ما يلفت النظر في مجموعة جمعة شنب القصصية "قهوة رديئة"، الصادرة عن الدار الأهليّة بعمّان سنة 2015، هذا الانسجام بين الفكرة والأسلوب، وهو انسجام يعود إلى تعبير المجموعة عن شخصية إبداعية متماسكة، تبحث عن شكل ينهض بالفكرة التي تنشب بأعماقها، خلافاً لكثير من الكتاب الذين يميلون إلى المحاكاة من دون دافع داخلي إبداعي يدفع إلى التجريب على أسس فنية حقيقية. وليس من شك في أن غياب هذه الأسس مرتبط بغياب الشخصية الفنية أو الهوية الإبداعية التي لا تقوم إلاّ على التجربة الحياتية التي تستحيل تجربة فنيّة مقطرة، وعلى موقف متماسك من الحياة والواقع والوجود والطبيعة.
وفرق بين كاتب يلهث وراء المحاكاة، بغية الظهور بمظهر المجدّد الذي يتابع الزيّ والعرض، بدعوى التجريب، تنقصه التجربة والموقف الفكري المتماسك، وكاتب اكتوى بنار التجربة، وقرّ لديه موقف عميق يوجه فكره وإبداعه. ولعلّ هذا المأزق يقع فيه كثير من شداة الأدب، وحتى من الذين طال عليهم الأمد، فتراهم نسخاً مشوهة مكرورة من شعراء لهم هوياتهم أو شخصياتهم الفنية، أو من كتاب قصة أو رواية أو مسرحية امتلكوا أصواتهم وشخصياتهم بامتلاك التجربة والوقف بعد أن تطهروا بنار التجربة الأصيلة.
وما يميّز جمعة شنب في هذه المجموعة القصصية أنه ينحو منحى التجريب، على الرغم من أن قصة" دفتر" التي وردت فيها عبارة" قهوة رديئة" لا تنفلت كثيراً من إسار الواقعية في بنائها وفي مضمونها. ولكنه التجريب الذي يصدر عن موقفه وعن تجربته، وليس محاكاة لأحد، صحيح أنه ينحو نحو الغرائبية والعجائبية في معظم قصصه على اختلاف أشكالها، ولكنها مرتبطة أشد الارتباط بالواقع، وكما قال زهير أبوشايب في كلمته على غلاف المجموعة" بل يذهب إلى المعيش والواقعي دائماً ليتغذّى عليه". وإذا كان من غير المنطقي أو الممكن الربط بين حياة الكاتب أو نفسيته وبين شخوص القصص والأفكار أو الرموز التي تنبني عليها، فإن من الطبيعي أن تكون هذه القصص أشبه بالمرايا التي تعكس ما جرى وما يجري في محيط الكاتب الإنساني على أكثر من مستوى. والكاتب في تجربته الحياتية خبر مستويات للتجربة زماناً ومكاناً، وعرف مستويات للحياة أيضاً ضجّت بشخوص تغني التجربة الفنية وتمدها بأطياف واسعة وصور متعددة، تجعله قادراً بجملة يخطها القلم أن يعبر بكثافة وتركيز عما يحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح.
ولعل جمعة شنب قادر على وضع القارئ في جو من السخرية والإضحاك ما يجعله متميزاً في هذا الباب، وليس من التجاوز إن قلنا إن في هذه المجموعة ما يجعل الإنسان يضحك ملء شدقيه على غير إرادته، لأن جو القصص مسيّج بالجدية حتى التخمة، ولكن هذه الميزة تجعل نص جمعة شنب يجمع الشيء ونقيضه، وكأن القارئ وهو يمارس الضحك، بفعل سخرية جمعة شنب، يستشعر مصيره الإنساني، بل واقعه قبل ذلك، والقوى الفاعلة المؤثرة فيه، ويرى ضآلته في عالمٍ يمارس سحقه واضطهاده، ويرى نفسه في المرآة مناضلاً من أجل الحرية والعدالة وتحقيق ذاته وإنسانيته في عالم يسير بخطا واسعة نحو التشويه والسحق والتدمير.
وقارئ جمعة شنب يجب أن يتسلح بثقافة ووعي وصبر، فبوسعه ان يقرأ نصه على أكثر من مستوى، ولكنه في النهاية مكتنز بدلالات عميقة قد تكشف لك جوانب منها وتبقى جوانب غائرة في الأعماق. لأن الواقع لديه مثلما الغريب والعجيب مرمّز، ومشحون بمرارة التجربة الحياتية والكونية معاً.
وعلى الرغم من طغيان صور التجريب في المجموعة القصصية، فإن هذه القصص تمتاح من الواقع خزّان الذاكرة وحارس الزّمان؛ فهو يتذكر جيران المخيم، ويعيش في تيّار الزمن حياتهم: الشقاء والفتوة والصعلكة والنكد والسرور، على نحو ما نرى في القصة الفاتحة في المجموعة" أولاد الحارة" التي تحيل إلى " أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ وربما بنسب أوضح إلى حكايات حارتنا"، بيد أن الاختلاف أوضح من ان يُشار إليه، فارتباط جمعة شنب بالحارة وشخوصها يبلغ حد التماهي في حين تبدو علاقة نجيب محفوظ بحارته وشخوصها علاقة المراقب من علٍ، يعمد إلى الوصف والنقد والتحليل.
تصور" أولاد الحارة" ما علق بالذاكرة من مأساة، اختزنتها وأنضجتها، لتكون دالة على شقاء هذه الفئة من البشر، فأم فتحي التي رسمها وزوجها رسماً كاريكاتوريّاً، لم تكن تحظى بمحبة الأطفال بسبب طباعها الشرسة، وبسبب الصورة الخيالية عن جشعها واضطهادها لزوجها، ولكن هذه المشاعر السطحية تتغيّر، وتكشف عن مشاعر التماهي الجوهرية، بعد مأساة زوجها محمد الذي لقي مصيره مسحوقاً، بين ذيل الشاحنة وسور معمل الطوب الوحيد في المخيم وهو يهم يتناول بعض حبات البلح من القطف الذي جلبه من العراق." حبيبي يا محمد، ظلت أم فتحي تردد بصوت مبحوح." حبيبتنا يا أم فتحي" رحنا نردّد وراها، ونبكي."(ص 8)
وليس بوسعنا ان ننسى هذه القدرة في التقاط لحظات الغيظ التي قد ترتد إلى عوامل شديدة الأثر، تترجم ما في النفس من توق إلى الاستقامة، وميل إلى الحق والعدالة، فما الذي يجعل شخصاً يتوجه كالسهم إلى بيت أحدهم، لا ليزوره معاتباً أو مؤنباً، ولكن ليفتح حقيبته ويخرج الحذاء ليصفع به وجهه ويعود من حيث أتى ببساطة شديدة. فما بالنا نسرف في التأويل والمسألة قد تبدو أشدّ بساطة، فالرجل صديقه، وهو يصلي ويصوم امتثالاً للأوامر والنواهي، ولكن كل أولئك لم يغيّر من نزقه وتهوره في شيء؛ فلا تستطيع عبادته أن تمنحه السكينة والتسامح والتعقل، وتغدو قشرة خارجية لا تصقل ولا تغيّر. وأهم ما في القصة هذا البناء الذي يقوم على اللقطة السريعة والرشاقة والمفارقة والصدمة:
" حتى لا يكون رفث، ولا فسوق، ولا جدال، كما في الحج، نام الصائم جلال حتى قبل أذان المغرب بدقائق، ثم قام وتوضأ، ودعا، وأفطر، وصلى ثلاثاً، ودخن ستاً، وحمل حقيبة صغيرة، وتوجه إلى بيت صديقه وليد...
دقّ الباب فانشق عن وجه الرجل، ففتح حقيبته، واستلّ فردة حذاء عريضة، وهوى بنعلها على خدّه الأيمن، وانسحب!"( ص57)
وتتجلّى صورة الواقع الذي نألفه كلّ الألفة في صورة غرائبية كلّ الغرابة في قصة بديعة هي قصة" الرجل الطويل"، فالناس في زمن القصة يتسوقون من الدكاكين المنتشرة في الشوارع والأحياء، ومنها دكان أبو سمير الفقيرة التي تفتقر إلى البضائع المنوعة المكدسة، وهذا هو صاحبنا يؤم الدكان بحثاً عن السجائر، فيفاجئه الرجل الطويل الواقف في مواجهة أبي سمير، ذي الشعر الطويل واللحية الطويلة والأظافر الطويلة الذي يقوم بفعل غرائبي يقترن بفعل عجيب. ولعلّ اقتطاف المشهد على طوله يبيّن ملامح من خصائص أسلوب جمعة شنب الذي يجمع بين الرشاقة وخفة الظل والسخرية والغرائبية والعجائبية:
" أمسك بعنقي بإصبعين عظيمين ورفعني، حتى صرت في مواجهة وجهه الكبير وعينيه المغطاتين بجلدة مدوّرة، خمّنت أنها مقتطعة من بطن حمار، أو مؤخرة خنزير مقيت، والذي قال باقتضاب، قبل أن أقول شيئاً:" سأمنحك سجائر" وأجلسني على الرف، مثل قط شوارع.
ومن على الرف، حيث يحس الإنسان بالصغر والتفاهة، رحت أرقبه يفعل ببقية المتسوقين ما فعل بي، حتى امتلأت الرفوف بأناس ذوي حاجات مختلفة، وصادف أن السيدة التي أُجلست جنبي، كانت جاءت تشتري نصف أوقية زعتر، على الحساب، لكن لم يبد عليها أي استياء، من جراء جلوسها على الرف عنوة، وبدا أنها استغلت جلستها في الثرثرة، ابتهاجاً بزعترٍ مجاني، لا يقيّد على دفتر البقّال."( ص 9-10)
ومن الغريب أن يستمر هذا الوضع ساعتين ونصف، مستسلمين خانعين لإرادة الرجل الطويل الذي لبى مطالبهم المادية الرخيصة، وحين يحل المساء يمسك الرجل الطويل بأبي سمير ويسير به، فيتقافز الجميع من أماكنهم، ويتطوع رجل بأن يجعلهم يصطفون في طابور ويسير بهم وراء الرجل الطويل ليلبي مطالبهم، ولا ندري ما تلك المطالب، سوى أنها تعبير عن فقدان كامل للإرادة والحرية والإنسانية، فكم هم مجوّفون بلا حرية ولا إرادة، ينتظرون، في خنوع، من يقودهم إلى أيّ مصير مجهول. وهذه القصة رمزيّة بامتياز تتقاطع مع كثير من قصص هذه المجموعة من مثل قصة" حافلة" " ركب سبعة وأربعون شخصاً، هم عمال ومحاسبو وإداريو شركة الأناقة واللياقة، حافلة الأفراح والليالي الملاح، من محطة الركبة، متجهين صوب محطة النكبة." كان من المفترض أن يتجه نحو الشمال الغربي، فإذا به يتجه صوب الجنوب الشرقي، تقطع المسافة عادة في عشرين دقيقة، وها هو الآن بعد أربعين دقيقة يسير بسرعة غيرمألوفة في الطريق السريع، ولم يتحدث أي من الركاب إلى السائق ذي الياقة المنشاة وربطة العنق الأنيقة، واكتفوا بالهمهمة، وراحوا يسوّغون ما يفعل. هذا يقول" لابد أنه يوم ترفيهي" وأغلب الركاب يلعنون الشيطان الذي وسوس في صدورهم، وتمتع بعضهم بالنوم، والسيدة الأربعينية التي تقيأت توعدها مدير المبيعات بسوء في الغد، والفتاة حديثة التخرج التي أغمي عليها" حملها رجلان متينان، وألقيا بها من النافذة، حرصاً على ألاّ يشعر بهما أحد."
فهذا هو المشهد الذي يصور سلوك القطيع وهم يقادون إلى نهايتهم مستسلمين خانعين لا يفارقون جبنهم ونفاقهم، ما يذكر بالقائد الفاشل أبي الخيزران سائق الصهريج، والرجال الثلاثة في الشمس الذين ماتوا في خزانه دون حراك وألقى بهم في مكان القمامة في رائعة غسان كنفاني:
"وتكتل في المقاعد الخلفية تسعة رجال ونساء، راحوا يثنون على مهارة السائق، وخبرته العالية في القيادة على الطرق السريعة. حتى قال واحد، كان يجلس في الوسط، بصوتٍ خفيض:" نحن على حافة جرف هار" فقام واحد من ركاب المقعد الخلفي ليصفعه، ويقضم أذنه، لكنه، قبل أن يصله، رأى السائق يقف من على كرسيه، ويمد جذعه من النافذة الواسعة، فهمهم:" ما أحسن سائقنا!! إنه يتفحص المشهد بنفسه، قبل أن يطلب منا النظر والتمتع." راحت الحافلة تهوي في الجرف العميق، وأخذ بعض الركاب يذكّر الناس بنفاذ قدرة الله ومشيئته، واستجمع آخر شتات روحه، وبشّرهم بالشهادة، فأغمضوا عيونهم، وماتوا!!"(ص14)
وفارق كبير بين جدية المشهد في " رجال في الشمس" والسخرية العميقة في مشهد النهاية في هذه القصة، وعبثية الموقف بين سائق يهم بالنجاة منفرداً بعد أن أورد من يقودهم مورد الهلاك، ومنافق يثني على موقفه الجمعي المزعوم. إنها التراجيكوميديا بامتياز.
ولعلً قصة" خمر" كذلك، تصوّر عقلية القطيع، فهم يسيرون إلى حتفهم غير متدبرين أو متعقلين، حتى لو كان من الذي يشرب من الأنبوب يموت حالاً، والكل مصدقٌ انه يشرب الخمر لا الكلور.(ص 89)
جمعة شنب في"قهوة رديئة" منغمس في هم الإنسان في الحياة والواقع الذي ينبثق من تفاصيل الحياة اليومية، وهو همٌّ وهمي إذا عاينه القراء من هذه الزاوية الضيّقة، ولكن المتمعن فيه يرى أنه هم الإنسان في نظرته إلى الواقع والكون والوجود، فالإنسان في رحلة الميلاد والنشأة والمصير يعيش لحظات العبث والتفاهة وسؤال الهوية والموت والمعاد، إذ تختلط السحرية والعجائبية وتماهي أدوار الموت والحياة، فكأن لا شيء متعين أو ممسوك في الزمن المعيش، كل شيء قابلٌ للتحقق، ولا شيء متحققٌ فعلاً.
ففي قصة" قصة رجل نظيف" تجد الشخصية نظيفاً كيوم ولدته أمه، يمكن أن يكون نقيّاً، لم يكدر فكره ولا سلوكه ولا صفاته أي مكدّر، وإلى هنا يبدو الحدث واقعياً أو معقولاً، إلى أن يأتي من يفصل الطبقة العليا من جمجمته بحذق ودراية، ويدخل فيها رقاقة أنيقة، ويعيد الجمجمة سيرتها الأولى، ويصفعه على وجنتيه، فوقف الرجل النظيف وراح يردد" خارطة طريق، خارطة طريق" وكأنه الرجل الآلي، وكأن إنسانيته قد مسختها الحياة الجديدة:
" وعندما مشى في الشارع، ولم يعد يعرف أحداً- بالطبع- فيما كانوا يعرفونه كلهم. ناداه أحدهم باسم غوّاش، فنظر إليه ببلاهة، تشبه بلاهتَه ساعة صحوه، وتابع سيره على هدي الخارطة."(ص83) وقد استخدم من الصور والأوصاف ما ينسجم وهذا الجو الغرائبي الأليجوري، هذا الجو المفعم بالسحر والتأمل والغرابة المعبر عن تفاهة الناس والأشياء.
وتصور"كلاب" انسحاق الإنسان وهشاشته ضحية وجلاداً، وتصور البعد العدمي والعبثي في رؤية السارد للحياة، وتصور عتبة العنوان البعد الرمزي في الكلاب رمزاً وواقعاً، في إطار الغرائبية حين يعي الميت على حاله بعد الموت:"عندما صحوت وجدتني ميتاً على الرصيف، وكان كلبان كبيران ينبحان حولي، فيما جرؤت بعض القطط على مزاحمة تسعة عشر كلباً تنهش لحمي، فأغمضت عينيّ المتورمتين، وتابعت الموت."(ص85)
وتبلغ قصة " الضحك" مداها في السخرية من الحياة الإنسانية وانسحاقها أمام الطغيان، وكان ثمة تنافس شديد في تحقيق الأرقام القياسية في تحقيق الأجهزة الأمنية ذاتها. كانت المراقبة تحقق درجة مثالية في أن تُحصي على الناس أنفاسهم، فتحقق القضاء على الرجل الذي يضحك، وهنا المغزى؛ إذ إن لحظات السعادة محرمة وعقوبتها الإعدام، لقد أعدمته الفرقة بسرعة قياسية. وإلى هنا يبدو الأمر في سياقه المعلوم، لكن الغرابة تبدو في الذين أقسموا قسم أبقراط: أطباء التشريح الخمسة الذين كان تقريرهم في خدمة الطغاة الذين يعدمون الفرح أنّى كان:" بعد دقيقتين كان الأطباء الخمسة الشيّب الوقورون يوقعون على نتيجة التشريح: إن المواطن2236573 كان تناول حبوب ضحك، مصدرها دولة معادية. تم إحراق الجثة والتخلص من رمادها."(ص88)، ولك أن تتأول معنى التخلص حتى من الرماد.
وحين يتأمل الكاتب في الحياة الإنسانية في قصة" رياضة صباحيّة"(ص91) ويرى المفارقة بين استجابة شخص لنصيحة طبيب في ممارسة الرياضة الصباحية وبين ورود خاطر في رأسه يجعله يشك في نصيحة الطبيب الذي قد يعاني هو من مجموعة من الأمراض، المتوقع ان تكون هذه آخر رياضة صباحية انسجاماً مع قراره، ولكن القدر هو الذي ختم حياته في حفرة عميقة، وكأنها الملهاة الإنسانية أمام المصير المحتوم.
وفي هذا الاتجاه تبلغ المأساة الإنسانية ذروتها في "المحكمة"(93) التي تبدو أقرب إلى المسلاة أي المأساة الملهاة(التراجيكوميديا)، فالجريمة في غاية البشاعة ومسوغاتها ،على إثارتها للضيق والقرف، مضحكة جداً. يعترف بكل بساطة وكأنه فعل شيئاً لا يحاسب عليه.
وتبدو قصة" بديعة" ذات الحبكة البوليسية أقرب ما تكون إلى القصص الواقعية ذات النكهة النفسية، تمثل الاستلاب والارتهان إلى فاعل تنتهي بخيبة أمل. وهي تقوم على زواج مازن المتخرج من الجامعة حديثاً من بديعة المطلقة التي تكبره عشر سنين، وعاش في ظلها باباً يحول دون الكلاب، امرأة قبيحة بشعة ولكنها تملك المال، أحس بالمهانة والإذلال، فقرر أن يقتلها ويسافر فوراً إلى اوكرانيا حيث الحياة الجميلة الموعودة، ولكنه عند التنفيذ لم يجدها، قد تكون غادرت لبعض الوقت وقد تكون تخلت عنه إلى الأبد:" أشعل النور، واقترب من السرير، قرأ ورقة كتب عليها:" أراك غداً"، وبجانبها ورقة نقد مجزية"(ص101)
ولا تخرج قصة" خلاص"(103) القصة الخاتمة عن القصة السابقة في اتجاهها نحو الواقعية ذات الأمشاج النفسية، وهي في رسمها لملامح الشخصية ولغتها وللصور اللغوية والبلاغية تذكر باتجاه القصة الواقعية. وهي أقرب إلى المونولوج تبدي فيه الحبيبة رأيها في حبيبها الذي استحوذ على شخصيتها تماماً فباتت ترى نفسها في سجن، رأته يحبس فكرها وموقفها وكيانها، فقررت أن تنهي العلاقة، ففاجأها بأن طلب يدها للزواج فرفضته بكل قوة، وبحدة غير متوقعة، ما الذي جعلها وهي العانس ترفض الزواج، وما الذي جعلها وهي الخانعة تثور في وجه أمها ثورة الجنون!. لقد كان البحث عن الهوية مفتاح تصرفاتها.
وفي " ومضات" تظهر ملامح القصص القصيرة جداً على نحو مركز، تتكثف فيها الحادثة أو صورة الشخصية، إذ تقوم معظم هذه الومضات على المفارقة، وتعاين، في تركيز شديد، الموقف من الحياة والزمن والمصير والوجود وتحولات النفس، وتظهر ألواناً من التقنية البارعة.
إن هذه المجموعة، بحق، إضافة حقيقية لفن القصة القصيرة العربية في تحولاتها المعاصرة، تستحق أن تتناولها دراسات أخرى تفصيلية معمقة
وفرق بين كاتب يلهث وراء المحاكاة، بغية الظهور بمظهر المجدّد الذي يتابع الزيّ والعرض، بدعوى التجريب، تنقصه التجربة والموقف الفكري المتماسك، وكاتب اكتوى بنار التجربة، وقرّ لديه موقف عميق يوجه فكره وإبداعه. ولعلّ هذا المأزق يقع فيه كثير من شداة الأدب، وحتى من الذين طال عليهم الأمد، فتراهم نسخاً مشوهة مكرورة من شعراء لهم هوياتهم أو شخصياتهم الفنية، أو من كتاب قصة أو رواية أو مسرحية امتلكوا أصواتهم وشخصياتهم بامتلاك التجربة والوقف بعد أن تطهروا بنار التجربة الأصيلة.
وما يميّز جمعة شنب في هذه المجموعة القصصية أنه ينحو منحى التجريب، على الرغم من أن قصة" دفتر" التي وردت فيها عبارة" قهوة رديئة" لا تنفلت كثيراً من إسار الواقعية في بنائها وفي مضمونها. ولكنه التجريب الذي يصدر عن موقفه وعن تجربته، وليس محاكاة لأحد، صحيح أنه ينحو نحو الغرائبية والعجائبية في معظم قصصه على اختلاف أشكالها، ولكنها مرتبطة أشد الارتباط بالواقع، وكما قال زهير أبوشايب في كلمته على غلاف المجموعة" بل يذهب إلى المعيش والواقعي دائماً ليتغذّى عليه". وإذا كان من غير المنطقي أو الممكن الربط بين حياة الكاتب أو نفسيته وبين شخوص القصص والأفكار أو الرموز التي تنبني عليها، فإن من الطبيعي أن تكون هذه القصص أشبه بالمرايا التي تعكس ما جرى وما يجري في محيط الكاتب الإنساني على أكثر من مستوى. والكاتب في تجربته الحياتية خبر مستويات للتجربة زماناً ومكاناً، وعرف مستويات للحياة أيضاً ضجّت بشخوص تغني التجربة الفنية وتمدها بأطياف واسعة وصور متعددة، تجعله قادراً بجملة يخطها القلم أن يعبر بكثافة وتركيز عما يحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح.
ولعل جمعة شنب قادر على وضع القارئ في جو من السخرية والإضحاك ما يجعله متميزاً في هذا الباب، وليس من التجاوز إن قلنا إن في هذه المجموعة ما يجعل الإنسان يضحك ملء شدقيه على غير إرادته، لأن جو القصص مسيّج بالجدية حتى التخمة، ولكن هذه الميزة تجعل نص جمعة شنب يجمع الشيء ونقيضه، وكأن القارئ وهو يمارس الضحك، بفعل سخرية جمعة شنب، يستشعر مصيره الإنساني، بل واقعه قبل ذلك، والقوى الفاعلة المؤثرة فيه، ويرى ضآلته في عالمٍ يمارس سحقه واضطهاده، ويرى نفسه في المرآة مناضلاً من أجل الحرية والعدالة وتحقيق ذاته وإنسانيته في عالم يسير بخطا واسعة نحو التشويه والسحق والتدمير.
وقارئ جمعة شنب يجب أن يتسلح بثقافة ووعي وصبر، فبوسعه ان يقرأ نصه على أكثر من مستوى، ولكنه في النهاية مكتنز بدلالات عميقة قد تكشف لك جوانب منها وتبقى جوانب غائرة في الأعماق. لأن الواقع لديه مثلما الغريب والعجيب مرمّز، ومشحون بمرارة التجربة الحياتية والكونية معاً.
وعلى الرغم من طغيان صور التجريب في المجموعة القصصية، فإن هذه القصص تمتاح من الواقع خزّان الذاكرة وحارس الزّمان؛ فهو يتذكر جيران المخيم، ويعيش في تيّار الزمن حياتهم: الشقاء والفتوة والصعلكة والنكد والسرور، على نحو ما نرى في القصة الفاتحة في المجموعة" أولاد الحارة" التي تحيل إلى " أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ وربما بنسب أوضح إلى حكايات حارتنا"، بيد أن الاختلاف أوضح من ان يُشار إليه، فارتباط جمعة شنب بالحارة وشخوصها يبلغ حد التماهي في حين تبدو علاقة نجيب محفوظ بحارته وشخوصها علاقة المراقب من علٍ، يعمد إلى الوصف والنقد والتحليل.
تصور" أولاد الحارة" ما علق بالذاكرة من مأساة، اختزنتها وأنضجتها، لتكون دالة على شقاء هذه الفئة من البشر، فأم فتحي التي رسمها وزوجها رسماً كاريكاتوريّاً، لم تكن تحظى بمحبة الأطفال بسبب طباعها الشرسة، وبسبب الصورة الخيالية عن جشعها واضطهادها لزوجها، ولكن هذه المشاعر السطحية تتغيّر، وتكشف عن مشاعر التماهي الجوهرية، بعد مأساة زوجها محمد الذي لقي مصيره مسحوقاً، بين ذيل الشاحنة وسور معمل الطوب الوحيد في المخيم وهو يهم يتناول بعض حبات البلح من القطف الذي جلبه من العراق." حبيبي يا محمد، ظلت أم فتحي تردد بصوت مبحوح." حبيبتنا يا أم فتحي" رحنا نردّد وراها، ونبكي."(ص 8)
وليس بوسعنا ان ننسى هذه القدرة في التقاط لحظات الغيظ التي قد ترتد إلى عوامل شديدة الأثر، تترجم ما في النفس من توق إلى الاستقامة، وميل إلى الحق والعدالة، فما الذي يجعل شخصاً يتوجه كالسهم إلى بيت أحدهم، لا ليزوره معاتباً أو مؤنباً، ولكن ليفتح حقيبته ويخرج الحذاء ليصفع به وجهه ويعود من حيث أتى ببساطة شديدة. فما بالنا نسرف في التأويل والمسألة قد تبدو أشدّ بساطة، فالرجل صديقه، وهو يصلي ويصوم امتثالاً للأوامر والنواهي، ولكن كل أولئك لم يغيّر من نزقه وتهوره في شيء؛ فلا تستطيع عبادته أن تمنحه السكينة والتسامح والتعقل، وتغدو قشرة خارجية لا تصقل ولا تغيّر. وأهم ما في القصة هذا البناء الذي يقوم على اللقطة السريعة والرشاقة والمفارقة والصدمة:
" حتى لا يكون رفث، ولا فسوق، ولا جدال، كما في الحج، نام الصائم جلال حتى قبل أذان المغرب بدقائق، ثم قام وتوضأ، ودعا، وأفطر، وصلى ثلاثاً، ودخن ستاً، وحمل حقيبة صغيرة، وتوجه إلى بيت صديقه وليد...
دقّ الباب فانشق عن وجه الرجل، ففتح حقيبته، واستلّ فردة حذاء عريضة، وهوى بنعلها على خدّه الأيمن، وانسحب!"( ص57)
وتتجلّى صورة الواقع الذي نألفه كلّ الألفة في صورة غرائبية كلّ الغرابة في قصة بديعة هي قصة" الرجل الطويل"، فالناس في زمن القصة يتسوقون من الدكاكين المنتشرة في الشوارع والأحياء، ومنها دكان أبو سمير الفقيرة التي تفتقر إلى البضائع المنوعة المكدسة، وهذا هو صاحبنا يؤم الدكان بحثاً عن السجائر، فيفاجئه الرجل الطويل الواقف في مواجهة أبي سمير، ذي الشعر الطويل واللحية الطويلة والأظافر الطويلة الذي يقوم بفعل غرائبي يقترن بفعل عجيب. ولعلّ اقتطاف المشهد على طوله يبيّن ملامح من خصائص أسلوب جمعة شنب الذي يجمع بين الرشاقة وخفة الظل والسخرية والغرائبية والعجائبية:
" أمسك بعنقي بإصبعين عظيمين ورفعني، حتى صرت في مواجهة وجهه الكبير وعينيه المغطاتين بجلدة مدوّرة، خمّنت أنها مقتطعة من بطن حمار، أو مؤخرة خنزير مقيت، والذي قال باقتضاب، قبل أن أقول شيئاً:" سأمنحك سجائر" وأجلسني على الرف، مثل قط شوارع.
ومن على الرف، حيث يحس الإنسان بالصغر والتفاهة، رحت أرقبه يفعل ببقية المتسوقين ما فعل بي، حتى امتلأت الرفوف بأناس ذوي حاجات مختلفة، وصادف أن السيدة التي أُجلست جنبي، كانت جاءت تشتري نصف أوقية زعتر، على الحساب، لكن لم يبد عليها أي استياء، من جراء جلوسها على الرف عنوة، وبدا أنها استغلت جلستها في الثرثرة، ابتهاجاً بزعترٍ مجاني، لا يقيّد على دفتر البقّال."( ص 9-10)
ومن الغريب أن يستمر هذا الوضع ساعتين ونصف، مستسلمين خانعين لإرادة الرجل الطويل الذي لبى مطالبهم المادية الرخيصة، وحين يحل المساء يمسك الرجل الطويل بأبي سمير ويسير به، فيتقافز الجميع من أماكنهم، ويتطوع رجل بأن يجعلهم يصطفون في طابور ويسير بهم وراء الرجل الطويل ليلبي مطالبهم، ولا ندري ما تلك المطالب، سوى أنها تعبير عن فقدان كامل للإرادة والحرية والإنسانية، فكم هم مجوّفون بلا حرية ولا إرادة، ينتظرون، في خنوع، من يقودهم إلى أيّ مصير مجهول. وهذه القصة رمزيّة بامتياز تتقاطع مع كثير من قصص هذه المجموعة من مثل قصة" حافلة" " ركب سبعة وأربعون شخصاً، هم عمال ومحاسبو وإداريو شركة الأناقة واللياقة، حافلة الأفراح والليالي الملاح، من محطة الركبة، متجهين صوب محطة النكبة." كان من المفترض أن يتجه نحو الشمال الغربي، فإذا به يتجه صوب الجنوب الشرقي، تقطع المسافة عادة في عشرين دقيقة، وها هو الآن بعد أربعين دقيقة يسير بسرعة غيرمألوفة في الطريق السريع، ولم يتحدث أي من الركاب إلى السائق ذي الياقة المنشاة وربطة العنق الأنيقة، واكتفوا بالهمهمة، وراحوا يسوّغون ما يفعل. هذا يقول" لابد أنه يوم ترفيهي" وأغلب الركاب يلعنون الشيطان الذي وسوس في صدورهم، وتمتع بعضهم بالنوم، والسيدة الأربعينية التي تقيأت توعدها مدير المبيعات بسوء في الغد، والفتاة حديثة التخرج التي أغمي عليها" حملها رجلان متينان، وألقيا بها من النافذة، حرصاً على ألاّ يشعر بهما أحد."
فهذا هو المشهد الذي يصور سلوك القطيع وهم يقادون إلى نهايتهم مستسلمين خانعين لا يفارقون جبنهم ونفاقهم، ما يذكر بالقائد الفاشل أبي الخيزران سائق الصهريج، والرجال الثلاثة في الشمس الذين ماتوا في خزانه دون حراك وألقى بهم في مكان القمامة في رائعة غسان كنفاني:
"وتكتل في المقاعد الخلفية تسعة رجال ونساء، راحوا يثنون على مهارة السائق، وخبرته العالية في القيادة على الطرق السريعة. حتى قال واحد، كان يجلس في الوسط، بصوتٍ خفيض:" نحن على حافة جرف هار" فقام واحد من ركاب المقعد الخلفي ليصفعه، ويقضم أذنه، لكنه، قبل أن يصله، رأى السائق يقف من على كرسيه، ويمد جذعه من النافذة الواسعة، فهمهم:" ما أحسن سائقنا!! إنه يتفحص المشهد بنفسه، قبل أن يطلب منا النظر والتمتع." راحت الحافلة تهوي في الجرف العميق، وأخذ بعض الركاب يذكّر الناس بنفاذ قدرة الله ومشيئته، واستجمع آخر شتات روحه، وبشّرهم بالشهادة، فأغمضوا عيونهم، وماتوا!!"(ص14)
وفارق كبير بين جدية المشهد في " رجال في الشمس" والسخرية العميقة في مشهد النهاية في هذه القصة، وعبثية الموقف بين سائق يهم بالنجاة منفرداً بعد أن أورد من يقودهم مورد الهلاك، ومنافق يثني على موقفه الجمعي المزعوم. إنها التراجيكوميديا بامتياز.
ولعلً قصة" خمر" كذلك، تصوّر عقلية القطيع، فهم يسيرون إلى حتفهم غير متدبرين أو متعقلين، حتى لو كان من الذي يشرب من الأنبوب يموت حالاً، والكل مصدقٌ انه يشرب الخمر لا الكلور.(ص 89)
جمعة شنب في"قهوة رديئة" منغمس في هم الإنسان في الحياة والواقع الذي ينبثق من تفاصيل الحياة اليومية، وهو همٌّ وهمي إذا عاينه القراء من هذه الزاوية الضيّقة، ولكن المتمعن فيه يرى أنه هم الإنسان في نظرته إلى الواقع والكون والوجود، فالإنسان في رحلة الميلاد والنشأة والمصير يعيش لحظات العبث والتفاهة وسؤال الهوية والموت والمعاد، إذ تختلط السحرية والعجائبية وتماهي أدوار الموت والحياة، فكأن لا شيء متعين أو ممسوك في الزمن المعيش، كل شيء قابلٌ للتحقق، ولا شيء متحققٌ فعلاً.
ففي قصة" قصة رجل نظيف" تجد الشخصية نظيفاً كيوم ولدته أمه، يمكن أن يكون نقيّاً، لم يكدر فكره ولا سلوكه ولا صفاته أي مكدّر، وإلى هنا يبدو الحدث واقعياً أو معقولاً، إلى أن يأتي من يفصل الطبقة العليا من جمجمته بحذق ودراية، ويدخل فيها رقاقة أنيقة، ويعيد الجمجمة سيرتها الأولى، ويصفعه على وجنتيه، فوقف الرجل النظيف وراح يردد" خارطة طريق، خارطة طريق" وكأنه الرجل الآلي، وكأن إنسانيته قد مسختها الحياة الجديدة:
" وعندما مشى في الشارع، ولم يعد يعرف أحداً- بالطبع- فيما كانوا يعرفونه كلهم. ناداه أحدهم باسم غوّاش، فنظر إليه ببلاهة، تشبه بلاهتَه ساعة صحوه، وتابع سيره على هدي الخارطة."(ص83) وقد استخدم من الصور والأوصاف ما ينسجم وهذا الجو الغرائبي الأليجوري، هذا الجو المفعم بالسحر والتأمل والغرابة المعبر عن تفاهة الناس والأشياء.
وتصور"كلاب" انسحاق الإنسان وهشاشته ضحية وجلاداً، وتصور البعد العدمي والعبثي في رؤية السارد للحياة، وتصور عتبة العنوان البعد الرمزي في الكلاب رمزاً وواقعاً، في إطار الغرائبية حين يعي الميت على حاله بعد الموت:"عندما صحوت وجدتني ميتاً على الرصيف، وكان كلبان كبيران ينبحان حولي، فيما جرؤت بعض القطط على مزاحمة تسعة عشر كلباً تنهش لحمي، فأغمضت عينيّ المتورمتين، وتابعت الموت."(ص85)
وتبلغ قصة " الضحك" مداها في السخرية من الحياة الإنسانية وانسحاقها أمام الطغيان، وكان ثمة تنافس شديد في تحقيق الأرقام القياسية في تحقيق الأجهزة الأمنية ذاتها. كانت المراقبة تحقق درجة مثالية في أن تُحصي على الناس أنفاسهم، فتحقق القضاء على الرجل الذي يضحك، وهنا المغزى؛ إذ إن لحظات السعادة محرمة وعقوبتها الإعدام، لقد أعدمته الفرقة بسرعة قياسية. وإلى هنا يبدو الأمر في سياقه المعلوم، لكن الغرابة تبدو في الذين أقسموا قسم أبقراط: أطباء التشريح الخمسة الذين كان تقريرهم في خدمة الطغاة الذين يعدمون الفرح أنّى كان:" بعد دقيقتين كان الأطباء الخمسة الشيّب الوقورون يوقعون على نتيجة التشريح: إن المواطن2236573 كان تناول حبوب ضحك، مصدرها دولة معادية. تم إحراق الجثة والتخلص من رمادها."(ص88)، ولك أن تتأول معنى التخلص حتى من الرماد.
وحين يتأمل الكاتب في الحياة الإنسانية في قصة" رياضة صباحيّة"(ص91) ويرى المفارقة بين استجابة شخص لنصيحة طبيب في ممارسة الرياضة الصباحية وبين ورود خاطر في رأسه يجعله يشك في نصيحة الطبيب الذي قد يعاني هو من مجموعة من الأمراض، المتوقع ان تكون هذه آخر رياضة صباحية انسجاماً مع قراره، ولكن القدر هو الذي ختم حياته في حفرة عميقة، وكأنها الملهاة الإنسانية أمام المصير المحتوم.
وفي هذا الاتجاه تبلغ المأساة الإنسانية ذروتها في "المحكمة"(93) التي تبدو أقرب إلى المسلاة أي المأساة الملهاة(التراجيكوميديا)، فالجريمة في غاية البشاعة ومسوغاتها ،على إثارتها للضيق والقرف، مضحكة جداً. يعترف بكل بساطة وكأنه فعل شيئاً لا يحاسب عليه.
وتبدو قصة" بديعة" ذات الحبكة البوليسية أقرب ما تكون إلى القصص الواقعية ذات النكهة النفسية، تمثل الاستلاب والارتهان إلى فاعل تنتهي بخيبة أمل. وهي تقوم على زواج مازن المتخرج من الجامعة حديثاً من بديعة المطلقة التي تكبره عشر سنين، وعاش في ظلها باباً يحول دون الكلاب، امرأة قبيحة بشعة ولكنها تملك المال، أحس بالمهانة والإذلال، فقرر أن يقتلها ويسافر فوراً إلى اوكرانيا حيث الحياة الجميلة الموعودة، ولكنه عند التنفيذ لم يجدها، قد تكون غادرت لبعض الوقت وقد تكون تخلت عنه إلى الأبد:" أشعل النور، واقترب من السرير، قرأ ورقة كتب عليها:" أراك غداً"، وبجانبها ورقة نقد مجزية"(ص101)
ولا تخرج قصة" خلاص"(103) القصة الخاتمة عن القصة السابقة في اتجاهها نحو الواقعية ذات الأمشاج النفسية، وهي في رسمها لملامح الشخصية ولغتها وللصور اللغوية والبلاغية تذكر باتجاه القصة الواقعية. وهي أقرب إلى المونولوج تبدي فيه الحبيبة رأيها في حبيبها الذي استحوذ على شخصيتها تماماً فباتت ترى نفسها في سجن، رأته يحبس فكرها وموقفها وكيانها، فقررت أن تنهي العلاقة، ففاجأها بأن طلب يدها للزواج فرفضته بكل قوة، وبحدة غير متوقعة، ما الذي جعلها وهي العانس ترفض الزواج، وما الذي جعلها وهي الخانعة تثور في وجه أمها ثورة الجنون!. لقد كان البحث عن الهوية مفتاح تصرفاتها.
وفي " ومضات" تظهر ملامح القصص القصيرة جداً على نحو مركز، تتكثف فيها الحادثة أو صورة الشخصية، إذ تقوم معظم هذه الومضات على المفارقة، وتعاين، في تركيز شديد، الموقف من الحياة والزمن والمصير والوجود وتحولات النفس، وتظهر ألواناً من التقنية البارعة.
إن هذه المجموعة، بحق، إضافة حقيقية لفن القصة القصيرة العربية في تحولاتها المعاصرة، تستحق أن تتناولها دراسات أخرى تفصيلية معمقة