في دراستنا للأعمال الفنية نلاحظ كالعديد من المحللين الفنيين أن هناك تفاوت كبير بين التقدير التحليلي للعمل الفني وبين الحكم الانطباعي عليه( جون دوي)، فالثاني انفعال خالص يقود إلى اللذة العرضية وحدها، أما الأول فيحاول ترجمة المتعة إلى مفاهيم تُجرد المشخص وتُجلي مضمونه، ذلك أن وجود التجربة لا يستقيم إلا إذا كانت قابلة للتعميم، وذاك شرط من شروط انتشار الذات في ما هو أبعد من ملكوتها الخاص. فقد يكون الانفعال فرديا دائما، وهو كذلك حقا، ولكنه لن يستقيم إلا إذا استمد مضمونه من صيغ انفعالية مجردة يشترك فيها جميع الناس. فكيف تعاملت الفنانة السعودية نجلاء فلمبان مع لوحتها كمنشأ فني ؟ وكيف تعاملت مع الكتل اللونية والضوء؟ وكيف ترجمت انفعالاتها وأحاسيسها وتخوفاتها إلى أعمال فنية ؟ وما هي المرجعية الفكرية التي تحاول العمل في إطارها أم انها تعاملت مع الفن بمرجعية جمالية محضة؟
الفنانة نجلاء فلمبان من الفنانات السعوديات الرائدات في المجال الفني خصوصا لمرحلة طويلة تحت إطار أجنجة عربية، وكانت فاعلة ومتفاعلة فيها، شكلت نحلة وفراشة المجمع الفني السعودي إلا جانب فنانات وفنانين آخرين إلى أن فاجأها المرض ودخلت دوامة العلاجات الكيماوية ورحلات العلاج بألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ورغم هذه الصعوبات الصحية والإكراهات الزمنية لم تفقد حيويتها رغم توقفها على تنظيم الملتقيات الفنية وغيرها، بل أصبحت أكثر إلحاحا على إثباث ذاتها على جميع المجالات الحياتية والفنية.
إن نمط عيش الفنانة نجلاء وتعلقها بالسعودية رغم عيشها بأمريكا بمدينة نيويورك بإكراه مرض السرطان الذي فرضته عليها الحياة ، جعلها تدخل في علاقة مباشرة مع مختلف الحضارات والبنيات الفكرية العالمية على غرار العديد من الفنانات العربيات اللواتي هاجرن لأسباب مختلفة ، بل تدخل مباشرة في سياق العالم الغربي وإكراهاته خصوصا مع رحلة محاربة السرطان أملا في انتصارها عليه، مما جعلها أكثر انفتاحا فكريا على ثقافة التسامح الرحي والإجتماعي وحوار الأديان والثقافات وأكثر تشبثا بالحياة و بدينها واعتزازا بهويتها وانتمائها الإسلامي في جل أعمالها الفنية. و رغم هذا الانفتاح على العالمية عملا وتنقلا إلا أنها تحس بقمة الاغتراب الذاتي والوحدة وتسكنها نوستالجيا لوطنها وأهلها وعشيرتها ليكون لها دعما في لحظة المرض ، فهي تحس بنوع من الإغتراب واستعملت التشكبل كلغة للحوار المباشر مع كل هذا الزخم الفكري والإكتظاظ البشري. وتصرح بانعدام الحوار الاجتماعي في هذه المجتمعات التي غابت فيها العلاقات الإنسانية المباشر والدفء الأسري فجاءت شخوص لوحاتها .
عبارة عن أيقونات بشرية تفتقد خصائصها البشرية، وهي إما بألوان حمراء استعارة إلى الأشخاص الشيطانية الفكر أو بألوان صفراء كرمزية لأشخاص من فضلات بشرية وطفيلية تدخل حياة الشخص وتحدث بها مغص واضطرابات، أو تماثل متكرر للأيقونات لها نفس الألوان المتكررة والقياس الطولي والجسدي بحيث يصعب التمييز بينها وهذا رمزية لاختلاك الأمور عليها بحيث لم تستكع التمييز بين منهم الاصدقاء ولا بين الأعداء. وهذا يعني في حد ذاته اغتراب وعدم الاستقلالية الإنسان المعاصر الذي أضحى عبدا لوسائل التواصل الحديثة و في قمة العزلة. وقد تعاملت بسلاسة مع الشكل الفني ولم تفرغه من محتواه الدلالي بل جعلته أكثر عمقا في عملية تبسيطه . فضاءاتها التشكيلية بخلفيات لونية قوية ، تجعل انبثاق هذه الأشكال من وسطها له بعد فلسفي وفني وفكري . ،فهي لها موروث لايمكن إهماله وإغفاله في الموروث الثقافي للتشكيلية نجلاء فلمبان كسعودية ابنة شبه الجزيرة العربية بيحيث أن تدينها منحها سعة قلبها لاحتضان الكل والتعامل معه بحكمة وتسامح يمنحها القوة للانتقال من فضاءات تشكيلية تجريدية متنوعة لا يمكن الحسم فيها بنمط معين فتارة هي تجريدية رمزية وتارة أخرى حركية تمزج فيها بين الأصباغ الزيتية والأكريليك والباستيل بتحكم وسلاسلة ومرونة ، ليصبح الأفراد مجرد ظلال لأشخاص مجهولين الملامح والروح . بل مجرد إيموجينات أو أيقونات رقمية متشابهة القياس والألوان وتفقد تميزها أو خصوصياتها الملموسة في أرض الواقع . وما هذه اللاعمال الفنية إلا إحدى همومها اليومية وهموم المجتمعات العالمية ككل. وهي بذلك تدق ناقوس خطر الاستلاب الذاتي والروحي أمام التكنولوجية الحديثة التي حولت الحياة إلى غابة بشرية تفتقر إلى أبسط ملامح الحياة الإنسانية، ويصبح الآخر للذات المبدعة مجرد كائن طفيل ينتظر الفرصة السانحة له ليفتك بها في غياب كلي للضمير والقيم الجمالية أو الفكرية الإنسانية.
التشكيلية في تحريكها للكتلة اللونية بجميع أعمالها تعاملت الفنانة مع جميع الألوان راكبة موجة التحدي، و بتعدد اللألوان نرى أنها تتحكم في تحركها حسب أضواء أفكارها وليس حسب مصدر الضوء الطبيعي ويظهر أنها تتمتع بذلك .ألوانها تختلف دراجة قتامتها أو انفتاحها حسب المواضيع التي تريد معالجتها في لوحاتها، نلمس أن أعمالها فيها لمسة من لمسات الفنان العالمي بيكاسو من حيث ترميز الوجوه بالمربعات بألوان متعددة .وضربات الفرشاة لديها تختلف قوتها حسب انفعالاتها النفسية التي ترجمتها للوحات حسب قناعتها الفكرية، ونلاحظ قوة الضربات وعنفها بل استعمال وسائل حادة لرسم بعض التموجات والآثار الواضحة داخل الألوان.... فتظهر على سطح الأعمال كالندوب البارزة أو الخدوش، وهي فعلا تمثل خدوش نفسية للفنانة الغير راضية عنها على حد سواء كتعدد أقنعة الشخص الواحد في التعامل اليومي ، كالنفاق والرياء و....في العلاقات الإنسانية ليومية . وفي بعض الأعمال الفنية الأخرى تكون خفيفة في مداعبة الألوان التي تعج بالحركة والدفء والتدرج .
عموما وبعبارة أخرى، نستطيع أن نقول أن الفنانة من خلال الفن استطاعت أن تعيد إلى النفس طاقتها الإبداعية الأولى التي يمكن أن تتحقق من خلال الحس بها. وبهذا فالفنانة تحسم أنه في البصري، وفي كل المنافذ الحسية أيضا، تو ضع الذات في مقابل ما يأتيها من خارجها في استقلال عما يمكن أن تقوله اللغة أو توحي به، فالعين تذهب إلى موضوع نظرتها متحررة من كل أغطية الوجود سوى غطاء النظرة فيها. ومع ذلك، لا يمكننا أن نصف هذه التجربة إلا من خلال العودة بها إلى ما يرسم حدودها ضمن شبكة رمزية جديدة تتحقق وتُتداول داخلها. فأعمال الفنانة تمكننا في حركتها الفنية من تقديم تصورات جديدة عن البعد بل أدركنا سر الانطلاق والاندفاع إلى أمام كلي، كما يمكن أن يستثيره “القلق” الذي يسكننا ويقودنا دوما إلى المستقبل الحاضن ، حيث انكماش الجسد وضموره وتراجع القوة فينا، وحيث الموت والنهاية في وجودنا لا في الزمن. فهَمُّ الحياة وهم الموت وكل هموم الوجود لا تتسرب إلى النفس ضمن ما تقدمه التجربة الانفعالية المباشرة دائما، بل تستوطن في الكثير من الحالات صورا شتى تحيل على عوالم يصعب عادة تحديد فحواها خارج تجربة الفن.
بعض المراجع:
-الفن سبيلا إلى الحقيقة.....سعيد بنگراد شتنبر 12, 2020
" جون ديوى": الفن خبرة - ترجمة زكريا إبراهيم - مراجعة زكى نجيب محمود - ( دار النهضة العربية - بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين) - (القاهرة - بيروت ) سبتمبر 1963.
- انظر صليبا، جميل: المعجم الفلسفي - جـ1 - دار الكتاب اللبناني - الطبعة الأولى - بيروت - 1971.
10- "هريرت ريد" معنى الفن - ترجمة سامي خشبة - مراجعة مصطفى حبيب - الهيئة - المصرية العامة للكتاب القاهرة - 1998 -
1
الفنانة نجلاء فلمبان من الفنانات السعوديات الرائدات في المجال الفني خصوصا لمرحلة طويلة تحت إطار أجنجة عربية، وكانت فاعلة ومتفاعلة فيها، شكلت نحلة وفراشة المجمع الفني السعودي إلا جانب فنانات وفنانين آخرين إلى أن فاجأها المرض ودخلت دوامة العلاجات الكيماوية ورحلات العلاج بألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ورغم هذه الصعوبات الصحية والإكراهات الزمنية لم تفقد حيويتها رغم توقفها على تنظيم الملتقيات الفنية وغيرها، بل أصبحت أكثر إلحاحا على إثباث ذاتها على جميع المجالات الحياتية والفنية.
إن نمط عيش الفنانة نجلاء وتعلقها بالسعودية رغم عيشها بأمريكا بمدينة نيويورك بإكراه مرض السرطان الذي فرضته عليها الحياة ، جعلها تدخل في علاقة مباشرة مع مختلف الحضارات والبنيات الفكرية العالمية على غرار العديد من الفنانات العربيات اللواتي هاجرن لأسباب مختلفة ، بل تدخل مباشرة في سياق العالم الغربي وإكراهاته خصوصا مع رحلة محاربة السرطان أملا في انتصارها عليه، مما جعلها أكثر انفتاحا فكريا على ثقافة التسامح الرحي والإجتماعي وحوار الأديان والثقافات وأكثر تشبثا بالحياة و بدينها واعتزازا بهويتها وانتمائها الإسلامي في جل أعمالها الفنية. و رغم هذا الانفتاح على العالمية عملا وتنقلا إلا أنها تحس بقمة الاغتراب الذاتي والوحدة وتسكنها نوستالجيا لوطنها وأهلها وعشيرتها ليكون لها دعما في لحظة المرض ، فهي تحس بنوع من الإغتراب واستعملت التشكبل كلغة للحوار المباشر مع كل هذا الزخم الفكري والإكتظاظ البشري. وتصرح بانعدام الحوار الاجتماعي في هذه المجتمعات التي غابت فيها العلاقات الإنسانية المباشر والدفء الأسري فجاءت شخوص لوحاتها .
عبارة عن أيقونات بشرية تفتقد خصائصها البشرية، وهي إما بألوان حمراء استعارة إلى الأشخاص الشيطانية الفكر أو بألوان صفراء كرمزية لأشخاص من فضلات بشرية وطفيلية تدخل حياة الشخص وتحدث بها مغص واضطرابات، أو تماثل متكرر للأيقونات لها نفس الألوان المتكررة والقياس الطولي والجسدي بحيث يصعب التمييز بينها وهذا رمزية لاختلاك الأمور عليها بحيث لم تستكع التمييز بين منهم الاصدقاء ولا بين الأعداء. وهذا يعني في حد ذاته اغتراب وعدم الاستقلالية الإنسان المعاصر الذي أضحى عبدا لوسائل التواصل الحديثة و في قمة العزلة. وقد تعاملت بسلاسة مع الشكل الفني ولم تفرغه من محتواه الدلالي بل جعلته أكثر عمقا في عملية تبسيطه . فضاءاتها التشكيلية بخلفيات لونية قوية ، تجعل انبثاق هذه الأشكال من وسطها له بعد فلسفي وفني وفكري . ،فهي لها موروث لايمكن إهماله وإغفاله في الموروث الثقافي للتشكيلية نجلاء فلمبان كسعودية ابنة شبه الجزيرة العربية بيحيث أن تدينها منحها سعة قلبها لاحتضان الكل والتعامل معه بحكمة وتسامح يمنحها القوة للانتقال من فضاءات تشكيلية تجريدية متنوعة لا يمكن الحسم فيها بنمط معين فتارة هي تجريدية رمزية وتارة أخرى حركية تمزج فيها بين الأصباغ الزيتية والأكريليك والباستيل بتحكم وسلاسلة ومرونة ، ليصبح الأفراد مجرد ظلال لأشخاص مجهولين الملامح والروح . بل مجرد إيموجينات أو أيقونات رقمية متشابهة القياس والألوان وتفقد تميزها أو خصوصياتها الملموسة في أرض الواقع . وما هذه اللاعمال الفنية إلا إحدى همومها اليومية وهموم المجتمعات العالمية ككل. وهي بذلك تدق ناقوس خطر الاستلاب الذاتي والروحي أمام التكنولوجية الحديثة التي حولت الحياة إلى غابة بشرية تفتقر إلى أبسط ملامح الحياة الإنسانية، ويصبح الآخر للذات المبدعة مجرد كائن طفيل ينتظر الفرصة السانحة له ليفتك بها في غياب كلي للضمير والقيم الجمالية أو الفكرية الإنسانية.
التشكيلية في تحريكها للكتلة اللونية بجميع أعمالها تعاملت الفنانة مع جميع الألوان راكبة موجة التحدي، و بتعدد اللألوان نرى أنها تتحكم في تحركها حسب أضواء أفكارها وليس حسب مصدر الضوء الطبيعي ويظهر أنها تتمتع بذلك .ألوانها تختلف دراجة قتامتها أو انفتاحها حسب المواضيع التي تريد معالجتها في لوحاتها، نلمس أن أعمالها فيها لمسة من لمسات الفنان العالمي بيكاسو من حيث ترميز الوجوه بالمربعات بألوان متعددة .وضربات الفرشاة لديها تختلف قوتها حسب انفعالاتها النفسية التي ترجمتها للوحات حسب قناعتها الفكرية، ونلاحظ قوة الضربات وعنفها بل استعمال وسائل حادة لرسم بعض التموجات والآثار الواضحة داخل الألوان.... فتظهر على سطح الأعمال كالندوب البارزة أو الخدوش، وهي فعلا تمثل خدوش نفسية للفنانة الغير راضية عنها على حد سواء كتعدد أقنعة الشخص الواحد في التعامل اليومي ، كالنفاق والرياء و....في العلاقات الإنسانية ليومية . وفي بعض الأعمال الفنية الأخرى تكون خفيفة في مداعبة الألوان التي تعج بالحركة والدفء والتدرج .
عموما وبعبارة أخرى، نستطيع أن نقول أن الفنانة من خلال الفن استطاعت أن تعيد إلى النفس طاقتها الإبداعية الأولى التي يمكن أن تتحقق من خلال الحس بها. وبهذا فالفنانة تحسم أنه في البصري، وفي كل المنافذ الحسية أيضا، تو ضع الذات في مقابل ما يأتيها من خارجها في استقلال عما يمكن أن تقوله اللغة أو توحي به، فالعين تذهب إلى موضوع نظرتها متحررة من كل أغطية الوجود سوى غطاء النظرة فيها. ومع ذلك، لا يمكننا أن نصف هذه التجربة إلا من خلال العودة بها إلى ما يرسم حدودها ضمن شبكة رمزية جديدة تتحقق وتُتداول داخلها. فأعمال الفنانة تمكننا في حركتها الفنية من تقديم تصورات جديدة عن البعد بل أدركنا سر الانطلاق والاندفاع إلى أمام كلي، كما يمكن أن يستثيره “القلق” الذي يسكننا ويقودنا دوما إلى المستقبل الحاضن ، حيث انكماش الجسد وضموره وتراجع القوة فينا، وحيث الموت والنهاية في وجودنا لا في الزمن. فهَمُّ الحياة وهم الموت وكل هموم الوجود لا تتسرب إلى النفس ضمن ما تقدمه التجربة الانفعالية المباشرة دائما، بل تستوطن في الكثير من الحالات صورا شتى تحيل على عوالم يصعب عادة تحديد فحواها خارج تجربة الفن.
بعض المراجع:
-الفن سبيلا إلى الحقيقة.....سعيد بنگراد شتنبر 12, 2020
" جون ديوى": الفن خبرة - ترجمة زكريا إبراهيم - مراجعة زكى نجيب محمود - ( دار النهضة العربية - بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين) - (القاهرة - بيروت ) سبتمبر 1963.
- انظر صليبا، جميل: المعجم الفلسفي - جـ1 - دار الكتاب اللبناني - الطبعة الأولى - بيروت - 1971.
10- "هريرت ريد" معنى الفن - ترجمة سامي خشبة - مراجعة مصطفى حبيب - الهيئة - المصرية العامة للكتاب القاهرة - 1998 -
1