الصورة .. طفولة الفكر الإنساني ، بدائية الذاكرة ، حضور المصري القديم على جدران المعابد والمقابر وأوراق البردي ، أشواق المستشرقين للمشربيات والتكايا ودكاكين العطارين ، نساء محمود سعيد وساحات اللعب عند جاذبية سري، صندوق الدنيا وسيرك محاسن الحلو ،ثم .. مجلات عارضات الأزياء التى احتفظ بها أبي حتى بعد أن ضعف بصره وتوقف عن العمل ، كانت الموديلات تتغير، وأبي يدركه الوهن ، لكن فرحته ظلت لاتكتمل إلا فى تلك اللحظة التى يتمكن من تحويل الموديل إلى فستان حقيقي على جسد امرأة.
بالنسبة له .. لم تكن مجرد مهنة لخياط، كانت غواية ونزعة إلى تجسيد الصور، يحولها إلى باترون فيه خطوط ورموز وتقاطعات، ثم ينفخ فيها من روحه فترتعش بالحياة على أجساد النساء، وتمتص عطوراً وعرقاً ورغبات مقموعة .
هكذا كانت الصور تنبض بالحياة فى داخلي ، وفى كراسات المدرسة، وعلى جدران حجرتي ، إنها غواية الخلق .
Advertisement
Report this ad
هذا قول مشهور لستاندال : ” كانت الرواية تمسك بمرآة أمام الطبيعة “.
أما شهرزاد فقد اكتشفت مرآة سحرية، ينظر فيها الشخص فيرى ما يحب أن يرى.
قرأت حكاية المرآة السحرية فى واحدة من قصص الأطفال المستوحاة من ألف ليلة وليلة فوقعت فى غواية أن يكون لى مرآتي السحرية فأرى خلقا وبلاد وأحلام تتحقق.
بالنسبة لطفل.. كانت السينما هى التجلي القريب للمرآة السحرية ، وكان كل شيء يدفعني للغواية. أسكن فى بيت قريب لسينما النزهة، ويكون مشغّل ماكينة العرض صديقا لأبي فيمكنني دخول الكابينة وقت أشاء، يمنحني شرائط الأفلام ويعلمني كيف أصنع فانوسا سحريا ليكون لي كابينة عرضي الخاصة بصندون ومرآة وعدسة صغيرة ، شيئا فشيئا كانت المرآة السحرية تمنحني أسرارها، وقعت فى غواية صنع الصور وتحريكها ومنحها الحياة فى وقت كان أقراني الجالسون فى صالة العرض ، يتطلعون إلي شعاع الضوء بدهشة، ولا يعرفون كيف ينبض بالحياة على الشاشة ويحتشد بكل هذا الخلق .
ثم دفعتني هذه الغواية المبكرة إلى غوايات أُخر : الرسم ،النحت ، التمثيل فى المسرح المدرسى ، كنت واقعا فى غواية أن أكون حاضرا بذاتي فى فضاء من الصور . وكانت الكتابة هى فرصتي الوحيدة لأدس بذاتي بين سيل الصور التى تنهمر داخلى . إنها مرآتي السحرية حقا . لهذا ، فحتى بعد أكثر من أربعين عاما مرت على واقعة الفانوس السحرى، كتبت روايتى ( شارع بسادة ـ 2008 ) وجعلت بطلها ولداً يرسم الصورعلى حوائط الطين ، ويتركها .. فتعبث بها الشياطين والملائكة ، ويمنحونها أرواحا كل حسبما يريد ويهوى. فتصير فى الحياة حتى لتواجه الولد ( راسمها ) مواجهة خلق مستقل ومتفرد . فيطاردها بالكتابة عنها ويصبح جزءا منها. إنها ـ فى الحقيقة ـ مطاردة للصور القديمة التى سكنتنى .
لقد ظلت الصورة حافزاً رئيسا فى كتاباتى ، حتى عندما قدمت كتابى النقدى ( أفضية الذات ) جعلت مبحثه الأول : ” تشكيل الفضاء ” كان المبحث محاولة لفهم الزمن عند كانط :” الزمان هوالصورة المميزة لخبراتنا “(1) ويعنى هذا أن الزمن لاينفصل عن الذات ، فالنمو العقلي والحسي والنفسي للإنسان ، يقع فى الزمن ، وهذا النمو هو المظهر الوحيد الذى يعرفه الإنسان للزمن ، لأن الزمن ـ فى الواقع ـ ضائع ومفقود ، ولايبقى دليل على وجوده إلا فى الذاكرة الإنسانية كأرشيف للذات. فإذا كنا نؤمن بأن لاشيء يقع خارج الزمن، فهذا يعنى أن لاشيء يقع خارج الذات .
إن هذا الفهم يعنى أننا لانمسك بالزمن فى ذاكرتنا إلا من خلال الصور،نحن لانمسك بالزمن ولكن بصورة الزمن بعد أن منحناه شكلاً ، كما أننا ، فى تلك اللحظة التى نمسك فيها بصورة الزمن ، نحن نمسك بذواتنا أو بخبراتنا المميزة التي تشكل هذه الذات . ولابأس أن نفهم الكتابة ـ أيضا ـ كما لو كانت مساحة فارغة من الزمن نشغلها بالصور، أو بالأحرى ، يكون السرد هو فن تشكيل الزمن . هكذا منحني التشكيل شفرات الكتابة .
تبدأ قصتي : ” الغانية العجوز التى صارت عرافة لعشاقها القدامى ” هكذا :
” رسمها بقلمه الرصاص فوق ورق البريستول الذى اشتراه خصيصا من مكتبة المعاهدة، امرأة ورجل يتحادثان، وفتى نحيل بساقين مكشوفتين ينام بجوارهما، جعلهما فى مساحة صغيرة من الظل، تحت مظلة خيش لا أكثر. تتوه بين عشرات المظلات فى السوق، إنها ـ فى الحقيقة ـ مميزة بطريقة ما، فلا أحد من رجال السوق يخطئها، النسوان فقط يتجنبن المرور بجوارها حتى لايطولهن شيئا من لسانها الطويل، ثم جعل خلفية المشهد غائمة، كأنه عفار تسبح فيه رؤوس حمير وبقر وبشر. هذا يعنى ، أن السوق الذى طلب منه مدرس الرسم أن يرسمه لا وجود له من غير (سيدة آلاجا) .
الملاك الذى تعرف عليه يوم كتب رسالته الأخيرة لأمه قال : والله أنا لا أفهمك يا ولد، كيف ترسم وجها فيه كل هذا القبح وتظنه جميلا ؟”
فى هذا النص تأتى الصورة مباشرة وصريحة ، وفى قصص أخرى ، نجد انهمار الصور وإلحاحها على الذاكرة عبر سياقات لاتنتهي من التشكيل : الموت والغياب والحضور والأحلام والصمت والحركة والألم والعشق والجنون . يلاحظها الدكتور شاكر عبد الحميد أثناء تناوله لقصص ” مثل واحد آخر ” فيصف النصوص كأنها صور أو لوحات لبيكاسو أو رينيه مارجريت أو سلفادور دالي ، أو صورعن مشاهد تمرعبر الذاكرة كأنها سيناريو فيلم تجرى استعادته أو بالأحرى يتم تصويره مرةأخرى .
إن الصورة ـ عندى ـ هى لغة منسية تستعيدها الكتابة . وهذا يجعل الكتابة عملية أكثر تعقيدا وتركيبا من الرسم بالنسبة لي ، لكنها الطريقة الوحيدة لأفهم ذاتي عبر الصور، لقد مارست الرسم لعدة سنوات قبل الكتابة، لكننى لم أشعر فى أى لحظة أن ما أرسمه ينتمي إليّ ، وكأن ذاتى لم تكن مهيأة لبعث الحياة فى الصور الإ من خلال تشكيل الزمن ، الكتابة تحقق ـ لي ـ حضور هذا الثالوث فى لحظة واحدة : الصورة ـ الزمن ـ الذات . وبحيث لايمكن الفصل بينهم أو الكلام عن أحدهم بمعزل عن الآخر . عندئذ تصير حياة فى داخلى ، وتصير كتابة .
*****
كنت واحداً من جيل ولد مع الأحلام الأولى لثورة يوليو، حيث المدارس تنمحنا المتعة إلى جوار المعرفة، متعة أن نعرض لوحاتنا على جدران المدرسة ، أن نتعلم العزف على آلة موسيقية ، أن نستعير كتابا إلى بيتنا ، ومتعة أن يجلس الولد جنب البنت على دكة واحدة . ستنمّى هذه الشراكة فى داخلي إيمانا بقدرة المرأة على صنع الحياة ، وفيما بعد ستحظى المرأة باهتمام خاص فى كتاباتي الإبداعية والنقدية ، ها أنا أمنح النساء فساتين جديدة مثل أبي .
هل قلت صنع الحياة ؟
لاشىء يضاهي الحياة فى ولد غير حواس تتفتح بطاقة تبثها امرأة. المرأة هنا ليس بوصفها تمثيلا للآخر، إنها ـ فى الحقيقة ـ الحياة التى تخفق بالقرب منك فتقع فى غواية أن تنصت لرفيف الحياة ، اليقين الذى يعجز العقل الخالص عن إدراكة لأنه واقع ليس من مادة الواقع ، أن ترى الغموض وتشم السحر وتلمس المستحيل، أن تقبض على السماء والأرض فى قبضة واحدة كما قال الشاعر الصيني ( لوتشيو ) فى معنى الشعر.
هذه ليست مجرد حوافز للسرد ، إنها الذات التى أحب أن أرى فى مرأتي السحرية ، هى ـ فى الحقيقة ـ السحر الذى ينساب داخلنا ويمنحنا ملامح الخالقين وصفات الآلهة ، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تبقى هدى كمال ـ جارتي على دكة المدرسة الابتدائية ـ حية فى ذاكرتي ، كانت تكبر، وتصطخب بالسنين ، وتمتلك مصائر وحيوات خلقتها من أجلها ، ها أنا أمنح هدى كمال فساتين جديدة ، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة ـ أيضا ـ أن يكون أجمل وجوه مجموعتي القصصية الأولى ( أيام هند ـ 1990) هو وجه هدى كمال . كنت قد قسمت المجموعة إلى ( وجوه ـ رتوش ـ ملامح ) ربما يعكس هذا شغفي بالصورة واحتفائي بكل لحظات تشكلها . لكل لحظة جمالها .
وبعد سبع سنوات منحتُ هدى كمال فستاناً جديداً وصارت بطلة روايتي الأولى ( فوق الحياة قليلا ـ 1997 )* . لاحظوا : المجموعة الأولى ، الرواية الأولى، يبدو لي أن هدى كمال صارت فى وجداني رمزاً للبدايات. إن الرمز فى كتاباتى ليس تجريدا للحياة، بل العكس . كيمياء الكتابة ـ عندى ـ هو إعادة بعث لصور سكنتني واستقرت فتحولت إلى رموز. نحن ـ فى الحقيقة ـ لانصنع الرموز بل الرموز هى التى تصنعنا ، وبهذا المعنى تصير شفرة هذه الرموز هى شفرة الذات المبدعة ، فمرور الصور القديمة بعمليات التشفير ليست مجرد وسيلة لحفظها داخلنا ، بل هو اندماج بالذات، والكتابة تمنحها مصائر وحيوات جديدة تخصنا نحن .
الذات المبدعة هى حزمة رموز تتغير كلمتها السرية فى كل لحظة . الكتابة هكذا مكاشفة للذات ، ومطاردة للرموز والعلامات المطموسة فيها بما يعني أنها مازالت تنبض بالحياة ، باختصار ، الكتابة عندي هى أن أحرر الرموز التى بداخلي ، الأمر يشبه أن تحرر الفراشات وتبدأ بمطاردتها . كأنها لعبة أسميها : مطاردة الجمال .
لهذا فبعد أن حررت هدى كمال فى مجموعتي ( أيام هند ) ، عادت لتمنح روايتى ( فوق الحياة قليلاً ) كثيراً من الصخب والحضور الفذ. إنها نفس البنت الصغيرة التى ضبطها فراش المدرسة تبول فى ركن قصي فوق سطح المدرسة ، ورأى فخذيها العاريتين تلمعان تحت الشمس والماء يتدفق بينهما ويرسم خطوطا وأشكالاعلى بلاط السطح الساخن فصار مغوياً بمطاردتها ، فيما بعد ستحمل هذه البنت في عينيها نظرة غزال تغوي الصيادين بمطاردتها . وهى نفس البنت التي شافها الولد السمين من فوق سح البيت تعرى فخذيها للشمس والكتاكيت تنقر شيئا بينهما ، مطاردة لاتنتهى لبنت يقولون أن عفريتا طاردها على سلم البيت حتى دخلها غير هياب ولا مقتحم ، سأبدأ ـ هكذا ـ فى قصة العفريت الذى طارد امرأة تطقطق النار لما تراها : “ سأحكي لكم عن بنت اسمها مارسا بضفيرة واحدة، وعينين بنفسجيتين، يفاجئها الحيض، وهى على دكة المدرسة تجلس، والبنات ينطلقن فى أعقاب رواحها دون أن يلمسن رخاوتها. هذه البنت صارت امرأة تطقطق النار لما تراها.” . ما أشبه ( مارسا ) بهدى كمال التى أغوت فراش المدرسة بمطاردتها . فى كل مرة يفاجئنى نفس المكان ، سطح البيت ، العلية عند باشلار، أماكن الطفولة الحميمة بعيدا عن أعين الكبار، هذه مطاردة أخرى ، كلما امسكت قلما لأكتب أشعر أننى طفل يطارده الكبار، أهرب دائما إلى عليات ، اسطح البيوت، حيث يمكننى الرقص مع ثعالب الحواديت القديمة ، التحليق بعيدا عن الأرض ، أن أرى كل شىء ولا يرانى أحد. على أسطح البيوت قابلت هند وهدى كمال ونادية الفخرانية .
فى كتاباتي ستجد هذا الحضور المستديم لشخصيات وأماكن ُتكتب، ثم تعود لتُكتب في عمل آخر ، وهكذا .. كأني أكتب عملا واحدا لاينتهي، كأني أسير حياة سكنتني واختارتني ـ أنا بالتحديد ـ لتقيم داخلي، قد يبدو هذا تضييقا لعالم الكتابة ، وقد يكون مسؤلا عن قلة إنتاجي ، ولكنه على الأقل يخصني وحدى فلا تضيع ملامحى مع أحد . ولا أصبح مثل واحد آخر. الآن .. لو سألنى أحد ماهى الكتابة أقول : الكتابة هى ألا تصبح مثل واحد آخر . هذا مؤرق ومجهد ، لأننى فى كل مرة أكتب ، أنا ـ فى الحقيقة ـ أكتب عن العالم الذى يسكننى . أنا ـ فى الحقيقة ـ أسكن الحكايات التى أكتبها . من منا يكتب الآخر ؟.
. يقول الناقد مهدي صلاح :
“والسارد فى رواية فوق الحياة قليللا لسيد الوكيل من نوع السارد داخل الحكي ، فهو داخل القصة ويروي بضمير “الأنا “، وهو أيضا متجانس مع الحكي إذ يشارك مشاركة مباشرة فى الأحداث في أحيان كثيرة ، ويرتبط بعلاقات حية مباشرة مع الشخصيات . والسارد فى هذه الرواية حاضر في السرد بعدة طرق منها : ضمير الأنا ، أو بوصفه كاميرا تصور الشخصية والحركة ، أو بحضوره الشخصى والمباشر في علاقته بالأشخاص والأحداث ، أو في تعليقاته، أو في توجهه إلى القارئ بالحوار والمناقشة “.(2)
أنا لا أحكي عن شخصياتى بل أتحدث إليها ، ولا اتخفى وراء الراوي ، بل أعلن عن نفسي صراحة ، أحضر بذاتي كمؤلف ، هذا اقرب طريق لتماهى السارد فى المؤلف ، لأن موت المؤلف شأن نقدى لايخصني، أنا سيد الوكيل الذى تعرفون ، أقول لقارئي هكذا ، أنا أصنع الحكايات وأسكنكم فيها لصيروا جيرانا لى، وشيئا فشيئا تصبحون جزءا من الحكاية ومني ، لهذا سأبدأ كلامي عن هدى كمال فى رواية ( فوق الحياة قليلا ) بمخاطبة القارئ الذي دخل حكاياتي ، فى هذه الرواية سأكتشف أن لكل حكاية ُقراء يسكنونها . وهكذا .. ُتستدعى الحكاية بقرائها ، لذلك ، عندما استعدت حكاية هدى كمال بعد سبع سنوات ، عادت بقرائها معها . سيجنبني هذا أن أكرر الحكايات، فقراء الحكاية يعرفون ما حكيته لهم من قبل . فقط سأنعش ذاكرتهم، ثم أبدأ لأحكي لهم شيئا جديداً :
” تذكرون هدي كمال ، التي تركناها جالسة أمام ثلاجة مفتوحة، وضوء خفيف ينسال بارداً علي جسدها العاري، ويشكل ظلال النهدين والفخدين.
هدى كمال هذه عشقت فراء ثعلب، ووقفت طويلاً أمام شواء الشاورمة، تستمتع بمشهد النار البنفسجية، وكتلة اللحم المخروطية تنز عصيرها علي صينية مستديرة، كانت الرائحة تشعرها بالجوع.
تأملت الصورة التي التقطها المصور الهندي في الخليج . جعلها في جانب الصورة تخطو علي مساحة رمال ناعمة وممتدة، وفي الخلف مياه الخليج في صفاء نادر ولقاء عبقري مع خط الأفق اللازوردي، كان الهواء يطير تنورتها المشجرة للخلف، ويرتفع بها قليلاً فوق ركبتيها، ويطير شعرها الأسود فيغطى وجهها، كانت تلتفت بجيد طويل، وتبتسم.
قالت لى إن المصور الهندي طلب منها أن تبتسم .وقال إن الابتسامة تحفف كثيراً من نظرتها الحزينة، هي لم تبتسم في أول الأمر، فقط لما ابتسم المصور الهندي ابتسامة مهنية وقال … ألا تعرفين الابتسام ياسيدتي … هكذا ، وابتسم فابتسَمتْ ، وبسرعة سجل الابتسامة قبل أن تكتمل أو حتي قبل أن تختفي نظرة الحزن من عينيها.
قال : تشبهين غزالاً تخلص للتو من مطارديه ، وأنتظر رداً انفعالياً بشئ من الحدس ، ظلت طوال النهار تحدثه عن سبع سنوات مضت منذ آخر لقاء ، هو يومها لم يدرك معني المصافحة ، كانا يلتقيان ويفترقان ، ويعاودان اللقاء في كل مرة، ولم تكن بينهما كلمات وداع أو ترحيب ، هذه المرة مدت يدها وصافحته ، قال : أنتظرك غداً ، ولم تقل شيئاً ، فقط مدت يدها فصافحها وظل واقفاً علي جانب من الميدان محتمياً من المطر ، راح يرقبها وهي تعبر الميدان الخالي إلا من سيارات قليلة أبطأت حركتها وأضاءت مصابيحها مبكراً ، كان الأسفلت مبلولاً ، وكانت تتحسس خطواتها بين بؤر الماء المتجمع ، والمطر أكثرهطولاً من ذي قبل.
وطوال هذه السنوات كنت واقفاً علي جانب من الميدان ، أرقب وداعك محتفظاً بدفء كفك في جيب معطفي ، وكان المطر يهطل بقوة ….“
لماذا حرصت على أن أخبر القارئ أن هدى كمال عاشت فى الخليج سبع سنوات؟، هل كنت أبرر الزمن المفقود بين حضورها الأول في أيام هند ( 1990) ، وحضورها الثاني في فوق الحياة قليلا ( 1997 ) . ؟
لم يكن هذا فى ضميري وأنا أكتب الرواية ، إنه اكتشاف القارئ الذى فى داخلي ، والذى نما شيئا فشيئا ليصبح ناقدي الخاص، وبعد عدة سنوات انتبه إلى هذه المفارقة وهتف : يالله .. الكتابة أيضا تخلق رموزها بعيدا حتى لتواجهنا مواجهة خلق غريب ومستقل عنا . وبهذا المعنى فهى لاتمكننا من السيطرة على عالمنا تماما ، فقط تفتح لنا فيه كوة صغيرة فى جدار نراقب منه الحياة وكأنها فى مكان آخر،نراها من فوق أسطح البيوت ، نراها فقط ولا نسكنها، وهذا يمنحنا الدافعية لنكتب من جديد، شغوفين برغبة أن نكون جزءا من هذه الحياة التى نكتبها ، أحيانا ، أشعر أنني فى غمار التقليب بين ركامات الصور القديمة ، أبحث عن صورتي أنا . وأبحث عن زمني الخاص ، وبهذا المعنى سيحضر الزمن فى كتاباتى عبر تقاطعاته مع الذات، فالزمن ليس شيئا خالصا وخارجا عنا، وليس امتدادا لخط وحيد ينموويتقدم إلى الأمام، لقد كانت الرؤية البصرية المجسدة أو الستيريوسكوبية هى الوسيلة الخاصة لتحرير الخبرات البصرية عند بروست ، ومن ثم حددت مفهوم الزمن على نحو مميز ، أنه أمر مختلف عن الزمن الملحمي الذى يمضى بخطوات ثابته نحو غاية ، لهذا فإن بنية الرواية عندي أقرب إلى حلقات من السرد ، تتصل وتنفصل فى آن ، إنها أقرب إلى البناء القصصى كما لاحظ بعض النقاد ، وهذا يمنحني الفرصة لإمعان النظر والتحديق فى جزئيات الزمن عبر عمليات مضنية من العزل والاختيار والتكثيف الشديد وكأنني أصبو إلى كتابة من غير لغة .
عندما تنزع اللغة إلى التشكيل ، وتنجح فى اصطياد لحظات الخيال المنفلت لا الراسخ اليقيني، تكون مفعمة بطاقة بصرية . قد يحتاج هذا إلى نوع من الاستبصار ، والتحديق ،ففى المشهد لاشيء يتكرر تماما ، إنه غني بالتفاصيل الصغيرة والألوان والحركة ، عندئذ تصبح للظلال أهمية بالغة ، فلا شيء هنا فى الهامش ، لأنه لامعنى يطابق المبنى ، فقط ثمة فضاء واسع للدلالة ، وقابلية مدهشة للتأويل ، إنه التفكير بالصور . وحيث الصورة تنتج بلاغتها الخاصة فى عالم من الكنايات والتخييلات ، كأنه يحدث الآن ، لأن زمن المشهد مساو لزمن الفعل .
يقول شاكر عبد الحميد فى معرض كلامه عن نصوص ( مثل واحد آخر ): ” هكذا فإننا نجد ـ أيضا ـ أن فعل التحديق والنظر فعل أساسي في هذه القصص ، وهو فعل أحيانا مايحول الذات إلى موضوع كما قال فوكو، فى قصة ( بعد ذلك لا أحد ) ، يقول الراوى : ” تعودت فى طفولتى أن اقرأ خرائط القمر ” وحديثة عن النظار ( العوينات ) الجديدة التى تلفت الانتباه ، وعن ولعه برسم الحدود لك شيء ، وعن صورته التى تتأرجح على مسمار فى حائط ، عن الغرباء الذين يبحثون عنه في الحفل العام ويأخذون الصور التذكارية معه … وإشارات عن البحث من خلال عيون النساء عن رغبة قديمة ، وعن تثبيت النظرات والتراوح بين التحديق والتخييل والحضور والغياب … “(3).
********
أمكاننا جميلة دائما ، ولاسيما الأماكن القديمة ، فهناك نضع البذور الأولى لحياتنا ونتركها تنمو، على هذا النحو فكر باشلار فى : (جماليات المكان ). وعلى نحو آخر جعل يحيى الطاهر عبد الله عنوانا لكتابته: ” الأشياء القديمة صالحة لإثارة الدهشة ” . هذه الأشياء ليست مجرد ديكورات للمكان ، إنها أثر الحياة فيه ، فهذا القمر البهي فى عليائه لايفخر بشيء سوى بآثار أقدام الرجال التى داست ترابه .
أمام بيتنا القديم توجد شجرة تين منغولى ضخمة تسكنها الطيور ومجذوب اسمه منسي . لا أحد يعرف عن منسى شيئا غير أنه ساكن الشجرة ، متى جاء ؟ كيف صعد إليها ؟ من يطعمه ؟ كيف يقضي حاجته ؟ هذه معارف بسيطة يجهلها الناس فاعتبروه وليا وأطلقوا عليه منسي . من الغموض تنبت حكايات وتصير أساطير .
فى هذه الأيام خضعت منطقتنا إلى عملية تطوير واسعة ، وكان على رجال البلدية أن يجتثوا الشجرة ليشقوا طريقا جديداً، لم يتمكن أحد من إنزال منسي ، كان يروغ بين الأفرع والأوراق الكثيفة فقرر المهندس تقطيعها فرعاً فرعاً حتى يتمكن من محاصرته ، المناشير تحز فى لحم الشجرة ، والطيور فزعة على الشرفات وأعمدة الإنارة القريبة ، الأفرع تتهاوى ، وأعشاش الطيور تتناثر وتبعثر بيوضها وصغارها تحت عجلات آلات الرصف الثقيلة ، وعندما جاء العمال لاستكمال عملهم فى صباح اليوم التالي ، لم يجدوا طائراً واحداً يسكن الشجرة ، ولم يجدوا منسى ، فقطعوها بضمير مرتاح . لكن سكان الشارع وحدهم ظلوا مؤرقين بشأن مصير منسى ، الولي الذى هجرهم فجأة كما جاء فقالوا أنه طار فى الفجر مع الطيور.
سنقف ـ فى هذه الحكاية ـ على معنى واضح للتغير الاجتماعى والحضارى ، ولكنى أفضل الكلام عن الأسطورة . المدينة أيضا تصنع أساطيرها عبر تحولاتها التى لاتتوقف ، يخيل لي أن هذه كانت آخر أساطير الميتافيزيقا التى شاهدتها . فبعد أسبوع كانت لنا ساحة مرصوفة بالأسفلت ، نرسم فوقها صورنا وألعابنا بالطباشور الأبيض ، وفى المساء نحكي فوقها الحكايات .
أنا ابن القاهرة ، سكنتني وصنعت حكاياتي، لذلك أنا لا أكتبها بل هى التى كتبتني ، علىّ أن احترم هذا ، لهذا فالمكان ليس موضوعا فى كتاباتي بل هو ذات ، وبهذه الطريقة تحقق الكتابة شيئا مهما ، هو اندياح المسافة بين الذات والموضوع ، فلم يسبق لي أن اخترت موضوعا لأكتب عنه،كانت الموضوعات تسكنني أولا ، لهذا بدت الكتابة ضرورة لأرتاح من إلحاحها ، كثيرة هى حالات الطلق الكاذب، لكنها لم تحبطني ، كنت اعتبرها مجرد تمارين على لحظة كتابة حقيقية ستأتي حتما، وكنت أشعر بارتياح كبير وأنا أمزقها .
ولدت في القاهرة ، وعندما تولد في المدينة فإن أول ما تتعلمه أن تفرغ ذاكرتك من الكثير ، لأن ما هو أكثر ينتظرك ، أذكر أن أول شهادة أدبية كتبتها لمجلة الكتابة الأخرى كانت بعنوان : “تجديد الذاكرة ” لست أتحدث عن الذاكرة الحافظة التى مازلت افتقدها، أتحدث عن الذاكرة الخلاقة ، ماكينة الإبداع اللحظى الذى ينتج عبر تجربة الحياة اليومية، عبر الممارسة ، وينتج واقعنا على نحو ما، واقع متجدد ومحتشد ومعقد التركيب الثقافي والاجتماعي ، واقع على هذا النحو يجعل معنى الخصوصية الثقافية مرواغاً وضليلاً . من الأفضل أن نتحدث عن خصوصية التجربة، عليك أن تستوعب كل هذا لتكون سارداً للمدينة، فكروا معى فى نجيب محفوظ، ثم حدثوني عن الخصوصية ، نجيب محفوظ المنفلت ، المتقلب ، المتعدد المراحل هو نجيب محفوظ ، الخصوصية أن تكون أنت ذاتك المفردة فى كل هذا الاشتباك، هذا تعبير مراوغ عن الخصوصية ، لكنه على أي حال ليس صوتاً غنائياً للمكان ، إنه نوع من الاشتباك ، الندية ،الدرامية، الصراع مع الفتوات ، من أجل هذا فشلت فى أن أكون شاعراً ، هل تعتبرون هذا أمراً معيباً ؟
نعم أنا لم أفهم الشعر كما ينبعي لشاعر، ولا أفهم لماذا ينبغي أن يكون الإنسان شاعراً فى مكان ينبغي أن يكون فيه فتوة، الشعر كان ضالتي، جوهرتي المستحيلة، لن أجده فى عينين مكحولتين لامرأة تحمل جرة تخر الماء فوق رأسها، ولا في طمأنينة فلاح يسترخي فى ظل صفصافة، أنا ابن مدينة، جوهرتي مستحيلة، بحثي عنها لاينتهى، وشيئا فشيئا، ساتعلم أن البحث نفسه هو جوهرتي المستحيلة، سأجد فى الأشياء شعراً، فى الأحداث، فى الوجوه، الشعر ليس ـ بالضرورة ـ غناء الملائكة أو صدح البلابل، فعندما تعيش فى المدينة، عليك أن تنتزع الشعر من واقعه الوحشى .
هكذا الكتابة عندي ليست تسجيلاً جمالياً لواقع ما، وليست غناءً له، بقدر ماهى اشتباك ، معايشة ، صيغة للبحث المستمر، بحث محموم، لايفلتني لحظة لأقول لكم بثقة ، حسن .. سوف أحدثكم عن المكان، لأنني كلما حاولت ذلك أجدني أتحدث عن نفسى، أنا المكان ، أنا المدينة ، أنا الصخب والاحتشاد والقلق والتعدد، شارع شبرا، ميدان فيكتوريا، سينما النزهة وصاحبها بابا دبلو، اليونانى الذى اختفى فجأة وترك السينما تعمل بمن فيها حتى حتى رأيتهم يوما يهدمونها . ويبنون مكانها سكنا لبشر حقيقيون ، هكذا المدينة بايقاعها الوحشى تقتل خيالات الطفولة.
ذاكرة المدينة ضعيفة ، ملامحها تتغير فى كل يوم ألف مرة ، أنت نفسك شاهدت كيف تغير ميدان فيكتوريا أكثر من مرة ، تذكره عندما كان فضاء لملاعب الصبا ، تعلمنا ـ نحن أولاد المدينة ـ نصنع أساطيرنا الجديدة، على المقاهى وفى الباصات ومحطات السكك الحديدية وعنابرمصانع النسيج التى اشتهرت بها شبرا واحتضنت رموز الحركة العمالية .
فى هذا المناخ من الوعى المدنى يصبح للزمن معنى تقني، وتصبح اللغة استجابة لحاجات الحياة اليومية فتنزع للشفافية والتخلص من إرثها البلاغى الذى نهض على الشفاهية، وتحضر الصورة بتعدد وتواتر ليسمح بمساحات من الصمت والتأمل والتحديق والدهشة لتنتج بلاغتها الخاصة . فى المدينة ثمة إنسان جديد ، يخلق فناً جديداً ليلبي احتياجاته الجديدة، ويعكس وعيه بالطبيعة والزمن ، فالحكاية لم تعد شيئاً في حد ذاتها إلا بقدر ماهى وسيط حامل لهموم وقضاياً وأحلام ومشاعرالإنسان، وبناء الحكاية لم يعد مجرد نسيج مخملي موشى بالبلاغة، بقدر ماهو تجسيد لفلسفة ووعى الإنسان بالعالم ، التقنية هى ـ أيضا ـ شيء من بلاغة إنسان المدينة، تغير المدينة ملامحها ولهجاتها وملابسها كل صباح، وهذا يحتاج تحديقا فى المكان .
كم مرة تغير وجه ميدان فيكتوريا، لكنه مازال يحمل ذلك الاسم، ليذكرني بتلك الراهبة الإيطالية، راهبة السبع بنات التى كنا نطرق بابها وندعي أننا يتامى فتمنحنا نقودا لتذكرة ترسو فى سينما النصر، وفى أيام الآحاد ننتظرها أمام سانت تريزا، نقول لها نحن مسيحيين ياسستر، تضحك وتقول: أنت كلفتى ابن أحمد افندى..خذ .
بطريقة ما كانت ثقافتي نوعاً من الخبرة الحية والاستقراء البصرى للواقع المدني المركب ، كل وجه فى المدينة هو وجه متفرد على نحو فارق، الذاكرة تئن بحشد الوجوة، مجموعتى الأولى ( أيام هند) كانت انعكاساً لغوياً للشغف البصري، وتعويضاً نفسياً عن فشلي فى أن أكون نجماً سينمائياً، حتى أن بعض الوجوه ظلت تطاردنى وكأنني لم انته من كتابتها بعد.
إلحاح بعض الوجوه والصور على ذاكرتى دفعنى إلى التفكير، إنني أكتب قصة واحدة لاتنتهي ، كان علىّ أن أدرك أن الوجوه فى السرد ، كما هى فى الحياة ، ليست بورتريهات معلقة على حوائط ، إنها اشتباك حي وفاعل ، وتقاطعات مع وجوه أخرى ، مع أماكن ، وأزمنة ، وممارسات لها صفة التجدد الخلاق .
أدرك الآن أن المدينة أكثر ذكاء من أن تسلم لي نفسها دفعة واحدة، امرأة لعوب حقاً كما شافها أدباء نزحوا إليها وأغوتهم بسيقانها العارية ( مع الاعتذار للكاتبة لصفاء عبد المنعم ) ، أكثر ثراء من أن تمتلكها بيقين، لهذا فكتابتي تطرح كثيراً من الأسئلة، عن الموت والحياة، التغير والصيرورة وعن المصائر الإنسانية ، هكذا أسئلة تبدو قديمة قدم الإنسان ، لكنها فى غمار الفعل الإنسانى والانهماك فى ملابسات اليومية ، تبدو كحقائق قديمة صالحة لإثارة الدهشة .
أدرك الآن أن الكتابة معايشة، وانتماء إلى ذات عظمى تعيد إنتاج ملامحها فى كل لحظة ، وبعد خمسين عاماً من الحياة فى المدينة ، ليس بوسعى القول إنني كتبت المدينة ، ليس فقط لأن المدينة كانت تكتبني فى كل يوم ، بل لأننى ـ أيضاً ـ لست سوى صورة من صور المدينة التى لاتتوقف عن إعادة إنتاج نفسها، هكذا تصبح الرغبة فى تمييز ذاتي عن ذات المدينة مهمة أولى ومستحيلة ، لكنها السبيل الوحيد لوجودي الذائب فيها ( المدينة )، وجودي الذى يفاجئنى على مقهى فينكس* ، مطرب عجوز يغنى لراقصة متقاعدة مازالت تمتلك قدراً من الحضور الجسدي كاف لإشاعة البهجة، مومس على عجلة من أمرها تدخن وتشرب الشاي وتقضم ساندوتش الشاورمة فى لحظة واحدة ، وجودي المستحيل الذى تسرب إلى أنفي، رائحة المصنوعات الجلدية بممر الكوننتنتال، رائحة الحلوى فى درب البرابرة، البويات فى الرويعى، الحواوشى فى شارع الألفى ،الكتب القديمة على سور الأزبكية، رائحة التراث فى شارع الأزهر، وجودي الذي رأيته فى البازارات، ولوحات رسامين مغمورين يرسمون الأهرامات والنيل وشمس الأصيل ياليل فى لوحة واحدة ، ورأيته فى عيون بنات شبرا* العاملات فى محلات وسط البلد، يعرضن عليك بابتسامات شقيانة بضاعاتهن، فى وجوه صنايعية خرجوا لتوهم من سينمات عماد الدين بعد منتصف الليل، وتسربوا إلى حوارى الشرابية وجزيرة بدران، إيماءات الجاي فى ميدان التحرير لبعضهم البعض، تنبيهات الناضورجية لبائعى الأرصفة من هجمات البلدية فى شارع قصر النيل، إغواءات الخرتية * للأجانب فى ميدان طلعت حرب، هذا وجودي الذى تربص بي على مقهى زهرة البستان* وتبادل مع إبراهيم فهمى* قراءة القصص الأولى ، إبراهيم فهمى الذى جاء من أقصى الجنوب مغوياً بسحر القاهرة، القاهرة التى تركته يموت على مقاهيها كل يوم ألف مرة .
فى فيلم (فورست جامب ) فقد الشاب المتوحد أمه فقرر أن يجري، جرى لبضع سنوات، والناس يجرون خلفه ويسألونه، هل تجري احتجاجا على الحرب ؟ من أجل السلام ؟، حقوق الإنسان ؟ هل هو دين جديد ؟؟
كان لايجيب ، فقط يجري واتباعه يتزايدون، ولا يعرفون لماذا عليهم الجرى وراء زعيم لايفعل شيئا آخر غير أن يجري؟ فجأة توقف فى أرض خلاء ، قالوا : لماذا توقفت ؟
ـ أنا متعب ، ويجب أن أعود إلى البيت .
تلفتوا حولهم وقالوا:
ـ ونحن يازعيم ..ماذا نفعل الآن ؟
كان هذا حالي بعد انتهت حرب 1973، وسرحت من الخدمة العسكرية فى 1977. فقد خرجت إلى خلاء. تنطلق روايتى التى أكتبها الآن من هذا المشهد السينمائى الشهير، إلى حد ما تتماس هذه الرواية مع ملامح التجربة السياسية فى مصر حتى التسعينيات، عن مؤسسة تنظم رحلة لموظيفيها، ثم تضعهم فى فندق معزول أمامهم البحر وخلفهم الصحراء، إنه الإحساس العميق بالفراع والخلاء. تشعر وكأنك خارج المكان والزمان.
كنت واحدا من جيل ولد مع ثورة يوليو ، وجرى وراء زعيمها، فى أحلامه، وهزائمه، وانتصاراته الهزيلة، ثم فجأة قالوا لنا أنهم متعبون، وأن عليهم العودة إلى البيت. هكذا تركونا فى خلاء. وفيما بعد ، بدا أن الجميع لديهم رغبة فى وأد هذا الجيل الذى سمى بين الأدباء بجيل الثمانينيات، والتخلص منه بوصفه جيل سقط فى غواية الأحلام المهدرة. القليلون فقط هم الذين انتبهوا إلى أن هذا الجيل هو الذى بدأ بقتل الزعيم فى أكتوبر 1981، فأعطى الجميع فرصة أن يكونوا أنفسهم ، يقول إدوارد سعيد : ” عندما اختفى الأساتذة الكبار مع طلع الثمانينيات ، رافق غيابهم نوع من الرضا والارتياح كما لو أن الأشياء الكثيرة الفائضة عن الحاجة، اعطت الكثير من الزاد لشخصيات قليلة الشأن لتقول رأيها للمرة الأولى بعد زولا “(4)
كان علينا القيام بمهمة أولى، البحث عن صياغة جديدة للذات المبدعة مؤسس على معنى الخبرة والتجربة الشخصية، وليس فيما ينقله لنا الآخرون من ركام أيديلوجى ومعرفى عن الكتابة ،كنا مدركين أن الخبرة لايمكن نقلها، فقط، يجب أن تعاش، وكنا مؤرقين بكثير من الشك تجاه ماطرحته الكتابة من أسئلة وقضايا بدت مصيرية بالنسبة للكاتب، لهذا انهمك جيلنا فى مراجعة الكثير منها مثل : ما الأدب؟ ما وظيفة الأدب؟ ماهو الدور المنوط بالأديب ؟ لم تكن الإجابات المسبقة مرضية لنا بأى حال، وشيئا فشيئا سنطرح على الأدب أسئلتنا الخاصة، عن الذات المبدعة ليس بوصفها كياناً غامضاً ونبوياً وكلياً، بل بوصفها ممارسة لللاشتباك والتفاعل اليومي ، الذات المبدعة هى المعنى الجمالي للخبرة الحية والتجربة المعيشة، هكذا كنت واحدا من الذين اضطروا إلى مراجعة أسئلة الكتابة فى هذه المرحلة، وربما كان حظي أوفر بدراستى للأدب بجامعةعين شمس، ثم تخصصي فى النقد الدرامي بالدراسات العليا ، ربما كل هذا أغواني بكتابة النقد الأدبي بنفس القدر من الغواية الذى أكتب به الإبداع ، كنت فى البداية أخشى أن يقضي النقد على روح المبدع داخلي، هكذا قالوا لنا ، لكنني ، عندما أفهم النقد بوصفة مطاردة الجمال،أجده ممارسة إبداعية أيضا.
عندما كتبت شهادتي عن جيل الثمانينيات فى كتابي النقدي ( أفضية الذات ) ، كنت أدرك أنني أكتب شهادتى عن تجربتى فى نفس الوقت : ” سيعانى هذا الجيل كثيرا من الارتباك ، وسيتعين عليه البحث عن مفهوم جديد للذات غير ذلك المنشأ على الذاكرة الرسمية ، ويصلح للتعامل مع فراغ المرحلة ، سيتطلب ذلك البحث عن توجهات جديدة لخلق واقع بديل وذاكرة بديلة ، سيكون الاحتفاء بالخصوصيات المحلية ـ مثلا ـ بديلا عن الموضوع القومي أو العام ، فتتحول الأفعال إلى مايشبه الطقوس ، وتتردد لغة غنائية ذات طابع احتفالى ، جزل أو شجي بدلا من النبرة النضالية الجادة التي ميزت الخطاب الستيني ، عموما يوصف هذا الجيل بأنه جيل الجزر المعزولة ، والخصوصيات الضيقة ، والهويات المشوهة والفرص المحدودة ، وسيتحول نضاله من نضال ضد عدو متعين واضح ، إلى نضال ضدعدو غامض ، ليأخذ هذا الصراع طابعا (دون كيشوتى) قد يتوجه إلى الذات أكثر من أى شيء آخر ” .
الآن يبدو لى أن هذا الصراع مع الذات كان ضروريا لهذه المرحلة ، لأن التغيير الذى مارسناه كان متسما بطابع أخلاقي، ليس معنيا بهدم الماضي أو تقويض رموزه، بقدر ما هو معني بالتحرر منه وإنتاج ذاكرة بديلة تخصنا، كانت المدينة دربتني على ذلك، إنها فضاء التعدد والتجاور الذي يعيد تشكيل ذاته كل يوم، الآن لدى معنى واضحاً للذات المبدعة، فهى ليست كيانا مصمتا وصلبا بل : هى قدرتي على إعادة تشكيل وإنتاج الحياة وكأننى أنظر فى مرآة سحرية . يالها من غواية خطرة : غواية الخلق .
هوامش وتنبيهات:
1ـ هاينز مايرهوف : الزمن فى الأدب ـ ترجمة ( أسعد رزق الله ـ العوضي الوكيل )ـ منشورات مؤسسة سجل العرب ـ القاهرة ـ 1972 .
2ـ مهدى صلاح على حسن : أنماط البث والتلقى في الخطاب الروائي المعاصر ـ إصدارات جائزة الشارقة للإبداع العربي ـ الشارقة ـ 2005 ـ ص 284.
3ـ شاكر عبد الحميد : عصر الصورة ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ عدد311 يناير 2005 ـ ص 214.
4ــ إدوارد سعيد: الدور العام للكتاب والمثقفين ـ ـ ألكرمل ـ العدد 68
*ـ فوق الحياة قليلا : تتناول حياة الكتاب والأدباء وتسجل جوانب من سيرهم عبر معالجات فنية لوقائع حقيقية، ومن ثم فالأدباء يظهرون على مسرح الأحداث بأسمائهم الحقيقية أمثال : ( نجيب محفوظ ـ صلاح جاهين ـ نجيب سرور ـ يحي الطاهر عبد الله ـ إبراهيم فهمي ـ محمد جبريل وغيرهم ) حجم التداخل بين المتخيل والحقيقى تسبب فى صدمة لبعض القراء والنقاد الذين اطلعوا عليها ، نزعت الرواية إلى خطاب تفكيكى لصورة المثقف من خلال علاقته بذاته وبالآخرين وكذلك من خلال علاقته بالسلطة وبالكتابة ، اتسمت الرواية بروح المحاكاة الساخرة ، وتعدد الأساليب السردية وتعدد الرواة . وتماهى فيها الخطابين الإبداعى والنقدى .
* ـ مقهى فينكس : مقهى بشارع عماد الدين ، هذا الشارع كان عصب الحياة الفنية فى مصر منذ الثلاثينيات ، وكان المقهى آخر بقايا هذه الحركة ، مكان لتجمع المثقفين والفنانين ، ومنه انطلقت جماعة نصوص 90 الأدبية التى بشرت بالكتابة الجديدة ، وكنت أحد مؤسسيها ، المقهى صمد لبضع سنوات فى التسعينيات، ثم باعه صاحبه لمؤسسة رأسمالية فتحول إلى معرض لبيع الأدوات الكهربائية ، صاحبه متهم ـ ألان ـ بمقتل الفنانة سوزان تميم .
* ـ شبرا : أشهر أحياء القاهرة ، يتسم بكثافته السكانية ، والتنوع الثقافى والدينى لساكنيه . اشتهر بكثرة دور السينما والمقاهى الرخيصة ، والمتاجر الصغيرة لتناسب احتياجات سكانه الذين كان أغلبهم من عمال المصانع وصغار الموظفين ، فشكلوا صلب الطبقة العاملة فى مصر، ومثلوا صلب الحركة العمالية فى الخمسينيات والستينيات. الآن، انفضت الحركة العمالية تماماً ، وتحولت كل دور السينما إلى أبراج سكنية وأسواق، وتحولت المقاهى إلى مقار للعاطلين.
* ـ الخرتية : طائفة من شباب الضواحى ، يعملون فى السمسرة السياحية، من خلال علاقات شخصية بالأجانب . إنهم أذكياء مثقفون ويتكلمون لغات مختلفة ،متحررين إلى أبعد حد . وكأنهم بلا بيوت أو أسر ينفقون حياتهم فى شوارع وسط القاهرة بين المقاهى والمطاعم والحانات والموتيلات الرخيصة .
* ـ زهرة البستان : أشهر مقاهى المثقفين منذ الثمانينيات بعد إغلاق مقهى ريش الذى كان تجمعا لكتاب الستينيات وفيه كتب نجيب سرور بعض قصائده الهجائية،منها قصيدة بروتوكولات حكماء ريش، حظى مقهى زهرة البستان بفصل كامل فى روايتى ( فوق الحياة قليلا )، المقهى يقع فى ميدان طلعت حرب حيث يعتبر الميدان مركزا للحركة الثقافية فى مصر .
* ـ إبراهيم فهمى : قاص من النوبة ( اقصى جنوب مصر ) ، من أعماله ( القمر بوبا ـ من دفتر البستان ) ،كان واحدا من شخصيات رواية ( فوق الحياة قليلا ) ،مات شابا وأقام له الأدباء سرادق عزاء بمقهى زهرة البستان التى قضى عمره عليها ، إذ كان فقيرا ومغتربا مشردا .
sadazakera.wordpress.com
بالنسبة له .. لم تكن مجرد مهنة لخياط، كانت غواية ونزعة إلى تجسيد الصور، يحولها إلى باترون فيه خطوط ورموز وتقاطعات، ثم ينفخ فيها من روحه فترتعش بالحياة على أجساد النساء، وتمتص عطوراً وعرقاً ورغبات مقموعة .
هكذا كانت الصور تنبض بالحياة فى داخلي ، وفى كراسات المدرسة، وعلى جدران حجرتي ، إنها غواية الخلق .
Advertisement
Report this ad
هذا قول مشهور لستاندال : ” كانت الرواية تمسك بمرآة أمام الطبيعة “.
أما شهرزاد فقد اكتشفت مرآة سحرية، ينظر فيها الشخص فيرى ما يحب أن يرى.
قرأت حكاية المرآة السحرية فى واحدة من قصص الأطفال المستوحاة من ألف ليلة وليلة فوقعت فى غواية أن يكون لى مرآتي السحرية فأرى خلقا وبلاد وأحلام تتحقق.
بالنسبة لطفل.. كانت السينما هى التجلي القريب للمرآة السحرية ، وكان كل شيء يدفعني للغواية. أسكن فى بيت قريب لسينما النزهة، ويكون مشغّل ماكينة العرض صديقا لأبي فيمكنني دخول الكابينة وقت أشاء، يمنحني شرائط الأفلام ويعلمني كيف أصنع فانوسا سحريا ليكون لي كابينة عرضي الخاصة بصندون ومرآة وعدسة صغيرة ، شيئا فشيئا كانت المرآة السحرية تمنحني أسرارها، وقعت فى غواية صنع الصور وتحريكها ومنحها الحياة فى وقت كان أقراني الجالسون فى صالة العرض ، يتطلعون إلي شعاع الضوء بدهشة، ولا يعرفون كيف ينبض بالحياة على الشاشة ويحتشد بكل هذا الخلق .
ثم دفعتني هذه الغواية المبكرة إلى غوايات أُخر : الرسم ،النحت ، التمثيل فى المسرح المدرسى ، كنت واقعا فى غواية أن أكون حاضرا بذاتي فى فضاء من الصور . وكانت الكتابة هى فرصتي الوحيدة لأدس بذاتي بين سيل الصور التى تنهمر داخلى . إنها مرآتي السحرية حقا . لهذا ، فحتى بعد أكثر من أربعين عاما مرت على واقعة الفانوس السحرى، كتبت روايتى ( شارع بسادة ـ 2008 ) وجعلت بطلها ولداً يرسم الصورعلى حوائط الطين ، ويتركها .. فتعبث بها الشياطين والملائكة ، ويمنحونها أرواحا كل حسبما يريد ويهوى. فتصير فى الحياة حتى لتواجه الولد ( راسمها ) مواجهة خلق مستقل ومتفرد . فيطاردها بالكتابة عنها ويصبح جزءا منها. إنها ـ فى الحقيقة ـ مطاردة للصور القديمة التى سكنتنى .
لقد ظلت الصورة حافزاً رئيسا فى كتاباتى ، حتى عندما قدمت كتابى النقدى ( أفضية الذات ) جعلت مبحثه الأول : ” تشكيل الفضاء ” كان المبحث محاولة لفهم الزمن عند كانط :” الزمان هوالصورة المميزة لخبراتنا “(1) ويعنى هذا أن الزمن لاينفصل عن الذات ، فالنمو العقلي والحسي والنفسي للإنسان ، يقع فى الزمن ، وهذا النمو هو المظهر الوحيد الذى يعرفه الإنسان للزمن ، لأن الزمن ـ فى الواقع ـ ضائع ومفقود ، ولايبقى دليل على وجوده إلا فى الذاكرة الإنسانية كأرشيف للذات. فإذا كنا نؤمن بأن لاشيء يقع خارج الزمن، فهذا يعنى أن لاشيء يقع خارج الذات .
إن هذا الفهم يعنى أننا لانمسك بالزمن فى ذاكرتنا إلا من خلال الصور،نحن لانمسك بالزمن ولكن بصورة الزمن بعد أن منحناه شكلاً ، كما أننا ، فى تلك اللحظة التى نمسك فيها بصورة الزمن ، نحن نمسك بذواتنا أو بخبراتنا المميزة التي تشكل هذه الذات . ولابأس أن نفهم الكتابة ـ أيضا ـ كما لو كانت مساحة فارغة من الزمن نشغلها بالصور، أو بالأحرى ، يكون السرد هو فن تشكيل الزمن . هكذا منحني التشكيل شفرات الكتابة .
تبدأ قصتي : ” الغانية العجوز التى صارت عرافة لعشاقها القدامى ” هكذا :
” رسمها بقلمه الرصاص فوق ورق البريستول الذى اشتراه خصيصا من مكتبة المعاهدة، امرأة ورجل يتحادثان، وفتى نحيل بساقين مكشوفتين ينام بجوارهما، جعلهما فى مساحة صغيرة من الظل، تحت مظلة خيش لا أكثر. تتوه بين عشرات المظلات فى السوق، إنها ـ فى الحقيقة ـ مميزة بطريقة ما، فلا أحد من رجال السوق يخطئها، النسوان فقط يتجنبن المرور بجوارها حتى لايطولهن شيئا من لسانها الطويل، ثم جعل خلفية المشهد غائمة، كأنه عفار تسبح فيه رؤوس حمير وبقر وبشر. هذا يعنى ، أن السوق الذى طلب منه مدرس الرسم أن يرسمه لا وجود له من غير (سيدة آلاجا) .
الملاك الذى تعرف عليه يوم كتب رسالته الأخيرة لأمه قال : والله أنا لا أفهمك يا ولد، كيف ترسم وجها فيه كل هذا القبح وتظنه جميلا ؟”
فى هذا النص تأتى الصورة مباشرة وصريحة ، وفى قصص أخرى ، نجد انهمار الصور وإلحاحها على الذاكرة عبر سياقات لاتنتهي من التشكيل : الموت والغياب والحضور والأحلام والصمت والحركة والألم والعشق والجنون . يلاحظها الدكتور شاكر عبد الحميد أثناء تناوله لقصص ” مثل واحد آخر ” فيصف النصوص كأنها صور أو لوحات لبيكاسو أو رينيه مارجريت أو سلفادور دالي ، أو صورعن مشاهد تمرعبر الذاكرة كأنها سيناريو فيلم تجرى استعادته أو بالأحرى يتم تصويره مرةأخرى .
إن الصورة ـ عندى ـ هى لغة منسية تستعيدها الكتابة . وهذا يجعل الكتابة عملية أكثر تعقيدا وتركيبا من الرسم بالنسبة لي ، لكنها الطريقة الوحيدة لأفهم ذاتي عبر الصور، لقد مارست الرسم لعدة سنوات قبل الكتابة، لكننى لم أشعر فى أى لحظة أن ما أرسمه ينتمي إليّ ، وكأن ذاتى لم تكن مهيأة لبعث الحياة فى الصور الإ من خلال تشكيل الزمن ، الكتابة تحقق ـ لي ـ حضور هذا الثالوث فى لحظة واحدة : الصورة ـ الزمن ـ الذات . وبحيث لايمكن الفصل بينهم أو الكلام عن أحدهم بمعزل عن الآخر . عندئذ تصير حياة فى داخلى ، وتصير كتابة .
*****
كنت واحداً من جيل ولد مع الأحلام الأولى لثورة يوليو، حيث المدارس تنمحنا المتعة إلى جوار المعرفة، متعة أن نعرض لوحاتنا على جدران المدرسة ، أن نتعلم العزف على آلة موسيقية ، أن نستعير كتابا إلى بيتنا ، ومتعة أن يجلس الولد جنب البنت على دكة واحدة . ستنمّى هذه الشراكة فى داخلي إيمانا بقدرة المرأة على صنع الحياة ، وفيما بعد ستحظى المرأة باهتمام خاص فى كتاباتي الإبداعية والنقدية ، ها أنا أمنح النساء فساتين جديدة مثل أبي .
هل قلت صنع الحياة ؟
لاشىء يضاهي الحياة فى ولد غير حواس تتفتح بطاقة تبثها امرأة. المرأة هنا ليس بوصفها تمثيلا للآخر، إنها ـ فى الحقيقة ـ الحياة التى تخفق بالقرب منك فتقع فى غواية أن تنصت لرفيف الحياة ، اليقين الذى يعجز العقل الخالص عن إدراكة لأنه واقع ليس من مادة الواقع ، أن ترى الغموض وتشم السحر وتلمس المستحيل، أن تقبض على السماء والأرض فى قبضة واحدة كما قال الشاعر الصيني ( لوتشيو ) فى معنى الشعر.
هذه ليست مجرد حوافز للسرد ، إنها الذات التى أحب أن أرى فى مرأتي السحرية ، هى ـ فى الحقيقة ـ السحر الذى ينساب داخلنا ويمنحنا ملامح الخالقين وصفات الآلهة ، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن تبقى هدى كمال ـ جارتي على دكة المدرسة الابتدائية ـ حية فى ذاكرتي ، كانت تكبر، وتصطخب بالسنين ، وتمتلك مصائر وحيوات خلقتها من أجلها ، ها أنا أمنح هدى كمال فساتين جديدة ، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة ـ أيضا ـ أن يكون أجمل وجوه مجموعتي القصصية الأولى ( أيام هند ـ 1990) هو وجه هدى كمال . كنت قد قسمت المجموعة إلى ( وجوه ـ رتوش ـ ملامح ) ربما يعكس هذا شغفي بالصورة واحتفائي بكل لحظات تشكلها . لكل لحظة جمالها .
وبعد سبع سنوات منحتُ هدى كمال فستاناً جديداً وصارت بطلة روايتي الأولى ( فوق الحياة قليلا ـ 1997 )* . لاحظوا : المجموعة الأولى ، الرواية الأولى، يبدو لي أن هدى كمال صارت فى وجداني رمزاً للبدايات. إن الرمز فى كتاباتى ليس تجريدا للحياة، بل العكس . كيمياء الكتابة ـ عندى ـ هو إعادة بعث لصور سكنتني واستقرت فتحولت إلى رموز. نحن ـ فى الحقيقة ـ لانصنع الرموز بل الرموز هى التى تصنعنا ، وبهذا المعنى تصير شفرة هذه الرموز هى شفرة الذات المبدعة ، فمرور الصور القديمة بعمليات التشفير ليست مجرد وسيلة لحفظها داخلنا ، بل هو اندماج بالذات، والكتابة تمنحها مصائر وحيوات جديدة تخصنا نحن .
الذات المبدعة هى حزمة رموز تتغير كلمتها السرية فى كل لحظة . الكتابة هكذا مكاشفة للذات ، ومطاردة للرموز والعلامات المطموسة فيها بما يعني أنها مازالت تنبض بالحياة ، باختصار ، الكتابة عندي هى أن أحرر الرموز التى بداخلي ، الأمر يشبه أن تحرر الفراشات وتبدأ بمطاردتها . كأنها لعبة أسميها : مطاردة الجمال .
لهذا فبعد أن حررت هدى كمال فى مجموعتي ( أيام هند ) ، عادت لتمنح روايتى ( فوق الحياة قليلاً ) كثيراً من الصخب والحضور الفذ. إنها نفس البنت الصغيرة التى ضبطها فراش المدرسة تبول فى ركن قصي فوق سطح المدرسة ، ورأى فخذيها العاريتين تلمعان تحت الشمس والماء يتدفق بينهما ويرسم خطوطا وأشكالاعلى بلاط السطح الساخن فصار مغوياً بمطاردتها ، فيما بعد ستحمل هذه البنت في عينيها نظرة غزال تغوي الصيادين بمطاردتها . وهى نفس البنت التي شافها الولد السمين من فوق سح البيت تعرى فخذيها للشمس والكتاكيت تنقر شيئا بينهما ، مطاردة لاتنتهى لبنت يقولون أن عفريتا طاردها على سلم البيت حتى دخلها غير هياب ولا مقتحم ، سأبدأ ـ هكذا ـ فى قصة العفريت الذى طارد امرأة تطقطق النار لما تراها : “ سأحكي لكم عن بنت اسمها مارسا بضفيرة واحدة، وعينين بنفسجيتين، يفاجئها الحيض، وهى على دكة المدرسة تجلس، والبنات ينطلقن فى أعقاب رواحها دون أن يلمسن رخاوتها. هذه البنت صارت امرأة تطقطق النار لما تراها.” . ما أشبه ( مارسا ) بهدى كمال التى أغوت فراش المدرسة بمطاردتها . فى كل مرة يفاجئنى نفس المكان ، سطح البيت ، العلية عند باشلار، أماكن الطفولة الحميمة بعيدا عن أعين الكبار، هذه مطاردة أخرى ، كلما امسكت قلما لأكتب أشعر أننى طفل يطارده الكبار، أهرب دائما إلى عليات ، اسطح البيوت، حيث يمكننى الرقص مع ثعالب الحواديت القديمة ، التحليق بعيدا عن الأرض ، أن أرى كل شىء ولا يرانى أحد. على أسطح البيوت قابلت هند وهدى كمال ونادية الفخرانية .
فى كتاباتي ستجد هذا الحضور المستديم لشخصيات وأماكن ُتكتب، ثم تعود لتُكتب في عمل آخر ، وهكذا .. كأني أكتب عملا واحدا لاينتهي، كأني أسير حياة سكنتني واختارتني ـ أنا بالتحديد ـ لتقيم داخلي، قد يبدو هذا تضييقا لعالم الكتابة ، وقد يكون مسؤلا عن قلة إنتاجي ، ولكنه على الأقل يخصني وحدى فلا تضيع ملامحى مع أحد . ولا أصبح مثل واحد آخر. الآن .. لو سألنى أحد ماهى الكتابة أقول : الكتابة هى ألا تصبح مثل واحد آخر . هذا مؤرق ومجهد ، لأننى فى كل مرة أكتب ، أنا ـ فى الحقيقة ـ أكتب عن العالم الذى يسكننى . أنا ـ فى الحقيقة ـ أسكن الحكايات التى أكتبها . من منا يكتب الآخر ؟.
. يقول الناقد مهدي صلاح :
“والسارد فى رواية فوق الحياة قليللا لسيد الوكيل من نوع السارد داخل الحكي ، فهو داخل القصة ويروي بضمير “الأنا “، وهو أيضا متجانس مع الحكي إذ يشارك مشاركة مباشرة فى الأحداث في أحيان كثيرة ، ويرتبط بعلاقات حية مباشرة مع الشخصيات . والسارد فى هذه الرواية حاضر في السرد بعدة طرق منها : ضمير الأنا ، أو بوصفه كاميرا تصور الشخصية والحركة ، أو بحضوره الشخصى والمباشر في علاقته بالأشخاص والأحداث ، أو في تعليقاته، أو في توجهه إلى القارئ بالحوار والمناقشة “.(2)
أنا لا أحكي عن شخصياتى بل أتحدث إليها ، ولا اتخفى وراء الراوي ، بل أعلن عن نفسي صراحة ، أحضر بذاتي كمؤلف ، هذا اقرب طريق لتماهى السارد فى المؤلف ، لأن موت المؤلف شأن نقدى لايخصني، أنا سيد الوكيل الذى تعرفون ، أقول لقارئي هكذا ، أنا أصنع الحكايات وأسكنكم فيها لصيروا جيرانا لى، وشيئا فشيئا تصبحون جزءا من الحكاية ومني ، لهذا سأبدأ كلامي عن هدى كمال فى رواية ( فوق الحياة قليلا ) بمخاطبة القارئ الذي دخل حكاياتي ، فى هذه الرواية سأكتشف أن لكل حكاية ُقراء يسكنونها . وهكذا .. ُتستدعى الحكاية بقرائها ، لذلك ، عندما استعدت حكاية هدى كمال بعد سبع سنوات ، عادت بقرائها معها . سيجنبني هذا أن أكرر الحكايات، فقراء الحكاية يعرفون ما حكيته لهم من قبل . فقط سأنعش ذاكرتهم، ثم أبدأ لأحكي لهم شيئا جديداً :
” تذكرون هدي كمال ، التي تركناها جالسة أمام ثلاجة مفتوحة، وضوء خفيف ينسال بارداً علي جسدها العاري، ويشكل ظلال النهدين والفخدين.
هدى كمال هذه عشقت فراء ثعلب، ووقفت طويلاً أمام شواء الشاورمة، تستمتع بمشهد النار البنفسجية، وكتلة اللحم المخروطية تنز عصيرها علي صينية مستديرة، كانت الرائحة تشعرها بالجوع.
تأملت الصورة التي التقطها المصور الهندي في الخليج . جعلها في جانب الصورة تخطو علي مساحة رمال ناعمة وممتدة، وفي الخلف مياه الخليج في صفاء نادر ولقاء عبقري مع خط الأفق اللازوردي، كان الهواء يطير تنورتها المشجرة للخلف، ويرتفع بها قليلاً فوق ركبتيها، ويطير شعرها الأسود فيغطى وجهها، كانت تلتفت بجيد طويل، وتبتسم.
قالت لى إن المصور الهندي طلب منها أن تبتسم .وقال إن الابتسامة تحفف كثيراً من نظرتها الحزينة، هي لم تبتسم في أول الأمر، فقط لما ابتسم المصور الهندي ابتسامة مهنية وقال … ألا تعرفين الابتسام ياسيدتي … هكذا ، وابتسم فابتسَمتْ ، وبسرعة سجل الابتسامة قبل أن تكتمل أو حتي قبل أن تختفي نظرة الحزن من عينيها.
قال : تشبهين غزالاً تخلص للتو من مطارديه ، وأنتظر رداً انفعالياً بشئ من الحدس ، ظلت طوال النهار تحدثه عن سبع سنوات مضت منذ آخر لقاء ، هو يومها لم يدرك معني المصافحة ، كانا يلتقيان ويفترقان ، ويعاودان اللقاء في كل مرة، ولم تكن بينهما كلمات وداع أو ترحيب ، هذه المرة مدت يدها وصافحته ، قال : أنتظرك غداً ، ولم تقل شيئاً ، فقط مدت يدها فصافحها وظل واقفاً علي جانب من الميدان محتمياً من المطر ، راح يرقبها وهي تعبر الميدان الخالي إلا من سيارات قليلة أبطأت حركتها وأضاءت مصابيحها مبكراً ، كان الأسفلت مبلولاً ، وكانت تتحسس خطواتها بين بؤر الماء المتجمع ، والمطر أكثرهطولاً من ذي قبل.
وطوال هذه السنوات كنت واقفاً علي جانب من الميدان ، أرقب وداعك محتفظاً بدفء كفك في جيب معطفي ، وكان المطر يهطل بقوة ….“
لماذا حرصت على أن أخبر القارئ أن هدى كمال عاشت فى الخليج سبع سنوات؟، هل كنت أبرر الزمن المفقود بين حضورها الأول في أيام هند ( 1990) ، وحضورها الثاني في فوق الحياة قليلا ( 1997 ) . ؟
لم يكن هذا فى ضميري وأنا أكتب الرواية ، إنه اكتشاف القارئ الذى فى داخلي ، والذى نما شيئا فشيئا ليصبح ناقدي الخاص، وبعد عدة سنوات انتبه إلى هذه المفارقة وهتف : يالله .. الكتابة أيضا تخلق رموزها بعيدا حتى لتواجهنا مواجهة خلق غريب ومستقل عنا . وبهذا المعنى فهى لاتمكننا من السيطرة على عالمنا تماما ، فقط تفتح لنا فيه كوة صغيرة فى جدار نراقب منه الحياة وكأنها فى مكان آخر،نراها من فوق أسطح البيوت ، نراها فقط ولا نسكنها، وهذا يمنحنا الدافعية لنكتب من جديد، شغوفين برغبة أن نكون جزءا من هذه الحياة التى نكتبها ، أحيانا ، أشعر أنني فى غمار التقليب بين ركامات الصور القديمة ، أبحث عن صورتي أنا . وأبحث عن زمني الخاص ، وبهذا المعنى سيحضر الزمن فى كتاباتى عبر تقاطعاته مع الذات، فالزمن ليس شيئا خالصا وخارجا عنا، وليس امتدادا لخط وحيد ينموويتقدم إلى الأمام، لقد كانت الرؤية البصرية المجسدة أو الستيريوسكوبية هى الوسيلة الخاصة لتحرير الخبرات البصرية عند بروست ، ومن ثم حددت مفهوم الزمن على نحو مميز ، أنه أمر مختلف عن الزمن الملحمي الذى يمضى بخطوات ثابته نحو غاية ، لهذا فإن بنية الرواية عندي أقرب إلى حلقات من السرد ، تتصل وتنفصل فى آن ، إنها أقرب إلى البناء القصصى كما لاحظ بعض النقاد ، وهذا يمنحني الفرصة لإمعان النظر والتحديق فى جزئيات الزمن عبر عمليات مضنية من العزل والاختيار والتكثيف الشديد وكأنني أصبو إلى كتابة من غير لغة .
عندما تنزع اللغة إلى التشكيل ، وتنجح فى اصطياد لحظات الخيال المنفلت لا الراسخ اليقيني، تكون مفعمة بطاقة بصرية . قد يحتاج هذا إلى نوع من الاستبصار ، والتحديق ،ففى المشهد لاشيء يتكرر تماما ، إنه غني بالتفاصيل الصغيرة والألوان والحركة ، عندئذ تصبح للظلال أهمية بالغة ، فلا شيء هنا فى الهامش ، لأنه لامعنى يطابق المبنى ، فقط ثمة فضاء واسع للدلالة ، وقابلية مدهشة للتأويل ، إنه التفكير بالصور . وحيث الصورة تنتج بلاغتها الخاصة فى عالم من الكنايات والتخييلات ، كأنه يحدث الآن ، لأن زمن المشهد مساو لزمن الفعل .
يقول شاكر عبد الحميد فى معرض كلامه عن نصوص ( مثل واحد آخر ): ” هكذا فإننا نجد ـ أيضا ـ أن فعل التحديق والنظر فعل أساسي في هذه القصص ، وهو فعل أحيانا مايحول الذات إلى موضوع كما قال فوكو، فى قصة ( بعد ذلك لا أحد ) ، يقول الراوى : ” تعودت فى طفولتى أن اقرأ خرائط القمر ” وحديثة عن النظار ( العوينات ) الجديدة التى تلفت الانتباه ، وعن ولعه برسم الحدود لك شيء ، وعن صورته التى تتأرجح على مسمار فى حائط ، عن الغرباء الذين يبحثون عنه في الحفل العام ويأخذون الصور التذكارية معه … وإشارات عن البحث من خلال عيون النساء عن رغبة قديمة ، وعن تثبيت النظرات والتراوح بين التحديق والتخييل والحضور والغياب … “(3).
********
أمكاننا جميلة دائما ، ولاسيما الأماكن القديمة ، فهناك نضع البذور الأولى لحياتنا ونتركها تنمو، على هذا النحو فكر باشلار فى : (جماليات المكان ). وعلى نحو آخر جعل يحيى الطاهر عبد الله عنوانا لكتابته: ” الأشياء القديمة صالحة لإثارة الدهشة ” . هذه الأشياء ليست مجرد ديكورات للمكان ، إنها أثر الحياة فيه ، فهذا القمر البهي فى عليائه لايفخر بشيء سوى بآثار أقدام الرجال التى داست ترابه .
أمام بيتنا القديم توجد شجرة تين منغولى ضخمة تسكنها الطيور ومجذوب اسمه منسي . لا أحد يعرف عن منسى شيئا غير أنه ساكن الشجرة ، متى جاء ؟ كيف صعد إليها ؟ من يطعمه ؟ كيف يقضي حاجته ؟ هذه معارف بسيطة يجهلها الناس فاعتبروه وليا وأطلقوا عليه منسي . من الغموض تنبت حكايات وتصير أساطير .
فى هذه الأيام خضعت منطقتنا إلى عملية تطوير واسعة ، وكان على رجال البلدية أن يجتثوا الشجرة ليشقوا طريقا جديداً، لم يتمكن أحد من إنزال منسي ، كان يروغ بين الأفرع والأوراق الكثيفة فقرر المهندس تقطيعها فرعاً فرعاً حتى يتمكن من محاصرته ، المناشير تحز فى لحم الشجرة ، والطيور فزعة على الشرفات وأعمدة الإنارة القريبة ، الأفرع تتهاوى ، وأعشاش الطيور تتناثر وتبعثر بيوضها وصغارها تحت عجلات آلات الرصف الثقيلة ، وعندما جاء العمال لاستكمال عملهم فى صباح اليوم التالي ، لم يجدوا طائراً واحداً يسكن الشجرة ، ولم يجدوا منسى ، فقطعوها بضمير مرتاح . لكن سكان الشارع وحدهم ظلوا مؤرقين بشأن مصير منسى ، الولي الذى هجرهم فجأة كما جاء فقالوا أنه طار فى الفجر مع الطيور.
سنقف ـ فى هذه الحكاية ـ على معنى واضح للتغير الاجتماعى والحضارى ، ولكنى أفضل الكلام عن الأسطورة . المدينة أيضا تصنع أساطيرها عبر تحولاتها التى لاتتوقف ، يخيل لي أن هذه كانت آخر أساطير الميتافيزيقا التى شاهدتها . فبعد أسبوع كانت لنا ساحة مرصوفة بالأسفلت ، نرسم فوقها صورنا وألعابنا بالطباشور الأبيض ، وفى المساء نحكي فوقها الحكايات .
أنا ابن القاهرة ، سكنتني وصنعت حكاياتي، لذلك أنا لا أكتبها بل هى التى كتبتني ، علىّ أن احترم هذا ، لهذا فالمكان ليس موضوعا فى كتاباتي بل هو ذات ، وبهذه الطريقة تحقق الكتابة شيئا مهما ، هو اندياح المسافة بين الذات والموضوع ، فلم يسبق لي أن اخترت موضوعا لأكتب عنه،كانت الموضوعات تسكنني أولا ، لهذا بدت الكتابة ضرورة لأرتاح من إلحاحها ، كثيرة هى حالات الطلق الكاذب، لكنها لم تحبطني ، كنت اعتبرها مجرد تمارين على لحظة كتابة حقيقية ستأتي حتما، وكنت أشعر بارتياح كبير وأنا أمزقها .
ولدت في القاهرة ، وعندما تولد في المدينة فإن أول ما تتعلمه أن تفرغ ذاكرتك من الكثير ، لأن ما هو أكثر ينتظرك ، أذكر أن أول شهادة أدبية كتبتها لمجلة الكتابة الأخرى كانت بعنوان : “تجديد الذاكرة ” لست أتحدث عن الذاكرة الحافظة التى مازلت افتقدها، أتحدث عن الذاكرة الخلاقة ، ماكينة الإبداع اللحظى الذى ينتج عبر تجربة الحياة اليومية، عبر الممارسة ، وينتج واقعنا على نحو ما، واقع متجدد ومحتشد ومعقد التركيب الثقافي والاجتماعي ، واقع على هذا النحو يجعل معنى الخصوصية الثقافية مرواغاً وضليلاً . من الأفضل أن نتحدث عن خصوصية التجربة، عليك أن تستوعب كل هذا لتكون سارداً للمدينة، فكروا معى فى نجيب محفوظ، ثم حدثوني عن الخصوصية ، نجيب محفوظ المنفلت ، المتقلب ، المتعدد المراحل هو نجيب محفوظ ، الخصوصية أن تكون أنت ذاتك المفردة فى كل هذا الاشتباك، هذا تعبير مراوغ عن الخصوصية ، لكنه على أي حال ليس صوتاً غنائياً للمكان ، إنه نوع من الاشتباك ، الندية ،الدرامية، الصراع مع الفتوات ، من أجل هذا فشلت فى أن أكون شاعراً ، هل تعتبرون هذا أمراً معيباً ؟
نعم أنا لم أفهم الشعر كما ينبعي لشاعر، ولا أفهم لماذا ينبغي أن يكون الإنسان شاعراً فى مكان ينبغي أن يكون فيه فتوة، الشعر كان ضالتي، جوهرتي المستحيلة، لن أجده فى عينين مكحولتين لامرأة تحمل جرة تخر الماء فوق رأسها، ولا في طمأنينة فلاح يسترخي فى ظل صفصافة، أنا ابن مدينة، جوهرتي مستحيلة، بحثي عنها لاينتهى، وشيئا فشيئا، ساتعلم أن البحث نفسه هو جوهرتي المستحيلة، سأجد فى الأشياء شعراً، فى الأحداث، فى الوجوه، الشعر ليس ـ بالضرورة ـ غناء الملائكة أو صدح البلابل، فعندما تعيش فى المدينة، عليك أن تنتزع الشعر من واقعه الوحشى .
هكذا الكتابة عندي ليست تسجيلاً جمالياً لواقع ما، وليست غناءً له، بقدر ماهى اشتباك ، معايشة ، صيغة للبحث المستمر، بحث محموم، لايفلتني لحظة لأقول لكم بثقة ، حسن .. سوف أحدثكم عن المكان، لأنني كلما حاولت ذلك أجدني أتحدث عن نفسى، أنا المكان ، أنا المدينة ، أنا الصخب والاحتشاد والقلق والتعدد، شارع شبرا، ميدان فيكتوريا، سينما النزهة وصاحبها بابا دبلو، اليونانى الذى اختفى فجأة وترك السينما تعمل بمن فيها حتى حتى رأيتهم يوما يهدمونها . ويبنون مكانها سكنا لبشر حقيقيون ، هكذا المدينة بايقاعها الوحشى تقتل خيالات الطفولة.
ذاكرة المدينة ضعيفة ، ملامحها تتغير فى كل يوم ألف مرة ، أنت نفسك شاهدت كيف تغير ميدان فيكتوريا أكثر من مرة ، تذكره عندما كان فضاء لملاعب الصبا ، تعلمنا ـ نحن أولاد المدينة ـ نصنع أساطيرنا الجديدة، على المقاهى وفى الباصات ومحطات السكك الحديدية وعنابرمصانع النسيج التى اشتهرت بها شبرا واحتضنت رموز الحركة العمالية .
فى هذا المناخ من الوعى المدنى يصبح للزمن معنى تقني، وتصبح اللغة استجابة لحاجات الحياة اليومية فتنزع للشفافية والتخلص من إرثها البلاغى الذى نهض على الشفاهية، وتحضر الصورة بتعدد وتواتر ليسمح بمساحات من الصمت والتأمل والتحديق والدهشة لتنتج بلاغتها الخاصة . فى المدينة ثمة إنسان جديد ، يخلق فناً جديداً ليلبي احتياجاته الجديدة، ويعكس وعيه بالطبيعة والزمن ، فالحكاية لم تعد شيئاً في حد ذاتها إلا بقدر ماهى وسيط حامل لهموم وقضاياً وأحلام ومشاعرالإنسان، وبناء الحكاية لم يعد مجرد نسيج مخملي موشى بالبلاغة، بقدر ماهو تجسيد لفلسفة ووعى الإنسان بالعالم ، التقنية هى ـ أيضا ـ شيء من بلاغة إنسان المدينة، تغير المدينة ملامحها ولهجاتها وملابسها كل صباح، وهذا يحتاج تحديقا فى المكان .
كم مرة تغير وجه ميدان فيكتوريا، لكنه مازال يحمل ذلك الاسم، ليذكرني بتلك الراهبة الإيطالية، راهبة السبع بنات التى كنا نطرق بابها وندعي أننا يتامى فتمنحنا نقودا لتذكرة ترسو فى سينما النصر، وفى أيام الآحاد ننتظرها أمام سانت تريزا، نقول لها نحن مسيحيين ياسستر، تضحك وتقول: أنت كلفتى ابن أحمد افندى..خذ .
بطريقة ما كانت ثقافتي نوعاً من الخبرة الحية والاستقراء البصرى للواقع المدني المركب ، كل وجه فى المدينة هو وجه متفرد على نحو فارق، الذاكرة تئن بحشد الوجوة، مجموعتى الأولى ( أيام هند) كانت انعكاساً لغوياً للشغف البصري، وتعويضاً نفسياً عن فشلي فى أن أكون نجماً سينمائياً، حتى أن بعض الوجوه ظلت تطاردنى وكأنني لم انته من كتابتها بعد.
إلحاح بعض الوجوه والصور على ذاكرتى دفعنى إلى التفكير، إنني أكتب قصة واحدة لاتنتهي ، كان علىّ أن أدرك أن الوجوه فى السرد ، كما هى فى الحياة ، ليست بورتريهات معلقة على حوائط ، إنها اشتباك حي وفاعل ، وتقاطعات مع وجوه أخرى ، مع أماكن ، وأزمنة ، وممارسات لها صفة التجدد الخلاق .
أدرك الآن أن المدينة أكثر ذكاء من أن تسلم لي نفسها دفعة واحدة، امرأة لعوب حقاً كما شافها أدباء نزحوا إليها وأغوتهم بسيقانها العارية ( مع الاعتذار للكاتبة لصفاء عبد المنعم ) ، أكثر ثراء من أن تمتلكها بيقين، لهذا فكتابتي تطرح كثيراً من الأسئلة، عن الموت والحياة، التغير والصيرورة وعن المصائر الإنسانية ، هكذا أسئلة تبدو قديمة قدم الإنسان ، لكنها فى غمار الفعل الإنسانى والانهماك فى ملابسات اليومية ، تبدو كحقائق قديمة صالحة لإثارة الدهشة .
أدرك الآن أن الكتابة معايشة، وانتماء إلى ذات عظمى تعيد إنتاج ملامحها فى كل لحظة ، وبعد خمسين عاماً من الحياة فى المدينة ، ليس بوسعى القول إنني كتبت المدينة ، ليس فقط لأن المدينة كانت تكتبني فى كل يوم ، بل لأننى ـ أيضاً ـ لست سوى صورة من صور المدينة التى لاتتوقف عن إعادة إنتاج نفسها، هكذا تصبح الرغبة فى تمييز ذاتي عن ذات المدينة مهمة أولى ومستحيلة ، لكنها السبيل الوحيد لوجودي الذائب فيها ( المدينة )، وجودي الذى يفاجئنى على مقهى فينكس* ، مطرب عجوز يغنى لراقصة متقاعدة مازالت تمتلك قدراً من الحضور الجسدي كاف لإشاعة البهجة، مومس على عجلة من أمرها تدخن وتشرب الشاي وتقضم ساندوتش الشاورمة فى لحظة واحدة ، وجودي المستحيل الذى تسرب إلى أنفي، رائحة المصنوعات الجلدية بممر الكوننتنتال، رائحة الحلوى فى درب البرابرة، البويات فى الرويعى، الحواوشى فى شارع الألفى ،الكتب القديمة على سور الأزبكية، رائحة التراث فى شارع الأزهر، وجودي الذي رأيته فى البازارات، ولوحات رسامين مغمورين يرسمون الأهرامات والنيل وشمس الأصيل ياليل فى لوحة واحدة ، ورأيته فى عيون بنات شبرا* العاملات فى محلات وسط البلد، يعرضن عليك بابتسامات شقيانة بضاعاتهن، فى وجوه صنايعية خرجوا لتوهم من سينمات عماد الدين بعد منتصف الليل، وتسربوا إلى حوارى الشرابية وجزيرة بدران، إيماءات الجاي فى ميدان التحرير لبعضهم البعض، تنبيهات الناضورجية لبائعى الأرصفة من هجمات البلدية فى شارع قصر النيل، إغواءات الخرتية * للأجانب فى ميدان طلعت حرب، هذا وجودي الذى تربص بي على مقهى زهرة البستان* وتبادل مع إبراهيم فهمى* قراءة القصص الأولى ، إبراهيم فهمى الذى جاء من أقصى الجنوب مغوياً بسحر القاهرة، القاهرة التى تركته يموت على مقاهيها كل يوم ألف مرة .
فى فيلم (فورست جامب ) فقد الشاب المتوحد أمه فقرر أن يجري، جرى لبضع سنوات، والناس يجرون خلفه ويسألونه، هل تجري احتجاجا على الحرب ؟ من أجل السلام ؟، حقوق الإنسان ؟ هل هو دين جديد ؟؟
كان لايجيب ، فقط يجري واتباعه يتزايدون، ولا يعرفون لماذا عليهم الجرى وراء زعيم لايفعل شيئا آخر غير أن يجري؟ فجأة توقف فى أرض خلاء ، قالوا : لماذا توقفت ؟
ـ أنا متعب ، ويجب أن أعود إلى البيت .
تلفتوا حولهم وقالوا:
ـ ونحن يازعيم ..ماذا نفعل الآن ؟
كان هذا حالي بعد انتهت حرب 1973، وسرحت من الخدمة العسكرية فى 1977. فقد خرجت إلى خلاء. تنطلق روايتى التى أكتبها الآن من هذا المشهد السينمائى الشهير، إلى حد ما تتماس هذه الرواية مع ملامح التجربة السياسية فى مصر حتى التسعينيات، عن مؤسسة تنظم رحلة لموظيفيها، ثم تضعهم فى فندق معزول أمامهم البحر وخلفهم الصحراء، إنه الإحساس العميق بالفراع والخلاء. تشعر وكأنك خارج المكان والزمان.
كنت واحدا من جيل ولد مع ثورة يوليو ، وجرى وراء زعيمها، فى أحلامه، وهزائمه، وانتصاراته الهزيلة، ثم فجأة قالوا لنا أنهم متعبون، وأن عليهم العودة إلى البيت. هكذا تركونا فى خلاء. وفيما بعد ، بدا أن الجميع لديهم رغبة فى وأد هذا الجيل الذى سمى بين الأدباء بجيل الثمانينيات، والتخلص منه بوصفه جيل سقط فى غواية الأحلام المهدرة. القليلون فقط هم الذين انتبهوا إلى أن هذا الجيل هو الذى بدأ بقتل الزعيم فى أكتوبر 1981، فأعطى الجميع فرصة أن يكونوا أنفسهم ، يقول إدوارد سعيد : ” عندما اختفى الأساتذة الكبار مع طلع الثمانينيات ، رافق غيابهم نوع من الرضا والارتياح كما لو أن الأشياء الكثيرة الفائضة عن الحاجة، اعطت الكثير من الزاد لشخصيات قليلة الشأن لتقول رأيها للمرة الأولى بعد زولا “(4)
كان علينا القيام بمهمة أولى، البحث عن صياغة جديدة للذات المبدعة مؤسس على معنى الخبرة والتجربة الشخصية، وليس فيما ينقله لنا الآخرون من ركام أيديلوجى ومعرفى عن الكتابة ،كنا مدركين أن الخبرة لايمكن نقلها، فقط، يجب أن تعاش، وكنا مؤرقين بكثير من الشك تجاه ماطرحته الكتابة من أسئلة وقضايا بدت مصيرية بالنسبة للكاتب، لهذا انهمك جيلنا فى مراجعة الكثير منها مثل : ما الأدب؟ ما وظيفة الأدب؟ ماهو الدور المنوط بالأديب ؟ لم تكن الإجابات المسبقة مرضية لنا بأى حال، وشيئا فشيئا سنطرح على الأدب أسئلتنا الخاصة، عن الذات المبدعة ليس بوصفها كياناً غامضاً ونبوياً وكلياً، بل بوصفها ممارسة لللاشتباك والتفاعل اليومي ، الذات المبدعة هى المعنى الجمالي للخبرة الحية والتجربة المعيشة، هكذا كنت واحدا من الذين اضطروا إلى مراجعة أسئلة الكتابة فى هذه المرحلة، وربما كان حظي أوفر بدراستى للأدب بجامعةعين شمس، ثم تخصصي فى النقد الدرامي بالدراسات العليا ، ربما كل هذا أغواني بكتابة النقد الأدبي بنفس القدر من الغواية الذى أكتب به الإبداع ، كنت فى البداية أخشى أن يقضي النقد على روح المبدع داخلي، هكذا قالوا لنا ، لكنني ، عندما أفهم النقد بوصفة مطاردة الجمال،أجده ممارسة إبداعية أيضا.
عندما كتبت شهادتي عن جيل الثمانينيات فى كتابي النقدي ( أفضية الذات ) ، كنت أدرك أنني أكتب شهادتى عن تجربتى فى نفس الوقت : ” سيعانى هذا الجيل كثيرا من الارتباك ، وسيتعين عليه البحث عن مفهوم جديد للذات غير ذلك المنشأ على الذاكرة الرسمية ، ويصلح للتعامل مع فراغ المرحلة ، سيتطلب ذلك البحث عن توجهات جديدة لخلق واقع بديل وذاكرة بديلة ، سيكون الاحتفاء بالخصوصيات المحلية ـ مثلا ـ بديلا عن الموضوع القومي أو العام ، فتتحول الأفعال إلى مايشبه الطقوس ، وتتردد لغة غنائية ذات طابع احتفالى ، جزل أو شجي بدلا من النبرة النضالية الجادة التي ميزت الخطاب الستيني ، عموما يوصف هذا الجيل بأنه جيل الجزر المعزولة ، والخصوصيات الضيقة ، والهويات المشوهة والفرص المحدودة ، وسيتحول نضاله من نضال ضد عدو متعين واضح ، إلى نضال ضدعدو غامض ، ليأخذ هذا الصراع طابعا (دون كيشوتى) قد يتوجه إلى الذات أكثر من أى شيء آخر ” .
الآن يبدو لى أن هذا الصراع مع الذات كان ضروريا لهذه المرحلة ، لأن التغيير الذى مارسناه كان متسما بطابع أخلاقي، ليس معنيا بهدم الماضي أو تقويض رموزه، بقدر ما هو معني بالتحرر منه وإنتاج ذاكرة بديلة تخصنا، كانت المدينة دربتني على ذلك، إنها فضاء التعدد والتجاور الذي يعيد تشكيل ذاته كل يوم، الآن لدى معنى واضحاً للذات المبدعة، فهى ليست كيانا مصمتا وصلبا بل : هى قدرتي على إعادة تشكيل وإنتاج الحياة وكأننى أنظر فى مرآة سحرية . يالها من غواية خطرة : غواية الخلق .
هوامش وتنبيهات:
1ـ هاينز مايرهوف : الزمن فى الأدب ـ ترجمة ( أسعد رزق الله ـ العوضي الوكيل )ـ منشورات مؤسسة سجل العرب ـ القاهرة ـ 1972 .
2ـ مهدى صلاح على حسن : أنماط البث والتلقى في الخطاب الروائي المعاصر ـ إصدارات جائزة الشارقة للإبداع العربي ـ الشارقة ـ 2005 ـ ص 284.
3ـ شاكر عبد الحميد : عصر الصورة ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ عدد311 يناير 2005 ـ ص 214.
4ــ إدوارد سعيد: الدور العام للكتاب والمثقفين ـ ـ ألكرمل ـ العدد 68
*ـ فوق الحياة قليلا : تتناول حياة الكتاب والأدباء وتسجل جوانب من سيرهم عبر معالجات فنية لوقائع حقيقية، ومن ثم فالأدباء يظهرون على مسرح الأحداث بأسمائهم الحقيقية أمثال : ( نجيب محفوظ ـ صلاح جاهين ـ نجيب سرور ـ يحي الطاهر عبد الله ـ إبراهيم فهمي ـ محمد جبريل وغيرهم ) حجم التداخل بين المتخيل والحقيقى تسبب فى صدمة لبعض القراء والنقاد الذين اطلعوا عليها ، نزعت الرواية إلى خطاب تفكيكى لصورة المثقف من خلال علاقته بذاته وبالآخرين وكذلك من خلال علاقته بالسلطة وبالكتابة ، اتسمت الرواية بروح المحاكاة الساخرة ، وتعدد الأساليب السردية وتعدد الرواة . وتماهى فيها الخطابين الإبداعى والنقدى .
* ـ مقهى فينكس : مقهى بشارع عماد الدين ، هذا الشارع كان عصب الحياة الفنية فى مصر منذ الثلاثينيات ، وكان المقهى آخر بقايا هذه الحركة ، مكان لتجمع المثقفين والفنانين ، ومنه انطلقت جماعة نصوص 90 الأدبية التى بشرت بالكتابة الجديدة ، وكنت أحد مؤسسيها ، المقهى صمد لبضع سنوات فى التسعينيات، ثم باعه صاحبه لمؤسسة رأسمالية فتحول إلى معرض لبيع الأدوات الكهربائية ، صاحبه متهم ـ ألان ـ بمقتل الفنانة سوزان تميم .
* ـ شبرا : أشهر أحياء القاهرة ، يتسم بكثافته السكانية ، والتنوع الثقافى والدينى لساكنيه . اشتهر بكثرة دور السينما والمقاهى الرخيصة ، والمتاجر الصغيرة لتناسب احتياجات سكانه الذين كان أغلبهم من عمال المصانع وصغار الموظفين ، فشكلوا صلب الطبقة العاملة فى مصر، ومثلوا صلب الحركة العمالية فى الخمسينيات والستينيات. الآن، انفضت الحركة العمالية تماماً ، وتحولت كل دور السينما إلى أبراج سكنية وأسواق، وتحولت المقاهى إلى مقار للعاطلين.
* ـ الخرتية : طائفة من شباب الضواحى ، يعملون فى السمسرة السياحية، من خلال علاقات شخصية بالأجانب . إنهم أذكياء مثقفون ويتكلمون لغات مختلفة ،متحررين إلى أبعد حد . وكأنهم بلا بيوت أو أسر ينفقون حياتهم فى شوارع وسط القاهرة بين المقاهى والمطاعم والحانات والموتيلات الرخيصة .
* ـ زهرة البستان : أشهر مقاهى المثقفين منذ الثمانينيات بعد إغلاق مقهى ريش الذى كان تجمعا لكتاب الستينيات وفيه كتب نجيب سرور بعض قصائده الهجائية،منها قصيدة بروتوكولات حكماء ريش، حظى مقهى زهرة البستان بفصل كامل فى روايتى ( فوق الحياة قليلا )، المقهى يقع فى ميدان طلعت حرب حيث يعتبر الميدان مركزا للحركة الثقافية فى مصر .
* ـ إبراهيم فهمى : قاص من النوبة ( اقصى جنوب مصر ) ، من أعماله ( القمر بوبا ـ من دفتر البستان ) ،كان واحدا من شخصيات رواية ( فوق الحياة قليلا ) ،مات شابا وأقام له الأدباء سرادق عزاء بمقهى زهرة البستان التى قضى عمره عليها ، إذ كان فقيرا ومغتربا مشردا .
موزع بين الغوايات. شهادة أدبية لسيد الوكيل
سيد الوكيل الصورة .. طفولة الفكر الإنساني ، بدائية الذاكرة ، حضور المصري القديم على جدران المعابد والمقابر وأوراق البردي ، أشواق المستشرقين للمشربيات والتكايا ودكاكين العطارين ، نساء محمود سعيد وسا…