجل الذى يقاوم الغرق ، بينما السمانة تقاوم الشباك التى نصبها الصياد ، وهذا دليل التوحشّ – عبر المفارقة - ، في فصل الخريف كما ارتأه – وهو مقطع يدلل الى عارف بتفاصيل قصيدة الهايكو الساحرة ، يقول :(الرجل يقاوم الغرق/والسمانة تقاوم الشباك/ تتوحش الكائنات كل خريف) .
وفى المقطع الآخر : " لقلق " نشاهد جماليات المشاهدة والتأمل لطائر اللقلق عبر فعل التحليق فنراه يحصى عدد الطيور ، لكنه يرجىء فعل الاحصاء للقالق ويندغم في جمالية المشاهدة ، وهنا عبر موسيقا حروف القلقلة : " حرف القاف " تتابع النغمات المموسقة فنشعر بجمالية الوصف البديع ، يقول: لقلق/لقلقان/ليس مهماً/سأكتف فقط بجمال المشهد) .انها جماليات الهايكوالتى ينسج عبرها شاعرنا قصائده اللطيفة الممتعة .
وفى النهاية : نحن أمام شاعر يكتب بريشة الجمال قصائده المتتابعة عبر ديوانه : " قصائد فرت من الحرب" والتى تشى بالقوة، ولالإنكسار كذلك، ، وما تم تكديسه بداخلها من رؤى حياتية ممتدة جعلتها واهنة ، أو أنها قصائد تعبر عن التفاصيل الصغيرة للحياتىواليومى وقد أحكم الشاعر سردها بدقة وتكثيف شديدين ، وبدفء وحنو أيضاً ، وبمشاعر هادئة تجاوز الواقع الى أفق العالم والكون والحياة ، وهو الشاعر الذى يغنى للمعنى على أنغام ناى الروح قصة العالم والطبيعة الحانية ، والانسانية أيضاً.
حاتم عبدالهادى السيد
من كل هذا الزخم النورانى أمسك الشعراء بعباءة الشعر الثمينة ورتقوا على فخامتها نقوشهم الصغيرة وتربعت قصيدة النثر – فيما أحسب – صدارة المشهد السيناوى؛وكأنهم وهم المتمسكون بقوة بالتراث والأصالة يقولون للعالم : نحن هنا في برية الخلود نصنع المعاصرة والتمدين ولكن بنكهة الأصالة متدثرين بالموروث واللغة العربية ومعاجم الحب في صحراء سيناء الشاسعة ليقدموا الجديد المتمدين ، والتراثىالمتشرنق بمعاصرة دافقة تندغم مع المنجز العالمىوالعربى للشعرية الجديدة عبر بوابة قصيدة النثر التى تستشرف آفاق الحداثة والكونية والابستمولوجيا لتسبح ويسبح معها الشعراء في سيناء بمصرنا الخالدة في عباءة الشعر العالمى المعاصر ، وحيث الرؤى المغايرة والتحولات التى تنصهر يخرج الشعر في سيناء مقدساً وجميلاً ليدلل الى سيموطيقا الحياة والكون والعالم، وفى هذا الجمال السامق وجدنا شاعرنا الباسق / حسونة فتحى محمد ، يغزل لقصيدة النثر ثوباً مغايراً ، فهو يغزل من صوف روحه عبق الكلمات النورانية الصادحة بالجمال الباذخ الأثير .
وعبر ديوانه : " قصائد فرت من الحرب " يطالعنا الشاعر السيناوى / حسونة فتحىبالكثير من الدهشة المثيرة ، والتفاصيل المشهديةالتى تتوزع عبر ديوانه الأكثر اشراقاً ، كما تتنوع قصائده بين مشهدية الأحداث الصغيرة جداً ، وبين العادى والمألوف اليومى حيث المكان يضفى روعة مغايرة عبر زمانية تكشف عمق اللحظة التىيستشرفها كأفق كونى ممتد ، يقول في قصيدته " شرفة الخامسة صباحاً " : ( النيل يعبر غابة / من كتل خرسانية / كتل خرسانية هائلة / تشق الضباب الكثيف / العابرون / رجل بلا خطايا ليلية / يمارس رياضة الصباح / امرأة تحمل فةق رأسها خبزاً / رجل نظافة يكنس قمامة / وأحلاماً خلّفها المساء)
انه يصور المشهد هنا من شرفته / صباحاً ، حيث حدد الزمكانية عبر العنوان ، وحيث الصورة تشى بمشهدية يلتقطها دون أن يتدخل فيها – سوى الوصف – فالنيل والعابرون وأحلام البسطاء برغيف الخبز ( امرأة تحمل فوق رأسها خبزاً ) مستعيراً " التناصالقرآنى في سورة يوسف عبر براعة التضمين الاستدعائى للقصص القرآنى ، ومع ذلك يحدد الزمانية هنا :" أحلام المساء ، " ليدلل الى الحالة النفسية المجتمعية لأحلام البسطاء كعامل النظافة الذى يسعى لكسب قوته ، وصورة الذى يمارس الرياضة ، وتلك المرأة التىتجىء بالخبز من الفرن وكلها مشاهد مجتمعية تجمع مشهدية النيل ، وعرق الغلابة ومعاناتهم اليومية؛ لنراها كعارفة لبواطن الأمور تحاول أن تسرق روحه قمة الخبز في أرض القاهرة الشاهقة ، لكنه لا يكتف بذلك بل يعود الى ذاته في نهاية النص / القصيدة ليتخير موضع قدمه من هذه المشاهداتية ، يقول : ( وأنا كعمود اضاءة بلا رفيق ..
كحاملة الخبز " .فهو يعود بنا الى الذات / ذاته ، حيث الوحدة وعمود الاضاءة الذى ينير دون جدوى في وجود شمس الصباح ، كذاته المحترقة التى تشبه حاملة الخبز كدليل للمعاناة اليومية والوحدة التى دللت اليها شرفة الحجرة / شرفة العالم والكون والحياة ، تلك التى تطل على نيل القاهرة الممتد .
وفى قصيدته : " زهرة البستان " نجده يؤكد تلك المشهدية ذاتها ، بل ويكرر ذات المكان : " القاهرة " بل وتحديداً في الليل متجاوزاً صباح شرفة النيل الى سمر ليل القاهرة الساهرة متجاوزاً الصورة الوصفية الى مشهدية أكثر اشراقاً حيث المساء يقشّر تفاح الحديث مع فتاة تشبه " كارمن " / الأسطورة البطلة التى تظهر بنكهة العنب ، وتنفض عنها النعاس الشهى ، ومع كل ذلك الجمال وتلك الفتنة نراه وكأنه مازال في الشرفة / شرنقة ذاته / رؤيته للعالم - من بعيد – اذ يصف المشهد مكتفياً بلذة اللحظة التى سرقت قلبه بلحظ عينيها الفاتنتين دون أن يشتبك معها ، يقول : ( المشاهد القاهرية / تغلق الليلة أبوابها / مساء يقشر تفاح الحديث ويصطفى العبارة / الفتاة :ل / ذات الابتسامة قاهرية المشهد / ( تنفض عن عينيها نعاس الوقت ) / تفيض ، مثل كارمن .. بنكهة العنب / ودون أن تدّعى قراءة الطالع / سرقت عيناها / تفاصيل ما خطّ في باطن القلب) .
وعبر قصائده : " القصيرة جداً " : اختفاء ، في عيد الحب ، فراغ ، ندى ، في الصباح ، يشرع شاعرنا في الحكى والوصف والتقاط اللحظة الشعرية الراهنة بفطريتها وعذوبتها ورقتها ووصف تفاصيلها ، دون أن يكون مشاركاً – كذلك – في صنع حدث ما ، أو أن يشتبكمعها ، أو مع الأحداث فقط نراه يبتسم ويسرد الحكايات ، فقط هو يحادثها / يحادث ذاته التخيلية ، يتلذذ معها بالحديث عن سوريالية المعنى دون أن يتداخل في المسرود عنه ، وكأنه يعيد الوصف المشاهداتى من الخارج ليعبر عبر الانزياحات الى الذات المتأملة / الحالمة ، وتلك لعمرى براعة منه كنحلة تصب رحيق زهراتها المختلفة في خلية الذات المتهالكة / الوحيدة / البعيدة / القلقة / العامرة بالحب والشجن والفتون بأنثى الدفء التى ربما لن تجىء ، لذا لا غرو أن نشاهده يتعرى في وقت الظهيرة ليحدثنا عن بحر روحه الهائمة عبر سفينة الحياة التى لا تستقر عند شاطىء ما ، سوى شاطىء الروح / العالم / السدم / اللاميتافيزيقا ، يقول : ( سأتعرى تماماً / من رغبتى في ضحك أو بكاء/مؤكد ../ لن أكون في نعومة بحيرة .. وعذوبة جدول/ أنا المالح القديم الهائج الحل موتاى/ لكننى/ كلما عبرت سفينة / تحمل أحلاماً ورؤساً يانعة
امتصصت ملحى ../ وهدهدت موتاى/ وأعدت سيرتى الأولى/ قطرة ماء / تحنّ لحضن سمائها ).
اذن هو يتعرى من الواقع المادى ليعبر بالواقع الى سماوات وأحلام تمتد الى صيرورة الزمان ، حيث المنشأ الأول : قطرة ماء تحن لحضن السماء الحنون ، وهو هنا يخالف قانون الطبيعة الأولى للانسان المخلوق من ذرة تراب أولاً ، ثم تخلق نطفة في قرار مكين بعد ذلك – ماء مهين - ومع ذلك فهو يقصد الصفاء الذاتى عبر أبستمولوجيا العالم لماء الانسان السيرورى الذى يختلط بالطين لتتشكل عجينة الحياة ، أى أنه يحن الى الكينونة الأولى للانسان الذى يحن الى التراب الذى خلق منه ، ثم الماء الذى أجراه على الطين ، كما يحن الجان الى النار ، الا أنه هنا كائن مائى يحن الى سماوات محلقة عبر عالم الكون ، وفى هذا تعبير أكثر سموقاً واشراقاً وزهواً ينم عن شاعرية تحلق في سماء العالم الممتد للكون الفسيح المترامى الأطراف .
وفى قصيدته : " مشاهد صباحية " – من شعر الهايكو – نلحظ استيلاء الصباح على فؤاد الشاعر ، كما ألمحنا في قصائده من قبل – والصباح كما نعرف يشى بالاشراق والجمال والنور والدفء والسطوع والطزاجةزبكارة الرؤية ، ومع شعر الهايكو الذى يغوص في جماليات الطبيعة ويشى بمفارقات الذات يحيلنا / حسونة فتحى الى بيئته ، الى سيناء – وان لم يصرح باسمها - الى البداوة وقطعان الأغنام ، وصوت الناى ، يقول : ( قطيع الأغنام / يتبع الراعى للبعيد / مستمعون
وعازف ناى متفرد ).
انها مشهدية التصور للطبيعة الساحرة التى تميز شعرية الهايكو عبر المعنى السوريالى/ التجريدى / المشاهداتى / الذهنى ، حيث تبدو الفكرة متحققة عبر الصور المركبة بين المشاهد المتواترة للصحراء وقطيع الأغنان الذى يتبع الراعى في البادية ، والمستمعون لصوت الناى الوحيد الذى تفرد عزفه عبر دوال ومدلولات المعنى السيموطيقىالتخييلى ، وعبر المفارقة التى صنعها صوت الناى – على استحياء غير ملحوظ – ليتماس صوت الناى مع عزف صمت الصحراء الممتد ، وليترك للقارىء فرصة للتأمل والتفكير والتشاركية عبر المكان – في الصحراء – التى تحمل التجريد والتقشف والتصحر والخشونة والحياة القاسية ، وتحمل الأهوال والمخاطر ، والسحر والجمال الزاعق للجمال المتبدى من مشهدية الاتساع الممتد للرمال والجبال والهضاب والسهول الشاسعة ، وحيث شمس الله الساطعة تزعق في سرة الجمال الكونىالالهى الممتد .
وتتوالى مقاطع الهايكو عبر المشاهد الصباحية لنرى شعاع الشمس الذى يتمدد في الخلف بفعل " المواجهة " ، الا أن الظل يتمدد في صمت هنا ، وهى ليست مفارقة بالطبع ، في قوله : ( نواجه الشعاع / فيتمدد الظل خلفنا / صامتاً .)
وأرى المفارقة عبر جمالياتها حين يقول : " يتمدد الظل خلفنا زاعقاً " فهو يجىء بالصورة المعكوسة في أبهى صورها – فيما أظن – لأن الظل من طبيعته الصمت والسكون ،فأن نعطيه الحركة فهى المفارقة بعينها – بالطبع ، وهى احدى مقومات بنائية قصيدة الهايكو كذلك . وتتوالى المقاطع القصيرة للهايكو فيحدثنا عن الفراشة التى تحلق في القريب ، لا لغرض التحليق ، وانما خشية فقد ظلها ، وهنا أبهى صور للمفارقة عبر نسيج الهايكوالتراكبى ، يقول : "فراشة تحلق بالقرب/ربما تخشى فقد ظلها ".ومن جماليات الهايكو ما رأيناه هنا عبر المشاهد الصباحية لصورة الرجل الذى يقاوم الغرق ، بينما السمانة تقاوم الشباك التى نصبها الصياد ، وهذا دليل التوحشّ – عبر المفارقة - ، في فصل الخريف كما ارتأه – وهو مقطع يدلل الى عارف بتفاصيل قصيدة الهايكو الساحرة ، يقول :(الرجل يقاوم الغرق/والسمانة تقاوم الشباك/ تتوحش الكائنات كل خريف) .
وفى المقطع الآخر : " لقلق " نشاهد جماليات المشاهدة والتأمل لطائر اللقلق عبر فعل التحليق فنراه يحصى عدد الطيور ، لكنه يرجىء فعل الاحصاء للقالق ويندغم في جمالية المشاهدة ، وهنا عبر موسيقا حروف القلقلة : " حرف القاف " تتابع النغمات المموسقة فنشعر بجمالية الوصف البديع ، يقول: لقلق/لقلقان/ليس مهماً/سأكتف فقط بجمال المشهد) .انها جماليات الهايكوالتى ينسج عبرها شاعرنا قصائده اللطيفة الممتعة .
وفى النهاية : نحن أمام شاعر يكتب بريشة الجمال قصائده المتتابعة عبر ديوانه : " قصائد فرت من الحرب" والتى تشى بالقوة، ولالإنكسار كذلك، ، وما تم تكديسه بداخلها من رؤى حياتية ممتدة جعلتها واهنة ، أو أنها قصائد تعبر عن التفاصيل الصغيرة للحياتىواليومى وقد أحكم الشاعر سردها بدقة وتكثيف شديدين ، وبدفء وحنو أيضاً ، وبمشاعر هادئة تجاوز الواقع الى أفق العالم والكون والحياة ، وهو الشاعر الذى يغنى للمعنى على أنغام ناى الروح قصة العالم والطبيعة الحانية ، والانسانية أيضاً.
حاتم عبدالهادى السيد