لا تَكنْ بليغا .. كنْ شاعرًا
هكذا قال البلاغيُّ القديمُ: " .. وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسره ولا ترى أن فيه شيئا لم تعلمه ثم يبدو لك فيه أمر خفيٌّ لم تكن قد علمته .. " .
ليس بدعا أن يصدر، ما تقدم، عن فقيه بلاغيٍّ أخذ به الشعرُ أخذا جميلا حتَّى أقاصي التجلي في أسرار بلاغةٍ أنيط بها وقوفٌ على أبجدية كتابةِ الشعر، في تأتيه مفصَّلا أو في تأنيه مجمَلا، ذاهبا به ذلك الشعرُ كلَّ مذهبٍ حدَّ اختلافٍ إليه مطلعا ومقطعا في دلائل إعجاز وُطِّئََ لسفرها " بالكلام في الشعر"، وشيءَ ختمُه بـ " بيان أن العمدة في إدراك البلاغة الذوقُ والإحساسُ الروحاني."
هل كان دهرا طويلا قبل الانتباه إلى شيء ما ليس يعلمه فقيه البلاغيين العرب ؟ وما وجه حصول فائدة عدم العلم ؟ وما الفرق بين العلم والمعرفة من حيث تقيدُ الأول بنسق وانفتاحُ الثانية على النظام الثقافي في تعدد أنساقه ؟ ما الأمر الخفي ؟ وما موقعه بين السحر والشعر ؟ ثمَّ ما منزلته بين اللغة والكلام ؟ فما التماس تأويل الكلام للحصول على الكلام ؟
هو دهرٌ طويلٌ بين الخفي والجلي، بين الظاهر والباطن، بين المرئيِّ واللامرئيِّ، بين التواضع والخروج عن مقتضى الحال، بين المطروح في الطريق والمقدوح جمرا للطريق، بين الحدِّ فيه والحياد عنه إليه، بين الاشتغال والاشتعال، بين الوفادة والرفادة، بين خروجين إلى النص وعن النص، بين ما يستبد بالكلم إلى حِكم وما يسير بها إلى نغم، بين السكون والجنون، بين الإقامة والسفر، بين ليلتين نابغية وفرزدقية، بين اختفاء خياميٍّ وامتلاء بورخيسيٍّ، بين الصمت والكلام، بين كلامين أحدهما يتكلم هايدغريا وثانيهما يتجول بلانشويًّا، بين فهمين هماالنقيضان: فهم بالخبر وفهم بالنظر، بين تفسيرين لعلَّ أولهما اكتفاءٌ بما ترى ولعلَّ الثاني منهما انتفاءٌ لما ترى حتى يَحسُن ما ترى. دهرٌ طويلٌ بدا، بعد تصرمه، أن سكنى البيت الشعري ليست في القريب التشبيهي ولكن في البعيد الغريب الاستعاري، وأنَّ المجاز جواز إلى الراهن التذويتي للعلم بدلا عن تشاركية معرفية لا تسعف في إيجاد صورة جديدة للغة بكلام يتكلم ويتجولُ كما شاء، وكما شيء له من قبل المتكلم وإن بمقدار.
دهرٌ يقولُ عنه أهل اللغة هو الأمد الممدود قد يكونُ ألف سنةٍ، والدهرُ الزمان الطويل ومدة الحياة الدنيا . يقول الجرجاني: وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا، ويقولُ اللغويون إن الدهر ألف سنة، ويقولُ المترجمون لعبد القاهر إنه توفي عام واحد وسبعين وأربعمائة، ويقولُ الراهن التاريخي إننا في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة، ويقولُ الحاسبون إن الدهر لم يستوف عِدته، وأنه لتكملتها يلزمه ثلاثة عقود ونيف لبلوغ ألف سنة التي هيَ الدهر، ويقولُ الجرجاني مجددا: " .. وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسره ولا ترى أن فيه شيئا لم تعلمه ثم يبدو لكفيه أمر خفيٌّ لم تكن قد علمته .." وأقولُ لي ثانية: ما الأمرُ الخفيُّ ؟ وما نسبه إلى الشعر وما قرابته بالبلاغة ؟ وهل الشعر مرآة للبلاغة كمرآة الغريبة مجلوةً دواما ؟ وكيف للبلاغة أن تكون تجلياتٍ من الشعر وبه وإليه.
لم يسعف الدهرُ الجرجانيَّ وإن بطول ملازمةٍ في تبين الوجه الآخر للكلام إلا بعد انتفاء شيء ما لعله كان خاضعا للدأب الكتابي، وإلا بعد " تقليب النظر" وطول مجالسةٍ للناجم عن الشيء من حيث هو ذاتٌ تقولُ، وليس شرطا أن تكون على خط التَّماس مع ما يقالُ هنا وهناك. هي ذاتٌ تقولُ لأنها ترتدي ذاتها هوية خالصة. هي ذاتُ الشعر، وهي ذاتُ الشاعر.
ذاتُ الشعر همَّ بها التراثُ النقديُّ العربيُّ بشكل انتقائيٍّ لعلي أعود إليه.
ذاتُ الشاعر أهُمُّ بها لأبحث فيها وعنها، وعن الذي قالت العرب إذا تلتفتُ إليها تعيينا وتحديدا. أهمُّ بها فتنتحي أسئلة جهة كيْ تقولَ: أكنتَ تحددُ لي هيأة الشاعر في الكتابة النقدية العربية إن قديما أو حديثا أم دون ذلك خرط القتاد ؟ أبوسعكَ سعة حديثٍ عن ماهيته وهويته أم سوف تخذلك أدبيات الدساتير القديمة ؟ سوفَ ألتمسُ لكَ يسرا في السؤال بقول: ما الشاعر؟
كأنَّ السؤالَ ساذج في بساطته، وكأنني أنا القارئ للقديم / أو كأنَّ القديمَ قارئ لي، لا يتعذرُ عليَّ إلمامٌ بجواب، تأسيا بما قيلَ إن الثقافة العربية نزَّاعة إلى الأجوبةِ أكثرَ من إلماعها بالأسئلة. كيف السؤال وقد جبلنا على تيمن بالقصيدة العربية حتى أوشك بعضٌ منا إيثارَها عمَّا سواها. ما الشاعر منذ النابغة في خيمته وابن سلام الجمحي في طبقاته إلى أدونيس في " الحوت الأزرق " وفي " رأس اللغة جسم الصحراء "، فإلى كتاباتٍ ثانية لعلَّ من أجودها " في آفاق الكلام وتكلم النص " لعبد الواسع الحميري، و " العقل الشعري " لخزعل الماجدي ؟
لم أقفْ على الشاعر ماهية أولية في التصور الثقافي العربي. ثمة إلماعاتٌ إلى مكانته ووظيفته وإلى آدابه وما يستوجب أن يتحصل عليه، وإلى طقوسه ووصاياه، وإلى نبذ من سيرته؛ لكن إجراءً تحديديا للشاعر ارتأت الشعرية العربية أن لا مدعاة إليه، أو لعلها كانت قاصرة عن بلوغه.
قالتِ العربُ بالشاعر. سمة أشير بها إلى من يعقد الكلام وزنا وقافية في قصيدةٍ. مرجعية نقدية تسند إليه صفة المُقصِّد، لأن القصيدة مقترح شعري من مقترحاتٍ تم تجاوزها بفعل سيادة القصيدة بيانا شعريا في التفاعل مع السلطة، فكان أن النقد العربي حين وضع مقاييس ومعايير للقول الشعري اكتفى بما انتهى إليه من القصيدة، إنْ في اللغة والبلاغة، أو في التأليف والتركيب، وإن في الفصول والغايات والأعراض والأغراض.
لعلَّ في التسمية تبسطا ما كانت العرب ترى فيها غضاضة، ولكني أرى في احتجاب تقييد مفهوميٍّ للشاعر غضاضة قد تنبئ بكون النظر انصبَّ على الفعل عوض الفاعل، على القول أكثر من القائل، على الكلام بدلا عن المتكلم. ألا يكون في الأمر تبخيسُ قدر الشاعر بلا وعي ثقافي مستندٍ إلى فهم خاص لما جاء في القرآن الكريم عن الشعراء وما سعى نقدة متنورون إلى تفسير المقصود من الآية القرآنية يتقدمهم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز حين صدر الكتاب بالكلام في الشعر أم أنَّ الأمر على خلاف ذلك، وما نعتقد أنه جوهري كانت العرب تنظر إليه بالبداهة ما دام الشعر
ديوانا للعرب يخلد أيامهم ومآثرهم ومفاخرهم وغير ذلك مما تعج به المصادر الأدبية العربية، أم أن الأمر، ثالثا، يغمزُ قناة النقد العربي من حيث افتقارُه إلى كفاءة تنظيرية مسعفة تنظر في الكليات قبل الاقتصار على الجزئيات وتفريعاتها على نحو ما نلفي البديع عليه ؟
أسئلة قد لا يحدث توافق على مسوغات طرحها باعتبارها ترفا فكريا يسعى إلى افتحاص البين الجلي، ولكن من قال إن البين جلي ؟ من قال إن البلاغة بلوغ الغاية ؟ من قال إن الشاعر بليغ ؟
هلْ أقدم أجوبة ؟ لستُ معنيا بها إذا لم يسعفني الدرس.
معنيٌّ أنا بالالتفاتِ إلى هوامشَ صغرى في الثقافة العربية لعلها أن تكون كاشفة عن تراتبيةٍ للصناعتين في المتداول الكتابي دون الخلوص إلى مفاضلةٍ تكاد مختلف المصادر الأدبية والبلاغية والنقدية خائضة فيها، وكأنَّ النثر ليس به شيء من النظم، وكأن المنظوم غير َمشوب بظلال النثر كما قال أبو حيان التوحيدي في " الإمتاع والمؤانسة "، قبل انتهاج الشعر المعاصر تقنية التوسل بالكلام اليوميٍّ الذي ليس نظما على كل حال.
فاضلَ البلاغيون بين الشاعر والناثر. هكذا يبدو. لكن الحق أنهم فاضلوا بين الكتابة الديوانية والقصيدة، بين الكاتب الديواني والمقصِّدِ، بين مقترحين كتابيين كانا يتزاحمان بالمنكبين على بلوغ حظوة لدى ذوي السلطان، وتمَّ تشييد بناء الكلام، في الصناعتين، على هدي من ذلكَ، في ضوء ما نلفي المتون النقدية / البلاغية عليه.
من هنا كان تحديد الكاتب الديواني منبعِثا من أهليته في ممارسة مهامه المقيدة بمواصفاتٍ دقيقةٍ، ولم يكن من باعثٍ على اعتماد ما تقدم حين إشاراتٍ إلى الشاعر. الكاتب جالسٌ يحررُ حيثُ الروية تكونُ قيمة مهيمنةً، وحيث اليد تتكلمُ. هل كان الكاتبُ صامتا يتكلم ؟ لكنَّ الشاعر يقولُ واقفا عاطفا على مزاوجةٍ بين الروية والبديهة والارتجال، حيثُ الصوتُ أمارة على سيادة افتراضية ظرفية يستنفذها زمن الإنشاد. الكاتبُ جالسٌ لأنه مقيم يتهيأ لما يلقى إليه من أمر بالكتابة. الشاعر واقفٌ لأنه وافد عابرٌ اقتضى إشراك الآخر في الذي عنَّ له أنه كتابة شعرية.
الكاتبُ يستثمرُ آلياته البلاغية إلى إدراك المعنى، ولكن الشاعرَ يقتربُ من المعنى ليتشظى إلى معان من حيث لا يحتسبُ. كاتبٌ تحدوه البلاغة وشاعر يحدو البلاغة إلى حيث لا يدري. من هنا أتوهمُ سرَّ تفرقةٍ بين الجلوس والشموس. كان أبو تمام إذا شمسَ عليه المعنى لا يجلس ولكن يتقلب في حوض ماء، وكان جرير يتضورُ على حصير بسطح البيت، وكان الفرزدق، وقبله زهير، يخرجان إلى البرية، وثمة أحوال أخرى.
ذلك الشموس والاستعصاء والإبلاس والإجبال وتأبي الكلام وهيمنة الصمت كلاما غيرَ مقول أماراتٌ ما كان لها أن تكون لو الشاعر بليغ، وما لها أن تكون لو أنه الكاتب. لا أحد قال بتعذر بيان عند كاتب، لأن من تمام آلته وعُدته أن التحفز الإنشائي للكلام يظل متيقظا كأحلام اليقظة عند باشلار في " الهواء والرؤى "، وأنَّ إمكانية حدوث عطالةٍ تفيد عدم أهلية لارتياد كتابة الديوان، وإن كان مقاميا مبرزا كالحريري الذي لم تسعفه ذلاقته البيانية في كتابة الرسائل، فما تيسر له بلوغ شأو فيها. جاهزية الكاتب تدرأ عنه الإرتاج البياني باستغلاق الكلام عليه، ولا
تسير به إلى البرية طلبا لشارد لغوي ندَّ عنه، ولا تذهب به إلى عزلة يتيمَّم، بصفوانها، المبدعون صعيدا طيبا. لا عزلة للكاتب الديواني، وكل العزلة لأرباب النظام والنثار في كتاباتهم. الكاتب الديواني لا يحلم لأنه قعيدُ مكان مغلق، ولا يحلم لأن سكناه مشتركة، ولا يحلم لأن المعنى سابق على الكتابة، ولا يحلم لأنه لا يختلف إلى بلاغة الذات.
بلاغة الذات تختلف عن ذات البلاغة من حيث الاستدعاء والتمثل والإنجاز.
استدعاء ذات البلاغة لا يشط عن الاستدعاء في بناء البيت بقافية غير ذات ماء إبداعي، وتمثلُ تلك الذات البلاغية اكتفاءٌ بكتابة تنويعية لما سبق واحتفاءٌ بما يوافق المقام من مقال، أما إنجازها فنازع إلى توخي المشاكلة للمماتنة والمسامتة والمضاهاة بما يشبه المراجعات وإن لم يتخذها سَمتا ولباسا.
أما ذات البلاغة فتستدعي لتنقض في ضوء ما قال به الانفتال والعدول عند العرب بما يقترب من الانزياح عند جون كوهن في عرض الانزياح كسرا للدلالة وفي نفيه بناء لها بشكل مختلف. ذاتُ البلاغة تنقضُ ما تقدم باقتراح ليس شرطا مساوقته للمتقدم من الكلام. ويكون التمثل، لديها، في إطار المستوى الثالث من التناص المتصل بالحوار حيث تشييدُ المعنى الشعري بصورةٍ تتوخى خصوصية في شعرية الأشياء. وينشأ الإنجاز من تفاعل الخروج عن النمط إلى سكنى شعرية خالصة
بلاغتان مختلفتان: أولاهما مغلقة والثانية مفتوحة على اللانهائي.
هلْ البلاغة الثانية المختصة بالناثر والشاعر متماثلة ؟
قالت البلاغة، في بيانها ومعانيها وبديعها، بوجود تقاطعات بين الصناعتين، واهتمت مؤلفات بما يجوز للشاعر دون الناثر. تجويز يحيل على إمكانية خرق الشاعر للقاعدة. تجويز ليس مطلقا باعتباره لا ينسحب على علم النحو مثلا، ولكنه تجويز دال على أمرين: انتباه الثقافة العربية إلى فروق قائمة بين الكتابتين واسعي منها إلى " تقعيد " الخروج حتى لا يشط الشعر إلى ما لا نهاية. بذلك وضع من الأسفار ما يحدد أغاليط الشعراء كالموشح للمرزباني مثلا.
هل اهتم الشاعر بما وضع اللغوي البلاغي من حدود للكلام الشعري؟ الشعر بريٌّ يخرج إلى النداء بعيدا عن الدور المقامة ليتنفس سكنا ثانيا يشذ عن المألوف. هكذا كان التباعد بين الشاعر والناقد اللغوي البلاغي. هكذا تعود مقالة الجرجاني إلى اختزال ذلك الصدام الذي ما زال مستمرا إلى الآن؛ بين القابض على الضبط والناهض إلى نهر لا يتوقف ماؤه، وإلى برية لا يُحد مداها، بين قياس على ما سبق وبين اختلاس مادة كتابة قصيدته من شمس تمرُّ حتى إذا عادت لا تكون أشعتها مماثلة لتلك التي نسجت، أمس، كلاما غريبا. الغرابة جوهرُ بلاغة الشاعر. لا تفيد الإغراب من حيث
هو متصل بالتركيب، لكنها تدل على إقامة المعنى بإيعاز من مدركات غير مرئية.
لعل الجرجاني ألمع إلى شيء من ذلك في قوله: " .. ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأول في الشيء تأويلا وقضى فيه بأمر فتعتقده اتباعا له ولا ترتاب أنه على ما قضى وتأول، وتبقى على ذلك الاعتقاد الزمانَ الطويل، ثم يلوح لك ما تعلم به أن الأمر على خلاف ما قدر " . هو ذا تقابلٌ بين العالم والشاعر في التماس مداخل للبلاغة في كتابة وقراءة النص، وبالتالي تقابل بين البلاغة والشعر. يعتقد العلم أن الشعر حسنُ تصريفٍ للبلاغة اعتقادا لا يتيسر الخلود إليه من حيث إن البلاغة وصول وانتهاء، ومن حيث إن الشعر يمتد، بالكلام، إلى ما لا نهاية، وإلا لاكتفي الشعراء
بقصيدة واحدةٍ عوض الفناء، بانتظام، في تقصي ما لم يُقل بعد.
هل أقول إن البلاغيَّ يرتبُ الكلام للعالم أم أقول إن الشاعر يرتب العالم بالكلام ؟
هل بمكنة البلاغي أن يقول شعرا ؟ ".. قيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم به ؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله، وأنشد:
وقد يقرضُ الشعرَ البكيءُ لسانه = وتُعيي القوافي المرءَ وهو لبيبُ "
لن يقول الفقيه شعرا لأنه يكتفي من المحددات بالوزن وبالتقفية. تنقصه النية وإن شاءها، ويعوزه التخييل فضاء مجنحا لتكسيرالاعتياد. يفتقر، بلغة المحدثين، إلى جنون الشعراء بما يوجزه بورخيس قائلا: " عندما أكتب شيئا أحاول ألا أفهمه. لا أعتقد أن للذكاء علاقة كبيرة بعمل الكاتب. أظن أن إحدى خطايا الأدب الحديث هو امتلاكه الكثيرَ من الوعي لذاته ".
عدم الفهم يتأبَّطه باشلار إلى الحلم. لا يحلم الفقيه. الفقيه يقرر. لا تقرير في الشعر. كلٌّ في فلك يسبحون. لا شيء يعقلُ اللغة حين تجتاح مدارها التواصلي الإبلاغي إلى ما قال به باشلار في" حدس اللحظة " وفي" شعلة الشمعة ": " حين تستريح الفكرة تستيقظ الصور" ، وما قال ابن رشيق من أنَّ الشاعر " مكتفٍ بذاته مستغن عما سواه " .
بذلك ما كان الشعر المغربي كما كنا نأمل له. لم يذهب مؤلفو التراجم إلى اعتبار الشاعر بليغا في تحلياتهم. تلك صفة أسبغوها على الكاتب والناثر، ويمكن التماس ذلك في يتيمة الدهر للثعالبي، وفي قلائد العقيان للفتح بن خاقان، ثمَّ في فواصل الجمان لمحمد غريط مثلا. ولعلَّ السؤالَ يظلُّ قائما: فيم لم تسند صفة البلاغة للشاعر وبقيت وقفا على الكاتب الديواني والمقاماتي والمترسل والناثر ؟
قال محمود درويش لشاعر شاب:
لا تصدق خلاصاتنا وانسها
وابتدئ من كلامك أنت كأنك
أولُ من يكتب الشعر
أو آخر الشعراء
ولأنني لا أريد للقصيدة أن تنتهي .. لا أعتقد الشاعر بلاغيا.
الشاعرُ مؤسسٌ للبلاغة.
الشاعر هو البلاغة.
هوامش
. عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز. 423
2 . ابن منظور: لسان العرب. مادة: دهر
3. عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز. 425
4. ابن رشيق: العمدة. 117 / 1
5. بورخيس: صنعة الشعر. 159
Bachelard,Gaston, La flamme d’une chandelle. P7. PUF 2008.6
7. يقول: " والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة، لاتساع الشعر واحتماله كلَّ ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتفٍ بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار. " العمدة 196 / 1
8. محمود درويش: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي: إلى شاعر شاب. 141
هكذا قال البلاغيُّ القديمُ: " .. وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسره ولا ترى أن فيه شيئا لم تعلمه ثم يبدو لك فيه أمر خفيٌّ لم تكن قد علمته .. " .
ليس بدعا أن يصدر، ما تقدم، عن فقيه بلاغيٍّ أخذ به الشعرُ أخذا جميلا حتَّى أقاصي التجلي في أسرار بلاغةٍ أنيط بها وقوفٌ على أبجدية كتابةِ الشعر، في تأتيه مفصَّلا أو في تأنيه مجمَلا، ذاهبا به ذلك الشعرُ كلَّ مذهبٍ حدَّ اختلافٍ إليه مطلعا ومقطعا في دلائل إعجاز وُطِّئََ لسفرها " بالكلام في الشعر"، وشيءَ ختمُه بـ " بيان أن العمدة في إدراك البلاغة الذوقُ والإحساسُ الروحاني."
هل كان دهرا طويلا قبل الانتباه إلى شيء ما ليس يعلمه فقيه البلاغيين العرب ؟ وما وجه حصول فائدة عدم العلم ؟ وما الفرق بين العلم والمعرفة من حيث تقيدُ الأول بنسق وانفتاحُ الثانية على النظام الثقافي في تعدد أنساقه ؟ ما الأمر الخفي ؟ وما موقعه بين السحر والشعر ؟ ثمَّ ما منزلته بين اللغة والكلام ؟ فما التماس تأويل الكلام للحصول على الكلام ؟
هو دهرٌ طويلٌ بين الخفي والجلي، بين الظاهر والباطن، بين المرئيِّ واللامرئيِّ، بين التواضع والخروج عن مقتضى الحال، بين المطروح في الطريق والمقدوح جمرا للطريق، بين الحدِّ فيه والحياد عنه إليه، بين الاشتغال والاشتعال، بين الوفادة والرفادة، بين خروجين إلى النص وعن النص، بين ما يستبد بالكلم إلى حِكم وما يسير بها إلى نغم، بين السكون والجنون، بين الإقامة والسفر، بين ليلتين نابغية وفرزدقية، بين اختفاء خياميٍّ وامتلاء بورخيسيٍّ، بين الصمت والكلام، بين كلامين أحدهما يتكلم هايدغريا وثانيهما يتجول بلانشويًّا، بين فهمين هماالنقيضان: فهم بالخبر وفهم بالنظر، بين تفسيرين لعلَّ أولهما اكتفاءٌ بما ترى ولعلَّ الثاني منهما انتفاءٌ لما ترى حتى يَحسُن ما ترى. دهرٌ طويلٌ بدا، بعد تصرمه، أن سكنى البيت الشعري ليست في القريب التشبيهي ولكن في البعيد الغريب الاستعاري، وأنَّ المجاز جواز إلى الراهن التذويتي للعلم بدلا عن تشاركية معرفية لا تسعف في إيجاد صورة جديدة للغة بكلام يتكلم ويتجولُ كما شاء، وكما شيء له من قبل المتكلم وإن بمقدار.
دهرٌ يقولُ عنه أهل اللغة هو الأمد الممدود قد يكونُ ألف سنةٍ، والدهرُ الزمان الطويل ومدة الحياة الدنيا . يقول الجرجاني: وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا، ويقولُ اللغويون إن الدهر ألف سنة، ويقولُ المترجمون لعبد القاهر إنه توفي عام واحد وسبعين وأربعمائة، ويقولُ الراهن التاريخي إننا في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة، ويقولُ الحاسبون إن الدهر لم يستوف عِدته، وأنه لتكملتها يلزمه ثلاثة عقود ونيف لبلوغ ألف سنة التي هيَ الدهر، ويقولُ الجرجاني مجددا: " .. وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسره ولا ترى أن فيه شيئا لم تعلمه ثم يبدو لكفيه أمر خفيٌّ لم تكن قد علمته .." وأقولُ لي ثانية: ما الأمرُ الخفيُّ ؟ وما نسبه إلى الشعر وما قرابته بالبلاغة ؟ وهل الشعر مرآة للبلاغة كمرآة الغريبة مجلوةً دواما ؟ وكيف للبلاغة أن تكون تجلياتٍ من الشعر وبه وإليه.
لم يسعف الدهرُ الجرجانيَّ وإن بطول ملازمةٍ في تبين الوجه الآخر للكلام إلا بعد انتفاء شيء ما لعله كان خاضعا للدأب الكتابي، وإلا بعد " تقليب النظر" وطول مجالسةٍ للناجم عن الشيء من حيث هو ذاتٌ تقولُ، وليس شرطا أن تكون على خط التَّماس مع ما يقالُ هنا وهناك. هي ذاتٌ تقولُ لأنها ترتدي ذاتها هوية خالصة. هي ذاتُ الشعر، وهي ذاتُ الشاعر.
ذاتُ الشعر همَّ بها التراثُ النقديُّ العربيُّ بشكل انتقائيٍّ لعلي أعود إليه.
ذاتُ الشاعر أهُمُّ بها لأبحث فيها وعنها، وعن الذي قالت العرب إذا تلتفتُ إليها تعيينا وتحديدا. أهمُّ بها فتنتحي أسئلة جهة كيْ تقولَ: أكنتَ تحددُ لي هيأة الشاعر في الكتابة النقدية العربية إن قديما أو حديثا أم دون ذلك خرط القتاد ؟ أبوسعكَ سعة حديثٍ عن ماهيته وهويته أم سوف تخذلك أدبيات الدساتير القديمة ؟ سوفَ ألتمسُ لكَ يسرا في السؤال بقول: ما الشاعر؟
كأنَّ السؤالَ ساذج في بساطته، وكأنني أنا القارئ للقديم / أو كأنَّ القديمَ قارئ لي، لا يتعذرُ عليَّ إلمامٌ بجواب، تأسيا بما قيلَ إن الثقافة العربية نزَّاعة إلى الأجوبةِ أكثرَ من إلماعها بالأسئلة. كيف السؤال وقد جبلنا على تيمن بالقصيدة العربية حتى أوشك بعضٌ منا إيثارَها عمَّا سواها. ما الشاعر منذ النابغة في خيمته وابن سلام الجمحي في طبقاته إلى أدونيس في " الحوت الأزرق " وفي " رأس اللغة جسم الصحراء "، فإلى كتاباتٍ ثانية لعلَّ من أجودها " في آفاق الكلام وتكلم النص " لعبد الواسع الحميري، و " العقل الشعري " لخزعل الماجدي ؟
لم أقفْ على الشاعر ماهية أولية في التصور الثقافي العربي. ثمة إلماعاتٌ إلى مكانته ووظيفته وإلى آدابه وما يستوجب أن يتحصل عليه، وإلى طقوسه ووصاياه، وإلى نبذ من سيرته؛ لكن إجراءً تحديديا للشاعر ارتأت الشعرية العربية أن لا مدعاة إليه، أو لعلها كانت قاصرة عن بلوغه.
قالتِ العربُ بالشاعر. سمة أشير بها إلى من يعقد الكلام وزنا وقافية في قصيدةٍ. مرجعية نقدية تسند إليه صفة المُقصِّد، لأن القصيدة مقترح شعري من مقترحاتٍ تم تجاوزها بفعل سيادة القصيدة بيانا شعريا في التفاعل مع السلطة، فكان أن النقد العربي حين وضع مقاييس ومعايير للقول الشعري اكتفى بما انتهى إليه من القصيدة، إنْ في اللغة والبلاغة، أو في التأليف والتركيب، وإن في الفصول والغايات والأعراض والأغراض.
لعلَّ في التسمية تبسطا ما كانت العرب ترى فيها غضاضة، ولكني أرى في احتجاب تقييد مفهوميٍّ للشاعر غضاضة قد تنبئ بكون النظر انصبَّ على الفعل عوض الفاعل، على القول أكثر من القائل، على الكلام بدلا عن المتكلم. ألا يكون في الأمر تبخيسُ قدر الشاعر بلا وعي ثقافي مستندٍ إلى فهم خاص لما جاء في القرآن الكريم عن الشعراء وما سعى نقدة متنورون إلى تفسير المقصود من الآية القرآنية يتقدمهم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز حين صدر الكتاب بالكلام في الشعر أم أنَّ الأمر على خلاف ذلك، وما نعتقد أنه جوهري كانت العرب تنظر إليه بالبداهة ما دام الشعر
ديوانا للعرب يخلد أيامهم ومآثرهم ومفاخرهم وغير ذلك مما تعج به المصادر الأدبية العربية، أم أن الأمر، ثالثا، يغمزُ قناة النقد العربي من حيث افتقارُه إلى كفاءة تنظيرية مسعفة تنظر في الكليات قبل الاقتصار على الجزئيات وتفريعاتها على نحو ما نلفي البديع عليه ؟
أسئلة قد لا يحدث توافق على مسوغات طرحها باعتبارها ترفا فكريا يسعى إلى افتحاص البين الجلي، ولكن من قال إن البين جلي ؟ من قال إن البلاغة بلوغ الغاية ؟ من قال إن الشاعر بليغ ؟
هلْ أقدم أجوبة ؟ لستُ معنيا بها إذا لم يسعفني الدرس.
معنيٌّ أنا بالالتفاتِ إلى هوامشَ صغرى في الثقافة العربية لعلها أن تكون كاشفة عن تراتبيةٍ للصناعتين في المتداول الكتابي دون الخلوص إلى مفاضلةٍ تكاد مختلف المصادر الأدبية والبلاغية والنقدية خائضة فيها، وكأنَّ النثر ليس به شيء من النظم، وكأن المنظوم غير َمشوب بظلال النثر كما قال أبو حيان التوحيدي في " الإمتاع والمؤانسة "، قبل انتهاج الشعر المعاصر تقنية التوسل بالكلام اليوميٍّ الذي ليس نظما على كل حال.
فاضلَ البلاغيون بين الشاعر والناثر. هكذا يبدو. لكن الحق أنهم فاضلوا بين الكتابة الديوانية والقصيدة، بين الكاتب الديواني والمقصِّدِ، بين مقترحين كتابيين كانا يتزاحمان بالمنكبين على بلوغ حظوة لدى ذوي السلطان، وتمَّ تشييد بناء الكلام، في الصناعتين، على هدي من ذلكَ، في ضوء ما نلفي المتون النقدية / البلاغية عليه.
من هنا كان تحديد الكاتب الديواني منبعِثا من أهليته في ممارسة مهامه المقيدة بمواصفاتٍ دقيقةٍ، ولم يكن من باعثٍ على اعتماد ما تقدم حين إشاراتٍ إلى الشاعر. الكاتب جالسٌ يحررُ حيثُ الروية تكونُ قيمة مهيمنةً، وحيث اليد تتكلمُ. هل كان الكاتبُ صامتا يتكلم ؟ لكنَّ الشاعر يقولُ واقفا عاطفا على مزاوجةٍ بين الروية والبديهة والارتجال، حيثُ الصوتُ أمارة على سيادة افتراضية ظرفية يستنفذها زمن الإنشاد. الكاتبُ جالسٌ لأنه مقيم يتهيأ لما يلقى إليه من أمر بالكتابة. الشاعر واقفٌ لأنه وافد عابرٌ اقتضى إشراك الآخر في الذي عنَّ له أنه كتابة شعرية.
الكاتبُ يستثمرُ آلياته البلاغية إلى إدراك المعنى، ولكن الشاعرَ يقتربُ من المعنى ليتشظى إلى معان من حيث لا يحتسبُ. كاتبٌ تحدوه البلاغة وشاعر يحدو البلاغة إلى حيث لا يدري. من هنا أتوهمُ سرَّ تفرقةٍ بين الجلوس والشموس. كان أبو تمام إذا شمسَ عليه المعنى لا يجلس ولكن يتقلب في حوض ماء، وكان جرير يتضورُ على حصير بسطح البيت، وكان الفرزدق، وقبله زهير، يخرجان إلى البرية، وثمة أحوال أخرى.
ذلك الشموس والاستعصاء والإبلاس والإجبال وتأبي الكلام وهيمنة الصمت كلاما غيرَ مقول أماراتٌ ما كان لها أن تكون لو الشاعر بليغ، وما لها أن تكون لو أنه الكاتب. لا أحد قال بتعذر بيان عند كاتب، لأن من تمام آلته وعُدته أن التحفز الإنشائي للكلام يظل متيقظا كأحلام اليقظة عند باشلار في " الهواء والرؤى "، وأنَّ إمكانية حدوث عطالةٍ تفيد عدم أهلية لارتياد كتابة الديوان، وإن كان مقاميا مبرزا كالحريري الذي لم تسعفه ذلاقته البيانية في كتابة الرسائل، فما تيسر له بلوغ شأو فيها. جاهزية الكاتب تدرأ عنه الإرتاج البياني باستغلاق الكلام عليه، ولا
تسير به إلى البرية طلبا لشارد لغوي ندَّ عنه، ولا تذهب به إلى عزلة يتيمَّم، بصفوانها، المبدعون صعيدا طيبا. لا عزلة للكاتب الديواني، وكل العزلة لأرباب النظام والنثار في كتاباتهم. الكاتب الديواني لا يحلم لأنه قعيدُ مكان مغلق، ولا يحلم لأن سكناه مشتركة، ولا يحلم لأن المعنى سابق على الكتابة، ولا يحلم لأنه لا يختلف إلى بلاغة الذات.
بلاغة الذات تختلف عن ذات البلاغة من حيث الاستدعاء والتمثل والإنجاز.
استدعاء ذات البلاغة لا يشط عن الاستدعاء في بناء البيت بقافية غير ذات ماء إبداعي، وتمثلُ تلك الذات البلاغية اكتفاءٌ بكتابة تنويعية لما سبق واحتفاءٌ بما يوافق المقام من مقال، أما إنجازها فنازع إلى توخي المشاكلة للمماتنة والمسامتة والمضاهاة بما يشبه المراجعات وإن لم يتخذها سَمتا ولباسا.
أما ذات البلاغة فتستدعي لتنقض في ضوء ما قال به الانفتال والعدول عند العرب بما يقترب من الانزياح عند جون كوهن في عرض الانزياح كسرا للدلالة وفي نفيه بناء لها بشكل مختلف. ذاتُ البلاغة تنقضُ ما تقدم باقتراح ليس شرطا مساوقته للمتقدم من الكلام. ويكون التمثل، لديها، في إطار المستوى الثالث من التناص المتصل بالحوار حيث تشييدُ المعنى الشعري بصورةٍ تتوخى خصوصية في شعرية الأشياء. وينشأ الإنجاز من تفاعل الخروج عن النمط إلى سكنى شعرية خالصة
بلاغتان مختلفتان: أولاهما مغلقة والثانية مفتوحة على اللانهائي.
هلْ البلاغة الثانية المختصة بالناثر والشاعر متماثلة ؟
قالت البلاغة، في بيانها ومعانيها وبديعها، بوجود تقاطعات بين الصناعتين، واهتمت مؤلفات بما يجوز للشاعر دون الناثر. تجويز يحيل على إمكانية خرق الشاعر للقاعدة. تجويز ليس مطلقا باعتباره لا ينسحب على علم النحو مثلا، ولكنه تجويز دال على أمرين: انتباه الثقافة العربية إلى فروق قائمة بين الكتابتين واسعي منها إلى " تقعيد " الخروج حتى لا يشط الشعر إلى ما لا نهاية. بذلك وضع من الأسفار ما يحدد أغاليط الشعراء كالموشح للمرزباني مثلا.
هل اهتم الشاعر بما وضع اللغوي البلاغي من حدود للكلام الشعري؟ الشعر بريٌّ يخرج إلى النداء بعيدا عن الدور المقامة ليتنفس سكنا ثانيا يشذ عن المألوف. هكذا كان التباعد بين الشاعر والناقد اللغوي البلاغي. هكذا تعود مقالة الجرجاني إلى اختزال ذلك الصدام الذي ما زال مستمرا إلى الآن؛ بين القابض على الضبط والناهض إلى نهر لا يتوقف ماؤه، وإلى برية لا يُحد مداها، بين قياس على ما سبق وبين اختلاس مادة كتابة قصيدته من شمس تمرُّ حتى إذا عادت لا تكون أشعتها مماثلة لتلك التي نسجت، أمس، كلاما غريبا. الغرابة جوهرُ بلاغة الشاعر. لا تفيد الإغراب من حيث
هو متصل بالتركيب، لكنها تدل على إقامة المعنى بإيعاز من مدركات غير مرئية.
لعل الجرجاني ألمع إلى شيء من ذلك في قوله: " .. ومن ذلك أنك ترى من العلماء من قد تأول في الشيء تأويلا وقضى فيه بأمر فتعتقده اتباعا له ولا ترتاب أنه على ما قضى وتأول، وتبقى على ذلك الاعتقاد الزمانَ الطويل، ثم يلوح لك ما تعلم به أن الأمر على خلاف ما قدر " . هو ذا تقابلٌ بين العالم والشاعر في التماس مداخل للبلاغة في كتابة وقراءة النص، وبالتالي تقابل بين البلاغة والشعر. يعتقد العلم أن الشعر حسنُ تصريفٍ للبلاغة اعتقادا لا يتيسر الخلود إليه من حيث إن البلاغة وصول وانتهاء، ومن حيث إن الشعر يمتد، بالكلام، إلى ما لا نهاية، وإلا لاكتفي الشعراء
بقصيدة واحدةٍ عوض الفناء، بانتظام، في تقصي ما لم يُقل بعد.
هل أقول إن البلاغيَّ يرتبُ الكلام للعالم أم أقول إن الشاعر يرتب العالم بالكلام ؟
هل بمكنة البلاغي أن يقول شعرا ؟ ".. قيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم به ؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله، وأنشد:
وقد يقرضُ الشعرَ البكيءُ لسانه = وتُعيي القوافي المرءَ وهو لبيبُ "
لن يقول الفقيه شعرا لأنه يكتفي من المحددات بالوزن وبالتقفية. تنقصه النية وإن شاءها، ويعوزه التخييل فضاء مجنحا لتكسيرالاعتياد. يفتقر، بلغة المحدثين، إلى جنون الشعراء بما يوجزه بورخيس قائلا: " عندما أكتب شيئا أحاول ألا أفهمه. لا أعتقد أن للذكاء علاقة كبيرة بعمل الكاتب. أظن أن إحدى خطايا الأدب الحديث هو امتلاكه الكثيرَ من الوعي لذاته ".
عدم الفهم يتأبَّطه باشلار إلى الحلم. لا يحلم الفقيه. الفقيه يقرر. لا تقرير في الشعر. كلٌّ في فلك يسبحون. لا شيء يعقلُ اللغة حين تجتاح مدارها التواصلي الإبلاغي إلى ما قال به باشلار في" حدس اللحظة " وفي" شعلة الشمعة ": " حين تستريح الفكرة تستيقظ الصور" ، وما قال ابن رشيق من أنَّ الشاعر " مكتفٍ بذاته مستغن عما سواه " .
بذلك ما كان الشعر المغربي كما كنا نأمل له. لم يذهب مؤلفو التراجم إلى اعتبار الشاعر بليغا في تحلياتهم. تلك صفة أسبغوها على الكاتب والناثر، ويمكن التماس ذلك في يتيمة الدهر للثعالبي، وفي قلائد العقيان للفتح بن خاقان، ثمَّ في فواصل الجمان لمحمد غريط مثلا. ولعلَّ السؤالَ يظلُّ قائما: فيم لم تسند صفة البلاغة للشاعر وبقيت وقفا على الكاتب الديواني والمقاماتي والمترسل والناثر ؟
قال محمود درويش لشاعر شاب:
لا تصدق خلاصاتنا وانسها
وابتدئ من كلامك أنت كأنك
أولُ من يكتب الشعر
أو آخر الشعراء
ولأنني لا أريد للقصيدة أن تنتهي .. لا أعتقد الشاعر بلاغيا.
الشاعرُ مؤسسٌ للبلاغة.
الشاعر هو البلاغة.
هوامش
. عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز. 423
2 . ابن منظور: لسان العرب. مادة: دهر
3. عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز. 425
4. ابن رشيق: العمدة. 117 / 1
5. بورخيس: صنعة الشعر. 159
Bachelard,Gaston, La flamme d’une chandelle. P7. PUF 2008.6
7. يقول: " والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة، لاتساع الشعر واحتماله كلَّ ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتفٍ بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار. " العمدة 196 / 1
8. محمود درويش: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي: إلى شاعر شاب. 141