** ابتداء من هـذا العدد ننشر مختارات مما ضمته مجموعات الصحف والمجلات المغربية قبل الاستقلال، ونبدأ بنشر مقال قيم للأستاذ آمحمد عزيمان أحد كتاب ورجال النهضة التعليمية والثقافية بشمال المملكة بمدينة تطوان، نشره في مجلة (المعرفة) بعددها رقم 7 السنـة الأولى ، فبراير 1948 **
ظاهرة غريبة تصادم القارئ المغربي لمعظم ما ألف في المشرق في العهود الأخيرة من مؤلفات في تاريخ الأدب العربي هي إهمال الأدب المغربي ورمي البلاد المغربية بالعقـم الفكري والقحط الأدبي ونعت دولتي المرابطين والموحدين بالجهل والجفاء واعتبار عهدهمـا في الأندلس عهـد تقهقر وانحطاط واتهامهـا بالقضاء على النهضة الفكرية التي كانت تزخر بها بـلاد الأندلس من قبل... إلى غير ذلك من أنواع التهم.
ولا يكاد يخلو من هـذه النزعة كتاب من الكتب المدرسية وغير المدرسية المتداولة في تاريخ الأدب العربي ولا يسلم منهـا الشيخ الأسكندري ولا علم سلامـة ـ رحمهما الله ـ ولا مؤلفوا «المجمل» و«المفصل» ولا شوقي نفسه في قصة : «أميرة الأندلس» وأذكر أنه في سنة 1935 وكنت إذ ذاك طالبا بدار العلوم العليا بمصـر كنا نلتقي دروس الأدب المغربي والأندلسي على الشيخ عـلام سلامة وكانت «مذكراته» التي بأيـدي الطلبة حافلة بعبارات التنقيص والنيل من الفكر المغربي والأدب المغربي ومن دولتي المرابطين والموحدين، وإذا لا حظنـا أن مدرسة دار العلوم هي التي يتخـرج فيها أساتذة اللغة العربية وآدابها للمدارس المصرية، وأن أفواجـا من طلاب البـلاد العربية والإسلامية الأخرى يؤمونهـا حتى أنهوا دراستهم عادوا إلى بلادهـم فاشتغلوا بتدريس الأدب العربي وهم يحملون عن تاريخ المغرب وأدبه، تلك الفترة المشوهة فيبثونهـا في طلابهم ـ أدركنا خطر تلك الدروس وأثرها في تربية الناشئـة العربية والإسلاميـة على احتقار الأدب المغربي والنظر إلى الدول المغربية العظمى كـدول مخربـة تحارب العلم والحضارة، وقد ظهـر أثر تلك في بعض الكتب التي ألفها خريجي دار العلوم ككتاب: «المطرب في أدب الأندلس والمغرب»، الذي ردد المطاعـن الموجهة إلى الأدب المغربي، كما وردت في مذكرات الشيخ علام سلامـة بالنص، وقـد ظللت زمنا استغرب هـذه الحملة الموجهة ضـد أدبنـا وتاريخنا وأجهل أصلهـا ومصدرها حتى كنت يوما اقرأ في كتاب «نفح الطيب» للمقري وإذا بي أجد تلك المطاعـن التي أعهدها في مذكرات الشيخ سلامـة بنصها وفصلها وقد وردت في مناظرة وقعت بين إسماعيل بن محمـد الشفندي الأندلسي المتوفى باشبيلية سنة 629هـ وبين أبي يحيى بن المعلم الطنجـي في التفصيل بين المغرب والأندلس، فعمـد الشيخ علام سلامة ـ رحمه الله وعفا عنـه ـ إلى مطاعن الشنفدي في المغرب، نقلهـا في مذكراتـه بحروفها دون نسبتها إلى أصلها واعتبرهـا فصل الخطاب في الحكم على المغرب والمغاربـة وعلى تاريخ المغرب وأدبـه وظل يلقنها طلبـة دار العلوم عهدا طويلا فيتلقونها أحكامـا مسلمة ويبثونها في تلاميذهم جيـلا بعد جيل وإن كانت قائمـة على أساس أوهي من بيت العنكبوت.
فرسالة الشفندي في فضل الأندلس هي المصدر الأول من مصدرين خطيرين كـان لهما أثر بعيد في تشويه تاريخ المغرب، وهناك مصدر آخر ربما كان أعظم منها خطـورة وأبعـد أثرا وذلك هـو ما كتبه المستشرق الهولاندي دوزي المتوفى بلندن سنة 1883م عن المرابطيـن وبالأخص في كتابه: « مباحث في تاريخ إسبانيـا وأدبها أثناء العصور الوسطى» و«تاريخ مسلمي إسبانيا» فإن دوزي على تضلعه وسعة اطلاعـه على التاريخ الأندلسي كان يضمر المرابطين عداءا شديـدا ويحقد عليهم قضاءهـم على ملوك الطوائف الذين كـان يعطف عليهم ويتعصب لهم اشد التعصب وبالأخص للمعتمد بن عباد منهم، وقد أدى به حبه لملوك الطوائف وبغضه للمرابطين إلى إصدار أحكام جائزة عليهم حتى زعم« أن الأندلس تحولت في عهدهم من الحضارة إلى الهمجيـة وحل الهوس محل الذكاء والتعصب محل التسامح» وقد كان لأحكام دوزي على المرابطين تأثير عميق على المشتغلين بالدراسات الأندلسية من الشرقيين والغربيين الذين ظهروا بعده فتلقوا أحكامه بالقبول والتسليم ورددوهـا في مؤلفاتهم ومباحثهم ولم يجرؤ أحد من الباحثين في التاريخ الأندلسي على مناقشة آراء دوزي وأحكامـه على المرابطين حتى تصدى لذلك المستغرب الإسباني ضون فرانسيسكو كديرا المتوفى سنة 1917.
رسالة الشنفدي وكتابات دوزي مصدران خطيران في تشويه سمعة المغرب وإنكـار فضله وقد اثر الشفندي في الطبقة التي لا تعرف اللغات الأجنبية وتعتمد في بحثها على المصادر العربية وأثر دوزي في الباحثين الغربيين بل وفي الباحثين الشرقيين الذيـن يتأثرون بما يكتب عن التاريخ العربي في اللغات الأجنبية ويتلقونه بالقداسة والتسليم.
ومن واجبنا نحن المغاربة أن نعرف هذين المصدريـن الخطيرين وأن ندرس المطاعن الموجهة فيهمـا إلى أدبنـا وتاريخنا لنرى هل تقوم على أساس من الحق يؤيده العلم والتاريخ أو إنمـا هي أحكام طائشة صادرة عن التعصب والهوى يكذبها التاريخ الصحيح ويبطلهـا البحث العلمي النزيـه.
رسالة الشفنــدي:
روى المقري في «نفح الطيب»(1) عن أبي سعيد قال: أخبرني والدي قال: كتب يومـا في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى بن أبي زكريا صهـر ناصر بن عبد المومن فجرى بيـن أبي الوليد الشنفدي وبين أبي يحيي بن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين فقال الشنفدي: لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة ولا سارت عنه فضيلة ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلـم، فقـال الأمير أبو يحيى: أتريـد أن تقول كون أهل برنا عربا وأهل بركم بربرا؟ فقـال حاش لله ، فقال الأمير: والله مـا أردت غير هذا فظهر في وجهه أنه أراد ذلك، فقـال ابن المعلم: أتقول هـذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة، فقال الأمير: الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكمـا رسالة في تفضيل بره، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعا وأرجـو إذا اخليتما له فكر كمـا أن يصدر عنكما ما يحسن تخليده، ففعلا (2) ذلك.
وبعد قص هـذه الحكايـة التي تسدل على مقدار تسامح أمير سبتة الموحدي الذي رأى الشفندي يغض من قدر بلاده في مجلسه ويعرض بالبربر والأمير منهم والدولة لهم والمغرب والأندلس تحت حكمهم ، فلم يغضب عليه ولم يأمر بتأديبه وعقابـه بل طلب كمنه أن يتوسـع في الموضوع ويؤلف فيه رسالة يشرح فيهـا رأيه وتمنى له النجاح في مهمته حتى يأتي بما يحسن تخليـده ـ يورد صاحب نفح الطيب عن أبن سعيد نص الرسالة التي كتبها الشنفدي، وطبيعي أن يتعمد الشنفدي في هـذه الرسالة إنكـار فضل المغرب ومـا فيه من علم وأدب وحضارة، لأن الشفندي كان بصدد مناظرة خصمه ومن طبيعـة المناظر أن ينكر كل مزية لخصمه وأن يستصغر فضائه ويكبر عيوبه ونقائصـه، يأتي صاحب نفح الطيب برسالة الشفندي في تفضيل الأندلس على المغرب ولا يتبعها بجواب أبي يحيى الطنجي في تفضيل المغرب على الأندلس ـ على فرض أنه كان مطلعا عليها ـ وهو معذور في ذلك لأنـه ألف كتاب في تاريخ الأندلس لا في تاريخ المغرب وجـاء برسالة الشفندي في معرض الاستشهـاد على نبوغ الأندلسيين وتفوقهم في فنون العلم والأدب وبما أن رسالة أبي يحيى الطنجي تتعلق بالمغرب فهي خارجـة عن موضوعه ولم يدعـه داع للإتيان بها.
ولعل الشفندي نفسه لم يقصد الغض من قدر الحضارة المغربية ولم يكن يريد إلا إظهار البراعة الأدبية كما هـو الشأن في المناظرات في معظم الأحيان وما كان يخطر بباله أن رسالته ستصبح فصل الخطاب في الحكم على الحضارة المغربية والأدب المغربي، وأن عبارتها ستدمج إدماجـا في هذه المؤلفات المدرسية دون إشارة إلى أصلها ولا إلى صاحبها ولا إلى ظروف كتباتها ثم تقـدم إلى الطلاب باسم تاريخ الأدب المغربي فيتلقاهـا الطلاب ويبثونها في تلاميذهم كما تلقوها وما فيهم من سمع باسم الشنفدي ولا عرف أن تلك الأحكام الجائزة التي يرمي بها تاريخ المغرب الأدبي إنما هي جمل مسروقة من منـاظرة جرت منذ أكثر من سبعمائـة سنة في ظروف خاصة معينة إن دلت على شيء فإنمـا تدل على تسامح المغاربة وحمايتهم للأدب ورعايتهم لحرية الفكـر والقول، هـذا مثال يبين لنا كيف تلقى الأحكام عن التاريخ المغربي جزافـا دون بحث ولا روية ولا تدقيق، وكيف أن تلك الصورة المشوهـة التي تقدم إلى الناشئـة العربية عن تاريخ الأدب المغربي لا تقوم على أساس من العلم والتحقيق، وإنمـا تستند على السفسطـة والتلفيق وإلى القارئ بعض فقرات من رسالة الشنفدي وهي الفقرات التي يرددهـا الطاعنون في الأدب المغربي، يقول الشفندي مخاطبا منـاظره: «وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هـذه الدعوة المهدية ابسقموت الحاجب أم بصالح البرغواطي أم يوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحـه ما أجروا له ذكرا ولا رفعوا لملكه قدرا وبعـد ما ذكروه بوساطـة المعتصم بن عباد فإن المعتمد قال له وقد أنشدوه: أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟، قال لا أعلم ولكنهم يطلبون الخير، ولمـا انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتبه له المعتمد رسالة فيها:
بنتم وبنـا فما ابتلـت جوانحنـــا * شوقـا إليكـم ولا جفـت مآقينـــا
كـاد حين تناجيكـم ضمائرنـــا * يقضـي علينـا الأسـى لولا تأسينــا
فلما قرئ عليه هـذان البيتان قال للقارئ: يطلب منا جواري سودا وبيضا فقال: لا يـا مولاي ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لان ليلي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليـلا، لان ليالي الحـزن ليالي سود، فقال: والله جيد، اكبت له في جوابه: أن دموعنـا تجري عليه ورؤوسنا توجعنا من بعده، فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هـذا الفاضل رقة الشوق.
ولا تنكـرن مهمـا رأيـت مقدمــا * على حمـر بغــلا فثـــم تناسب
فاسكتوا فلولا هذه الدولـة ما كان لكم عن الناس صولة.
وأن الــورد يقطـف من قتـــاد * وان النـار تقبــس مـن رمـــاد
هذا نموذج من كلام الشفندي وإذا قمنـا اليوم بمناقشة هـذا الكلام البدئ وبإعادة النظر في أحكـام الشنفدي ودوزي على المرابطين فليس معنى ذلك أننا نريـد إحياء نزاع جدلي في تفضيل المغرب على الأندلس أو الأندلس على المغرب، بعد أن مضت على هـذا النزاع قرون طويلة ولا نتعصب للمغاربة ضد الأندلسيين، فقد كـان المغرب والأندلس في ظل الإسلام شيئا واحدا، هنا وهناك أمـة واحدة من المعرب والبربر امتزجت والتحمت في ظل الإسلام والثقافـة العربية، وكل فضيلـة تنسب إلى الأندلسيين ففضلها في الحقيقـة عائد على العرب جميعا وعلى المغاربة بصفة خاصة لأن المغاربة والأندلسيين كما قلنا أمة واحـدة، ولأن المغاربة هم الذين فتحوا الأندلس وادخلوها في دائـرة العروبة والإسلام، فمهدوا بذلك السبيل لقيام الحضارة الأندلسية الخالدة، ثم كانوا على الدوام حماتها المدافعيـن وبفضل جيوشهم المرابطة في الثغور وإمداداتهم المتوالية استطاعت الحضارة العربية في الأندلس أن تحافظ على نفسها ما حافظت من قرون وتمكـن الأندلسيون من إقامـة ما أقاموه من مدنية وعمران.
فالمغاربة لا يغادرون من الإشادة بالحضارة الأندلسية، بل أنهم ليرنحون طربا لذكرهـا، والأمة العربية كافة في المشرق والمغرب تعتز بالحضـارة العربية في الأندلس وتتغنى بأمجادها ومفاخرها، لان الحضارة العربية الإسلامية في الحقيقة سواء في المشرق أو المغرب ميراث مشترك بين العرب جميعـا، فنحن هنا في المغرب نفخـر بكل مـا ظهر منها في العراق أو في الشام أو في مصـر أو غيرها من بلاد المشرق والمشارقـة يعتزون بكل ما ظهر منها في الأندلس وبلاد المغرب، ولكن المؤرخيـن جروا على تقسيم البلاد العربية إلى وحدتين: المشرق والمغرب ، فهم يعتبرون بلاد المغرب وحـدة تاريخية وفكرية من حدود مصر إلى تخوم الأندلس لارتباط تاريخ هذه البلاد بعضه ببعض وتقاربهـا في الإقليم الجغرافي ورجـوع سكانها إلى أصل متقارب فإذا تكلموا عما قامت به هـذه البلاد من خدمـة العلم والحضارة وما ظهـر فيها من حركـة علمية وفكرية أعطوا الأندلس حقهـا من الإشـادة والثناء، وغمط بعضهم بلاد المغرب حقها ورموها بما تقدمت نماذج منه من الاتهامـات، ولذلك فنحن الآن حين نناقـش هذه التهم فلسنا نـريد إحياء النزاع بين العدوتيـن ولا إثارة التعصب بين المشرق والمغرب، وهمـا في العروبة صنوان وإنمـا نريد إنصاف بلاد المغرب ورد التهم الباطلة التي ترمي بها بغير حق.
وبعد فمـا هي التهم التي يرددهـا الشفندي ودوزي ويصوران تاريخ المغرب بسببها صورة محرفـة شوهاء؟.
نرجـع هذه التهم إلى عمل يوسف بن تاشفين حين فتح الأندلس وقضى على حكم ملوك الطوائف وقبض على المعتمد بن عباد ووحـد المغرب والاندلس تحت حكم المرابطين، فقام بعض صنائع ملوك الطوائف يبكون عهدهم الذاهب وينعتون يوسف بن تشافين بالجهل والجفاء، ويرمون عهد المرابطين في الأندلس بأنه عهـد الهمجية والتعصب خمدت فيه شعلة الفكر وانطفأت أنوار العلوم والآداب لأن المغاربة أمة جهل وتعصب وجفاء لا تقدر العلم والحضـارة ولا تحفل بالعلوم والآداب . هذه هي التهم التي يرددهـا الشفندي ودوزي فما هي حقيقـة الأمر في هذه القضية؟.
تتلخص القصة ـ كما هـو معروف ـ في أن الأندلس كانت عند قيام دولة المرابطين بالمغرب قد تمزقت أوصالهـا بين ملوك الطوائف الذين اشتعلت بينهم نار الحرب والمنافسـة وساموا الأمة الأندلسية خسفا وإرهاقا وابتزوا أموالهـا لتبذيرهـا في حروبهم الداخلية التي ضعضعوا بها قـوة الإسلام في الأندلس وتبديدهـا في الملاهي والشهوات التي تجاوزوا فيهـا حدود الطيش والإسراف فبلغت أحوال المسلمين نهاية الانحلال والفسـاد وطمع فيهم أعداؤهم وانتقضوا بلادهم من أطرافها فلما رأى المسلمون الخطر الدائم قر رأيهم على الاستغاثة بيوسف بن تاشفين فلبى يوسف النـداء وعبرت جيوش المرابطين البحر إلى الأندلس وانتصرت في وقعة الزلاقة الشهيـرة سنة 469هـ، وبذلك دفعت عن الأندلس خطر السقوط الدائم والموت المحتـوم، وبعد هذا الانتصار الباهر رجـع يوسف بجيوشه إلى المغرب الا نجدات تركها لحماية الأندلسيين، وترك أمور الأندلس في يـد ملوك الطوائف ، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن عادوا إلى عدواتهـم الطائفية وحروبهم الداخلية، بل تحالف بعضهم مع ملوك المسيحية لمحاربة المسلمين فثارت ثائرة الشعب الأندلسي ضد هؤلاء الملوك وأفتى العلمـاء والفقهاء في المشرق والمغرب بوجوب خلعهم وتوجهت الأنظار مرة ثانية إلى يوسف بن تاشفين ليتدارك أمر المسلمين في الأندلس قبل فوات الأوان، فاجـتاز البحر مرة أخرى وقضى على حكم ملوك الطوائف نهائيا وضم الأندلس إلى حكم المرابطين وأمر بالقبض على بعض ملوكهم ومنهم المعتمـد بن عباد ملك إشبيلية اتقاء لخطر تآمرهم ضد الدولة الإسلاميـة سعيا في استرداد عروشهم المفقودة.
هذه هـي الحوادث التاريخية التي يصورون يوسف بسببهـا بصورة صحراوي جلف دفعتـه شهوة التسلط إلى الاعتداء على ملوك الطوائف وانتزاع ملكهم من أيديهم والتطويـح بعروشهم والقذف بهم إلى السجـون والواقـع أن الشعب الأندلسي الذي ثقلت عليه وطأة هؤلاء الملوك ورأى الخطـر محدقا به من كل جانب هـو الذي أرسل الرسل وبعث الرسائل إلى يوسف يستنجده ويستغيث به، وأن ملوك الطوائف أنفسهم لما سقط في أيديهم ورأوا أنهـم قد ضلوا وشاهدوا بأعينهـم ما جرته مسيرتهم على البلاد من الخطـر بادروا وعلى رأسهم المعتد بن عباد إلى طلب النجدة من المرابطيـن وأرسلوا إلى يوسف وفدا مؤلفا من الوزيـر ابن زيدون، وقاضي قرطبة عبد الله بن أدهم مندوبين عن المعتمـد وقاضي غرناطة مندوبا عن أميرها ابن حبوس الصنهاجي وقاضي بطليوس عن أميرهـا، وقصد المعتمد نفسه المغرب مستغيثا بيوسف على ما في بعض الروايات. وقد استقبل يوسف عندمـا دخل الأندلس للمرة الأولى من جميع ملوك الطوائف بالتجلـة والتكريم، فيوسف لم يذهب إلى الأندلس طامعا في امتلاكهـا وإنمـا ذهب تلبية لاستغاثة أهلها، وقد روى ابن أبي زرع أن يوسف أثناء اجتيازه بلاد الأندلس إلى الزلاقة وعند الرجـوع منها قـد تجنب النزول بالمدن والقرى وسار في العراء ورجـع في العراء تورعـا وتكرمـا وتخفيفا للمؤونة على النـاس، وقد تورع عن فيء الزلاقـة وأباحه لملوك الطوائف.
أمـا قصة قضائه بعد ذلك على دول الطوائف فيقول عنهـا ابن خلدون: «جـاز يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس الجواز الثاني سنة 486 وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيـره عليهم لما يسومون به رعاياهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم ، فوجد عليهم وعهد برفع المكوس وتحري العدالة».
ويقول ابن خلدون أيضا: « أن الفقهاء بالأندلس طلبوا من يوسف ـ يريد عند جوازه الأول إلى الأندلس ـ رفع المكوس والمظالم فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف وأجابوه بالامتثال حتى إذا رجع عن بلادهـم رجعوا إلى حالتهم ، فلمـا جاز ثانية انقبضوا عنه، ووافق ملوك الطائف على قطع المدد عن أمير المسلمين ومحلاته، فساء نظره وافتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والاندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتـاوى أهل المشرق الاعلام مثل الغزالي والطرطوشي وغيرهما».
فهؤلاء الملوك الذيـن أرهقوا الرعية طغيانـا وظلما وعرضوا الحضارة العربية بالأندلس للسقوط والاضمحلال وتعالت الأصوات بالشكوى من سيرتهم من الرعيـة والعلماء لم يكن من المصلحـة الإسلاميـة ولا من مصلحة الحضارة الإنسانية عامـة ولا من العدل في شيء أن تبقـى بلاد الأندلس ثئـن تحت حكمهم ممزقـة الأوصال معرضة للخطر بل كانت المصلحة كلها في أن تتوحد البلاد في يد ملك قوي يعرف كيف يحمي حضارتها ويرعى حقوق رعيتها، وذلك ما عملـه يوسف ، فكان عمله من أشرف الأعمال وأنبلهـا ومن مفاخره الخالدة التي يجب أن تذكـر دائما مقرونة بالثناء والإعجاب ويجب أن نصغي بمزيد الحيطة والحذر إلى أقوال اذناب ملوك الطوائف الذين حرمهم يوسف عيشهم الرغد الهـنئ على حساب الشعب وان لا يخدعنـا ما قاموا به ضد يوسف بن تاشفين من«الدعايـة» الزائفـة وأن ننظر إلى المسألـة من وجهة المصلحة الإسلاميـة والمصلحة الإنسانية العامـة لا من وجهة نظر طائفة محدودة من الانتفاعيين.
أمـا القول بأن الحركـة العلمية والفكرية قد ضعفت في عهـد المرابطين فتكذبـه النصوص التاريخية ويكذبه العدد الكبير ممن عاش في ظـل المرابطين من العلماء والأدباء والشعراء والمؤلفيـن، يقول عبد الواحد المراكشي في كتابه: « المعجب في تلخيص أخبار المغرب»:
انقطع إلى أمير المسلمين ( يوسف بن تاشفين) من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى أشبهت
حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغـة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار فممن كتب لأمير المسلمين: أبو بكر بن القصيرة أحد رجـال الفصاحة والحائز قصب السبق في البلاغـة على طريقة قدمـاء الكتاب من إيثـار جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجـاع التي أخذها متأخروا الكتاب، ثم كتب له ولابنه بعد أبي بكر هـذا: «الوزير الأجل أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الذي اشتهر شهـرة الأمثال وسار ذكره سير الجنوب والشمال».
ويقول المراكشي أيضا عن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين: « ولم يـزل أمير المسلمين من أول أمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيـرة الأندلس وصرف عنايته إلى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك كأبي القاسم الجد المعروف بالأحدب أحـد رجال البلاغـة وأبي محمد بن أبي الخصال وأخيه مروان في جماعة يكثر ذكرهم».
وعصر المرابطين هو الذي ظهر فيه زيادة على من ذكـر من الكتاب: ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة وهو من أنفس ما خلفته الأندلس من الآثار الأدبية، وأبو القاسم بن بشكوال صاحب الصلة في تاريخ علمـاء الأندلس، وعبد الله بن إبراهيم الحجـازي صاحب المسهب في فضائل أهل المغرب، والفتح ابن خاقان صاحب قلائـد العقيان ، والإدريسي ، وابن سهيل ، وابن أبي الصلت الداني، وابن قزمـان مبتكر فن الزجـل، الذي كان الأصل الذي سار الشعر الأوربي على نهجه كما اثبت ذلك البحث العلمي الحديث.
أما قدح الشفندي في يوسف بن تاشفين بأنه لا يتذوق الأدب أو لا يحسن فهم الشعر، فهو ترديد لكـلام صنائع ملوك الطوائف من الشعراء والمداحين الذيـن لم يجدوا عند يوسف ما ألفوه عند ملوك الطوائف من حيـاة الاستهتار والمجون فنعتـوه بأنه لا يقدر الأدب والفن ونسبوا إليـه أقاصيص من نوع ما تقدم في رسالـة الشنفدي، ولنسلم لهم أن يوسف لم يكن يحسن فهم الشعر وتذوقـه فمـاذا يضره ذلك وهو مؤسـس دولة ورجل حرب وسياسة؟ أترانـا نعيب اليوم رؤساء الحكومـات ونصف دولهم بالجهل والتأخر إذا كانـوا لا يقرضون الشعر أو لا يحسنون تدبيج رسائل الأشواق؟.
نكتفي اليوم بهـذا القدر من الكلام على رسالة الشنفدي، أما آراء دوزي في المرابطين وردود كديرا عليهمـا فستكون موضوعا لمقال آت بحول الله.
(1) الجزء الثاني، صحيفة 138، المطبعة الأزهرية.
(2) يرى بعض الأدباء أن أبا يحيى الطنجي لم يكتب رسالة، وانفرد الشفندي برسالته في تفضيل الأندلس ولكن النص الذي يورده المقري نقلا عن ابن سعيد صريح في أنهمـا معا كتاب رسالتيهما لأنه يقول فعلا ذلك، ولعل البحث يظهر رسالة أبي يحيي الطنجي في المستقبل.
دعوة الحق
العدد 233 ربيع 1 1404/ دجنبر 1983
www.habous.gov.ma
ظاهرة غريبة تصادم القارئ المغربي لمعظم ما ألف في المشرق في العهود الأخيرة من مؤلفات في تاريخ الأدب العربي هي إهمال الأدب المغربي ورمي البلاد المغربية بالعقـم الفكري والقحط الأدبي ونعت دولتي المرابطين والموحدين بالجهل والجفاء واعتبار عهدهمـا في الأندلس عهـد تقهقر وانحطاط واتهامهـا بالقضاء على النهضة الفكرية التي كانت تزخر بها بـلاد الأندلس من قبل... إلى غير ذلك من أنواع التهم.
ولا يكاد يخلو من هـذه النزعة كتاب من الكتب المدرسية وغير المدرسية المتداولة في تاريخ الأدب العربي ولا يسلم منهـا الشيخ الأسكندري ولا علم سلامـة ـ رحمهما الله ـ ولا مؤلفوا «المجمل» و«المفصل» ولا شوقي نفسه في قصة : «أميرة الأندلس» وأذكر أنه في سنة 1935 وكنت إذ ذاك طالبا بدار العلوم العليا بمصـر كنا نلتقي دروس الأدب المغربي والأندلسي على الشيخ عـلام سلامة وكانت «مذكراته» التي بأيـدي الطلبة حافلة بعبارات التنقيص والنيل من الفكر المغربي والأدب المغربي ومن دولتي المرابطين والموحدين، وإذا لا حظنـا أن مدرسة دار العلوم هي التي يتخـرج فيها أساتذة اللغة العربية وآدابها للمدارس المصرية، وأن أفواجـا من طلاب البـلاد العربية والإسلامية الأخرى يؤمونهـا حتى أنهوا دراستهم عادوا إلى بلادهـم فاشتغلوا بتدريس الأدب العربي وهم يحملون عن تاريخ المغرب وأدبه، تلك الفترة المشوهة فيبثونهـا في طلابهم ـ أدركنا خطر تلك الدروس وأثرها في تربية الناشئـة العربية والإسلاميـة على احتقار الأدب المغربي والنظر إلى الدول المغربية العظمى كـدول مخربـة تحارب العلم والحضارة، وقد ظهـر أثر تلك في بعض الكتب التي ألفها خريجي دار العلوم ككتاب: «المطرب في أدب الأندلس والمغرب»، الذي ردد المطاعـن الموجهة إلى الأدب المغربي، كما وردت في مذكرات الشيخ علام سلامـة بالنص، وقـد ظللت زمنا استغرب هـذه الحملة الموجهة ضـد أدبنـا وتاريخنا وأجهل أصلهـا ومصدرها حتى كنت يوما اقرأ في كتاب «نفح الطيب» للمقري وإذا بي أجد تلك المطاعـن التي أعهدها في مذكرات الشيخ سلامـة بنصها وفصلها وقد وردت في مناظرة وقعت بين إسماعيل بن محمـد الشفندي الأندلسي المتوفى باشبيلية سنة 629هـ وبين أبي يحيى بن المعلم الطنجـي في التفصيل بين المغرب والأندلس، فعمـد الشيخ علام سلامة ـ رحمه الله وعفا عنـه ـ إلى مطاعن الشنفدي في المغرب، نقلهـا في مذكراتـه بحروفها دون نسبتها إلى أصلها واعتبرهـا فصل الخطاب في الحكم على المغرب والمغاربـة وعلى تاريخ المغرب وأدبـه وظل يلقنها طلبـة دار العلوم عهدا طويلا فيتلقونها أحكامـا مسلمة ويبثونها في تلاميذهم جيـلا بعد جيل وإن كانت قائمـة على أساس أوهي من بيت العنكبوت.
فرسالة الشفندي في فضل الأندلس هي المصدر الأول من مصدرين خطيرين كـان لهما أثر بعيد في تشويه تاريخ المغرب، وهناك مصدر آخر ربما كان أعظم منها خطـورة وأبعـد أثرا وذلك هـو ما كتبه المستشرق الهولاندي دوزي المتوفى بلندن سنة 1883م عن المرابطيـن وبالأخص في كتابه: « مباحث في تاريخ إسبانيـا وأدبها أثناء العصور الوسطى» و«تاريخ مسلمي إسبانيا» فإن دوزي على تضلعه وسعة اطلاعـه على التاريخ الأندلسي كان يضمر المرابطين عداءا شديـدا ويحقد عليهم قضاءهـم على ملوك الطوائف الذين كـان يعطف عليهم ويتعصب لهم اشد التعصب وبالأخص للمعتمد بن عباد منهم، وقد أدى به حبه لملوك الطوائف وبغضه للمرابطين إلى إصدار أحكام جائزة عليهم حتى زعم« أن الأندلس تحولت في عهدهم من الحضارة إلى الهمجيـة وحل الهوس محل الذكاء والتعصب محل التسامح» وقد كان لأحكام دوزي على المرابطين تأثير عميق على المشتغلين بالدراسات الأندلسية من الشرقيين والغربيين الذين ظهروا بعده فتلقوا أحكامه بالقبول والتسليم ورددوهـا في مؤلفاتهم ومباحثهم ولم يجرؤ أحد من الباحثين في التاريخ الأندلسي على مناقشة آراء دوزي وأحكامـه على المرابطين حتى تصدى لذلك المستغرب الإسباني ضون فرانسيسكو كديرا المتوفى سنة 1917.
رسالة الشنفدي وكتابات دوزي مصدران خطيران في تشويه سمعة المغرب وإنكـار فضله وقد اثر الشفندي في الطبقة التي لا تعرف اللغات الأجنبية وتعتمد في بحثها على المصادر العربية وأثر دوزي في الباحثين الغربيين بل وفي الباحثين الشرقيين الذيـن يتأثرون بما يكتب عن التاريخ العربي في اللغات الأجنبية ويتلقونه بالقداسة والتسليم.
ومن واجبنا نحن المغاربة أن نعرف هذين المصدريـن الخطيرين وأن ندرس المطاعن الموجهة فيهمـا إلى أدبنـا وتاريخنا لنرى هل تقوم على أساس من الحق يؤيده العلم والتاريخ أو إنمـا هي أحكام طائشة صادرة عن التعصب والهوى يكذبها التاريخ الصحيح ويبطلهـا البحث العلمي النزيـه.
رسالة الشفنــدي:
روى المقري في «نفح الطيب»(1) عن أبي سعيد قال: أخبرني والدي قال: كتب يومـا في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى بن أبي زكريا صهـر ناصر بن عبد المومن فجرى بيـن أبي الوليد الشنفدي وبين أبي يحيي بن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين فقال الشنفدي: لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة ولا سارت عنه فضيلة ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلـم، فقـال الأمير أبو يحيى: أتريـد أن تقول كون أهل برنا عربا وأهل بركم بربرا؟ فقـال حاش لله ، فقال الأمير: والله مـا أردت غير هذا فظهر في وجهه أنه أراد ذلك، فقـال ابن المعلم: أتقول هـذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة، فقال الأمير: الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكمـا رسالة في تفضيل بره، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعا وأرجـو إذا اخليتما له فكر كمـا أن يصدر عنكما ما يحسن تخليده، ففعلا (2) ذلك.
وبعد قص هـذه الحكايـة التي تسدل على مقدار تسامح أمير سبتة الموحدي الذي رأى الشفندي يغض من قدر بلاده في مجلسه ويعرض بالبربر والأمير منهم والدولة لهم والمغرب والأندلس تحت حكمهم ، فلم يغضب عليه ولم يأمر بتأديبه وعقابـه بل طلب كمنه أن يتوسـع في الموضوع ويؤلف فيه رسالة يشرح فيهـا رأيه وتمنى له النجاح في مهمته حتى يأتي بما يحسن تخليـده ـ يورد صاحب نفح الطيب عن أبن سعيد نص الرسالة التي كتبها الشنفدي، وطبيعي أن يتعمد الشنفدي في هـذه الرسالة إنكـار فضل المغرب ومـا فيه من علم وأدب وحضارة، لأن الشفندي كان بصدد مناظرة خصمه ومن طبيعـة المناظر أن ينكر كل مزية لخصمه وأن يستصغر فضائه ويكبر عيوبه ونقائصـه، يأتي صاحب نفح الطيب برسالة الشفندي في تفضيل الأندلس على المغرب ولا يتبعها بجواب أبي يحيى الطنجي في تفضيل المغرب على الأندلس ـ على فرض أنه كان مطلعا عليها ـ وهو معذور في ذلك لأنـه ألف كتاب في تاريخ الأندلس لا في تاريخ المغرب وجـاء برسالة الشفندي في معرض الاستشهـاد على نبوغ الأندلسيين وتفوقهم في فنون العلم والأدب وبما أن رسالة أبي يحيى الطنجي تتعلق بالمغرب فهي خارجـة عن موضوعه ولم يدعـه داع للإتيان بها.
ولعل الشفندي نفسه لم يقصد الغض من قدر الحضارة المغربية ولم يكن يريد إلا إظهار البراعة الأدبية كما هـو الشأن في المناظرات في معظم الأحيان وما كان يخطر بباله أن رسالته ستصبح فصل الخطاب في الحكم على الحضارة المغربية والأدب المغربي، وأن عبارتها ستدمج إدماجـا في هذه المؤلفات المدرسية دون إشارة إلى أصلها ولا إلى صاحبها ولا إلى ظروف كتباتها ثم تقـدم إلى الطلاب باسم تاريخ الأدب المغربي فيتلقاهـا الطلاب ويبثونها في تلاميذهم كما تلقوها وما فيهم من سمع باسم الشنفدي ولا عرف أن تلك الأحكام الجائزة التي يرمي بها تاريخ المغرب الأدبي إنما هي جمل مسروقة من منـاظرة جرت منذ أكثر من سبعمائـة سنة في ظروف خاصة معينة إن دلت على شيء فإنمـا تدل على تسامح المغاربة وحمايتهم للأدب ورعايتهم لحرية الفكـر والقول، هـذا مثال يبين لنا كيف تلقى الأحكام عن التاريخ المغربي جزافـا دون بحث ولا روية ولا تدقيق، وكيف أن تلك الصورة المشوهـة التي تقدم إلى الناشئـة العربية عن تاريخ الأدب المغربي لا تقوم على أساس من العلم والتحقيق، وإنمـا تستند على السفسطـة والتلفيق وإلى القارئ بعض فقرات من رسالة الشنفدي وهي الفقرات التي يرددهـا الطاعنون في الأدب المغربي، يقول الشفندي مخاطبا منـاظره: «وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هـذه الدعوة المهدية ابسقموت الحاجب أم بصالح البرغواطي أم يوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحـه ما أجروا له ذكرا ولا رفعوا لملكه قدرا وبعـد ما ذكروه بوساطـة المعتصم بن عباد فإن المعتمد قال له وقد أنشدوه: أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟، قال لا أعلم ولكنهم يطلبون الخير، ولمـا انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتبه له المعتمد رسالة فيها:
بنتم وبنـا فما ابتلـت جوانحنـــا * شوقـا إليكـم ولا جفـت مآقينـــا
كـاد حين تناجيكـم ضمائرنـــا * يقضـي علينـا الأسـى لولا تأسينــا
فلما قرئ عليه هـذان البيتان قال للقارئ: يطلب منا جواري سودا وبيضا فقال: لا يـا مولاي ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لان ليلي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليـلا، لان ليالي الحـزن ليالي سود، فقال: والله جيد، اكبت له في جوابه: أن دموعنـا تجري عليه ورؤوسنا توجعنا من بعده، فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هـذا الفاضل رقة الشوق.
ولا تنكـرن مهمـا رأيـت مقدمــا * على حمـر بغــلا فثـــم تناسب
فاسكتوا فلولا هذه الدولـة ما كان لكم عن الناس صولة.
وأن الــورد يقطـف من قتـــاد * وان النـار تقبــس مـن رمـــاد
هذا نموذج من كلام الشفندي وإذا قمنـا اليوم بمناقشة هـذا الكلام البدئ وبإعادة النظر في أحكـام الشنفدي ودوزي على المرابطين فليس معنى ذلك أننا نريـد إحياء نزاع جدلي في تفضيل المغرب على الأندلس أو الأندلس على المغرب، بعد أن مضت على هـذا النزاع قرون طويلة ولا نتعصب للمغاربة ضد الأندلسيين، فقد كـان المغرب والأندلس في ظل الإسلام شيئا واحدا، هنا وهناك أمـة واحدة من المعرب والبربر امتزجت والتحمت في ظل الإسلام والثقافـة العربية، وكل فضيلـة تنسب إلى الأندلسيين ففضلها في الحقيقـة عائد على العرب جميعا وعلى المغاربة بصفة خاصة لأن المغاربة والأندلسيين كما قلنا أمة واحـدة، ولأن المغاربة هم الذين فتحوا الأندلس وادخلوها في دائـرة العروبة والإسلام، فمهدوا بذلك السبيل لقيام الحضارة الأندلسية الخالدة، ثم كانوا على الدوام حماتها المدافعيـن وبفضل جيوشهم المرابطة في الثغور وإمداداتهم المتوالية استطاعت الحضارة العربية في الأندلس أن تحافظ على نفسها ما حافظت من قرون وتمكـن الأندلسيون من إقامـة ما أقاموه من مدنية وعمران.
فالمغاربة لا يغادرون من الإشادة بالحضارة الأندلسية، بل أنهم ليرنحون طربا لذكرهـا، والأمة العربية كافة في المشرق والمغرب تعتز بالحضـارة العربية في الأندلس وتتغنى بأمجادها ومفاخرها، لان الحضارة العربية الإسلامية في الحقيقة سواء في المشرق أو المغرب ميراث مشترك بين العرب جميعـا، فنحن هنا في المغرب نفخـر بكل مـا ظهر منها في العراق أو في الشام أو في مصـر أو غيرها من بلاد المشرق والمشارقـة يعتزون بكل ما ظهر منها في الأندلس وبلاد المغرب، ولكن المؤرخيـن جروا على تقسيم البلاد العربية إلى وحدتين: المشرق والمغرب ، فهم يعتبرون بلاد المغرب وحـدة تاريخية وفكرية من حدود مصر إلى تخوم الأندلس لارتباط تاريخ هذه البلاد بعضه ببعض وتقاربهـا في الإقليم الجغرافي ورجـوع سكانها إلى أصل متقارب فإذا تكلموا عما قامت به هـذه البلاد من خدمـة العلم والحضارة وما ظهـر فيها من حركـة علمية وفكرية أعطوا الأندلس حقهـا من الإشـادة والثناء، وغمط بعضهم بلاد المغرب حقها ورموها بما تقدمت نماذج منه من الاتهامـات، ولذلك فنحن الآن حين نناقـش هذه التهم فلسنا نـريد إحياء النزاع بين العدوتيـن ولا إثارة التعصب بين المشرق والمغرب، وهمـا في العروبة صنوان وإنمـا نريد إنصاف بلاد المغرب ورد التهم الباطلة التي ترمي بها بغير حق.
وبعد فمـا هي التهم التي يرددهـا الشفندي ودوزي ويصوران تاريخ المغرب بسببها صورة محرفـة شوهاء؟.
نرجـع هذه التهم إلى عمل يوسف بن تاشفين حين فتح الأندلس وقضى على حكم ملوك الطوائف وقبض على المعتمد بن عباد ووحـد المغرب والاندلس تحت حكم المرابطين، فقام بعض صنائع ملوك الطوائف يبكون عهدهم الذاهب وينعتون يوسف بن تشافين بالجهل والجفاء، ويرمون عهد المرابطين في الأندلس بأنه عهـد الهمجية والتعصب خمدت فيه شعلة الفكر وانطفأت أنوار العلوم والآداب لأن المغاربة أمة جهل وتعصب وجفاء لا تقدر العلم والحضـارة ولا تحفل بالعلوم والآداب . هذه هي التهم التي يرددهـا الشفندي ودوزي فما هي حقيقـة الأمر في هذه القضية؟.
تتلخص القصة ـ كما هـو معروف ـ في أن الأندلس كانت عند قيام دولة المرابطين بالمغرب قد تمزقت أوصالهـا بين ملوك الطوائف الذين اشتعلت بينهم نار الحرب والمنافسـة وساموا الأمة الأندلسية خسفا وإرهاقا وابتزوا أموالهـا لتبذيرهـا في حروبهم الداخلية التي ضعضعوا بها قـوة الإسلام في الأندلس وتبديدهـا في الملاهي والشهوات التي تجاوزوا فيهـا حدود الطيش والإسراف فبلغت أحوال المسلمين نهاية الانحلال والفسـاد وطمع فيهم أعداؤهم وانتقضوا بلادهم من أطرافها فلما رأى المسلمون الخطر الدائم قر رأيهم على الاستغاثة بيوسف بن تاشفين فلبى يوسف النـداء وعبرت جيوش المرابطين البحر إلى الأندلس وانتصرت في وقعة الزلاقة الشهيـرة سنة 469هـ، وبذلك دفعت عن الأندلس خطر السقوط الدائم والموت المحتـوم، وبعد هذا الانتصار الباهر رجـع يوسف بجيوشه إلى المغرب الا نجدات تركها لحماية الأندلسيين، وترك أمور الأندلس في يـد ملوك الطوائف ، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن عادوا إلى عدواتهـم الطائفية وحروبهم الداخلية، بل تحالف بعضهم مع ملوك المسيحية لمحاربة المسلمين فثارت ثائرة الشعب الأندلسي ضد هؤلاء الملوك وأفتى العلمـاء والفقهاء في المشرق والمغرب بوجوب خلعهم وتوجهت الأنظار مرة ثانية إلى يوسف بن تاشفين ليتدارك أمر المسلمين في الأندلس قبل فوات الأوان، فاجـتاز البحر مرة أخرى وقضى على حكم ملوك الطوائف نهائيا وضم الأندلس إلى حكم المرابطين وأمر بالقبض على بعض ملوكهم ومنهم المعتمـد بن عباد ملك إشبيلية اتقاء لخطر تآمرهم ضد الدولة الإسلاميـة سعيا في استرداد عروشهم المفقودة.
هذه هـي الحوادث التاريخية التي يصورون يوسف بسببهـا بصورة صحراوي جلف دفعتـه شهوة التسلط إلى الاعتداء على ملوك الطوائف وانتزاع ملكهم من أيديهم والتطويـح بعروشهم والقذف بهم إلى السجـون والواقـع أن الشعب الأندلسي الذي ثقلت عليه وطأة هؤلاء الملوك ورأى الخطـر محدقا به من كل جانب هـو الذي أرسل الرسل وبعث الرسائل إلى يوسف يستنجده ويستغيث به، وأن ملوك الطوائف أنفسهم لما سقط في أيديهم ورأوا أنهـم قد ضلوا وشاهدوا بأعينهـم ما جرته مسيرتهم على البلاد من الخطـر بادروا وعلى رأسهم المعتد بن عباد إلى طلب النجدة من المرابطيـن وأرسلوا إلى يوسف وفدا مؤلفا من الوزيـر ابن زيدون، وقاضي قرطبة عبد الله بن أدهم مندوبين عن المعتمـد وقاضي غرناطة مندوبا عن أميرها ابن حبوس الصنهاجي وقاضي بطليوس عن أميرهـا، وقصد المعتمد نفسه المغرب مستغيثا بيوسف على ما في بعض الروايات. وقد استقبل يوسف عندمـا دخل الأندلس للمرة الأولى من جميع ملوك الطوائف بالتجلـة والتكريم، فيوسف لم يذهب إلى الأندلس طامعا في امتلاكهـا وإنمـا ذهب تلبية لاستغاثة أهلها، وقد روى ابن أبي زرع أن يوسف أثناء اجتيازه بلاد الأندلس إلى الزلاقة وعند الرجـوع منها قـد تجنب النزول بالمدن والقرى وسار في العراء ورجـع في العراء تورعـا وتكرمـا وتخفيفا للمؤونة على النـاس، وقد تورع عن فيء الزلاقـة وأباحه لملوك الطوائف.
أمـا قصة قضائه بعد ذلك على دول الطوائف فيقول عنهـا ابن خلدون: «جـاز يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس الجواز الثاني سنة 486 وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيـره عليهم لما يسومون به رعاياهم من الظلامات والمكوس وتلاحق المغارم ، فوجد عليهم وعهد برفع المكوس وتحري العدالة».
ويقول ابن خلدون أيضا: « أن الفقهاء بالأندلس طلبوا من يوسف ـ يريد عند جوازه الأول إلى الأندلس ـ رفع المكوس والمظالم فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف وأجابوه بالامتثال حتى إذا رجع عن بلادهـم رجعوا إلى حالتهم ، فلمـا جاز ثانية انقبضوا عنه، ووافق ملوك الطائف على قطع المدد عن أمير المسلمين ومحلاته، فساء نظره وافتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والاندلس بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتـاوى أهل المشرق الاعلام مثل الغزالي والطرطوشي وغيرهما».
فهؤلاء الملوك الذيـن أرهقوا الرعية طغيانـا وظلما وعرضوا الحضارة العربية بالأندلس للسقوط والاضمحلال وتعالت الأصوات بالشكوى من سيرتهم من الرعيـة والعلماء لم يكن من المصلحـة الإسلاميـة ولا من مصلحة الحضارة الإنسانية عامـة ولا من العدل في شيء أن تبقـى بلاد الأندلس ثئـن تحت حكمهم ممزقـة الأوصال معرضة للخطر بل كانت المصلحة كلها في أن تتوحد البلاد في يد ملك قوي يعرف كيف يحمي حضارتها ويرعى حقوق رعيتها، وذلك ما عملـه يوسف ، فكان عمله من أشرف الأعمال وأنبلهـا ومن مفاخره الخالدة التي يجب أن تذكـر دائما مقرونة بالثناء والإعجاب ويجب أن نصغي بمزيد الحيطة والحذر إلى أقوال اذناب ملوك الطوائف الذين حرمهم يوسف عيشهم الرغد الهـنئ على حساب الشعب وان لا يخدعنـا ما قاموا به ضد يوسف بن تاشفين من«الدعايـة» الزائفـة وأن ننظر إلى المسألـة من وجهة المصلحة الإسلاميـة والمصلحة الإنسانية العامـة لا من وجهة نظر طائفة محدودة من الانتفاعيين.
أمـا القول بأن الحركـة العلمية والفكرية قد ضعفت في عهـد المرابطين فتكذبـه النصوص التاريخية ويكذبه العدد الكبير ممن عاش في ظـل المرابطين من العلماء والأدباء والشعراء والمؤلفيـن، يقول عبد الواحد المراكشي في كتابه: « المعجب في تلخيص أخبار المغرب»:
انقطع إلى أمير المسلمين ( يوسف بن تاشفين) من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى أشبهت
حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغـة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار فممن كتب لأمير المسلمين: أبو بكر بن القصيرة أحد رجـال الفصاحة والحائز قصب السبق في البلاغـة على طريقة قدمـاء الكتاب من إيثـار جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجـاع التي أخذها متأخروا الكتاب، ثم كتب له ولابنه بعد أبي بكر هـذا: «الوزير الأجل أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الذي اشتهر شهـرة الأمثال وسار ذكره سير الجنوب والشمال».
ويقول المراكشي أيضا عن أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين: « ولم يـزل أمير المسلمين من أول أمارته يستدعي أعيان الكتاب من جزيـرة الأندلس وصرف عنايته إلى ذلك حتى اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك كأبي القاسم الجد المعروف بالأحدب أحـد رجال البلاغـة وأبي محمد بن أبي الخصال وأخيه مروان في جماعة يكثر ذكرهم».
وعصر المرابطين هو الذي ظهر فيه زيادة على من ذكـر من الكتاب: ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة وهو من أنفس ما خلفته الأندلس من الآثار الأدبية، وأبو القاسم بن بشكوال صاحب الصلة في تاريخ علمـاء الأندلس، وعبد الله بن إبراهيم الحجـازي صاحب المسهب في فضائل أهل المغرب، والفتح ابن خاقان صاحب قلائـد العقيان ، والإدريسي ، وابن سهيل ، وابن أبي الصلت الداني، وابن قزمـان مبتكر فن الزجـل، الذي كان الأصل الذي سار الشعر الأوربي على نهجه كما اثبت ذلك البحث العلمي الحديث.
أما قدح الشفندي في يوسف بن تاشفين بأنه لا يتذوق الأدب أو لا يحسن فهم الشعر، فهو ترديد لكـلام صنائع ملوك الطوائف من الشعراء والمداحين الذيـن لم يجدوا عند يوسف ما ألفوه عند ملوك الطوائف من حيـاة الاستهتار والمجون فنعتـوه بأنه لا يقدر الأدب والفن ونسبوا إليـه أقاصيص من نوع ما تقدم في رسالـة الشنفدي، ولنسلم لهم أن يوسف لم يكن يحسن فهم الشعر وتذوقـه فمـاذا يضره ذلك وهو مؤسـس دولة ورجل حرب وسياسة؟ أترانـا نعيب اليوم رؤساء الحكومـات ونصف دولهم بالجهل والتأخر إذا كانـوا لا يقرضون الشعر أو لا يحسنون تدبيج رسائل الأشواق؟.
نكتفي اليوم بهـذا القدر من الكلام على رسالة الشنفدي، أما آراء دوزي في المرابطين وردود كديرا عليهمـا فستكون موضوعا لمقال آت بحول الله.
(1) الجزء الثاني، صحيفة 138، المطبعة الأزهرية.
(2) يرى بعض الأدباء أن أبا يحيى الطنجي لم يكتب رسالة، وانفرد الشفندي برسالته في تفضيل الأندلس ولكن النص الذي يورده المقري نقلا عن ابن سعيد صريح في أنهمـا معا كتاب رسالتيهما لأنه يقول فعلا ذلك، ولعل البحث يظهر رسالة أبي يحيي الطنجي في المستقبل.
دعوة الحق
العدد 233 ربيع 1 1404/ دجنبر 1983
دعوة الحق - في صحافة المغرب منذ 35 سنة: فضل المغرب على الحضارة البشرية...
** ابتداء من هـذا العدد ننشر مختارات مما ضمته مجموعات الصحف والمجلات المغربية قبل الاستقلال، ونبدأ بنشر مقال قيم للأستاذ آمحمد عزيمان أحد كتاب ورجال...