عبد القادر رابحي - من التعرية إلى التفكيك.. الاستشراق الرقمي ونهاية الإيديولوجيات الوطنية - (الجزء الأول)

- 1-
لم يكن التفكيك مجرّد منهج نقديّ أو صورة لبنية مقلوبة تُضافُ إلى مجموع التوجّهات النقدية للبنيوية بفروعها التي ليس أقلّها أهميةً التكوينية والأنتروبولوجية، والتي حاولت أن تجعل من النص مرتعا إلهائيًّا للكثير من الباحثين المولعين بنقد النصوص الأدبية. لقد كان التفكيك يُخفي، في حقيقة الأمر، أخطر من ذلك بكثير مما صارَ ظاهرًا للعيان الآن كحقائق مُروِّعة في واقع العالم الشرقي.
كان على العلبة الأمريكية 'السوداء' الخارجة لتوّها من درس الفيتنام ومن محنة التغوّل الشيوعي على مشارف شواطئ ميامي، أن تتجاوز بياض قلب مالكوم إيكس وسذاجة حلم مارتن لوتر كنغ، وأن تنتبه فورا لخاصيّةِ مَا يمكن أن يقدّمه التفكيك من خدمة واقعية للمثقفين الفاعلين في أمريكا، من خلال الاستيلاء، بسرعة البرق، على الشريحة الرمادية لـــ'جاك ديريدا' الذي كان يعاني، كعادة ما تعانيه كلّ مادّةٍ رماديّة في فرنسا خاصةً، من لامبالاةِ أنتليجانسيا القارة العجوز المتجمهرة في مدرّجات السوربون، والمنضوية تحت لواء الفكرة الاستشراقية التنويرية المُغلّفة بأكاديميةٍ متقادمةٍ بسبب ما أحدثهُ المدّ الثوري من ممكناتِ تحرُّرٍ في عمقِ مَا سيصبحُ مجرّدَ مستعمراتٍ قديمة تحاول فرنسا وأخواتُها التحايلَ على شعوبها بخطبٍ رنّانة وعبارات غامضةٍ لزعماء كولونياليين من قبيل "لقد فهمتكم .! "
لقد تحولت التفكيكية على يد النخب الأمريكية في المؤسسات الرسمية الفاعلة، وبموجب ما كان يبحث عنه العقل الأداتي المدعوم بالسطوة الليبيرالية، إلى آلية إجرائية كان يجب التفكير في خطورة لوازمها التطبيقية بالعودة إلى ما رسخه بيرنارد لويس المولع بإعادة رسم الخرائط من تصورات حول تاريخ الشرق الأوسط، وما ركّز عليه هنري كيسنجر المهووس بتخدير زعماء الشرق في التخطيط الاستراتيجي للسياسات، وما شهّر له فرانسيس فوكوياما فيما كان يقدمه للمثقفين الأوربيين المنشغلين بباراديغم الهزيمة من حلمٍ مجانيٍّ سمَاه"نهاية التاريخ". ولم يكن المستشار بريجنسكي، بحنكته الدبلوماسية، غير ساعي بريد يحمل رسائل الود الأمريكية المُبشِّرة بعالم جديد لمن يهمّه الأمر ممّن لا يزال يدورُ في أذهانهم بريقُ أملٍ بإمكانية استعادة فكرة الثورة والتمرّد والتحرير، ولم يعد الكهل 'كاسترو' غير مُسِجّلة هرِمَة لخطابٍ طويل يتغنى بـــــ'شيغيفاريَّةٍ' حالمة صارت لا تخيف أحدًا.
لقد أضحت أمريكا قابَ قوسيْن من زرع 'الماكَّارتيّة' في قلب الديار السوفياتية الممتدة من أقاصي سيبيريا إلى مرتفعات القوقاز بما سيُحقِّقُه التفكيك المنهجيُّ لإمبراطوريةِ الدبِّ الشيوعيّ المريض بإيديولوجيته السلطوية، وإعادة تشكيل خارطة أوربا التي سبق وأن رسمها، على عجلٍ،الزعماءُ الثلاثة المنتصرون في مؤتمر يالطا. وسيؤدي هذا الانتصار الليبيرالي على الإيديولوجية الشيوعية التي انهارت في لحظة تاريخية فارقة كقصرٍ من ورق، إلى تحييد السند القوي لدفاعات الشرق الثوري الذي كان يقف عائقا استراتيجيا أمام تحقيق فكرة إعادة تشكيل العالم وفق ما صارت تروّج له قيمُ ما بعد الحداثة. ولم تبق غير حقيقة الشرق القديم عارية، كعادتها، إلا من عنتريات زعمائه المتباهين بانتصارات أنظمته ما بعد الثورية على النسخة القديمة من الاستعمار، والمحتفِلة بشعارات الاستقلال الشكلي، متناسيا التأسيس للدولة العقلانية وتحقيق التحديث الواعي، وغاضًّا الطرْف عن تزايد التناقضات الاجتماعية والفوارق الحياتية التي كانت تنخر البنيات الهشة لمجتمعاته.
-2-
لم يكن مهرجان "وود ستوك" المشهور غير صورة حزينة لتوديع نهائيّ لما كانت الحداثة الغربية تحمله من محددّات ليس أقلّها احترام القيم التي حملتها أوروبا منذ عصر التنوير إلى العالم نُبوةً ماديّةً بروحٍ مسيحيةٍ مُتَأَلِّهَة، ولكنها مُسيّجة بحلم الانعتاق من ثقل فيزياء المادة، ومحاولة استبدالها بثلاثية 'الحب والسلام والحرية' التي ستصير علاماتٍ مميّزةً لما بشّر به فلاسفةُ ما بعد الحداثة وهم يركّزون مراصدَ تبئيراتِهِم على قيم الاختلاف والتعايش والتسامح والنسوية والجنسانية. لقد صارت 'أمريكا هي الطاعون' بموجب التجربة المريرة التي عاشها محمود درويش الخارج من فلسطين عاشقا، والعائد إليها من أمريكا بالذات، بعد عمر من التيه، معشوقًا ولكن في صندوق إبنوسٍ بارد، وليذهب إلى الجحيم ذلك المفهومُ الساذجُ المتحيّز للوجودِ الذي عبّر عنه كامو في طاعونه الوهرانيّ وحمَله بروح متشنّجة في خطابه إلى ستوكهولم.
لم تعُدْ الجوائزُ تغري أحدا لأنها تحوّلت إلى 'صكوك غفران' مشحونة من أرصدة مجهولة المصدر لشراء ذمم المثقفين العضويّين الحريصين على تحسين أوضاعهم المعيشية، كما لم يعُدْ الفلاسفة المتهافتون على البحث عن الفكرة في رذاذ الأصباح الأثينية الباردة، غير متشردين يقتاتون من فُتَاتِ مأدبة الشرق الكبرى التي تَلْتَهِمُ فيها الحروبُ المبرمجةُ الشعوبَ فتُحوِّلُها من معجونٍ دسِمٍ لصناعة الصابون أثناء مرحلة النازية، إلى سائلٍ أحمرَ لَزِجٍ لصناعة العطور بعد ميلاد الصهيونية. كان لابد للعالم من وحش مُخيف وضحيّة مرتعدة حتى تستمر أسطورة الغالب والمغلوب في إنتاج 'متلازمة المحرقة'، كما كان لابد من تحويل الجدار الفاصل بين برلين وبرلين إلى جدار يفصل بين القدس والقدس لمنع الأطفال الفلسطينيين من الصلاة في منبر المعراج، وإعادة رسم الشرق بما لم يفكر فيه الوزيران المشهوران "سايكس" و"بيكو" حتى تتضّح الرؤية وتستقيم الطريق السيّارة التي صارت تحت رحمة كاميرات مراقبة التحوّلات الرهيبة التي أحدثتها الثورة الرقمية من خلال زيادة التحكم في مسار تفكيك الشرق في القرن الجديد بعدما رافقت الثورةُ الصناعيةُ مسارَ تعريته خلال
القرنين السابقين.

لقد تحوّل الاستشراق من فعل استكشافيّ معرفيّ متنمّر ومتحايلٍ يعتمد على الصبر والأناة بهدف تعرية الشرق جسديا ومعرفيًّا، واحتلاله جغرافيا واستغلال مقدراته البشرية والمادية، إلى مجرّد مجموعة من الخوارزميات التي يتلاعب بها شابٌّ أنيقٌ يشبه كثيرا جيرود كوشنر وهو يجلس في مباني وزارات الدفاع الغربية ويتحكم بأزرار لوحةِ مفاتيحِ توجّسات الشعوب الشرقية كما يتحكم الأطفال في لعبة إلكترونية خارجة لتوّها من عقلِ شابٍّ يابانيّ يحاول ألا ينتبه إلى ما خلّفته غِشاوَتا هايروشيما وناغازاكي من دمارٍ شاملٍ في فكرة الكينونة التي لا تزال عالقةً بصورةِ جدِّهِ العالقة هي الأخرى بجدارِ البيت، لا كما حاول أن يُنظِّر لها هايدغر وهو يراضي حنّة آرندنت، ولكن كما حاول أن يحقّقها يوكو ميشيما وهو يثأر للذات اليابانية من مذلّة هزيمة لاحقة في حركة 'هارا كيري' مُخَلِّصَة.
لقد صار بالإمكان إعادة رسم أيّ خريطة وفق ما تقتضيه الرؤية المتمركزة للعالم الغربي المستحوذ على فكرة الكونية بوصفها تقويضا للشرق فقط، والخاضع هو نفسه لأسطورة التيه والعودة والتكوين التي رسّخَت سردياتِها تلمودياتُ 'شعب الله المختار' في الوعي الفلسفي الغربي. ولم يعد بإمكان أيّ إدارة أو حزب أن يخرجا قيد أنملة عن مسار طريقٍ دقيقٍ تنفِّذه كلّ الإدارات المتعاقبة على خريطة الشرق كما ينفّذُ التلميذ النجيب أوامر بحلّ واجباته المدرسية.
لقد أتاحت التفكيكية لأمريكا استعادة سيادتها الفعلية على مناطق النفوذ الحساسة من دون أن تحتاج إلى إيّ إيديولوجية أنتجتها النخب المتفلسفة في القرن التاسع عشر، ولم يعد بإمكان الفلسفة نفسها أن تقوم بدورها التاريخي في البحث عن مخارج عادلة ومُشرِّفة للمأزق الإنساني كما كانت في سابق عهدها. لقد تحولت الفلسفة، مع الوقت، إلى أداة طيّعة في يد المصلحة، ولم تعد بنياتُها الظاهرة والعميقة تنمُّ عن غيرِ بياضٍ لغويّ ثرثار يصف آثار بيوت الحكمة القديمة المنهارة بفعل القصف المركز على عواصم الشرق المشمسة وهي تتفرج على 'قطعان' الشعوب المسلوبة الإرادة التي ستلتهمها تِباعًا عائلاتٌ متعاقبةٌ من 'الضّباع المفترسة' المتداولة على كرسي القرار السياسي نتيجة لانتخابات شكلية لم تعد هي الأخرى ديمقراطيةً بالصورة التي لا يزال بعضُ مثقفي الشرق المخدوعين بأكذوبة التنوير يطمحُون إلى تحقيقها في بلدانهم المتخلّفة. بهذه الطريقة تقريبًا، يتأسس الوعي الزائف لمنطق 'ناشيونال جيوغرافي' المحيل، كما تدل عليه تركيبَةُ كَلِمتَيْه، إلى ما يحمله الفعل السياسيّ الغربيّ المهيمن من إمكانات تحييدٍ مسبقةٍ لكلّ محاولةٍ نشازٍ تظهر في شاشات الرادارات الراصدة لكلّ حركة وسكون، بالصوت والصورة وبأدق التفاصيل.
.../...




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...