"المراقبة والمعاقبة"
Discipline and Punish
أثار ضجيجاً واسعاً، ومؤلِّفه ميشيل فوكو اخترق علمين لهما أصولٍ تاريخية، وهما علما الإجرام Criminology والعقاب Penology. وما قاله فوكو ليس بالشيء المذكور إذا قارناه بالمؤلفات الضخمة التي أسست للعلمين. كمؤلفات بيكاريا وفريد هاينز Fred E. Haynes وخلافهما.
فلماذا نال فوكو كل تلك الشهرة؟ ولم ينل الآخرون شيئا إلا داخل الحقل العلمي؟
هذه مسألة محيرة، إذا حاولنا تحليلها على مستوى دقة الخطاب من ناحية منهجية..فهنا يسقط فوكو سقوطا مدوياً ويرتفع شأو أقل كتاب لعالم من علماء الإجرام والعقاب.
يمكننا القول إذاً؛ أن الإجابة لا تكمن في مستوى النص فقط، بل في مستويات القارئ، ومستويات السيولة في العلوم.
فإذا كانت السياسة علم فإنها من أكثر العلوم سيولة، بحيث يتداولها ويتحدث فيها الأمي بدون وجل ككا لو كان عالماً، ويبدو أن الفلسفة من الفنون الأكثر سيولة لأنها (حكمة) أو رؤية، او ربما استبصار، يمكن ان تتوازى مع علوم زائفة أخرى مثل التنمية البشرية وعلوم الطاقة الروحانية.
تميل الشعوب (والمقصود من استخدام كلمة شعوب هنا هو القواسم النفسية بين الأفراد) إلى مستوى الخطاب السائل، وتحجم عن مستوى الخطاب الصارم Strict. مع ذلك فخطاب فوكو يبدو لأول وهلة أشد تعقيدا من خطاب أي مؤلف علمي في الإجرام والعقاب.
من الواضح أن عديداً من غير المنشغلين بالفلسفة قد قرأوا رواية صوفي، لأنها تطرح لهم الفلسفة بشكل يمنحهم الثقة في القدرة على الفهم، وقرأوا رواية الجريمة والعقاب فاعتبروا انفسهم قد غاصوا في علم الإجرام وخباياه النفسية، ولذلك نالت تلكما الروايتان شهرة واسعة. ولكن مؤلف ميشيل فوكو لم يكن مثلهما، بل كان أكثر تعقيداً من ان يفهمه عالم من علماء الإجرام، لأن فوكو استخدم سيولة اللغة الفلسفية بشكل مقعر جداً، ليتمكن من اقتحام أحد الحقول العلمية التي لها زعماؤها التاريخيين وكهنتها الأزليين. لم يكن مؤلفه عظيما على المستوى العلمي الصارم، وهو تجنب ذلك وغاص في التحليلات التاريخية ذات الطابع السياسي والنفسي (السلطة على وجه الخصوص)، وهكذا منع عنه أي اعتراضات من علماء الاجرام، لأن الخطاب السياسي خطاب سائل، وكذلك علم النفس.
لقد كان فوكو ذكياً عندما وضع تقديرات مناسبة لأسلوب الخطاب، بحيث يكون محفزاً للعامة، وطارداً لذوي الاختصاص من علماء الإجرام والعقاب. وهكذا حظي مؤلفه بالشهرة عند الأوَل، ولم يحظ بالإهتمام عند الآخِيريِن.
يعتبر علما الإجرام والعقاب من العلوم التأسيسية لطلبة القانون في كل جامعات العالم، ومدخلاً مهماً لفلسفة القانون الجنائي بل والعدالة الجنائية والفقه الجنائي، والسياسة الجنائية الدولية. وعلى هذا الأساس فما قاله فوكو لم يكن ليخرج عن المعروف داخل الحقل العلمي إن لم نقل بأنه كان ساذجاً، حتى فيما يتعلق بتقسيماته التاريخية، إذ أن هذه التقسيمات متوفرة في مؤلف صغير في الإجرام والعقاب. لقد حكى فوكو قصصاً لطيفة ومحفزة للشخص غير المختص، لكنها أساساً موجودة ومُجْمَلة في أي مؤلفات متخصصة، تماما كمن يعيد صياغة حكم قضائي بشكل قانوني ومن يعيد صياغته بشكل أدبي.
إلتفتت الأجهزة البحثية مؤخراً لهذا الفارق في الخطاب، وبدأت عملية تحول كبير في البحث العلمي القانوني لتخرجه من صرامته وتجعله أكثر ليونة، سنجد مثلا مؤلفات أمريكية عديدة (وهي مؤلفات مُحَكَّمَة) تبدأ بذات البدايات الفوكوية، أي تبدأ بقصة، قد تكون قصة الكاتب نفسه؛ تلك التي دفعته في لحظة فارقة إلى الإهتمام بدراسة تلك الجزئية دراسة أعمق، وقد يكون المدخل قصة جريمة بشكل مشوق، يدفع القارئ غير القانوني إلى تتبع القصة حتى نهايتها ثم يحاول فهم الخطاب القانوني المعقد بقدر ما يستطيع. ويستثمر كبار الفقهاء الأمريكيون خبراتهم السابقة (كمحامين على وجه الخصوص، وكقضاة، وكمشرعين) لإثراء تلك القصص بتجاربهم الخاصة، وبالنسبة للفقهاء الشباب من قليلي الخبرات، سنراهم يلجأون للكبار للحصول على معلومات اكثر، قد لا ترتبط بالشوائك القانونية مباشرة، مثل مناخ لقاء المحامي الكبير بالشاب اليهودي حديث التخرج والتي أدت لتحول كبير فيما يتعلق بمقبولية الحمض النووي DNA كدليل أمام القضاء. وهكذا يمتزج البحث العلمي بالجانب الأدبي، دون أن يطغي هذا الأخير على الغاية البحثية الأساسية.
إذاً، فتحولات الخطاب البحثي، قد تكون ناتجة عن ذلك الاقتحام الفلسفي، غير أنها في كل الاحوال لم تستطع أن تنافس خطاب الفلاسفة الأقل صرامة مثل فوكو.
لقد تضعضعت الفلسفة منذ أواخر القرن الثامن عشر إثر ظهور المدرسة الوضعية، والثورة الصناعية، فتراجعت ليحل محلها الخطاب العلمي الصارم، وانفصلت عنها العلوم علماً تلو آخر، بما فيها الفلسفة العلمية، فتقوقعت على نفسها وأضحت فناً يصعب البحث عن الغاية منه، وصفعها فلاسفة العلوم صفعة أخيرة كما فعل رايشنباخ، غير أن المؤلفات الحديثة منذ نيتشة، تجاوزت ذلك الخطاب الكلاسيكي، وشرعت في فلسفة الشذرات، التي قد تمثل مشروعاً متكاملاً أو لا تمثل. وهنا عادت من جديد. لكنني أعتقد أن الصرامة العلمية التي تضافرت مع الرأسمالية قد خلقت بيئة كونية شديدة الجفاف، دفعت بالإنسان المعاصر إلى العودة للخطابات السائلة، والروحانية، خطابات تعتمد على إحياء الشعور بالإنساني، والروابط الحيوية بين الكون والبشر، وهي خطابات تغطي منطقة الفراغ واليأس والعدمية واللا جدوى عند الفرد الملقى هناك.
Discipline and Punish
أثار ضجيجاً واسعاً، ومؤلِّفه ميشيل فوكو اخترق علمين لهما أصولٍ تاريخية، وهما علما الإجرام Criminology والعقاب Penology. وما قاله فوكو ليس بالشيء المذكور إذا قارناه بالمؤلفات الضخمة التي أسست للعلمين. كمؤلفات بيكاريا وفريد هاينز Fred E. Haynes وخلافهما.
فلماذا نال فوكو كل تلك الشهرة؟ ولم ينل الآخرون شيئا إلا داخل الحقل العلمي؟
هذه مسألة محيرة، إذا حاولنا تحليلها على مستوى دقة الخطاب من ناحية منهجية..فهنا يسقط فوكو سقوطا مدوياً ويرتفع شأو أقل كتاب لعالم من علماء الإجرام والعقاب.
يمكننا القول إذاً؛ أن الإجابة لا تكمن في مستوى النص فقط، بل في مستويات القارئ، ومستويات السيولة في العلوم.
فإذا كانت السياسة علم فإنها من أكثر العلوم سيولة، بحيث يتداولها ويتحدث فيها الأمي بدون وجل ككا لو كان عالماً، ويبدو أن الفلسفة من الفنون الأكثر سيولة لأنها (حكمة) أو رؤية، او ربما استبصار، يمكن ان تتوازى مع علوم زائفة أخرى مثل التنمية البشرية وعلوم الطاقة الروحانية.
تميل الشعوب (والمقصود من استخدام كلمة شعوب هنا هو القواسم النفسية بين الأفراد) إلى مستوى الخطاب السائل، وتحجم عن مستوى الخطاب الصارم Strict. مع ذلك فخطاب فوكو يبدو لأول وهلة أشد تعقيدا من خطاب أي مؤلف علمي في الإجرام والعقاب.
من الواضح أن عديداً من غير المنشغلين بالفلسفة قد قرأوا رواية صوفي، لأنها تطرح لهم الفلسفة بشكل يمنحهم الثقة في القدرة على الفهم، وقرأوا رواية الجريمة والعقاب فاعتبروا انفسهم قد غاصوا في علم الإجرام وخباياه النفسية، ولذلك نالت تلكما الروايتان شهرة واسعة. ولكن مؤلف ميشيل فوكو لم يكن مثلهما، بل كان أكثر تعقيداً من ان يفهمه عالم من علماء الإجرام، لأن فوكو استخدم سيولة اللغة الفلسفية بشكل مقعر جداً، ليتمكن من اقتحام أحد الحقول العلمية التي لها زعماؤها التاريخيين وكهنتها الأزليين. لم يكن مؤلفه عظيما على المستوى العلمي الصارم، وهو تجنب ذلك وغاص في التحليلات التاريخية ذات الطابع السياسي والنفسي (السلطة على وجه الخصوص)، وهكذا منع عنه أي اعتراضات من علماء الاجرام، لأن الخطاب السياسي خطاب سائل، وكذلك علم النفس.
لقد كان فوكو ذكياً عندما وضع تقديرات مناسبة لأسلوب الخطاب، بحيث يكون محفزاً للعامة، وطارداً لذوي الاختصاص من علماء الإجرام والعقاب. وهكذا حظي مؤلفه بالشهرة عند الأوَل، ولم يحظ بالإهتمام عند الآخِيريِن.
يعتبر علما الإجرام والعقاب من العلوم التأسيسية لطلبة القانون في كل جامعات العالم، ومدخلاً مهماً لفلسفة القانون الجنائي بل والعدالة الجنائية والفقه الجنائي، والسياسة الجنائية الدولية. وعلى هذا الأساس فما قاله فوكو لم يكن ليخرج عن المعروف داخل الحقل العلمي إن لم نقل بأنه كان ساذجاً، حتى فيما يتعلق بتقسيماته التاريخية، إذ أن هذه التقسيمات متوفرة في مؤلف صغير في الإجرام والعقاب. لقد حكى فوكو قصصاً لطيفة ومحفزة للشخص غير المختص، لكنها أساساً موجودة ومُجْمَلة في أي مؤلفات متخصصة، تماما كمن يعيد صياغة حكم قضائي بشكل قانوني ومن يعيد صياغته بشكل أدبي.
إلتفتت الأجهزة البحثية مؤخراً لهذا الفارق في الخطاب، وبدأت عملية تحول كبير في البحث العلمي القانوني لتخرجه من صرامته وتجعله أكثر ليونة، سنجد مثلا مؤلفات أمريكية عديدة (وهي مؤلفات مُحَكَّمَة) تبدأ بذات البدايات الفوكوية، أي تبدأ بقصة، قد تكون قصة الكاتب نفسه؛ تلك التي دفعته في لحظة فارقة إلى الإهتمام بدراسة تلك الجزئية دراسة أعمق، وقد يكون المدخل قصة جريمة بشكل مشوق، يدفع القارئ غير القانوني إلى تتبع القصة حتى نهايتها ثم يحاول فهم الخطاب القانوني المعقد بقدر ما يستطيع. ويستثمر كبار الفقهاء الأمريكيون خبراتهم السابقة (كمحامين على وجه الخصوص، وكقضاة، وكمشرعين) لإثراء تلك القصص بتجاربهم الخاصة، وبالنسبة للفقهاء الشباب من قليلي الخبرات، سنراهم يلجأون للكبار للحصول على معلومات اكثر، قد لا ترتبط بالشوائك القانونية مباشرة، مثل مناخ لقاء المحامي الكبير بالشاب اليهودي حديث التخرج والتي أدت لتحول كبير فيما يتعلق بمقبولية الحمض النووي DNA كدليل أمام القضاء. وهكذا يمتزج البحث العلمي بالجانب الأدبي، دون أن يطغي هذا الأخير على الغاية البحثية الأساسية.
إذاً، فتحولات الخطاب البحثي، قد تكون ناتجة عن ذلك الاقتحام الفلسفي، غير أنها في كل الاحوال لم تستطع أن تنافس خطاب الفلاسفة الأقل صرامة مثل فوكو.
لقد تضعضعت الفلسفة منذ أواخر القرن الثامن عشر إثر ظهور المدرسة الوضعية، والثورة الصناعية، فتراجعت ليحل محلها الخطاب العلمي الصارم، وانفصلت عنها العلوم علماً تلو آخر، بما فيها الفلسفة العلمية، فتقوقعت على نفسها وأضحت فناً يصعب البحث عن الغاية منه، وصفعها فلاسفة العلوم صفعة أخيرة كما فعل رايشنباخ، غير أن المؤلفات الحديثة منذ نيتشة، تجاوزت ذلك الخطاب الكلاسيكي، وشرعت في فلسفة الشذرات، التي قد تمثل مشروعاً متكاملاً أو لا تمثل. وهنا عادت من جديد. لكنني أعتقد أن الصرامة العلمية التي تضافرت مع الرأسمالية قد خلقت بيئة كونية شديدة الجفاف، دفعت بالإنسان المعاصر إلى العودة للخطابات السائلة، والروحانية، خطابات تعتمد على إحياء الشعور بالإنساني، والروابط الحيوية بين الكون والبشر، وهي خطابات تغطي منطقة الفراغ واليأس والعدمية واللا جدوى عند الفرد الملقى هناك.