محمد الإحسايني - فلوبير عشية محاكمته

1
يروي أليكسنر نجار في كتابه إرنيست سينار المدعي العام [ صادر عن دار النشر بالار] الهول الذي كان يعم الأوساط الثقافية والإعلامية في باريس في النصف الثاني من القرن 19. وإن كان قد ركزفيه على إرنست بينار، وعلى تنكيده على فلوبير[ بل أيضاً على بودلير وأوجين سو] غداة نشره رواية مدام بوفاري. الكتاب وصف لوضع حرج يعكس الهول الذي تعيشه الأوساط الصحافية وحمهرة المثقفين بفرنسا في النصف الثاني من القرن 19 . ولاشك أن هذا الوضع السائد في عصر فلوبير، هو من ذيول تصرفات العهد القنصلي في بداية القرن التاسع عشر، إذ كان نابليون قد ألغى جميع الصحف السياسية باستثناء 13 صحيفة تؤيد الحكومة، وظهرت وزارة البوليس، وبظهورها انتشر الجواسيس، والقمع. ومن ضحايا هذا القمع في العهد القنصلي: مدام ستايل الكاتبة الشهيرة التي استدعاها السيد فوشيه وزير البوليس ليبلغها أن القنصل الأول ـ بونابرت نابوليون ـ يعتقد بأنها محرضة لبنيامين كونستان في جلسات الصالون التي كانت تعقدها مع كبار الأدباء والشخصيات المرموقة، فاقترح عليها الذهاب إلى الريف، وبعبارة أصح، نفاها نفياً مهذباً بدون ضجة، فكان ذلك، البداية الحقيقية للتراجع عن مبادئ الثورة الفرنسية بالاضطهاد، وقمع الحريات، وبالتالي، الاعتداء على سلطة القضاء، بواسطة المادة75 التي كانت لاتجيز اتهام الموظفين، إلا بقرار من مجلس الحكومة ، فانتشر مبدأ" التفكير من شأن الفرد والعمل من شأن الجماعة"، وضج الفرنسيون بهذا الوضع سواء بـ" انتصارات نابليون أوبهزائمه". والتاريخ يعلمنا أنه كلما اشتد قمع الحريات، وتسنين القوانين الجائرة، كلما كانت الدولة تؤول إلى التلاشي ، وفقدان الهيبة ، فالرعب لايصنع الهيبة ،وإنما يعقبه الاشمئزاز، والاحتقار . وعظمة الدولة في احترام القوانين التي سطرتها بيدها ، وإمكانية تطبيقها، وعدم التنافي بينها. وهو مانراه اليوم سائداً في الدول الأوروبية، بشيئ يبعث على الارتياح، وطمأنينة الفرد، والجماعة في مناخ تسوده الديموقراطية، واستقلال القضاء.
هواجس فلوبير وانشغالاته، وتخوفاته، ومساعيه الشخصية لدى الأوساط والدوائر العليا تطرح تساؤلات حول استقلال العدالة الفرنسية في
ذلك الإبان، وحول الفساد الإداري . فهل كانت تبرئة فلوبير من طرف المحكمة الجنائية بباريس من فعل اجتهادات القضاة ومحاميه الأستاذ
بير سينار؟ ولماذا لم تقع تبرئة بودليرإلا بعد وفاته بعقود؟

*** *** *** ***
نقتبس من كتاب إرنيست سينار المدعي العام ، لمؤلفه أليكسندر نجار‘مقتطفات مرجعية، تصور وضع الحريات العامة في النصف الثاني من القرن 19 :

"مازلنا في نهاية1856. لفد ظلت الصحافة الدورية تعيش ـ تلفظ نفسها الأخيرـ تحت سيادة التعسف و ...ولم يكن للإدارة سوى أن تشدد على أصابعها لتخنفنا في ركن إصدار مرسوم ما."
يلخص ماكسيم دوكون في ذكرياته الأدبية بقليل من الكلمات مناخ الرعب السائد الذي عاصره:
" أحيل ألفونس كار، وكزافيه دو مونتيبان على محكمة الجنايات وشوهد كزاقيه دو منتيبان محكوماً عليه بثلاثة أشهر سجناً و500 فرنك
غرامة بسبب كتابه بنات من الجبس ...
أعلن أحد أصدقاء دوكون بعد قليل من ذلك، في شهر نونبرـ تشرين الثاني ـ 1856 والصديق يعرفه معرفة جيدة أن" الدوائر العليا للسلطة" بسبب نشرها رواية " فاجرة" لغوستاف فلوبير والمعنونة بـ " مدام بوفاري" . المدير المشاركlaRevue de Paris أفادت أنها ستتابع
للمجلة مع ليون لوران ـ بيشا، لقد ذعر دي كون، ويفكر فوراً، " قضية سياسية" . السلطة تنظر إلى المجلة بعين سيئة: تجمع المجلة كتابات الأساتذة الذين قدموا استقالاتهم بعد يوم2 دجنبر ـ كانون الأول ـ وبعض الأعضاء القدماء من الوزراء للجمهورية الثانية؛ وقد سبق أن توصلتْ بتحذيرين يومي 14 و 17 أبريل 1856 .
يقرر ملاقاة المتابعة ويقترح أيضاً قراءة فصول مدام بوفاري بانتباه، وان يحذف منها بالاتفاق مع المؤلف المقاطع التي من شأنها أن تشكل
" ظهور خطرما". ولما علم فلوبير بنوايا صاحبه، رفض .
"سيتذكر دوكون، خلال حياته كلها،أنه كان صوفياً أدبياً مستعداً للاستشهاد من أجل الجهر بالالوهية التي كان يعبدها. وكان لايدرك انه قد
يمكن التراجع أمام القمع، لأنه ماكان أبداً يقوم بتنازل خفيف عن ذلك ." ويتوصل مؤلف مدام بوفاري يوم 19 تونبر ـ تشرين أول ـ بهذه الرسالة من دوكون:" ليس مقصوداً أن اتندر، إن مشهد عربتك مستحيل، لا بالنسبة إلينا نحن الذين نسخر منها ، ولا بالنسبة إليّ أنا الذي أوَقع
على كل عدد من الجريدة، ولكن بالنسبة إلى الشرطة الجنائية التي قد تديننا تماماً كما أدانت مونتيبان ، بأقل من هذا السبب...إن لدينا إنذارين، ويُتربـّص بنا الدوائر، فعسى ألا تضيع منا الفرصة ."
وينتهي فلوبيربأن يقبل بعض التعديلات الثانوية.إلا أنه وهو يقرأ عدد1 د جنبرـ تشرين الثاني ـ يكتشف حانقاً أن مشهد عربة فياكر الشهير،
كان قد حذف بدون موافقته.، وتم تعويضه بهذه الملاحظة:"ارتأت إدارة المجلة أن من الضروري حذف فقرة من ههنا قدلا تتلاءم مع المجلة ،
نقر بذلك للمؤلف ." يخرج فلوبير عن طوره .يحاول دوكون أن يخفف عنه . فذهب جهده سدىً. إذ يفنده فلوبير:"إنني لاأبالي بالأمر. إذا كانت روايتي تغيظ البورجوازي فلا أبالي؛ وإذا أ ُ حلنا على الشرطة الجنائية ،فلا أبالي؛وإذا كانت لاريفي دي باري قد مُنعت من الصدور، فلا
أبالي! لم تقبل مدام بوفاري، لقد أخذ تــَهاأنت، فحيفاً عليك،ستنشرها كما هي!"
يكتب فلوبيريوم7 دجنبر 1856 إلى لوران بيشا للاحتتجاح ضد المحذو ف المقطـّع من روايته: " احتفظت " لاريفي" بـ مدام بوفاري خلال ثلاثة أشهر كمخطوطة يدوية فكان ينبغي لها أن تعرف لأي شيئ تم الإبقاء على العمل الآنف الذكر، فكان عليها أخذه أوتركه، فأخذته حيفاً عليها."
وفي النهاية ، وجد مدير المجلة تسوية للأ مر: أدرج في العدد التالي المؤرخ بـ 15 دجنبر بلاغاً يتضمن احتجاج فلوبير الذي أعلن فيه أنه لم يتقبل المسؤولية عن عمله المبتور، ملتمساً من القراء تماماً ألا يروا ثمة إلا قطعاً مجزأة وليس مجموع عمله.
نبذة عن الأستاذ بير سينار
محامي غوستاف قلوبير

قبل كل شيء، من هو محامي فلوبير؟ وهل هو حقاً السبب في كسب القضية المرفوعة ضده؟ ألا تكون هناك أطراف خفية تصدر تعليمات، بالرغم من إصرار وزارة الداخلية على معاقبة فلوبير وشركائه الناشرين ،بسبب خدش الأخلاق العامة والمساس بالدين؟
للإ جابة على هذه الأسئلة وغيرها، نقتطف نبذة من حياة بير سينار كما جاءت في كتاب أليكسندر نجارونتابع معه توجسات فلوبير عشية محاكمته :
محامي غوستاف فلوبيرهو الأستاذ بير سينار: ماري آنطوان جول سينار وهو مثله مثل بيريه، وكريمينوه،أو جول فافر، كان أحد الصداحين صوتاً في منابر المحامين بمحكمة باريس،
وقد اشتهربـ "إلمامه الجيد بالملفات والإجراءات و بخياله الذي لايقبل النفاد، وبالإتيان بعرض كل البراهين المضادة لقضية الخصم، وبلطافة روحه ، وقوة كلمته الحارة المفعمة بالصدق"يبدأ عمله في هيئة المحامين بـ روون سنة 1835 ، فتنتخبه نقيباً . وعند إعلان الجمهورية، عين نائباً عاماً في روون لينتخب بعد ذلك عضواً بالمجلس التأسيسي في نفةس السنة، فيصبح فيه نائب الرئيس،ثم رئيساً قبل أن يستدعى إلى وزارة الداخلية . وأثناء الانتخابات التشريعية لسنة 1849 يخسرها، فيقرر حينئذ أن ينخرط في سلك المحاماة بـ باريس. من سخرية القدر: أنه ترافع الأستاذ سينار سنة 1845 [ خلال عشر ساعات] في قضية لورسيل التي أصبحت حديث سكان روون .ويتعلق الأمر بتهمة التسميم الزوجي ضد أحد الصيادلة . هذه القصية التي كانت ممزوجة بغانية بوفلري قد يكون فلوبير استلهم منها، لكتابة الرواية التجريمية . المزيد في عدد لاجق


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...