أمل الكردفاني- أنواع الحقائق

ما هي الحقيقة؟
هناك كم هائل من المؤلفات الفلسفية حاولت إجابة هذا السؤال. وقد ثبت أن المنطق بشقيه (الصوري والرمزي) لا يعين على فهم ماهية الحقيقة. الحقيقة نفسها، الحقيقة الجمالية، الحقيقة الأخلاقية، السوسيولوجية ألخ.
ولكن هنا سأتحدث عن نوعين من الحقيقة:
الحقيقة الواقعية، والحقيقة القانونية.

في فيلم أمريكي عن محامي كبير، حكى المتهم لهذا المحامي الجريمة، ثم قال للمحامي في آخر القصة:
- ولكن باعتبارك محاميّ فسأحكي لك القصة الحقيقية للجريمة.
أوقفه المحامي وقال:
- لا تحكي.. الحقيقة هي تلك التي نصنعها نحن..
كان المحامي هنا يقصد الحقيقة القانونية، والتي قد تكون بعيدة كل البعد عن الحقيقة الواقعية. فما هي الحقيقة القانونية، وكيف يمكن لها أن تكون مستقلة عن الحقيقة الواقعية؟

دعونا نبدأ ببعض الجوانب التي تمثل مبادئ للمحاكمات، مثل استقلال القضاء، حيدة القاضي، حق المتهم في الدفاع عن نفسه، عدم جواز أن يحكم القاضي بناء على علمه الشخصي، وجوب أن يقضي القاضي بما أُثبت في محضر الدعوى فقط، عدم جواز التفسير الواسع للقاعدة القانونية بما يضر بموقف المتهم، لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص نافذ قبل اقتراف الفعل، شخصية العقوبة.
هذه وغيرها مبادئ تحكم العمل القضائي، وتحد من حرية القاضي عندما يرغب في البحث عن حقيقة الواقعة محل الدعوى، سواء كانت الدعوى جنائية أو مدنية، أو إدارية. فحتى الدعوى المدنية لا تُطلق فيها حرية القاضي، بل لا بد من الإلتزام، بالقيود المتطلبة للحكم.
فلنضرب أمثلة بسيطة على ذلك:
فلنتخيل أن أحد القضاة كان يسير في الشارع وشاهد (أ) يسلم (ب) عشرين ألف دولار كمقابل لشراء سيارة.
بعد أيام أنكر (ب) استلامه للنقود ورفض تسليم (أ) السيارة.
رفع (أ) دعوى قضائية ضد (ب) مطالباً بنقل ملكية السيارة له، ويشاء الحظ أن تقع القضية في يد ذلك القاضي.
لم يستطع (أ) اثبات انه سلم (ب) النقود، حيث لم يكن لديه شهود وليس في يده مخالصة بالوفاء.
فرغم أن القاضي رأى بعينه تسليم (أ) النقود ل (ب). لكنه لن يستطيع أن يحكم (بالحقيقة الواقعية)، بل يجب أن يحكم ب(الحقيقة القانونية) أي، برفض دعوى (أ) لعدم امتلاكه لأدلة على دفع ثمن السيارة.
(يستطيع القاضي أن يفعل شيئاً واحداً: وهو التنحي عن النظر في الدعوى ليكون شاهداً لمصلحة (أ)).
لكنه إن لم يفعل ذلك، واستمر في نظر الدعوى، فليس أمامه سوى رفض دعوى (أ) والحكم لمصلحة (ب).
إذا؛ فنحن أمام حقيقتين:
الحقيقة الواقعية وهي أن (أ) سلم بالفعل ثمن السيارة ل(ب).
والحقيقة القانونية: وهي الحكم بفشل (أ) في اثبات أنه سلم ذلك الثمن.
مثال آخر:
قد يتفق شخص وليكن زيد مع مقاول على تشييد مبنى ولكن الاتفاق كان شفاهة.
يشترط القانون أن يكون عقد المقاولة مكتوباً.
هناك -أي امام القضاء- سيفشل زيد في دعواه التي رفعها ضد المقاول الذي امتنع عن تنفيذ الاتفاق. لأن الاتفاق لم تتوفر فيه الشروط الشكلية التي يتطلبها القانون.
اذاً؛ فهنا أيضاً حقيقة قانونية. وحقيقة واقعية.
فلننتقل للدعاوى الجنائية:
قام زيد بقتل عمرو من الناس..ومع ذلك فشلت النيابة في اثبات ذلك. أو اثبت زيد انه كان مع اشخاص آخرين أثناء وقوع الجريمة، عبر شهود زور،..هنا لا يستطيع القاضي إلا ان يحكم بما أثبت امامه على محضر الدعوى، بغض النظر عن الحقيقة الواقعية.
أفضل مثال هو اثبات جريمة زنا الزوجة في الإسلام.
فلو شهد ثلاثة على زنا الزوجة برجل أجنبي، وتراجع الشاهد الرابع عن الشهادة. لا يستطيع القاضي الحكم بإدانة الزوجة وتوقيع العقوبة عليها. رغم أنه متأكد من صحة شهادة الشهود الثلاثة. لكن لأن الإثبات هنا مقيد بأربعة شهود، فلا سبيل أمامه إلا الحكم ليس فقط ببراءة الزوجة، بل حتى بجلد الزوج على جريمة القذف، او التفريق بين الزوجين بعد الملاعنة.
هنا نحن أيضاً أمام حقيقتين:
حقيقة واقعية وهي زنا الزوجة.
وحقيقة قانونية هي براءة الزوجة من تهمة الزنا.
وإذا كان ذلك التفريق يبدو وقد اختصت به الدعاوى القضائية، إلا أنه ليس مقصوراً فقط عليها؛ فهناك عشرات الأوجه للحقيقة:
هناك:
الحقيقة الواقعية، والحقيقة التاريخية.
الحقيقة الإعلامية.
الحقيقة السياسية.
الحقيقة النفسية.
الحقيقة الاجتماعية (يؤسسها المجتمع)..
....الخ.
ويعمل الإعلام السياسي على فرض حقيقة ما على الشعوب لتوجيه الرأي العام بما يحقق مصلحته. وسنجد أن هناك مؤسسات ضخمة انشأتها الحكومات لهذا الغرض على وجه الخصوص.
انتقل سؤال الحقيقة، من الفلسفة إلى القانون إلى الأدب.
لقد استطاع الكاتب الكبير لويجي بيرانديللو تلخيص سؤال الحقيقة في مسرحيته (لكل حقيقته)، وكنت قد كتبت مقالاً حول هذه المسرحية. سارفق رابطه آخر المقال.
ونحن كبشر نتساءل دوماً، فالسؤال بحث عن الحقيقة، لكن في الواقع، السؤال هو بحث عن الحقيقة التي نرغب في أن تكون هي الحقيقة.
نحن نبحث دوما عما يؤكد إثبات ما نؤمن به وليس ما ينفي ما نؤمن به، سواء كان ذلك فلسفة أو عقيدة دينية، أو ميل عاطفي. وهكذا فنحن لا نختلف عن القاضي الذي يكون مضطراً للحكم بالحقيقة القانونية لا بالحقيقة الواقعية. فنحن أيضا كبشر نؤسس كل حياتنا على الاحكام. فنحن نحكم على كل شيء لنتخذ موقفاً محدداً منه. نشتري ونبيع ونتزوج بعد أن نحكم على أشياء كثيرة:
البائع نصاب ام موثوق به.
الفتاة محترمة أم لا؟
الثمن مجزي أم بخس..
ونحكم على علاقاتنا كلها لنؤسس موقفنا على حقيقة ما.
لكن..
هل هناك حقيقة؟
هذا ما تنفيه مسرحية لويجي بيراندللو..بل نستطيع أن نلخص الأمر كله في عنوان تلك المسرحية...(لكل حقيقته).
رابط المقال:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...