ما تزال العلاقة بين الشرق والغرب محورا هاما من تلك الجدلية؛ علاقة حربية وآونة اقتصادية لكن الأخطر فيها أن تكون فكرية تتخذ من الأدب إطارا لها.
تمثل الدراسات النقدية حول أدب الطيب صالح مجالا ثريا للتعمق في جذور الحياة السودانية وكشفا عن عوالم خفية لدي القاريء العربي الذي اعتاد القراءة لرواد آخرين قد تكون تلك حالة فريدة سيما ونحن نجهل السودان تاريخا وفنا؛ صرفتنا عنه دراسات وقاعات بحث؛ وأقر بالفضل في تعريفي بالطيب صالح وتعرفي عليه لأستاذي الدكتور الطاهر أحمد مكي- رحمة الله علبه- حين درس لنا كتابه المتميز " مختارات من القصة القصيرة" اختار لنا قصة الطيب صالح " يوم مبارك على شاطيء أم باب" ومن يومها مثل لي الطيب صالح حالة من الوجد والتعلق.
من الأدباء الذين لهم نكهة خاصة وحضور آسر لدي،يمثل حالة من الوجد الصوفي،يجعلك تفكر باللغة وتبدع من خلال تعاملك مع نصوصه،لديه مشروع يهدف منه أن يجعل اللغة مرادفة العاطفة،إنه يغرق في السودان :ناسه ونهره وشجره،دومته وبناياته،حتى تخاله يتغنى به يحبه كأنما هو وتره الذي بشدو به.
نحن نجهل أعلامنا المبدعين وننساق ناحية الشمال في موسم هجرة لا ينقطع؛الجهل والمرض والسلطة الغاشمة كل أولئك يدفع بنا ناحية التماهي مع الآخر.
حين نقرأ لمن اصطفاهم الله بلمحة العبقرية تنثال علينا آفاق الحياة رحبة!
تعرفت على أدب الطيب صالح من خلال روايته" موسم الهجرة إلى الشمال".
اندهشت لمفرداته التي يجيد حبكها بمهارة فائفة النظير انظر إليه وهو يحكي عن مصطفى سعيد وهو طفل: " عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت فحكيت لها القصة، نظرت إلي برهة نظرة غامضة، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها، فقد رأيت وجهها يصفو برهة، وعيناها تلمعان، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم أو تقول شيئا، لكنها لم تقل شيئا، وكانت تلك نقطة تحول في حياتي، كان ذلك أو قرار اتخذته بمحض إرادتي".
رأيت أيها القاريء الكريم كيف وصف علاقته بأمه؛ طفل يغالب صغره وأم تخفي عطفتها ناحية ولدها في علاقة تخفي أكثر مما تبدي، يعتمد الطيب صالح تقنية الاسترجاع إنه يطرق عقلك بأكثر من صورة وموقف ليعيدك مرة إلى شخصية روايته الأساسية- مصطفى سعيد- ذلك الصبي الذي لم يخلو من الضحك كما وصفته مسز روبنسون: " أنت يا مستر سعيد خال تماما من المرح"
وحين يأتي ذكر "بنت مجذوب" تلك المرأة الرجلة والتي صرعت أزواجها الخمسة، يذكر على لسانها جملة تكشف عن ملامح شخصيتها، حين جرى الحديث مع مصطفى سعيد،و قالت بنت مجذوب ضاحكة:" خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء" هذا كلام أنثى لا تتحرج، تجالس جده ويحلو لها أن تذكر أشياء يخجل منها الكثيرون؛ ثم هي تجالس جده وود الريس وبكري وحين وصفها" بنت مجذوب متكئة على كوعها، وفي اليد الأخرى سيجارة.ود الريس كأنه يخرج الحكايات الخبيثة من أطراف شاربيه"
وقالت له بنت مجذوب وهي تضحك بصوتها الرجالي المبحوح من كثرة التدخين: ومن يومها وأنت تركب وتنزل كأنك فحل الحمير"
ثم يدير الحوار من طريق ود الريس" وهل أحد يعرف حلاوة هذا الشيء أكثر منك يا بنت مجذوب؟ إنك دفنت ثمانية أزواج، والآن وأنت عجوز كركبة لو وجدته ما قلت لا"
حتى الجد ذلك الشيخ العجوز الذي يجلس على أريكته ويذكر الله كثيرا يداعبها بقوله" سمعنا أن غنج بنت مجذوب لا يتصوره العقل".
ثم هو لا بتركنا حتى يكمل اللوحة البديعة من سرده الممزوج باللقطة السينمائية" كانت بنت مجذوب امرأة طويلة لونها فاحم مثل القطيفة السوداء، ما يزال فيها إلى الآن بقايا جمال. وقد كانت مشهورة في البلد، يتسابق الرجال والنساء على السواء لسماع حديثها لما فيه من الحرأة وعدم تحرج، وكانت تدخن السجائر وتشرب الخمر وتحلف بالطلاق كأنها رجل"
وابنتها هي الأخرى تقول لزوجها:" إن أمي لا تتحرج في كلامها ومن الخير أن ندعها وحدها".
انظر إليه حين يصف نساء الشمال،
يغلب عقله ثم هو يقفز بنا إلى بعض هؤلاء النسوة؛ لكنه يظهر لنا جانبا من شخصية مصطفى سعيد؛ يغالبه الإيمان" وأخذتني سنة من النوم. وحلمت أنني أصلي وحدي في القلعة، كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات والرخام الأحمر يتوهج وأنا وحدي أصلي استيقظت وفي أنفي رائحة البخور".إنه تدين كاذب كما يقول عنه الطيب صالح" أقرأ الشعر وأتحدث في الدين والفلسفة وأنقد الرسم وأقول كلاما عن روحانيات الشرق. أفعل كل هذا حتى أدخل المرأة في فراشي ثم أسير إلى صيد آخر".
لقد حول آن همند إلى عاهرة تلك الفتاة التي كانت دون العشرين والتي قضت طفولتها في مدرسة للراهبات!
لقد تسبب في انتحارها، وشيلا غرينود وإيزابيلا سيمور وأقر أنه قتل جين موريس.
يعاشر خمس نسوة في وقت واحد، أي فحل هذا الذي فاق طبيعة البشر؟
إنه بارع في الصيد بأدوات تغري الفاتنات عود الصندل المحروق والبخور والأمثال وعالم الغابة بغرائبه من وحوش وأسود وفيلة؛ لم يكن عطيلا بل كائن آخر يتوعد بجرثومة لا يتغشى أنثى حتى يهلكها!
كما وصفه الطيب صالح" صادف شنن طبقة"
إنه الجنوبي المحمل بفكرة الغزو والفتح؟ بل هو الإنجليزي الأسود الذي يمط لسانه بتلك اللغة في كلية غوردون، إنهم يعتنون به وحده؛ يعدونه لأمر خطير؛ هل كان الطيب صالح يراه طه حسين يكتب" مستقبل الثقافة في مصر"؟
أم تراه باع وطنه وصار عميلا للمخابرات البريطانية؟
تساؤل أجاب عليه أحد الطلبة السودانيين؛ لقد اختلف الجميع حول شخصيته؛ تلك براعة الطيب صالح أنه لا يجزم بشيء يترك لعقل القاريء وخياله أن يتحركا في أي اتجاه؛ براعة السرد أن تطرق منطقة المسكوت عنه ومن ثم تتحرك أبعاد الشخصية في مسافة واسعة.
هل كان مصطفى سعيد مقاتلا يتأول الإنتقام من العدو الذي استباح بلاده؟
لا يرى الطيب صالح ذلك؛ فمصطفى سعيد " رجل ذئب، تسبب في انتحار فتاتين وحطم امرأة متزوجة، وقتل زوجته، رجل أناني، انصبت حياته كلها في طلب اللذة".
موقف الحكم عليه"ويوم حكموا علي في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات لم أجد صدرا غير صدرها أسند رأسي إليه" هل كانت مسز روبنسون أمه التي تمنى أن تكون له؟
لكنه كان يشعر ناحيتها بالذعر، ربما لظنها أنه يشتهيها، يدلف بنا الطيب صالح إلى عالم معقد تختلط فيه العاطفة بالشهوة، ربما يكمن هاجس الفحولة داخله؛ إنه يدرك خط سير شخصيته، يرسمها بدقة لكنه لا يشعرك بأنها تمت إليه بصلة رغم أنه قام في روايته تلك- بل أزعم أنه في كل أعماله- يؤدي دور الراوي العليم.
ود الريس مثال على ذلك الرجل الذي لا يرى في المرأة غير فريسة يتلهمها" وقد سمعت أنه كان في شبابه آية في الحسن وأن قلوب الفتيات كانت تخفق بحبه (قبلي وبحري) أعلى النهر وأسفله، وكان كثير الزواج والطلاق لا يعنيه في المرأة أنها إمرأة ....ويجيب إذا سئل الفحل غير عواف"
هل من رابط بين ود الريس وبنت مجذوب؟
ترى هل كان الطيب صالح يسرج مصباحه لينير شخصياته بالجمع بينها في تلك اللوحة الفريدة من نماذج بشرية عاشت في ذاكرته من واقعه أو مما روي له قبل أن يصنعها من خياله؟
حين تحدث عن حسنة بنت محمود: صبية تسبح في النهر، أنثى فاتنة زادها الزواج من مصطفى سعيد حلاوة، ود الريس ولع بها، أتراها كنت ترجو ذلك الراوي العليم، ما الذي دفعه لأن يصف حسنة بكل ذلك الحسن، لم يعتد الطيب صالح ذلك في تعريفبنا بهؤلاء الشقراوات اللواتي خايل بهن مصطفى سعيد؟
إنها ترفض الزواج بغيره؛ لكنها تميل إلى الراوي تود أن لو كان هو؛ ثم ماذا بعد؛ لقد قتلت ود الريس شر قتلة وبعد قتلت نفسها.
هل كانت حسنة بنت محمود صورة للمرأة الطيبة التي يرجوها الطيب صالح؛ إنها على النقيض تماما من بنت مجذوب التي تجالس الرجال وتذكر تفحشها في تلذذ؛ حسنة ذات عطر جذاب، وديعة يهم الراوي أن يحتضنها لكن شأنا آخر أقعده؛ لم تفارقه نوازع البشر ورغائبهم؛ هل منعه الحرج أم أن شبح مصطفى سعيد يطارده؟
براعة الطيب صالح في رسم شخصياته أن يترك في عقل القاريء فجوة يسعى لسدها، يحوم حول الصورة لكنه يترك لك مسافة للتأويل وتلك روعة الفن ألا يجيب عن السؤال بقدر ما يثير من روعة الدهشة!
يؤنسن الطيب صالح المكان؛تظل كرمكول حاضرة في مخيلته، عند ضفة النيل وتلك الشجرات من الجميز، يتعدى بالوصف الصورة المباشرة لحيوات الناس العادية إلى أفق آخر.
هل كان مصطفى سعيد قناعا للطيب صالح ارتداه ومن ثم عبر عن عالمه بكل هذا السرد؟
يبدو أن أسطورة مصطفى سعيد ستظل معادلا موضوعيا للعلاقة بالآخر، كتب يحيى حقي قنديل أم هاشم، وتوفيق الحكيم جاء ب"عصفور من الشرق" لكن يبقى للطيب صالح أنموذجه المتفرد في تصوير علاقة الشرق بالغرب!
لا يستطيع الكاتب أن يجزم بذلك في كل ما وصفه الطيب، ربما كانت هناك ملامح تجمع بينهما من عمق الثقافة ووهج الانتماء؛ لكن الطيب رجل تعلوه مسحة الإيمان وعمق الجذب الروحي.
د. سيد شعبان جادو ، أديب قاص وروائي / مصر
تمثل الدراسات النقدية حول أدب الطيب صالح مجالا ثريا للتعمق في جذور الحياة السودانية وكشفا عن عوالم خفية لدي القاريء العربي الذي اعتاد القراءة لرواد آخرين قد تكون تلك حالة فريدة سيما ونحن نجهل السودان تاريخا وفنا؛ صرفتنا عنه دراسات وقاعات بحث؛ وأقر بالفضل في تعريفي بالطيب صالح وتعرفي عليه لأستاذي الدكتور الطاهر أحمد مكي- رحمة الله علبه- حين درس لنا كتابه المتميز " مختارات من القصة القصيرة" اختار لنا قصة الطيب صالح " يوم مبارك على شاطيء أم باب" ومن يومها مثل لي الطيب صالح حالة من الوجد والتعلق.
من الأدباء الذين لهم نكهة خاصة وحضور آسر لدي،يمثل حالة من الوجد الصوفي،يجعلك تفكر باللغة وتبدع من خلال تعاملك مع نصوصه،لديه مشروع يهدف منه أن يجعل اللغة مرادفة العاطفة،إنه يغرق في السودان :ناسه ونهره وشجره،دومته وبناياته،حتى تخاله يتغنى به يحبه كأنما هو وتره الذي بشدو به.
نحن نجهل أعلامنا المبدعين وننساق ناحية الشمال في موسم هجرة لا ينقطع؛الجهل والمرض والسلطة الغاشمة كل أولئك يدفع بنا ناحية التماهي مع الآخر.
حين نقرأ لمن اصطفاهم الله بلمحة العبقرية تنثال علينا آفاق الحياة رحبة!
تعرفت على أدب الطيب صالح من خلال روايته" موسم الهجرة إلى الشمال".
اندهشت لمفرداته التي يجيد حبكها بمهارة فائفة النظير انظر إليه وهو يحكي عن مصطفى سعيد وهو طفل: " عدت إلى أمي في الظهر فسألتني أين كنت فحكيت لها القصة، نظرت إلي برهة نظرة غامضة، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها، فقد رأيت وجهها يصفو برهة، وعيناها تلمعان، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم أو تقول شيئا، لكنها لم تقل شيئا، وكانت تلك نقطة تحول في حياتي، كان ذلك أو قرار اتخذته بمحض إرادتي".
رأيت أيها القاريء الكريم كيف وصف علاقته بأمه؛ طفل يغالب صغره وأم تخفي عطفتها ناحية ولدها في علاقة تخفي أكثر مما تبدي، يعتمد الطيب صالح تقنية الاسترجاع إنه يطرق عقلك بأكثر من صورة وموقف ليعيدك مرة إلى شخصية روايته الأساسية- مصطفى سعيد- ذلك الصبي الذي لم يخلو من الضحك كما وصفته مسز روبنسون: " أنت يا مستر سعيد خال تماما من المرح"
وحين يأتي ذكر "بنت مجذوب" تلك المرأة الرجلة والتي صرعت أزواجها الخمسة، يذكر على لسانها جملة تكشف عن ملامح شخصيتها، حين جرى الحديث مع مصطفى سعيد،و قالت بنت مجذوب ضاحكة:" خفنا أن تعود إلينا بنصرانية غلفاء" هذا كلام أنثى لا تتحرج، تجالس جده ويحلو لها أن تذكر أشياء يخجل منها الكثيرون؛ ثم هي تجالس جده وود الريس وبكري وحين وصفها" بنت مجذوب متكئة على كوعها، وفي اليد الأخرى سيجارة.ود الريس كأنه يخرج الحكايات الخبيثة من أطراف شاربيه"
وقالت له بنت مجذوب وهي تضحك بصوتها الرجالي المبحوح من كثرة التدخين: ومن يومها وأنت تركب وتنزل كأنك فحل الحمير"
ثم يدير الحوار من طريق ود الريس" وهل أحد يعرف حلاوة هذا الشيء أكثر منك يا بنت مجذوب؟ إنك دفنت ثمانية أزواج، والآن وأنت عجوز كركبة لو وجدته ما قلت لا"
حتى الجد ذلك الشيخ العجوز الذي يجلس على أريكته ويذكر الله كثيرا يداعبها بقوله" سمعنا أن غنج بنت مجذوب لا يتصوره العقل".
ثم هو لا بتركنا حتى يكمل اللوحة البديعة من سرده الممزوج باللقطة السينمائية" كانت بنت مجذوب امرأة طويلة لونها فاحم مثل القطيفة السوداء، ما يزال فيها إلى الآن بقايا جمال. وقد كانت مشهورة في البلد، يتسابق الرجال والنساء على السواء لسماع حديثها لما فيه من الحرأة وعدم تحرج، وكانت تدخن السجائر وتشرب الخمر وتحلف بالطلاق كأنها رجل"
وابنتها هي الأخرى تقول لزوجها:" إن أمي لا تتحرج في كلامها ومن الخير أن ندعها وحدها".
انظر إليه حين يصف نساء الشمال،
يغلب عقله ثم هو يقفز بنا إلى بعض هؤلاء النسوة؛ لكنه يظهر لنا جانبا من شخصية مصطفى سعيد؛ يغالبه الإيمان" وأخذتني سنة من النوم. وحلمت أنني أصلي وحدي في القلعة، كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات والرخام الأحمر يتوهج وأنا وحدي أصلي استيقظت وفي أنفي رائحة البخور".إنه تدين كاذب كما يقول عنه الطيب صالح" أقرأ الشعر وأتحدث في الدين والفلسفة وأنقد الرسم وأقول كلاما عن روحانيات الشرق. أفعل كل هذا حتى أدخل المرأة في فراشي ثم أسير إلى صيد آخر".
لقد حول آن همند إلى عاهرة تلك الفتاة التي كانت دون العشرين والتي قضت طفولتها في مدرسة للراهبات!
لقد تسبب في انتحارها، وشيلا غرينود وإيزابيلا سيمور وأقر أنه قتل جين موريس.
يعاشر خمس نسوة في وقت واحد، أي فحل هذا الذي فاق طبيعة البشر؟
إنه بارع في الصيد بأدوات تغري الفاتنات عود الصندل المحروق والبخور والأمثال وعالم الغابة بغرائبه من وحوش وأسود وفيلة؛ لم يكن عطيلا بل كائن آخر يتوعد بجرثومة لا يتغشى أنثى حتى يهلكها!
كما وصفه الطيب صالح" صادف شنن طبقة"
إنه الجنوبي المحمل بفكرة الغزو والفتح؟ بل هو الإنجليزي الأسود الذي يمط لسانه بتلك اللغة في كلية غوردون، إنهم يعتنون به وحده؛ يعدونه لأمر خطير؛ هل كان الطيب صالح يراه طه حسين يكتب" مستقبل الثقافة في مصر"؟
أم تراه باع وطنه وصار عميلا للمخابرات البريطانية؟
تساؤل أجاب عليه أحد الطلبة السودانيين؛ لقد اختلف الجميع حول شخصيته؛ تلك براعة الطيب صالح أنه لا يجزم بشيء يترك لعقل القاريء وخياله أن يتحركا في أي اتجاه؛ براعة السرد أن تطرق منطقة المسكوت عنه ومن ثم تتحرك أبعاد الشخصية في مسافة واسعة.
هل كان مصطفى سعيد مقاتلا يتأول الإنتقام من العدو الذي استباح بلاده؟
لا يرى الطيب صالح ذلك؛ فمصطفى سعيد " رجل ذئب، تسبب في انتحار فتاتين وحطم امرأة متزوجة، وقتل زوجته، رجل أناني، انصبت حياته كلها في طلب اللذة".
موقف الحكم عليه"ويوم حكموا علي في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات لم أجد صدرا غير صدرها أسند رأسي إليه" هل كانت مسز روبنسون أمه التي تمنى أن تكون له؟
لكنه كان يشعر ناحيتها بالذعر، ربما لظنها أنه يشتهيها، يدلف بنا الطيب صالح إلى عالم معقد تختلط فيه العاطفة بالشهوة، ربما يكمن هاجس الفحولة داخله؛ إنه يدرك خط سير شخصيته، يرسمها بدقة لكنه لا يشعرك بأنها تمت إليه بصلة رغم أنه قام في روايته تلك- بل أزعم أنه في كل أعماله- يؤدي دور الراوي العليم.
ود الريس مثال على ذلك الرجل الذي لا يرى في المرأة غير فريسة يتلهمها" وقد سمعت أنه كان في شبابه آية في الحسن وأن قلوب الفتيات كانت تخفق بحبه (قبلي وبحري) أعلى النهر وأسفله، وكان كثير الزواج والطلاق لا يعنيه في المرأة أنها إمرأة ....ويجيب إذا سئل الفحل غير عواف"
هل من رابط بين ود الريس وبنت مجذوب؟
ترى هل كان الطيب صالح يسرج مصباحه لينير شخصياته بالجمع بينها في تلك اللوحة الفريدة من نماذج بشرية عاشت في ذاكرته من واقعه أو مما روي له قبل أن يصنعها من خياله؟
حين تحدث عن حسنة بنت محمود: صبية تسبح في النهر، أنثى فاتنة زادها الزواج من مصطفى سعيد حلاوة، ود الريس ولع بها، أتراها كنت ترجو ذلك الراوي العليم، ما الذي دفعه لأن يصف حسنة بكل ذلك الحسن، لم يعتد الطيب صالح ذلك في تعريفبنا بهؤلاء الشقراوات اللواتي خايل بهن مصطفى سعيد؟
إنها ترفض الزواج بغيره؛ لكنها تميل إلى الراوي تود أن لو كان هو؛ ثم ماذا بعد؛ لقد قتلت ود الريس شر قتلة وبعد قتلت نفسها.
هل كانت حسنة بنت محمود صورة للمرأة الطيبة التي يرجوها الطيب صالح؛ إنها على النقيض تماما من بنت مجذوب التي تجالس الرجال وتذكر تفحشها في تلذذ؛ حسنة ذات عطر جذاب، وديعة يهم الراوي أن يحتضنها لكن شأنا آخر أقعده؛ لم تفارقه نوازع البشر ورغائبهم؛ هل منعه الحرج أم أن شبح مصطفى سعيد يطارده؟
براعة الطيب صالح في رسم شخصياته أن يترك في عقل القاريء فجوة يسعى لسدها، يحوم حول الصورة لكنه يترك لك مسافة للتأويل وتلك روعة الفن ألا يجيب عن السؤال بقدر ما يثير من روعة الدهشة!
يؤنسن الطيب صالح المكان؛تظل كرمكول حاضرة في مخيلته، عند ضفة النيل وتلك الشجرات من الجميز، يتعدى بالوصف الصورة المباشرة لحيوات الناس العادية إلى أفق آخر.
هل كان مصطفى سعيد قناعا للطيب صالح ارتداه ومن ثم عبر عن عالمه بكل هذا السرد؟
يبدو أن أسطورة مصطفى سعيد ستظل معادلا موضوعيا للعلاقة بالآخر، كتب يحيى حقي قنديل أم هاشم، وتوفيق الحكيم جاء ب"عصفور من الشرق" لكن يبقى للطيب صالح أنموذجه المتفرد في تصوير علاقة الشرق بالغرب!
لا يستطيع الكاتب أن يجزم بذلك في كل ما وصفه الطيب، ربما كانت هناك ملامح تجمع بينهما من عمق الثقافة ووهج الانتماء؛ لكن الطيب رجل تعلوه مسحة الإيمان وعمق الجذب الروحي.
د. سيد شعبان جادو ، أديب قاص وروائي / مصر