نقوس المهدي - تقديم ديوان "وشوشات مبعثرة" ليلى مهيدرة.. قراءة في الانساق..

"تستيقظ الحقيقةُ في الطبيعة عاريةً.
في الكتاب، تلبس ثيابه"ا.
أدونيس


"لا يتحدث الشاعر حول القصيدة ولا عنها. إنه يكتب"!.. هكذا يقول الفيلسوف الشهير مارتن هايدغر وهو الذي وضع الشعر في منزلة متقدمة بين المنازل والضروب المعرفية المختلفة، وبشكل مبني على نظرة فلسفية متأملة وعميقة وفاحصة، وليس على مجرد تخرصات أو تخمين حدسي أو تفضيل جمالي لجنس أدبي على غيره. هكذا يتسلح الشاعر على الدوام بثقافة موسوعية تتناسق في سياقاتها مع إيقاعات العصر.. وتتقاطع في دلالاتها بفضائل وروح الكتابة الإبداعية الكفيلة بتشكيل عالمه الشعري الخاص، وبهذا المعنى أيضا يظل النص الشعري مختبرا لشتى المعارف والتجريب والرؤى باختلاف صنوفها.. وليس غريبا في شيء أيضا وأيضا ما دام السياق شعرا أن يقول شيخ الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ابو حيان التوحيدي : " أحسن الكلام، ما قامت صورته بين تظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم"

والمتأمل لعنوان مجموعة أشعار "وشوشات مبعثرة" للمبدعة الشاعرة ليلى مهيدرة يحس بأن هذا العنوان يحمل في ثناياه معاني جزئية وعميقة باعتباره يجسد قسطا من الدلالات الكلية للنص، وعتبة تتيح لنا الولوج لعوالمه، وعندما نحلل هذا التركيب اللفظي يتبين لنا أن الشاعرة اختارت لفظ "وشوشات"، وهو صيغة الجمع لكلمة الوشوشة من الفعل الرباعي "وشوش" بمعنى تكلم بِصوت خافت غَيرِ واضحٍ. والشاعرة حينما تختار "الوشوشة" التي توحي بالكتمان والتحفظ إنما تسعى للإفصاح عن أشياء ضاق عنها الصدر ومكنونات وهواجس طفح بها الكيل حتى لم يبق هناك وقت للكتمان والتستر والسكوت. وتضعنا بمحاولة لملمة شتات هذه "الوشوشات المبعثرة" إزاء روح تتألم بصوت كتوم وخفيض لمصير العالم وتتعذب لمآل المسحوقين والبؤساء والمقهورين والمعذبين في الأرض ..

وتتشاطر الهم الإبداعي لدى للشاعرة ليلى مهيدرة عدة تجليات وتيمات معرفية:
- الأول منحى ذاتي وجودي وصوفي صرف يتصل جماليا بالوجود الكوني في بعده الكوسموبوليتي، وفي عمقه وتجلياته وانزياحاته الروحية، وأبهى تجلياته النفسية العابقة بالحب الإلهي والفيوضات الربانية والمكاشفة الجوانية والشوق والعشق والحلول في الذات الإلهية السامية التي تسعى لإدراكها الأحاسيس..
- والآخر وطني وقومي وانساني.. يعانق هموما كونية وعربية موقعة على توترات عميقة كما وشوشات الحروف القبض عليها هو المعادل الموضوعي للقبض على جمر الإبداع وحرقته..
- و"الابيغرام" وهو ضرب شعري أهم ميزاته الإيجاز والوضوح والتوازن.. كتب الشاعر الإنجليزي صمويل تايلور كولريدج في تعريفه يقول:
"ما الأبيجرام؟
كل قَزَميّ جسمه قصير
وروحه فطنة"..

وكل هذه الميزات تتجسد أمام إدراك المتلقي عبر نفس رومانسي ووجداني. واسلوب شفيف ورهيف يسري عبر مجرى القصيدة وعبر انساغها الى ما لا نهاية، ثم يكتسي لبوسا من البراءة والمحبة والطيبة والشوق الحميم والإخلاص للعالم والإنسان والأشياء.. ويمتح معجمه الشعري ومتعته البيانية وملكته من معين لغوي يعبر عن طفرات السكينة والوداعة والألم والإغتراب، عن الإقبال على لذاذات الحياة حد الإفتتان، عن الصد والزهد والنسك والرغبات الطافحة بالإيمان والمحبة حد التفاني، عن الحزن والبهجة التاوية في الأعماق، عن الرسوخ الأنثوي الذي يثير هواجس المرأة، عن الأمكنة وطيف خيالاتها في الذاكرة، عن الوطن وشما في الروح، وعن العدل والمساواة والكرامة البشرية آفاقا يتطلع لمعانقتها الكائن، عن نوايا الذات والعاطفة الجياشة ومكنوناتها السحيقة الغائرة في النفس، عن الاستعارات والإيماءات والإيحاءات والتشبيهات رديفا للحقيقة.. مزيج من الأحاسيس والرؤى الشعرية التي تصبو الى السمو بالقيم الإنسانية. هذا إلى جانب التكثيف اللغوي والبحث عن المسوغات اللفظية والرموز التي تكشف عن الجوهر المستتر في لاوعي الشاعرة والذي تعبر عنه لإثبات الذات الأنثوية، والانتصار المجازي على الواقع المزري ضد سطوة الإحباط والقهر والظلم والعبودية والاستغلال هنا وهنالك وفي كل مكان، لأن الشاعرة أرادتها لغة غنائية في كثير من مفاصل القصيدة، شاعرية صافية تلقائية من غير مساحيق أو تكلف، دون التحرر والانسلاخ عن جمالية ورونق الشعر وبهائه.. كتابة شعرية باذخة تتولد من رحم دوالها وصورها الشعرية، وتنكتب بحبر هموم وآمال الشاعرة وتطلع الأنثى فيها لحياة مثالية تتجاوز الحروف. وترتكز في بنيانها على ثراء المدلول، واتساع آفاق ورؤى التجريب الشعري، وأحابيله المجازية وانصهاره الشامل وتوحده بعناصر الكون. وتراوح بين الواقع والسيمولاكر، والتخييل والمعيش اليومي، وبين الذاتي والروحي.. أدوات بلاغية وابيستيمية اقل ما يقال عنها أنها تسعى لربط القارئ بالحبل السري للعوالم المفترضة المتشعبة التي تكشف عنها تداعيات المقول الشعري وسعة الدوال والحنكة في استغلالها إبداعيا، واختراق آفاقها البكر بعيدا عن نوايا تأويل النص وإسنادها بتخمينات واهية.. لأن المتن الشعري وجد ليعرض الإدراك العام والإفصاح عن مكنونات المبدع وتصوراته الواقعية للكون والظواهر بعيدا عن التفسير المزاجي الضيق والمجازي "الاليغوري" للأشياء والظواهر، لأن الصورة النمطية التي يجسدها هذا الوعي توحي بقتامة مصير الكون الذي بدا يتحلل ويتفسخ ويتدهور بشكل مأساوي وشنيع وغير قابل للاحتمال فيما يراهن الشعر على مستقبل محفوف بالأمل ويضطلع بشرف تغييره قدر الإمكان والمستطاع..
..
تلك بعض من سمات المنجز الشعري للمبدعة المغربية ليلى مهيدرة التي لا تسعى لمشاكسة القصيدة ضمن تخومها الجمالية فحسب بل تطمح إلى السمو برسالتها الأخلاقية والتسلح بترسانة من مقومات التسامح والأمل والإحالات المشرعة على الألق، ذلك أن إفادة المعنى جوهر الشعر وإكسيره ومقصده ومناه..


نقوس المهدي
28/08/2012
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...