الصورة الشعرية وتحديثها هي الرهان الأبدي الذي حسمته قصيدة النثر، عندما أخذت بتقنية تجاوزها للحالة الوصفية الموروثة، إلا عبر توظيفها للمشاكسة في تناول التعبير الشعبي، كتشكيلٍ إضفائي في إطار اللوحة وتتحيفها، وذلك رضوخاً لتطور الأخذ بالمؤثرات الكفيلة بتجميل وتنقية الصورة، وبأبعاد تستسلم لها الذائقة في دهشة التلقّي الفطري للقراءة المُغوية بالاستعادة.
ظل الإيقاع في العمودي قادرًا بقوة جاذبية موسيقاه على السيطرة الوهلية في مُتلقّيه ذي المَلَكة المتواضعة التأويل والترجمة الناقدة، على حساب ما ينجزه النص في قصيدة النثر من منحىً نحو اكتشاف حقول أخرى للشعر، تحقق ابتكاره لصورٍ غير ملموسةٍ وماورائية، تمامًا مثل ضياع معنى كلمات الأغنية في ثنايا لحنها الجميل، فأنا مثلاً من أولئك الذين ظلوا يرددون أغانٍ كثيرةٍ بلغط الخطأ في الترديد المنبهر بسطوة اللحن؛ حتى أفقت لتصويبات غيري لتهجيها.
في الجلسات المسائية الحميمة على هامش معرض الكتاب الأخير وهي متونٌ حقيقيةٌ تمنح حوارات نادرة حول النص الإبداعي الجاري والمنصرم تحقيقه وتداوله؛ سألني الصديق العزيز الشاعر عمر عبد الدائم؛ وهو من أكثر شعراء العمودي انفتاحًا وقبولاً على قصيدة النثر: "أنت ككاتب لكليهما أيهما أقرب لقلبك كمزاجٍ شعري؟ ونحن نراك تكتب أكثر في النثر". قلت: لا فرق مادامت الشحنة الشعرية قادت نصها إلى حيث ارتضت، وهنا أحسب نفسي -بعد مراجعتي لاحقًا لهذه الإجابة المتّزِنة والعقلانية؛ والتي أرضت الطرفين "والحق لايُرضي الجميع بطبيعته الحاسمة"- "أنني إما خفت أو تحشّمت" آنذاك، لأنني حقيقةً ألحظ العمودي لا ينفك في ذروة أخذه بالكلاسيكية الحديثة؛ بوضع حجرٍ على حجرٍ، وبشكلٍ أثري، وهو في أروع نماذجه مازال لم يكسب التخلي عن وساطة تملُّك سطوة الفن الإلقائي، مقابل براح وإنصاف القراءة النخبوية، وغير الخاضعة لقراءة النص من أسفله عبر اسمه، بل لازالت القصيدة العمودية تُكتب كفكرة نظمٍ أولاً من قافيتها، وهي التي تقولب وتحدد وتضيّق الخناق على براح الصورة الحداثية، وهو ما يجُرّها إلى الارتهان في حبائل المداورة حول عدم التجديد، بل أن الكثير من الممتلكين لأدواتها أخضعوها لمخدّر وتنويم "أنا موجود بالطريقة الأولى للكتابة الشعرية وقرضها“.
لقد بدأت الثورات الشعرية بتفكيك التقليد باكرًا، منذ أن شرع الفتية الجدد "ودون أن يُغرَّر بهم" في الوعي بالانسلاخ الاستهلالي، المؤسس على بكاء الديار، في عصر بني أمية، ومخضرمي العصر العباسي، ولعل بشّار أهمهم في الاشتغال على ابتكار الصورة، والنابغة أقدم في بِذارها بحذر وتباشير لا تُغفل، ثم انبرى المتنبي في الفتح والانفتاح المعجز على خلقها، وبما أُوتي من استثناء سليقي مطوّع للقافية؛ أي بمعنى أننا نقرأ الدهشة في مبنى بيته الشعري دون انتظار القفل المقفّى، والذي يأتي في خدمة الصورة وليس العكس "البيت المنتمي لقافيته“.
وحقيق الأمر أني مازلت أنبهر بموسيقى المفردة، وسباكة صوغها، المرقّش الرقص في القراءة الأولى للإلقاء، لكني بالتجربة سرعان ما أنصاع لغربلة التأمل الذي لا مفر منه.
لكنني أجد العذر الكبير لعدم الاستساغة للرُضّع من ثدي العمودي بالفطام منه طواعية، غير أني لن أُنكر إهداري المؤسف للكثير من السنين في عدم الإقدام على قطاف عناقيد قصيدة النثر، وهنا لا يسعني إلا التصويت للرؤية التي تبصرها أنها الأفق المطلق والأخير للشعر.
www.facebook.com
ظل الإيقاع في العمودي قادرًا بقوة جاذبية موسيقاه على السيطرة الوهلية في مُتلقّيه ذي المَلَكة المتواضعة التأويل والترجمة الناقدة، على حساب ما ينجزه النص في قصيدة النثر من منحىً نحو اكتشاف حقول أخرى للشعر، تحقق ابتكاره لصورٍ غير ملموسةٍ وماورائية، تمامًا مثل ضياع معنى كلمات الأغنية في ثنايا لحنها الجميل، فأنا مثلاً من أولئك الذين ظلوا يرددون أغانٍ كثيرةٍ بلغط الخطأ في الترديد المنبهر بسطوة اللحن؛ حتى أفقت لتصويبات غيري لتهجيها.
في الجلسات المسائية الحميمة على هامش معرض الكتاب الأخير وهي متونٌ حقيقيةٌ تمنح حوارات نادرة حول النص الإبداعي الجاري والمنصرم تحقيقه وتداوله؛ سألني الصديق العزيز الشاعر عمر عبد الدائم؛ وهو من أكثر شعراء العمودي انفتاحًا وقبولاً على قصيدة النثر: "أنت ككاتب لكليهما أيهما أقرب لقلبك كمزاجٍ شعري؟ ونحن نراك تكتب أكثر في النثر". قلت: لا فرق مادامت الشحنة الشعرية قادت نصها إلى حيث ارتضت، وهنا أحسب نفسي -بعد مراجعتي لاحقًا لهذه الإجابة المتّزِنة والعقلانية؛ والتي أرضت الطرفين "والحق لايُرضي الجميع بطبيعته الحاسمة"- "أنني إما خفت أو تحشّمت" آنذاك، لأنني حقيقةً ألحظ العمودي لا ينفك في ذروة أخذه بالكلاسيكية الحديثة؛ بوضع حجرٍ على حجرٍ، وبشكلٍ أثري، وهو في أروع نماذجه مازال لم يكسب التخلي عن وساطة تملُّك سطوة الفن الإلقائي، مقابل براح وإنصاف القراءة النخبوية، وغير الخاضعة لقراءة النص من أسفله عبر اسمه، بل لازالت القصيدة العمودية تُكتب كفكرة نظمٍ أولاً من قافيتها، وهي التي تقولب وتحدد وتضيّق الخناق على براح الصورة الحداثية، وهو ما يجُرّها إلى الارتهان في حبائل المداورة حول عدم التجديد، بل أن الكثير من الممتلكين لأدواتها أخضعوها لمخدّر وتنويم "أنا موجود بالطريقة الأولى للكتابة الشعرية وقرضها“.
لقد بدأت الثورات الشعرية بتفكيك التقليد باكرًا، منذ أن شرع الفتية الجدد "ودون أن يُغرَّر بهم" في الوعي بالانسلاخ الاستهلالي، المؤسس على بكاء الديار، في عصر بني أمية، ومخضرمي العصر العباسي، ولعل بشّار أهمهم في الاشتغال على ابتكار الصورة، والنابغة أقدم في بِذارها بحذر وتباشير لا تُغفل، ثم انبرى المتنبي في الفتح والانفتاح المعجز على خلقها، وبما أُوتي من استثناء سليقي مطوّع للقافية؛ أي بمعنى أننا نقرأ الدهشة في مبنى بيته الشعري دون انتظار القفل المقفّى، والذي يأتي في خدمة الصورة وليس العكس "البيت المنتمي لقافيته“.
وحقيق الأمر أني مازلت أنبهر بموسيقى المفردة، وسباكة صوغها، المرقّش الرقص في القراءة الأولى للإلقاء، لكني بالتجربة سرعان ما أنصاع لغربلة التأمل الذي لا مفر منه.
لكنني أجد العذر الكبير لعدم الاستساغة للرُضّع من ثدي العمودي بالفطام منه طواعية، غير أني لن أُنكر إهداري المؤسف للكثير من السنين في عدم الإقدام على قطاف عناقيد قصيدة النثر، وهنا لا يسعني إلا التصويت للرؤية التي تبصرها أنها الأفق المطلق والأخير للشعر.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.