قليلة هي الروايات التي كتبها أكثر من مؤلف، وهذا يعود لأسباب عديدة، منها أنها تعد (مغامرة) خطرة من قبل العديد من الكتاب، لهذا نجدهم يعزفون عن خوض اعمال مشتركة ، ويميلون نحو العمل الروائي المنفرد وبصورة مستقلة عن الآخرين ، لكن أن يأتي "محمد عارف مشّه" مبادرا ويعطي رواة آخرين "نيفين وكميل" ليأخذوا مكانهم في الرواية ، فهذه مبادرة فريدة ونادرة ، فالمتعارف عليه أن يتشارك أثنين في عمل روائي وليس ثلاثة رواة ، لهذا نقول أن رواية "حب في زمن الكورونا" تعد مغامرة أكثر من خطرة .
العنوان متعلق بالوباء "كورونا"، وبما أن هناك حدثا عالميا أصبح هم الناس في جميع نواحي الأرض ، فهو متعلق بكافة البشر أينما كانوا، لهذا نجد كم هائل من اللقاءات تحدثت عنه وتناولته بالتفصيل ، وبما أن الأدب أحد أشكال التعبير الإنساني ، فقد كُتب عنه أكثر من عمل أدبي ، إضافة إلى المقالات الكثيرة والعديدة التي تناولته ، تأتي رواية "الحب في زمن الكورونا" ضمن الهم الإنساني .
يفتتح السارد القسم الأول من الرواية بمشهد "الراقصة" والذي يتحدث عن وجوده في مكان (ملهى ليلي) ، وهو غير ملائم ولا منسجم مع وضعه المادي ولا مع أفكاره، فبدأ وكأنه يعيش في (أحلام اليقظة):
" حلّقت الراقصة ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين ، كفراشة في فضاءات العيون الجائعة ، حين تكشّف ثوبها عن ساقين رخاميتين، فتجرعت العيون شبقها . غيظها . حنقها . وكبرت الشهوة في العيون . فنهضت عين . سارت بشبقها . ارتقت خشبة المسرح . اقتربت العين من الراقصة . تناولت العين من جيبها أوراقا نقدية غطّت جسد الراقصة . فازدادت حركات الراقصة إغراء . تحمست عين ذكورية أخرى ونهضت . سألت عيني : ماذا لو جمعت كل هذه الأوراق النقدية الملقاة على الأرض تحت قدمي الراقصة و........
- ماذا تشرب يا سيدي ؟ قالها النادل كي ينبهني إلى ضرورة الشرب فقلت بثقة : ماذا لديكم؟
- بيرة . اجاب مبتسما .
قلت لا أشربها
العرق بأنواعه
لا أشربه"
وكأن السارد بهذه الفاتحة أراد الربط بين وجوده غير المنسجم في المكان ـ الملهى الليلي ـ مع واقع الناس/القراء في زمن الكورونا، أو لأنه موجود في مكان(مشبوه اجتماعيا) أراد الحديث عنه بسرعة قبل أن
(يسمعه/يشاهده) أحد ما. فالأفعال السريعة تأخذنا إلى حالة (الخوف) من كلام الناس، واللغة العالية مرتبطة بعالم الحلم/الأمل الذي يصبوا إليه.
نلاحظ في فاتحة الرواية وجود لغتين ، لغة السارد العالية، ولغة الأشخاص (العادية)، الأولى متعلقة بمشهد الترف والبذخ، والثانية متعلقة بواقع البطل، كما أن (الحلم) بالغنى والتخلص من الفقر، وحالة الضغط أقرن باللغة العالية، وبينما الواقع قُدم بلغة (عادية)، وهذا يخدم فكرة الهوة التي تفصل/يعيشها بطل الرواية والأحلام التي (يرغب) بها وينشدها.
واللافت في مشهد الحلم أن الأفعال سريعة ومتواصلة، فبدا السارد وكأنه يريد الحصول على أكبر قدر من المتعة والفرح قبل أن ينتهي حلمه، وهذه السرعة لها مبرر، حيث أنه بعد أن يدخلنا إلى عالم الرواية سنجد ملل ورتابة الحياة، فبعد مشهد "الراقصة) يدخلنا السارد إلى واقع الناس العاديين وهمومهم.
يبدأ حديثه عن رتابة الحياة والملل الذي يعانيه الناس: "ما أصعب أن تستيقظ من نومك . تشعر بضيق واختناق ، ولا تعرف له سببا . تنهض من سريرك متعبا خائفا من لا شيء تعرفه . تخرج من بيتك . تبحث عن ذاتك . تسير بضعة خطوات . تتعثر بظلك . تنهض لاعنا ظلك . تقودك خطواتك إلى المجهول ." فهناك تبيان واضح في وتيرة الأفعال بين مشهد الراقصة وواقع الحياة، فهنا يستخدم لغة تشعر المتلقي بالملل والرتابة، حتى لو ابتعدنا عن المعنى العام للفقرة، سنجد أن الألفاظ المجردة: "أصعب، بضيق، اختناق، (مكررة)، متعبا، خائفا، تبحث، تتعثر، لاعنا، المجهول" تُوصل فكرة الملل.
السرد الروائي
هناك مجموعة رواة يتقاسمون سرد الرواية "محمد، نيفين، كميل"، كما أن عملية السرد لم تأت بصورة (عادية) ، فنجده هناك كسر لوتيرتها من خلال هذا الأمر: " أبحث عني .. خالد أنا أم كميل .. أمونة أم نيفين . أسماء كثيرة تلتصق بي . وحوش كثيرة تطاردني . المرأة الشقراء أم الراقصة ؟ . أم كوفيد التاسع عشر . أم الخوف من الموت . أم الضيق والاختناق من الكمامات . أم ضيق زنزانة الحظر والسجن في شقة صغيرة ، وعمارة كبيرة ." بهذا المقطع نتعرف على المكان "العمارة، الشقة، الزنزانة" ونتعرف على الشخصيات "خالد، كميل، أمونة، نيفين" وعلى الحالة التي يعيشونها: "وحوش تطاردني، كوفيد التاسع عشر، الخوف، الموت، الضيق، الاختناق" وكأن قسوة الواقع أوحت للسارد العمل/إيجاد (شكل) أدبي يخفف به على المتلقي، فكان كسر الالتزام بتقليدية السرد هو أحد الأشكال الملائمة لهذا الأمر.
وهناك كسر آخر جاء على لسان "نيفين/بنت ( أبو العبد )": "كورونا,,, كورونا... قلتها بشكل غناني لأغنية أجنبية كانت معروفة.
أمي ضاحكة بسخرية : اذهبِ أنت إلى أوراقك وروايتك، وابقِ متمتعة بخيالك ومشاعرك ، أنتم هكذا الكتاب والشعراء، تفضلون الخيال على الواقع" إذا ما توقفنا عن الكسرين ، نجد أن لغة الكسر عند السارد/محمد تدخل في تفاصيل أكثر، وهذا يعود لأنه يمثل السارد الرئيس للرواية، لهذا كان أشمل وأوسع من كسر "نيفين" ولغتها أقل حدية واضطراب، وأبطأ سرعة من تلك التي استخدمها "السارد/محمد".
أما الكسر الذي قدمه كميل: " خرج خالد من بين اوراق الرواية ، غاضبا نزقا.. يا أخي حل عني خنقتني بلغتك الفصحى . اتركني احكي عن نفسي بلهجتي العامية ، ولا تحكي عني . فانت لا تعرفني
ــ ولكن . .. قال الراوي مقاطعا
أسكت .. تحدثت كثيرا ولم تترك لي خمس دقائق أعبّر بها عن نفسي . خنقتني يا رجل ، صادرتني وصادرت حريتي ، عقلي . مشاعري وكلّي .
ـ هل أنت منزعج وغاضب من حظر التجول ، وثائرة أعصابك ؟
ثائرة أعصابي ؟ ألم أقل لك أنك تتحايل على الكلمات وتقول كلاما غير مفهوم ؟ ... يا سيدي قضيت في سجون الاحتلال سنوات كثيرة من عمري وفي الحبس الانفرادي ، في زنازين مظلمة باردة ، أضربت عن الطعام لأسابيع . ولم يزعجني السجن وظلام الزنزانة الباردة ، فهل الحظر ومنع التجول سيزعجني لأيام أو شهور ؟." .
إذن، كل الرواة يسهمون في كسر نمطية السرد، ويتمردون على التقليد المتبع، واللافت أن لكلا منهم لغته الخاصة، وطريقته في التمرد على ما هو متبع، لكنهم يجتمعون على التمرد ويمارسونه روائيا.
تأكيدا على وحدة فكرة الرواية وطريقة تقديمها، يقدم السارد الرئيسي هذا المقطع: " ـ لقد أضعتني يا خالد ولا زلت تمارس القمع عليّ ؟ قال الراوي وأضاف : لا تنسى بأني أنا الراوي لا أنت .
* أنا الراوي الان لا أنت ، أنا سأكتب روايتك بما سيقوله لك كميل
كميل ؟ مَن كميل هذا أيضا ؟ تساءل الراوي . وأضاف : لا توجد في روايتي شخصية اسمها كميل . من أين جئت لي بها ؟
ـ إنه خالد . أو النصف الآخر لخالد
*خالد ؟ والنصف الاخر ؟ ما الذي تريد أن تقوله ؟ سأل الراوي
ـ نعم خالد كايد ، الذي نسبته لأبي خالد ، توأمان ، إنه هو .. الذي حكمت عليه في روايتك بالموت ، ولم يكن ميتا بل كان معتقلا .
نعم فعلت . ولكن ... من كميل هذا ؟ . سأل الراوي
هما اثنان في واحد ؟ ... ثمة عاشقان مختلفان . سأخبرك لا حقا من تكون حبيبتهما ... باختصار كميل هو أسير محكوم عليه تسعة مؤبدات ، ولا زال في السجن" الجمع بين طريقة التكسير وتقديم المعلومة هو ما يميز المقطع، فالحوار بين "خالد" والسارد يمثل تكسير لنمطية السرد، وبما أنه جاء مقرونا بتقديم معلومة حقيقية عن كميل، فقد تقبلها القارئ بصدر رحب، حيث أنها جاءت كجزء أساسي من الحوار، ولم تقحم في النص، أو تأتي بلي عنقها.
نستنتج من هذا، أنه كلما أراد السارد تقديم فكرة (مباشرة) يعمد إلى استخدام أحدى (الحيل) الأدبية، بحيث لا يشعر القارئ بفجوة في النص الروائي، ويأخذ المعلومة/الفكر بطريقة سلسة وسهلة، بحيث تصله فكرة السارد وترسخ في ذهنه، لأنها جاءت ضمن سياق روائي أدبي، وليس ضمن (خطاب/بيان) سياسي.
لغة السرد
يعمد السارد على تجميل فواتح الفصول، حيث أن اللغة الجميلة تخفف من حدة القسوة الكامنة في المشهد: "هو الرعب يتسلل من تحت أظافرهم . مزروع تحت وسائدهم . يرضعونه لأطفالهم من أثداء زوجات خائفات . يوزعون على أولادهم أرغفة الخوف، وكؤوسا ملئت بالذعر، وسياطا تلسع ظهورهم خوف العبد وطاعته أمام سيد متعجرف، له عينان قاسيتان، وشارب مهذب، يرتدي البدلة ورباط العنق بذقن أملس ناعم ، وسكين الخوف تنغرز في ظهر من لا ينصاع لسيد الخوف ." وهذا الأمر محمود أدبيا ومطلوب، فالمتلقي يحتاج إلى محفزات ليتقدم نحو ما يقدم له، خاصة عندما تكون المشاهد والأحداث مؤلمة والشخصيات تعاني، فاللغة الجميلة تمتع وتخفف على القارئ.
في الرواية من الضروري أن نجد تباين في لغة الشخوص، ونجد فروق في طريقة تعامل الآخرين مع الشخصيات، فالأم تعامل ولدها بطريقة غير تلك التي تعامل بها ابنتها، وهذا ناتج عن طبيعة المجتمع الذكوري، وأيضا لميل البنت للأب والأبن للأم، من هنا نجد الابن يعطف على البنت اكثر من الام، والأم تعطف على الولد أكثر من الأب، وهذا ما نجده في الرواية العربية، التي غالبا ما تقدم الأب بصورة سلبية، أو تغيبه عن مشهد الأحداث، "نيفين/بنت أبو العبد" تحدثنا عن علاقتها بأمها:
"... " ما بك؟
جرحت يدي من حديد السلم
ـ تستحقينه، قالت أمي شامتة وأضافت: ضعي مطهرا خوفا من كرورنا ، واربطي الضماد على يدك ، فالجرح ليس عميقا" الساردة تتحدث بعفوية، وتنقل لنا المشهد بأمانة (واقعية)، من هنا تحدثت عن (شماتة) أمها، وهذا ما يشير إلى أن هناك علاقة بين أنثى وأنثى، ليس بين أنثى وذكر.
,في المقابل تنقل لنا علاقتها بالأب من خلال هذا المشهد: "أبي ينظر لي ويقول: كعادتك سارحة في شخصيات قصصك ورواياتك، تتأملين وجوهنا ونحن نأكل .
يأمرني بتناول طعامي، ثم يعيد النظر في صحنه ...
الصمت يسود شقتنا" وإذا ما قارنا بين ما جاء على لسان الأب ولسان الأم التي قالت: "أمي ضاحكة بسخرية: اذهبِ أنت إلى أوراقك وروايتك" يمكننا أن نجد تباين العلاقية بينهما، فوصفت الأم ب "ضاحكة بسخرية" بينما قدم الأب بصورة مقبولة، وهذا يؤكد على أن من يسرد الأحداث هي انثى.
ونجد تعاطف الساردة مع الأب على حساب الأم في مشهد آخر: تهز أمي رأسها وتهمس لنا مشيرة بإصبعها لأبي، دون أن يراها : يريدنا أن نقلل النفقات كي يتزوج ...
انتهى ابي من الطعام، وهو يتمم باتجاه أمي : الله يهديك..
بدأ الضيق من الحظر، وبدأت المشاحنات بين أمي وأبي" من هنا يمكننا القول أن التباين في لغة الشخصيات كان كاملا وواضحا للمتلقي، ويستطيع تميز الشخصيات من خلال لغتها.
ولا تكتفي الساردة بهذا الأمر بل نجدها تقدم صورة سلبية للأم بقولها: "اجلسُ مع امي وضيفتها، دائما تتآمر على أم السعيد وعلى نساء العمارة" قلنا أن الرواية العربية ـ والتي غالبا ما يكتبها الرجال، تقدم الأب بصورة سلبية أو تغيبه، وها هي "نيفين/بنت أبو العبد" تأخذ منحى الرجال في تعاملها مع أمها، فتقدمها بصورة (سلبية).
ورغم أن الحديث متعلق بالساردة "بنت أبو العبد، إلا أن حدث الرواية وموضوعها بقى حاضرا: " وبدأت أتصفح جهاز هاتفي ، فأقرأ : ...
كورونا ينتشر في كل دول العالم ...
العالم أصبح مخيفا وفيروس كورونا، يعطل الحياة ويضرب الاقتصاد العالمي
النفط في أدنى معدلات أسعاره
ارتفاع حاد في أسعار الذهب
..." من هنا نقول رغم تعدد الرواة إلا أن وحدة الموضوع بقيت متماسكة ومحافظة على وحدة الرواية، وهذا التعدد والتنوع في الرواة يحسب للرواية وللرواة الذين تحدثوا بلغات مختلفة، إلا أنهم بقوا محافظين على وحدة الفكرة/الموضوع.
وتحدثنا "أم السعيد" بلغة الأنثى: "
ـ كنتُ كالفراشة جميلة ألوانها، أينما أذهب فأسمعهم يقولون : أنت طفلة جميلة...
ابي كان قاسيا ولا يحب البنات ... وهذا أثّر في نفسي كثيرا ، اخواني الأربعة عاملوني كأنني عار، كانوا يقولون أن جمالها سيجلب لنا العار، أمي مثلي كانت جميلة ولا رأي لها ، تصلي دائما وتدعو لي أن اتزوج برجل صالح ...
مسك يدي ذات يوم في الحديقة، فشعرت بقشعريرة جميلة، لم أشعر بمثلها من قبل، ثم قال بعدها : أنه يحبني ... تكرر حضوره، وتكررت اللقاءات، إلى أن ذهبت يوما إلى شيماء، فلم أجدها، وكان أخوها في البيت وحيدا، وكنتُ ...
خرجتُ بي أمي المسكينة من عيادة الطبيبة، باكية لا تدري ماذا تفعل بي وبحملي" فرغم أن الساردة أنثى، إلا أنها استخدمت لغة غير لغة "بيت أبو العبد"، فقدمت الأب بصورة سلبية، وربطته بحالة القمع التي يمارسها، أي أن الأب لم يكن أب مجرد، بل أيضا يمثل النظام الرسمي العربي، فهو صاحب السلطة ويبث الرهبة بين أهله، من هنا نجد تباين في لغة الشخصيات، حتى لو كانت من نفس الجنس.
ويمكننا تميز لغة كميل في القسم الثاني من الرواية الفصل (5) (من خلف قضبان التيه، رسالة من خالد" والفصل (6) من خلف القضبان إلى أمونة، فمن يقرأ أدب كميل يجد لغته في هذين الفصلين، فعلى سبيل المثل نستشهد بهذا المقطع: "وأنا القابع في برزخي الأبدي، أتشقق ظمأ للعودة والعناق، سأعود وإن طالت لحظة العذاب البشري، قد أتأخر قليلا أو كثيرا لا يهم، فوحدي أعرف طعم الخسارة وأنا بعيد عن عينيك، وأعرف أن العمر يمضي من غير رجعة، والمتبقي لنا جميعا مجرد إشراقة فرح بائسة يهديها لنا العمر في ربع الساعة الأخير، لندرك أن الإنسان ما هو إلا رصيد خاسر، ولكن لتكن تلك الاشراقة البازغة من تحت هذا الخراب ." بصرف النظر على الفكرة المطروحة في المقطع، إلا أن الفاظ "البرزخ، الأبدي، العمر، يمضي" ترشدنا إلى لغة كميل، كما أن لغة (الأنا) وما تحمله من ألم ووجع تشير إلى أن السارد شخص يعاني.
المكان والحدث
الأحداث تجري في "عمارة، لكن لا يتم تحديد اسم الحي أو اسم المدينة، وبما أن حياة في العمارات والمدن تشكل حالة ضغط على الإنسان، فغالبية ما هو متعلق بالحياة داخل العمارات والمدن يقدم على أنه مزعج ولا يتلاءم وطبيعة الإنسان: "الساعة السادسة مساء، صوت الصافرات تنطلق، الأبواب تُغلق ، الاختناق يبدأ . الملل . الصمت . اللامبالاة حينا، والضجيج في البيوت حينا آخر ... الليل كئيب . طويل . مظلم .. كئيبة هي الأرواح المحلقة في الفضاء . في الإضاءات . المارّة . حركة السيارات . الأطفال الذين يلهون في الحدائق . الموظفون . العمال . طلبة المدارس والجامعات . إزعاجات باعة السيارات المتجولة من خضار وفواكه ... كم هي الحياة جميلة بلا حظر . وبلا كورونا." بهذا المشهد يكتمل (ضجر) المدينة ورتابتها، فمنذ الصباح وحتى المساء، هناك ملل وأخطار "الكورونا" محدقة بالبطل.
فلسطين والبعد القومي
غالبا ما يقرن وجود الفلسطيني بالمدن الفلسطينية، وبما أن الرواة يعيشون في الأردن وفلسطين، والذين يعلمون: أن تركيبة المجتمع توحدت واندمجت، بحيث أصبح هناك مجتمع يتميز بهذا التشكيل المتعدد والمتنوع، فإنهم يذكرون مأساة من هُجروا غصبا وكرها من وطنهم فلسطين، تحدثنا أم صقر: "والله يا ابنتي لا أدري هل نحزن على الشباب و الأطفال الذين يتم قتلهم وأسرهم بلا سبب ، إلا لأنهم يطالبون بتحرير وطن محتل هو لهم ، أم نحزن على ضم الغور الأردني الفلسطيني واحتلال كامل تراب الوطن ...
هاجر أهله من يافا عام ثمانية وأربعين ، وسكنوا معنا بالقرية هنا في الكرك . عاشوا معنا . تعبوا . كدّوا . عاشوا الضنك . عملوا بالزراعة . حرثوا الأرض معنا . زرعنا وحصدنا معا" بما أن هذا المقطع جاء ضمن سياق ذكريات أم صقر وما مر عليها من محن وشدائد، فإنه يعد مكون أساسي من الرواية، ويلاحظ القارئ سلسلة تقديمه وبساطته، لأنه قدم بطريقة (عادية) بعيدا عن الإقحام أو الحشو، وهذا ما يجعلنا نقول أن حرية لغة الشخوص مهمة في الرواية، فهي من تقنع المتلقي أنه أمام شخصيات مستقلة عن هيمنة السارد وسطوته.
وعندما يُراد تقديم فكرة أكبر من (عقلية) المرأة البسيطة، تقدم بهذا الشكل: "جدك رحمة الله عليه علّمنا درسا حفظناه يا أمونة ، كان يقول :
لا يوجد شيء أسمه أردني وفلسطيني . سوري ولبناني أو مسلم ومسيحي .. كلنا عرب ...تنهدت أم صقر، وأضافت : لعنة الله على اتفاقية سايكس ـ بيكو ، فرقتنا وقد كنا شعبا وأمة واحدة" باقتباس كلام الجد تم تمرير أفكار قومية على لسان امرأة بسيطة وعادية، وهنا تمكن عبقرية السارد الذي يعرف كيف يقدم الأفكار التي يريدها، فهو يستخدم (الحيلة) بطريقة مقنعة للقارئ، حتى أنه لا يشعر بها، فهالة الفكرة وجماليتها وبساطة تقديمها كلها تجتمع معا، من هنا نجدها جاءت بطريقة سلسة وسهلة.
الحيوانات
غالبا ما يأتي ذكر الحيوانات والحشرات ليشير إلى قتامة الأحداث، وهنا نستذكر رواية "راشد عيسى" "مفتاح الباب المخلوع" التي تعد أهم رواية ربطت بين السواد وذكر الحيوانات، وهناك العديد من الأمثلة في الرواية العربية، وها هي رواية "الحب في زمن الكورونا" تؤكد على هذا الأمر: "...براز الفأر الذي وجد على باب شقة الطبيب في الطابق السادس، آثار رعب الصيدلانية سهام زوجة الطبيب ... اختلف سكان العمارة، فبعضهم أكدّ على أنه براز الخفاش، والبعض الآخر اعتقد أنه براز فأر" هذا المشهد يزيد من حالة الضغط التي يعانيها سكان العمار وشخصيات الرواية، فكان الفأر والخفاش واللذان تكرر ذكرها في الرواية اشارة إلى حالة القاسية والصعبة التي يمر بها الناس، وهذا يأتي أيضا لخدمة فكرة موضوع الرواية، الكورونا".
الرمز
رغم أن الرواية واقعية، وتتناول حدثنا أمسى حديث الناس أينما كانوا، إلا أن ذلك لم يمنع السارد من استخدام الرمز، وهذا أسهم في ابتعاد الرواية عن المباشرة، وأيضا اعطاها لمسة جمالية تضاف إلى جمالية تنوع وتعدد الرواة، عندما يتم الحديث عن خراب المنطقة العربية، يلجأ السارد إلى تقدم الخرب بهذه الصورة: " سرحت أم أحمد في ذكرياتها ، ثم قالت : الحكاية بدأت في جبل قاسيون، نعم كنا في رحلة لجبال قاسيون، أنا وأسرتي، أبي وأمي وأخي وسيم رحمة الله عليه، قبل أن يقتلوه ...
• قتلوه؟ سألت أم صقر بدهشة وأضافت: مَن قتله؟
ــ رقم 3
• رقم ( 3 )؟ مَن رقم ( 3 )؟ . الجيش أم الـ ...
ــ رقم ( 3 ) يا أم صقر، هو الذي له مصلحة في تدمير سوريا، هو الذي نشر الفتنة، وزاد في قتل أبناء الوطن، يقوم بالقتل في هذا الطرف، ويقوم بالقتل من الطرف الآخر، كي يحقد كل طرف على طرف .
رقم ( 3 )، جاء مَن خلف حدود الوطن ومن خلف البحر،" اللافت أن حديث السياسي يدور بين نساء عاديات، لهذا هو بسيط و(عادي)، ويبدو كأي حوار يجري بين الناس، لكنه يحمل عمقا فكريا غير عادي، وذلك من خلال قول "أم أحمد" السورية: " ــ رقم ( 3 ) يا أم صقر، هو الذي له مصلحة في تدمير سوريا" فهي لم تحدد جهة/دولة بعينها، لكنها أوصلت فكرة الهدف من خراب سوريا، (وشخصت) المكان الذي قدم منه الأعداء: "رقم ( 3 )، جاء مَن خلف حدود الوطن ومن خلف البحر"، بهذا الشكل الهادئ تصل فكرة خراب سورية وبقية الدول العربية، ودون ضجيج، وما يحسب لهذا المشهد أنه جاء على لسان امرة سورية هجرت من وطنها، بمعنى أنها تتحدث من قلب الأزمة والألم، وليست من منابر السياسيين الذي يتمتعون في الفنادق وقصور الأمراء.
صورة المرأة والرجل
يمكننا القول أن رواية "الحب في زمن الكورونا" رواية المرأة، وهذا لوجود العديد من النساء الفاعليات والمؤثرات في الأحداث، اللواتي تفوقن على الرجال، فهن واجهن المحن والشدائد، حتى أنهن تعاملن بعقلية واتزان في حالة التعدي على الشرف، كحال والدة "أم السعيد"، التي أخفتها وقالت أنها ذهب ولا تدري أين مكانها، ونجدهن تعامل بفاعلية مع المكان والمجتمع الجديد الذي أصبحن فيه، كحال أم صقر زوجة الفلسطيني وأم أحمد السورية، وليس هذا فحسب، فتحدثن بمواضيع سياسية لم يتجرأ الرجال الخوض فيها، وكانوا يهبرون من الخوض في السياسة وكأنها (الغول) الذي يتربص بهم، وكانوا يلجئون إلى الخرافة كحال أبو خالد: "علاج فيروس الكورونا بالحجاب؟ من أخبرك بهذا؟
ـ أبو خالد قال أن هذا الحجاب، يقتل فايروس كورونا"، والغش في التجارة: "يلتزم أبو خالد الصمت، فلربما نسي أن يحقن هذه البطيخة بالسكر المذاب والصبغة باللون الأحمر، حيث من الصعب اكتشاف الثقب الذي تحدثه الإبرة، أو يتم اكتشاف أن البطيخة قد تمّ حقنها بالسكر المذاب والصبغة الحمراء،" أضافة إلى تجارة المخدرات.
من هنا نستطيع القول اننا امام رواية معاصرة، تقدم لنا الناس البسطاء (العاديين) وطريقة حياتهم وحديثهم وهمومهم، بمعنى أنها تهتم بالشريحة العامة من الناس، بعيدا عن أولئك المتنفذين، لهذا هي قريبة من القارئ، فهو يجد فيها (عالمه) الذي يعيشه ليس عالم الآخرين، كما أن لغة حوار الشخوص كانت بسيطة وسلسة ومتعددة الأصوات، أضافة إلى أنها قدمت المرأة بصورة إيجابية وفاعلة.
العنوان متعلق بالوباء "كورونا"، وبما أن هناك حدثا عالميا أصبح هم الناس في جميع نواحي الأرض ، فهو متعلق بكافة البشر أينما كانوا، لهذا نجد كم هائل من اللقاءات تحدثت عنه وتناولته بالتفصيل ، وبما أن الأدب أحد أشكال التعبير الإنساني ، فقد كُتب عنه أكثر من عمل أدبي ، إضافة إلى المقالات الكثيرة والعديدة التي تناولته ، تأتي رواية "الحب في زمن الكورونا" ضمن الهم الإنساني .
يفتتح السارد القسم الأول من الرواية بمشهد "الراقصة" والذي يتحدث عن وجوده في مكان (ملهى ليلي) ، وهو غير ملائم ولا منسجم مع وضعه المادي ولا مع أفكاره، فبدأ وكأنه يعيش في (أحلام اليقظة):
" حلّقت الراقصة ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين ، كفراشة في فضاءات العيون الجائعة ، حين تكشّف ثوبها عن ساقين رخاميتين، فتجرعت العيون شبقها . غيظها . حنقها . وكبرت الشهوة في العيون . فنهضت عين . سارت بشبقها . ارتقت خشبة المسرح . اقتربت العين من الراقصة . تناولت العين من جيبها أوراقا نقدية غطّت جسد الراقصة . فازدادت حركات الراقصة إغراء . تحمست عين ذكورية أخرى ونهضت . سألت عيني : ماذا لو جمعت كل هذه الأوراق النقدية الملقاة على الأرض تحت قدمي الراقصة و........
- ماذا تشرب يا سيدي ؟ قالها النادل كي ينبهني إلى ضرورة الشرب فقلت بثقة : ماذا لديكم؟
- بيرة . اجاب مبتسما .
قلت لا أشربها
العرق بأنواعه
لا أشربه"
وكأن السارد بهذه الفاتحة أراد الربط بين وجوده غير المنسجم في المكان ـ الملهى الليلي ـ مع واقع الناس/القراء في زمن الكورونا، أو لأنه موجود في مكان(مشبوه اجتماعيا) أراد الحديث عنه بسرعة قبل أن
(يسمعه/يشاهده) أحد ما. فالأفعال السريعة تأخذنا إلى حالة (الخوف) من كلام الناس، واللغة العالية مرتبطة بعالم الحلم/الأمل الذي يصبوا إليه.
نلاحظ في فاتحة الرواية وجود لغتين ، لغة السارد العالية، ولغة الأشخاص (العادية)، الأولى متعلقة بمشهد الترف والبذخ، والثانية متعلقة بواقع البطل، كما أن (الحلم) بالغنى والتخلص من الفقر، وحالة الضغط أقرن باللغة العالية، وبينما الواقع قُدم بلغة (عادية)، وهذا يخدم فكرة الهوة التي تفصل/يعيشها بطل الرواية والأحلام التي (يرغب) بها وينشدها.
واللافت في مشهد الحلم أن الأفعال سريعة ومتواصلة، فبدا السارد وكأنه يريد الحصول على أكبر قدر من المتعة والفرح قبل أن ينتهي حلمه، وهذه السرعة لها مبرر، حيث أنه بعد أن يدخلنا إلى عالم الرواية سنجد ملل ورتابة الحياة، فبعد مشهد "الراقصة) يدخلنا السارد إلى واقع الناس العاديين وهمومهم.
يبدأ حديثه عن رتابة الحياة والملل الذي يعانيه الناس: "ما أصعب أن تستيقظ من نومك . تشعر بضيق واختناق ، ولا تعرف له سببا . تنهض من سريرك متعبا خائفا من لا شيء تعرفه . تخرج من بيتك . تبحث عن ذاتك . تسير بضعة خطوات . تتعثر بظلك . تنهض لاعنا ظلك . تقودك خطواتك إلى المجهول ." فهناك تبيان واضح في وتيرة الأفعال بين مشهد الراقصة وواقع الحياة، فهنا يستخدم لغة تشعر المتلقي بالملل والرتابة، حتى لو ابتعدنا عن المعنى العام للفقرة، سنجد أن الألفاظ المجردة: "أصعب، بضيق، اختناق، (مكررة)، متعبا، خائفا، تبحث، تتعثر، لاعنا، المجهول" تُوصل فكرة الملل.
السرد الروائي
هناك مجموعة رواة يتقاسمون سرد الرواية "محمد، نيفين، كميل"، كما أن عملية السرد لم تأت بصورة (عادية) ، فنجده هناك كسر لوتيرتها من خلال هذا الأمر: " أبحث عني .. خالد أنا أم كميل .. أمونة أم نيفين . أسماء كثيرة تلتصق بي . وحوش كثيرة تطاردني . المرأة الشقراء أم الراقصة ؟ . أم كوفيد التاسع عشر . أم الخوف من الموت . أم الضيق والاختناق من الكمامات . أم ضيق زنزانة الحظر والسجن في شقة صغيرة ، وعمارة كبيرة ." بهذا المقطع نتعرف على المكان "العمارة، الشقة، الزنزانة" ونتعرف على الشخصيات "خالد، كميل، أمونة، نيفين" وعلى الحالة التي يعيشونها: "وحوش تطاردني، كوفيد التاسع عشر، الخوف، الموت، الضيق، الاختناق" وكأن قسوة الواقع أوحت للسارد العمل/إيجاد (شكل) أدبي يخفف به على المتلقي، فكان كسر الالتزام بتقليدية السرد هو أحد الأشكال الملائمة لهذا الأمر.
وهناك كسر آخر جاء على لسان "نيفين/بنت ( أبو العبد )": "كورونا,,, كورونا... قلتها بشكل غناني لأغنية أجنبية كانت معروفة.
أمي ضاحكة بسخرية : اذهبِ أنت إلى أوراقك وروايتك، وابقِ متمتعة بخيالك ومشاعرك ، أنتم هكذا الكتاب والشعراء، تفضلون الخيال على الواقع" إذا ما توقفنا عن الكسرين ، نجد أن لغة الكسر عند السارد/محمد تدخل في تفاصيل أكثر، وهذا يعود لأنه يمثل السارد الرئيس للرواية، لهذا كان أشمل وأوسع من كسر "نيفين" ولغتها أقل حدية واضطراب، وأبطأ سرعة من تلك التي استخدمها "السارد/محمد".
أما الكسر الذي قدمه كميل: " خرج خالد من بين اوراق الرواية ، غاضبا نزقا.. يا أخي حل عني خنقتني بلغتك الفصحى . اتركني احكي عن نفسي بلهجتي العامية ، ولا تحكي عني . فانت لا تعرفني
ــ ولكن . .. قال الراوي مقاطعا
أسكت .. تحدثت كثيرا ولم تترك لي خمس دقائق أعبّر بها عن نفسي . خنقتني يا رجل ، صادرتني وصادرت حريتي ، عقلي . مشاعري وكلّي .
ـ هل أنت منزعج وغاضب من حظر التجول ، وثائرة أعصابك ؟
ثائرة أعصابي ؟ ألم أقل لك أنك تتحايل على الكلمات وتقول كلاما غير مفهوم ؟ ... يا سيدي قضيت في سجون الاحتلال سنوات كثيرة من عمري وفي الحبس الانفرادي ، في زنازين مظلمة باردة ، أضربت عن الطعام لأسابيع . ولم يزعجني السجن وظلام الزنزانة الباردة ، فهل الحظر ومنع التجول سيزعجني لأيام أو شهور ؟." .
إذن، كل الرواة يسهمون في كسر نمطية السرد، ويتمردون على التقليد المتبع، واللافت أن لكلا منهم لغته الخاصة، وطريقته في التمرد على ما هو متبع، لكنهم يجتمعون على التمرد ويمارسونه روائيا.
تأكيدا على وحدة فكرة الرواية وطريقة تقديمها، يقدم السارد الرئيسي هذا المقطع: " ـ لقد أضعتني يا خالد ولا زلت تمارس القمع عليّ ؟ قال الراوي وأضاف : لا تنسى بأني أنا الراوي لا أنت .
* أنا الراوي الان لا أنت ، أنا سأكتب روايتك بما سيقوله لك كميل
كميل ؟ مَن كميل هذا أيضا ؟ تساءل الراوي . وأضاف : لا توجد في روايتي شخصية اسمها كميل . من أين جئت لي بها ؟
ـ إنه خالد . أو النصف الآخر لخالد
*خالد ؟ والنصف الاخر ؟ ما الذي تريد أن تقوله ؟ سأل الراوي
ـ نعم خالد كايد ، الذي نسبته لأبي خالد ، توأمان ، إنه هو .. الذي حكمت عليه في روايتك بالموت ، ولم يكن ميتا بل كان معتقلا .
نعم فعلت . ولكن ... من كميل هذا ؟ . سأل الراوي
هما اثنان في واحد ؟ ... ثمة عاشقان مختلفان . سأخبرك لا حقا من تكون حبيبتهما ... باختصار كميل هو أسير محكوم عليه تسعة مؤبدات ، ولا زال في السجن" الجمع بين طريقة التكسير وتقديم المعلومة هو ما يميز المقطع، فالحوار بين "خالد" والسارد يمثل تكسير لنمطية السرد، وبما أنه جاء مقرونا بتقديم معلومة حقيقية عن كميل، فقد تقبلها القارئ بصدر رحب، حيث أنها جاءت كجزء أساسي من الحوار، ولم تقحم في النص، أو تأتي بلي عنقها.
نستنتج من هذا، أنه كلما أراد السارد تقديم فكرة (مباشرة) يعمد إلى استخدام أحدى (الحيل) الأدبية، بحيث لا يشعر القارئ بفجوة في النص الروائي، ويأخذ المعلومة/الفكر بطريقة سلسة وسهلة، بحيث تصله فكرة السارد وترسخ في ذهنه، لأنها جاءت ضمن سياق روائي أدبي، وليس ضمن (خطاب/بيان) سياسي.
لغة السرد
يعمد السارد على تجميل فواتح الفصول، حيث أن اللغة الجميلة تخفف من حدة القسوة الكامنة في المشهد: "هو الرعب يتسلل من تحت أظافرهم . مزروع تحت وسائدهم . يرضعونه لأطفالهم من أثداء زوجات خائفات . يوزعون على أولادهم أرغفة الخوف، وكؤوسا ملئت بالذعر، وسياطا تلسع ظهورهم خوف العبد وطاعته أمام سيد متعجرف، له عينان قاسيتان، وشارب مهذب، يرتدي البدلة ورباط العنق بذقن أملس ناعم ، وسكين الخوف تنغرز في ظهر من لا ينصاع لسيد الخوف ." وهذا الأمر محمود أدبيا ومطلوب، فالمتلقي يحتاج إلى محفزات ليتقدم نحو ما يقدم له، خاصة عندما تكون المشاهد والأحداث مؤلمة والشخصيات تعاني، فاللغة الجميلة تمتع وتخفف على القارئ.
في الرواية من الضروري أن نجد تباين في لغة الشخوص، ونجد فروق في طريقة تعامل الآخرين مع الشخصيات، فالأم تعامل ولدها بطريقة غير تلك التي تعامل بها ابنتها، وهذا ناتج عن طبيعة المجتمع الذكوري، وأيضا لميل البنت للأب والأبن للأم، من هنا نجد الابن يعطف على البنت اكثر من الام، والأم تعطف على الولد أكثر من الأب، وهذا ما نجده في الرواية العربية، التي غالبا ما تقدم الأب بصورة سلبية، أو تغيبه عن مشهد الأحداث، "نيفين/بنت أبو العبد" تحدثنا عن علاقتها بأمها:
"... " ما بك؟
جرحت يدي من حديد السلم
ـ تستحقينه، قالت أمي شامتة وأضافت: ضعي مطهرا خوفا من كرورنا ، واربطي الضماد على يدك ، فالجرح ليس عميقا" الساردة تتحدث بعفوية، وتنقل لنا المشهد بأمانة (واقعية)، من هنا تحدثت عن (شماتة) أمها، وهذا ما يشير إلى أن هناك علاقة بين أنثى وأنثى، ليس بين أنثى وذكر.
,في المقابل تنقل لنا علاقتها بالأب من خلال هذا المشهد: "أبي ينظر لي ويقول: كعادتك سارحة في شخصيات قصصك ورواياتك، تتأملين وجوهنا ونحن نأكل .
يأمرني بتناول طعامي، ثم يعيد النظر في صحنه ...
الصمت يسود شقتنا" وإذا ما قارنا بين ما جاء على لسان الأب ولسان الأم التي قالت: "أمي ضاحكة بسخرية: اذهبِ أنت إلى أوراقك وروايتك" يمكننا أن نجد تباين العلاقية بينهما، فوصفت الأم ب "ضاحكة بسخرية" بينما قدم الأب بصورة مقبولة، وهذا يؤكد على أن من يسرد الأحداث هي انثى.
ونجد تعاطف الساردة مع الأب على حساب الأم في مشهد آخر: تهز أمي رأسها وتهمس لنا مشيرة بإصبعها لأبي، دون أن يراها : يريدنا أن نقلل النفقات كي يتزوج ...
انتهى ابي من الطعام، وهو يتمم باتجاه أمي : الله يهديك..
بدأ الضيق من الحظر، وبدأت المشاحنات بين أمي وأبي" من هنا يمكننا القول أن التباين في لغة الشخصيات كان كاملا وواضحا للمتلقي، ويستطيع تميز الشخصيات من خلال لغتها.
ولا تكتفي الساردة بهذا الأمر بل نجدها تقدم صورة سلبية للأم بقولها: "اجلسُ مع امي وضيفتها، دائما تتآمر على أم السعيد وعلى نساء العمارة" قلنا أن الرواية العربية ـ والتي غالبا ما يكتبها الرجال، تقدم الأب بصورة سلبية أو تغيبه، وها هي "نيفين/بنت أبو العبد" تأخذ منحى الرجال في تعاملها مع أمها، فتقدمها بصورة (سلبية).
ورغم أن الحديث متعلق بالساردة "بنت أبو العبد، إلا أن حدث الرواية وموضوعها بقى حاضرا: " وبدأت أتصفح جهاز هاتفي ، فأقرأ : ...
كورونا ينتشر في كل دول العالم ...
العالم أصبح مخيفا وفيروس كورونا، يعطل الحياة ويضرب الاقتصاد العالمي
النفط في أدنى معدلات أسعاره
ارتفاع حاد في أسعار الذهب
..." من هنا نقول رغم تعدد الرواة إلا أن وحدة الموضوع بقيت متماسكة ومحافظة على وحدة الرواية، وهذا التعدد والتنوع في الرواة يحسب للرواية وللرواة الذين تحدثوا بلغات مختلفة، إلا أنهم بقوا محافظين على وحدة الفكرة/الموضوع.
وتحدثنا "أم السعيد" بلغة الأنثى: "
ـ كنتُ كالفراشة جميلة ألوانها، أينما أذهب فأسمعهم يقولون : أنت طفلة جميلة...
ابي كان قاسيا ولا يحب البنات ... وهذا أثّر في نفسي كثيرا ، اخواني الأربعة عاملوني كأنني عار، كانوا يقولون أن جمالها سيجلب لنا العار، أمي مثلي كانت جميلة ولا رأي لها ، تصلي دائما وتدعو لي أن اتزوج برجل صالح ...
مسك يدي ذات يوم في الحديقة، فشعرت بقشعريرة جميلة، لم أشعر بمثلها من قبل، ثم قال بعدها : أنه يحبني ... تكرر حضوره، وتكررت اللقاءات، إلى أن ذهبت يوما إلى شيماء، فلم أجدها، وكان أخوها في البيت وحيدا، وكنتُ ...
خرجتُ بي أمي المسكينة من عيادة الطبيبة، باكية لا تدري ماذا تفعل بي وبحملي" فرغم أن الساردة أنثى، إلا أنها استخدمت لغة غير لغة "بيت أبو العبد"، فقدمت الأب بصورة سلبية، وربطته بحالة القمع التي يمارسها، أي أن الأب لم يكن أب مجرد، بل أيضا يمثل النظام الرسمي العربي، فهو صاحب السلطة ويبث الرهبة بين أهله، من هنا نجد تباين في لغة الشخصيات، حتى لو كانت من نفس الجنس.
ويمكننا تميز لغة كميل في القسم الثاني من الرواية الفصل (5) (من خلف قضبان التيه، رسالة من خالد" والفصل (6) من خلف القضبان إلى أمونة، فمن يقرأ أدب كميل يجد لغته في هذين الفصلين، فعلى سبيل المثل نستشهد بهذا المقطع: "وأنا القابع في برزخي الأبدي، أتشقق ظمأ للعودة والعناق، سأعود وإن طالت لحظة العذاب البشري، قد أتأخر قليلا أو كثيرا لا يهم، فوحدي أعرف طعم الخسارة وأنا بعيد عن عينيك، وأعرف أن العمر يمضي من غير رجعة، والمتبقي لنا جميعا مجرد إشراقة فرح بائسة يهديها لنا العمر في ربع الساعة الأخير، لندرك أن الإنسان ما هو إلا رصيد خاسر، ولكن لتكن تلك الاشراقة البازغة من تحت هذا الخراب ." بصرف النظر على الفكرة المطروحة في المقطع، إلا أن الفاظ "البرزخ، الأبدي، العمر، يمضي" ترشدنا إلى لغة كميل، كما أن لغة (الأنا) وما تحمله من ألم ووجع تشير إلى أن السارد شخص يعاني.
المكان والحدث
الأحداث تجري في "عمارة، لكن لا يتم تحديد اسم الحي أو اسم المدينة، وبما أن حياة في العمارات والمدن تشكل حالة ضغط على الإنسان، فغالبية ما هو متعلق بالحياة داخل العمارات والمدن يقدم على أنه مزعج ولا يتلاءم وطبيعة الإنسان: "الساعة السادسة مساء، صوت الصافرات تنطلق، الأبواب تُغلق ، الاختناق يبدأ . الملل . الصمت . اللامبالاة حينا، والضجيج في البيوت حينا آخر ... الليل كئيب . طويل . مظلم .. كئيبة هي الأرواح المحلقة في الفضاء . في الإضاءات . المارّة . حركة السيارات . الأطفال الذين يلهون في الحدائق . الموظفون . العمال . طلبة المدارس والجامعات . إزعاجات باعة السيارات المتجولة من خضار وفواكه ... كم هي الحياة جميلة بلا حظر . وبلا كورونا." بهذا المشهد يكتمل (ضجر) المدينة ورتابتها، فمنذ الصباح وحتى المساء، هناك ملل وأخطار "الكورونا" محدقة بالبطل.
فلسطين والبعد القومي
غالبا ما يقرن وجود الفلسطيني بالمدن الفلسطينية، وبما أن الرواة يعيشون في الأردن وفلسطين، والذين يعلمون: أن تركيبة المجتمع توحدت واندمجت، بحيث أصبح هناك مجتمع يتميز بهذا التشكيل المتعدد والمتنوع، فإنهم يذكرون مأساة من هُجروا غصبا وكرها من وطنهم فلسطين، تحدثنا أم صقر: "والله يا ابنتي لا أدري هل نحزن على الشباب و الأطفال الذين يتم قتلهم وأسرهم بلا سبب ، إلا لأنهم يطالبون بتحرير وطن محتل هو لهم ، أم نحزن على ضم الغور الأردني الفلسطيني واحتلال كامل تراب الوطن ...
هاجر أهله من يافا عام ثمانية وأربعين ، وسكنوا معنا بالقرية هنا في الكرك . عاشوا معنا . تعبوا . كدّوا . عاشوا الضنك . عملوا بالزراعة . حرثوا الأرض معنا . زرعنا وحصدنا معا" بما أن هذا المقطع جاء ضمن سياق ذكريات أم صقر وما مر عليها من محن وشدائد، فإنه يعد مكون أساسي من الرواية، ويلاحظ القارئ سلسلة تقديمه وبساطته، لأنه قدم بطريقة (عادية) بعيدا عن الإقحام أو الحشو، وهذا ما يجعلنا نقول أن حرية لغة الشخوص مهمة في الرواية، فهي من تقنع المتلقي أنه أمام شخصيات مستقلة عن هيمنة السارد وسطوته.
وعندما يُراد تقديم فكرة أكبر من (عقلية) المرأة البسيطة، تقدم بهذا الشكل: "جدك رحمة الله عليه علّمنا درسا حفظناه يا أمونة ، كان يقول :
لا يوجد شيء أسمه أردني وفلسطيني . سوري ولبناني أو مسلم ومسيحي .. كلنا عرب ...تنهدت أم صقر، وأضافت : لعنة الله على اتفاقية سايكس ـ بيكو ، فرقتنا وقد كنا شعبا وأمة واحدة" باقتباس كلام الجد تم تمرير أفكار قومية على لسان امرأة بسيطة وعادية، وهنا تمكن عبقرية السارد الذي يعرف كيف يقدم الأفكار التي يريدها، فهو يستخدم (الحيلة) بطريقة مقنعة للقارئ، حتى أنه لا يشعر بها، فهالة الفكرة وجماليتها وبساطة تقديمها كلها تجتمع معا، من هنا نجدها جاءت بطريقة سلسة وسهلة.
الحيوانات
غالبا ما يأتي ذكر الحيوانات والحشرات ليشير إلى قتامة الأحداث، وهنا نستذكر رواية "راشد عيسى" "مفتاح الباب المخلوع" التي تعد أهم رواية ربطت بين السواد وذكر الحيوانات، وهناك العديد من الأمثلة في الرواية العربية، وها هي رواية "الحب في زمن الكورونا" تؤكد على هذا الأمر: "...براز الفأر الذي وجد على باب شقة الطبيب في الطابق السادس، آثار رعب الصيدلانية سهام زوجة الطبيب ... اختلف سكان العمارة، فبعضهم أكدّ على أنه براز الخفاش، والبعض الآخر اعتقد أنه براز فأر" هذا المشهد يزيد من حالة الضغط التي يعانيها سكان العمار وشخصيات الرواية، فكان الفأر والخفاش واللذان تكرر ذكرها في الرواية اشارة إلى حالة القاسية والصعبة التي يمر بها الناس، وهذا يأتي أيضا لخدمة فكرة موضوع الرواية، الكورونا".
الرمز
رغم أن الرواية واقعية، وتتناول حدثنا أمسى حديث الناس أينما كانوا، إلا أن ذلك لم يمنع السارد من استخدام الرمز، وهذا أسهم في ابتعاد الرواية عن المباشرة، وأيضا اعطاها لمسة جمالية تضاف إلى جمالية تنوع وتعدد الرواة، عندما يتم الحديث عن خراب المنطقة العربية، يلجأ السارد إلى تقدم الخرب بهذه الصورة: " سرحت أم أحمد في ذكرياتها ، ثم قالت : الحكاية بدأت في جبل قاسيون، نعم كنا في رحلة لجبال قاسيون، أنا وأسرتي، أبي وأمي وأخي وسيم رحمة الله عليه، قبل أن يقتلوه ...
• قتلوه؟ سألت أم صقر بدهشة وأضافت: مَن قتله؟
ــ رقم 3
• رقم ( 3 )؟ مَن رقم ( 3 )؟ . الجيش أم الـ ...
ــ رقم ( 3 ) يا أم صقر، هو الذي له مصلحة في تدمير سوريا، هو الذي نشر الفتنة، وزاد في قتل أبناء الوطن، يقوم بالقتل في هذا الطرف، ويقوم بالقتل من الطرف الآخر، كي يحقد كل طرف على طرف .
رقم ( 3 )، جاء مَن خلف حدود الوطن ومن خلف البحر،" اللافت أن حديث السياسي يدور بين نساء عاديات، لهذا هو بسيط و(عادي)، ويبدو كأي حوار يجري بين الناس، لكنه يحمل عمقا فكريا غير عادي، وذلك من خلال قول "أم أحمد" السورية: " ــ رقم ( 3 ) يا أم صقر، هو الذي له مصلحة في تدمير سوريا" فهي لم تحدد جهة/دولة بعينها، لكنها أوصلت فكرة الهدف من خراب سوريا، (وشخصت) المكان الذي قدم منه الأعداء: "رقم ( 3 )، جاء مَن خلف حدود الوطن ومن خلف البحر"، بهذا الشكل الهادئ تصل فكرة خراب سورية وبقية الدول العربية، ودون ضجيج، وما يحسب لهذا المشهد أنه جاء على لسان امرة سورية هجرت من وطنها، بمعنى أنها تتحدث من قلب الأزمة والألم، وليست من منابر السياسيين الذي يتمتعون في الفنادق وقصور الأمراء.
صورة المرأة والرجل
يمكننا القول أن رواية "الحب في زمن الكورونا" رواية المرأة، وهذا لوجود العديد من النساء الفاعليات والمؤثرات في الأحداث، اللواتي تفوقن على الرجال، فهن واجهن المحن والشدائد، حتى أنهن تعاملن بعقلية واتزان في حالة التعدي على الشرف، كحال والدة "أم السعيد"، التي أخفتها وقالت أنها ذهب ولا تدري أين مكانها، ونجدهن تعامل بفاعلية مع المكان والمجتمع الجديد الذي أصبحن فيه، كحال أم صقر زوجة الفلسطيني وأم أحمد السورية، وليس هذا فحسب، فتحدثن بمواضيع سياسية لم يتجرأ الرجال الخوض فيها، وكانوا يهبرون من الخوض في السياسة وكأنها (الغول) الذي يتربص بهم، وكانوا يلجئون إلى الخرافة كحال أبو خالد: "علاج فيروس الكورونا بالحجاب؟ من أخبرك بهذا؟
ـ أبو خالد قال أن هذا الحجاب، يقتل فايروس كورونا"، والغش في التجارة: "يلتزم أبو خالد الصمت، فلربما نسي أن يحقن هذه البطيخة بالسكر المذاب والصبغة باللون الأحمر، حيث من الصعب اكتشاف الثقب الذي تحدثه الإبرة، أو يتم اكتشاف أن البطيخة قد تمّ حقنها بالسكر المذاب والصبغة الحمراء،" أضافة إلى تجارة المخدرات.
من هنا نستطيع القول اننا امام رواية معاصرة، تقدم لنا الناس البسطاء (العاديين) وطريقة حياتهم وحديثهم وهمومهم، بمعنى أنها تهتم بالشريحة العامة من الناس، بعيدا عن أولئك المتنفذين، لهذا هي قريبة من القارئ، فهو يجد فيها (عالمه) الذي يعيشه ليس عالم الآخرين، كما أن لغة حوار الشخوص كانت بسيطة وسلسة ومتعددة الأصوات، أضافة إلى أنها قدمت المرأة بصورة إيجابية وفاعلة.