لا يستطيع الباحث في الأصول الفلسفية والفكرية لجماليات التلقي أن يتجاهل ثلاثة من الفلاسفة والمفكرين الذين شكلوا الخلفية المعرفية التي استند اليها نقاد جماليات التلقي والاستقبال ، وهم :
1 . إدموند هوسرل E.Husserl فيلسوف الظاهراتية ، الذي كانت فلسفته تشكل ردّ فعل على الفلسفة الوضعية التي استبعدت ( الذات ) بوصفها مقوماً أساسياً من مقومات المعرفة ، ووجهت اهتمامها إلى العقل الذي تهمه الأقيسة المنطقية ويستبعد أهمية الحدْس وتأثيرات الذات . وعلى العكس من الفلسفة الوضعية التي دعت إلى الفصل بين الذّات والعقل ، سعى هوسرل إلى التوفيق بينهما فبرز عنده مفهوم التعالي . ويعرّف التعالي بأنه " المعنى الموضوعي الذي ينشأ بعد أن تكون الظاهرة معنى محضاً في الشعور ، أي بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية المادية إلى عالم الشعور الدّاخلي الخالص . ولذا فقد كانت مهمة الفينومينولوجيا عنده هي دراسة الشعور الخالص وأفعاله القصدية باعتباره مبدأ كل معرفة.
2 . إنجاردن ،تلميذ هوسرل ، الذي عدّل في مفهوم التعالي فجعله ينطوي على بنيتين : إحداهما ثابتة ، نمطية ، وهي أساس الفهم عنده ، والأخرى متغيّرة ، ماديّة، تشكل الأساس الأسلوبي للعمل الأدبي . والمعنى عنده ، على خلاف ما هو عند هوسرل لا يتشكل إلا بالتفاعل بين البنيتين : فعل الفهم وبنية العمل الأدبي .
3 . جادامير ، صاحب مفهوم الأفق التاريخي أو أفق التاريخ ، حيث استخدم جادامير مفهوم الأفق التاريخي في تفسير التاريخ ،حين رأى أنه لا يكون ثمة تحقق خارج زمانية الكائن التي تسمح باندماج الأفق الحاضر بالأفق الماضي ، فتعطي للحاضر بُعداً يتجاوز المباشرة الآنية ويصلها بالماضي ، ويمنح الماضي قيمة حضورية راهنة تجعلها قابلة للفهم . فجادامير يرى في التاريخ وثيقة تضم الخبرات التي لا يمكن استبعادها إذا أردنا الفهم الحقيقي الشامل ومن هنا اشترط وجود فهم تاريخي و "وعي تاريخي" لأية ممارسة تأويلية . وقد أفاد ياوس من مفهوم الأفق التاريخي فيما أسماه " أفق التوقعات " . فإذا كان مفهوم أفق التاريخ لدى جادامير يعني أن ثمة مدوّنةً تضم المعايير السابقة المتغيّرة عبر التاريخ ، فإن أفق التوقعات لدى ياوس يعني أن ثمة مدوّنة تضم معايير تذوق العمل الأدبي . وإذا كان المتلقي يعتمد في قراءته للأعمال على معايير سابقة ، فإنَّ هذه المعايير التي تتعرض للتغير تصيب المتلقّي بخيبة، إذ يخيب ظن المتلقي في مطابقة معاييره السابقة مع المعايير التي ينطوي عليها العمل الجديد .
مدرسة كونستانس الألمانية :
إذا كانت البنيوية تركز في إحدى وجوهها على النّص الأدبي أو البنية اللسانية الحاملة للدلالة والمنتجة لها والمكتفية بذاتها ، فإن أصحاب نظريات التلقي يعدون البنية اللسانية إحدى المؤثرات في فهم النّص ، لكن هذه البنية لابُدَّ لها من أن تغذى بمرجعيات ذاتية قائمة على الفهم من لدن القارئ. ( ثقافته الخاصة)،وإذاما كانت البنيوية من أكثر المناهج النقدية مضياً نحو مقاربة النص الأدبي بوصفه بنية مغلقة ومكتفية بذاتها ، فإنَّ أصحاب نظريات التلقي قد أعلوا من سلطة القارئ أو متلقي النّص ، حيث رأوا أنه لا يمكن الحديث عن النّص بمعزل عن دور القارئ ومساهمته في صنعه . ومن هنا نفهم لماذا مَثّل اتجاه نظريات القراءة أو التلقي واحداً من اتجاهات "ما بعد البنيوية" في نظريات النقد العالمي الحديثة .
لقد تأصل هذا الاتجاه النقدي الذي سُمّى بأسماء مختلفة منها : " اتجاه جمالية القراءة، أو " جمالية التلقي أو التقبل" . أو" نظرية الاستقبال " ، أو "نظريـة التلقي " . أو " نقد استجابة القارئ " ،من قبل الاكاديميين ألمانيين "ياوس"و"آيزر" بوصفهما منظرَي التلقي . وقد أرسى هذان الناقدان فيما بعد اتجاهين في نظرية القراءة ، سمي أوّلهمـا بـ "نظرية التأثير والاتصال " ، وقد مثله آيزر الذي أكد على دور القارئ والنّص معاً ، متأثراً بفيلسوف الظاهراتية هوسرل . أمّا الاتجاه الثاني وهو الاتجاه الذي عرف بـ " نظرية التلقي والتقبل " ، فيمثله ياوس ، ويؤكد فيه على دور القارئ في خلق المعنى الأدبي مستفيداً من "جادامير"، من صاحب مفهوم الأفق التاريخي.وما اراه أنّ هذين الناقدين سعيا إلى تأصيل خطاب نقدي يهتم بالعلاقة الجدلية بين النّص والقارئ ، ويكرّس رؤية نقدية تسعى لإبراز فعالية القراءة . حيث يرى ياوس أن المقاربات النقدية السابقة حرمت الأدب من بعد مهم يُعد ملازماً لطبيعته بوصفه ظاهرة جمالية له وظيفة اجتماعية ، ذلكم هو الأثر الذي يحدثه في المتلقين والمعنى الذي يمنحه إياهم . ويعتقد بأن النص لا يملك " معنى " موضوعياً ، ولكنه يحتوي فقط على بعض الخصائص التي يمكن وصفها بصورة موضوعية . واستجابة القارئ التي تشكل بالنسبة إليه المعنى والخصائص الجمالية للنص ، وهي النتاج المشترك لـ " أفقه " الخاص من التوقعات اللغوية والجماليّة ، قّلّما تؤكد أو تحبط أو تنكر هذه التوقعات عندما يتم " تحدِّيها" من قبل خصائص النص نفسه . ولما كانت آفاق القرّاء تتغير عبر الزمن ، وأن القرّاء المتأخرين يمكنهم الاطلاع على استجابات القراء الأوائل ، بالإضافة إلى النص ، فسوف يتكون ويتطوّر "موروث تأريخي " من التفسيرات والتقييمات النقديّة لكل عمل أدبي . ودراسة هذا الموروث كـ " جدل " أو " حوار " بين النَّص والقراء المتعاقبين ، يفيد من أجل " تعريف " المعنى والطبيعة الجمالية للعمل الأدبي، باعتبارها مجموعة من " الإمكانيات الكامنة " اللغوية والجماليّة التي تمَّ تحقيقها عبر الاستجابات المتراكمة للقراء على مدى الزّمن .بينما يذهب آيزر إلى أن النص يحتوي على عدد من "الفجوات" أو" العناصــر غير المحدّدة"، وأن على القارئ أن يملأ هذه الفجوات ذاتياً عن طريق (المشاركة الخلاّقة) بين ما هو معطى في النص الذي أمامه. والقارئ ( حسب درجةوعيه وثقافته) ، ولكنَّ حقيقة وجود (القصدية) لدلالات الكاتب وصيرورة حدثه النصي تضع حدودًا لإضافات القارئ الخلاّقة إلى النَّص، تجعلنا نرفض بعض القراءات الخاطئة. انتهي الى القول:
لقد تم تجاوز رؤية القراءة على أنها " اتجاه واحدٌ من النّص إلى القارئ وليست علاقة ذات اتجاهين " ، اي انها تتكئ على فكرة ان القراءة مجرد عمليّة (إكمال) أو (ملء) ولا تسمح بأي نوع من التبادل بين القارئ والنّص ،تم تجاوزها الى موضوعة (التفاعل بين القارئ والنص )،وأنَّ الفجوات (أي عدم التوافق بين النّص والقارئ )هي التي تحقق الاتصال في عمليّة القراءة ، ويكون الفراغ شاغراً في النظام الإجمـــالي للنص ، يؤدّي ملؤه إلى تفاعل أنماط النَّص . فالعمل الأدبي ليس نصاً بالكامل، كما أنه ليس ذاتيّة القارئ، ولكنه تركيب أو التحام من الاثنين. وعلى عكس التفسير التلقيدي الذي يرى المعنى مخفيّاً في النص ، بل هو ( يتشكل) نتيجة للتفاعل بين النص والقارئ، "كتأثير يتم اختباره"، وليس "هدفاً يجب تحديده". فالنص لا يخضع لقصد صاحبه وليس للقارئ أن يخضعه لقصد صاحبه، بل يخضع لاستراتيجية معقدة من التفاعلات تشمل القارئ وتشمل معرفته باللغة، ليس كمجموعة من القواعد النحوية فحسب، بل كتراثٍ اجتماعي وموسوعة معرفية تكونت من خلال استعمال تلك اللغة، وتاريخ التأويلات السابقة لعدّة نصوص .
ـ باسم العراقي ـ
1 . إدموند هوسرل E.Husserl فيلسوف الظاهراتية ، الذي كانت فلسفته تشكل ردّ فعل على الفلسفة الوضعية التي استبعدت ( الذات ) بوصفها مقوماً أساسياً من مقومات المعرفة ، ووجهت اهتمامها إلى العقل الذي تهمه الأقيسة المنطقية ويستبعد أهمية الحدْس وتأثيرات الذات . وعلى العكس من الفلسفة الوضعية التي دعت إلى الفصل بين الذّات والعقل ، سعى هوسرل إلى التوفيق بينهما فبرز عنده مفهوم التعالي . ويعرّف التعالي بأنه " المعنى الموضوعي الذي ينشأ بعد أن تكون الظاهرة معنى محضاً في الشعور ، أي بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية المادية إلى عالم الشعور الدّاخلي الخالص . ولذا فقد كانت مهمة الفينومينولوجيا عنده هي دراسة الشعور الخالص وأفعاله القصدية باعتباره مبدأ كل معرفة.
2 . إنجاردن ،تلميذ هوسرل ، الذي عدّل في مفهوم التعالي فجعله ينطوي على بنيتين : إحداهما ثابتة ، نمطية ، وهي أساس الفهم عنده ، والأخرى متغيّرة ، ماديّة، تشكل الأساس الأسلوبي للعمل الأدبي . والمعنى عنده ، على خلاف ما هو عند هوسرل لا يتشكل إلا بالتفاعل بين البنيتين : فعل الفهم وبنية العمل الأدبي .
3 . جادامير ، صاحب مفهوم الأفق التاريخي أو أفق التاريخ ، حيث استخدم جادامير مفهوم الأفق التاريخي في تفسير التاريخ ،حين رأى أنه لا يكون ثمة تحقق خارج زمانية الكائن التي تسمح باندماج الأفق الحاضر بالأفق الماضي ، فتعطي للحاضر بُعداً يتجاوز المباشرة الآنية ويصلها بالماضي ، ويمنح الماضي قيمة حضورية راهنة تجعلها قابلة للفهم . فجادامير يرى في التاريخ وثيقة تضم الخبرات التي لا يمكن استبعادها إذا أردنا الفهم الحقيقي الشامل ومن هنا اشترط وجود فهم تاريخي و "وعي تاريخي" لأية ممارسة تأويلية . وقد أفاد ياوس من مفهوم الأفق التاريخي فيما أسماه " أفق التوقعات " . فإذا كان مفهوم أفق التاريخ لدى جادامير يعني أن ثمة مدوّنةً تضم المعايير السابقة المتغيّرة عبر التاريخ ، فإن أفق التوقعات لدى ياوس يعني أن ثمة مدوّنة تضم معايير تذوق العمل الأدبي . وإذا كان المتلقي يعتمد في قراءته للأعمال على معايير سابقة ، فإنَّ هذه المعايير التي تتعرض للتغير تصيب المتلقّي بخيبة، إذ يخيب ظن المتلقي في مطابقة معاييره السابقة مع المعايير التي ينطوي عليها العمل الجديد .
مدرسة كونستانس الألمانية :
إذا كانت البنيوية تركز في إحدى وجوهها على النّص الأدبي أو البنية اللسانية الحاملة للدلالة والمنتجة لها والمكتفية بذاتها ، فإن أصحاب نظريات التلقي يعدون البنية اللسانية إحدى المؤثرات في فهم النّص ، لكن هذه البنية لابُدَّ لها من أن تغذى بمرجعيات ذاتية قائمة على الفهم من لدن القارئ. ( ثقافته الخاصة)،وإذاما كانت البنيوية من أكثر المناهج النقدية مضياً نحو مقاربة النص الأدبي بوصفه بنية مغلقة ومكتفية بذاتها ، فإنَّ أصحاب نظريات التلقي قد أعلوا من سلطة القارئ أو متلقي النّص ، حيث رأوا أنه لا يمكن الحديث عن النّص بمعزل عن دور القارئ ومساهمته في صنعه . ومن هنا نفهم لماذا مَثّل اتجاه نظريات القراءة أو التلقي واحداً من اتجاهات "ما بعد البنيوية" في نظريات النقد العالمي الحديثة .
لقد تأصل هذا الاتجاه النقدي الذي سُمّى بأسماء مختلفة منها : " اتجاه جمالية القراءة، أو " جمالية التلقي أو التقبل" . أو" نظرية الاستقبال " ، أو "نظريـة التلقي " . أو " نقد استجابة القارئ " ،من قبل الاكاديميين ألمانيين "ياوس"و"آيزر" بوصفهما منظرَي التلقي . وقد أرسى هذان الناقدان فيما بعد اتجاهين في نظرية القراءة ، سمي أوّلهمـا بـ "نظرية التأثير والاتصال " ، وقد مثله آيزر الذي أكد على دور القارئ والنّص معاً ، متأثراً بفيلسوف الظاهراتية هوسرل . أمّا الاتجاه الثاني وهو الاتجاه الذي عرف بـ " نظرية التلقي والتقبل " ، فيمثله ياوس ، ويؤكد فيه على دور القارئ في خلق المعنى الأدبي مستفيداً من "جادامير"، من صاحب مفهوم الأفق التاريخي.وما اراه أنّ هذين الناقدين سعيا إلى تأصيل خطاب نقدي يهتم بالعلاقة الجدلية بين النّص والقارئ ، ويكرّس رؤية نقدية تسعى لإبراز فعالية القراءة . حيث يرى ياوس أن المقاربات النقدية السابقة حرمت الأدب من بعد مهم يُعد ملازماً لطبيعته بوصفه ظاهرة جمالية له وظيفة اجتماعية ، ذلكم هو الأثر الذي يحدثه في المتلقين والمعنى الذي يمنحه إياهم . ويعتقد بأن النص لا يملك " معنى " موضوعياً ، ولكنه يحتوي فقط على بعض الخصائص التي يمكن وصفها بصورة موضوعية . واستجابة القارئ التي تشكل بالنسبة إليه المعنى والخصائص الجمالية للنص ، وهي النتاج المشترك لـ " أفقه " الخاص من التوقعات اللغوية والجماليّة ، قّلّما تؤكد أو تحبط أو تنكر هذه التوقعات عندما يتم " تحدِّيها" من قبل خصائص النص نفسه . ولما كانت آفاق القرّاء تتغير عبر الزمن ، وأن القرّاء المتأخرين يمكنهم الاطلاع على استجابات القراء الأوائل ، بالإضافة إلى النص ، فسوف يتكون ويتطوّر "موروث تأريخي " من التفسيرات والتقييمات النقديّة لكل عمل أدبي . ودراسة هذا الموروث كـ " جدل " أو " حوار " بين النَّص والقراء المتعاقبين ، يفيد من أجل " تعريف " المعنى والطبيعة الجمالية للعمل الأدبي، باعتبارها مجموعة من " الإمكانيات الكامنة " اللغوية والجماليّة التي تمَّ تحقيقها عبر الاستجابات المتراكمة للقراء على مدى الزّمن .بينما يذهب آيزر إلى أن النص يحتوي على عدد من "الفجوات" أو" العناصــر غير المحدّدة"، وأن على القارئ أن يملأ هذه الفجوات ذاتياً عن طريق (المشاركة الخلاّقة) بين ما هو معطى في النص الذي أمامه. والقارئ ( حسب درجةوعيه وثقافته) ، ولكنَّ حقيقة وجود (القصدية) لدلالات الكاتب وصيرورة حدثه النصي تضع حدودًا لإضافات القارئ الخلاّقة إلى النَّص، تجعلنا نرفض بعض القراءات الخاطئة. انتهي الى القول:
لقد تم تجاوز رؤية القراءة على أنها " اتجاه واحدٌ من النّص إلى القارئ وليست علاقة ذات اتجاهين " ، اي انها تتكئ على فكرة ان القراءة مجرد عمليّة (إكمال) أو (ملء) ولا تسمح بأي نوع من التبادل بين القارئ والنّص ،تم تجاوزها الى موضوعة (التفاعل بين القارئ والنص )،وأنَّ الفجوات (أي عدم التوافق بين النّص والقارئ )هي التي تحقق الاتصال في عمليّة القراءة ، ويكون الفراغ شاغراً في النظام الإجمـــالي للنص ، يؤدّي ملؤه إلى تفاعل أنماط النَّص . فالعمل الأدبي ليس نصاً بالكامل، كما أنه ليس ذاتيّة القارئ، ولكنه تركيب أو التحام من الاثنين. وعلى عكس التفسير التلقيدي الذي يرى المعنى مخفيّاً في النص ، بل هو ( يتشكل) نتيجة للتفاعل بين النص والقارئ، "كتأثير يتم اختباره"، وليس "هدفاً يجب تحديده". فالنص لا يخضع لقصد صاحبه وليس للقارئ أن يخضعه لقصد صاحبه، بل يخضع لاستراتيجية معقدة من التفاعلات تشمل القارئ وتشمل معرفته باللغة، ليس كمجموعة من القواعد النحوية فحسب، بل كتراثٍ اجتماعي وموسوعة معرفية تكونت من خلال استعمال تلك اللغة، وتاريخ التأويلات السابقة لعدّة نصوص .
ـ باسم العراقي ـ