أمل الكردفاني- الدين كعنصر ثقافي

إنني موجود -حتى اللحظة- في هذا الكون، ضمن كتلة ثقافية. لكن هذه الكتلة ليست الوحيدة في البناء، إن كل كتلة ثقافية تتجزأ إلى كتل أصغر. هناك كتلة ثقافية إنسانية..وداخلها كتل صغيرة، تتوزع متجاورة أفقياً، او تتراص رأسياً.. تتباعد أو تتقارب أو تتنافر ولكنها دائما داخل الكتلة الثقافية الإنسانية. الفرق بين الآيدولوجيا وبين العقل المتجرد، هو أن الآيدولوجيا تحاول إزاحة كل الكتل من فضائها الوجودي المشترك. ولذلك تخسر في النهاية. ولذلك فإن أفضل ما يمكنه تحقيق فهم أقرب إلى الفعالية هو النظر لكل تلك الكتل كعناصر ثقافية.
فلنلاحظ أن خطأ التنوير، وخطأ مجددي الخطاب الديني، هو أنهم انتقلوا من كتلة آيدولوجية لكتلة آيدولوجية أخرى، وبالتالي كان الفشل نصيبهم الحتمي.
إنني مثلاً أنظر للدين كعنصر ثقافي (أيا كان ذلك الدين: إسلام، مسيحية، يهودية، بوذية، جينية، هندوسية،..الخ).وهنا تكون الكتلة الثقافية إلى جوار باقي الكتل، كلمسة فرشاة في لوحة عظيمة. يصبح الدين فناً من فنون الحياة. وهناك يمكننا أيضاً أن نفهمه ونطرح عنه رؤيتنا بإيجابية..وليس ذلك باستبعاد الشر استبعاداً مطلقاً، فلا فن بلا شر. بل لا حياة بلا شر. إنما الإيجابية هو قدرتنا على الفهم والتطوير والتكييف.
يحاول -أي دين- ايجاد إجابات لأسئلة كبرى. وهو ينجح دائماً، حتى عندما تكون إجابته مادية (فالإلحاد نفسه عندما يواجه الدين بإجابات لنفس الأسئلة فإنه يتحول هو أيضا إلى دين).
تحاول الأديان (المعنوية والمادية) أن تطرح إجابات. وتوصلنا لهذه النتيجة العامة ينبثق عن سياسة أنثروبولوجيا ثقافية Cultural anthropology، أي النظر لل(دين) كعنصر ثقافي، ثم تعميم النتائج. لفهم كيف تشتغل الأديان ومن ثم فهم الإنسان (الصانع) عبر الكل المركَّب.
في حين -وفق المنهج التقليدي- يشتغل المنظرون الدينيون (مع أو ضد)، من خلال الرؤية الكتلية. مع أننا لو طرحنا الأسئلة الكبرى، واستخدمنا العصف الذهني، فستكون نتائجنا متقاربة تماما مع المنتج التاريخي.
فلنجري تجربة بسيطة، ولنأت بأطفال في التاسعة أو العاشرة من أعمارهم ولنسألهم سؤالاً واحداً:
(من أين أتى هذا الكون؟)..فلن تخرج إجاباتهم عن الإجابات المتعددة والمتنوعة التي ترسخت عبر التاريخ كأديان..سيجيب بعضهم أن كائنات فضائية أوجدتنا، وسيجيب آخر بأن ابطالا كرتونيين هم الذين صنعوا العالم. ومهما كان تطورنا البشري، فإنه لا يملك الحرية الكافية للهروب من النمطية.
إن محاولات الإصلاحيين، كانت عصفاً ذهنيا مشابهاً، فأنتجت كتلاً جديدة تجاورت أو تراصت مع باقي الكتل.
تأثيرات النزعة العدوانية:
لم يحاول التنوير ولا تجديد الخطاب الديني الخروج من النزعة العدوانية كحرب مضادة. هكذا اقتبست العلمانية روح المواجهة الإقصائية من المعتقدات الرئيسية في العالم. وهكذا انحط مستوى اللا دينية من مستوى أبوي إلى مستوى الندية الهمجية. وهذا ما جعل الخطاب نفسه أقل إنتاجاً مما كان بإمكانه أن يكون (ماكرون نموذجا مثالياً).
دعمت الرأسمالية (البرجوازية) الحضور الديني، رغم أنه منطقياً (وفقا للتطور التكنولوجي) كان يفترض أن يضحى من مخلفات التاريخ، غير أن هذا لو حدث، لأضر بمصالح الطبقة البرجوازية، التي اتبعت طريقين، طريق أيجابي، وهو تعزيز الروحانيات، وطريق سلبي هو تحييدها لتتواءم مع التطورات، بحيث تفقد عنصر المقاومة (أنظر مثلاً:صمويل هنتجتون-الموجة). ما حدث أن فقدها روح المقاومة حولها بالفعل لأفيون للشعوب..(لا يمكن إهمال صحة مقولة ماركس التي يكون بها ملقيا بوزر ذلك التحول على الرأسمالية لا الدين نفسه). كان ذلك الإزعاج في الواقع مصدرا لنزعة عدوانية مضادة من قبل اللا دينيين والعلمانيين، خلافاً لما يُتصور. لأن تحول مقاومة البرجوازية إلى مقاومة التمرد نفسه أضحى معرقلاً للتحرر الحقيقي. ففي بعض الأحيان يكون الإستسلام أكثر عدوانا من الحرب.
من يقاوم الدينيون اليوم؟ إنهم يقاومون حريتهم، ومن يقاوم اللا دينيون؟ إنهم يقاومون تجردهم وحيدتهم. وهكذا ضربت البرجوازية على طبول الحرب بينهما.
كان للفلسفة المثالية الدور الأكبر، بعد هزيمة السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان ذلك هو الهدف الحقيقي من نشر الأفلاطونية، وتداعيها الفلسفي، الذي أكمله المتكلمة وحتى هيجل. كان الجميع يخدمون المال عن علم أو جهل ولا يخدمون الحرية. كانت الحرية لتفضي إلى عالم أكثر استقراراً لو نتجت عن توازن القوى في الصراع الإنساني التاريخي داخل سياق طبيعي، لكنها في القرنين العشرين والحادي والعشرين تفرض كآيدولوجيا، ليس هذا فحسب بل كآيدولوجيا عنيفة إمبريالية تقصي كل ما عداها عبر تكريس السلطة الخادمة للأطروحات المثالية التي لا يجوز المساس بها كمقدسات حديثة، مثل الدموقراطية، والنسوية، والإشفاق العقابي، الذي يكسر الرغبة في العدالة مقابل الإحسان. نيتشة وفوكو كانا من كبار المقاومين لما سبق. لكنهما جاء متأخرين جداً. كما أنهما لم يحاولا الهبوط لمستوى الشعوب. كانا صفويين ولذلك لم يتمكنا من خلق مدرستيهما.
ونحن الآن -بدورنا- لن نتمكن من مواجهة المقدسات الجديدة، فهذه الأخيرة مدعومة دعماً شاملاً بتحالف المال والسلطة. وهذا ما لن يسمح لنا أبداً بالنزول إلى الجماهير.
المعالجة داخل إشتراطات الدين:
كان التوجه لفهم الدين كعنصر ثقافي، مؤدياً بالضرورة إلى الإشتغال على الصورة الأكبر، بدلا عما وقعت فيه محاولات التجديد من العمل داخل داخل اشتراطات الدين. وربما كان ذلك بسبب أن المجددين أنفسهم لم يستطيعوا الفِكاك من التراكم النفسي الذي بثه فيه البرادايم الكلاسيكي. لقد ظلوا يطوفون حول حِمى الرغبة والغموض. مع ذلك فلا يخلوا ما قاموا به من كل قيمة، فعلى الأقل استطاعوا خلخلة القواعد بذات منهج السلف في لي عنق النصوص. وهكذا خلقوا متوازيات من المفاهيم. غير أنها متوازيات واهنة جداً في تأثيرها القاعدي. كانوا يخشون دوما الطعن في تدينهم، وهذا هو السلاح التاريخي لخصومهم. سيعمل هؤلاء ضمن النقد السلبي حتى وهم يتحدثون عن البناء أو إعادة البناء، لأنهم يعيدون البناء بذات اشتراطات الاستنباط الكلاسيكي؛ كنزاعات المصدر الفقهي التقليدية من حيث الصلاحية والقوة (عشماوي، ابو زيد،..) او دلالات العبارة (اركون)..الخ..أو الهدم التاريخي (القمني).. سواء عبر التوسيع أو التضييق..او حتى التلفيق والتقعير.
إنهم يتبعون خطى الإصلاحيين والتنويريين المسيحيين بجدارة.
لذا لابد من تغيير ذلك المنهج، عبر التخلي عن تلك الاشتراطات والتعامل مع الدين أنثروبولوجياً. وهكذ فَهْمُ ماله وما عليه باستخراج ذلك من ضمن معايير الأبنية التاريخية للكتل الموازية...ماذا يتغياه الإنسان من الدين؟ وما الذي أدى إليه؟ وما هو مصيره؟.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...