أمل الكردفاني- إيجابيات الشر وسلبيات الخير

لقد زعم أفلاطون بأن هناك عالماً وراء الطبيعة(خارج الكهف)، وهو عالم المثل، حيث الكمال المطلق. أما عالمنا هذا فهو عالم المادة المحسوس المليئ بالاخطاء والشرور.
لقد سادت فكرة الخير والشر منذ الفراعنة القدماء (كاقدم توثيق لثنائية الشر والخير)، فنجد في لفائف الموتى رحلة المصري القديم إلى عالم الآلهة لكي ينجو من العذاب بتعداد فضائله وانكاره لأي رذيلة، وهو يعبر السراط ويُخضع قلبه -بعد نجاحه- للوزن بالقسطاس المستقيم.
مع ذلك فإن كل منتجات البشر لم يخلقها ما يطلق عليه خيراً، بل خلقها الشر، فالصراع البشري، هو الذي أنشأ التحالفات (الأسرية والعشائرية والقبلية)، ولولا الصراع لما كانت الحروب، ولولا الحروب لما نشأت الامبراطوريات، والملوك والأباطرة، والدكتاتوريون والثوريون، ولما تطورت صناعة الاسلحة حتى بلغت هذه التكنولوجيا المعقدة ما وصلنا إليه، أي عصر الانترنت. إن ما يسمى شراً ليس في الواقع بِشَرٍّ، فالحياة المسالمة لا تؤدي للتنافس ومن ثم التطور، إن المجموعات البشرية التي عاشت في الغابات بسلام كانت الاقل قدرة على انشاء حضارة، إما المجموعات الزراعية، فهي التي أنشأت حضارة، حتى تحالفت مع الأديان، وشكلت الاقطاعيات والممالك والسلطنات وهي تنهب الضعفاء، والضعفاء يثورون وينتصرون ويشنقون الأرستقراطيين، وينشؤون دولهم وارستقراطياتهم الجديدة والتي تستعبد الضعفاء بدورها، وهكذا.. ما يسمى شراً كان الحافز للإنسان كي يتفوق على أقرانه، ولو وُضِع الانسان في الفردوس بلا شر فلن يملك أي حافز للبقاء حياً فيها، وهو لا يستطيع ممارسة قمعه لمن هو أضعف منه. لو أصبح كل سكان الأرض أغنياء لاحتاجوا لاستيراد كائنات فضائية فقيرة كي تقبل بالأعمال الوضيعة والمتعبة للجسد كما يحدث في دول الخليج الغنية التي تستورد العمالة الفقيرة من بلاد الهند والسودان وغيرهما.ولو كان الخير به خير؛ فقاسم الأغنياء أموالهم وتساووا مع الفقراء فصاروا جميعاً أغنياء لتساوى الجميع، ولو تساووا لما استطاعوا انجاز أعمالهم بتسخير بعضهم البعض، وإن حدث ذلك فسيتعرضوا جميعهم للفقر، فيتساووا فيه. فالفقر الذي نراه شراً هو أساس حركة الحياة ونشاط الآدميين. والقتل وسائر الجرائم ليست شراً كما يشاع، لأن العالم بلا جريمة سيكون عالماً بلا حرص، والعالم بلا حرص سيفضي للاتكالية والكسل، فحتى وجود الجريمة ضروري، لتكمل دور الصراع الإنساني، فلولا أن قتل بروتس قيصر لما تغير الحكم، ولولا أن قتل الاسلامبولي السادات لما كان من تغيير يذكر وتحولات كبرى في المنطقة الإقليمية وكذلك ما حدث في النمسا من قبل، فليس القتل فقط هو ذلك الذي يتم بدوافع اجتماعية بل حتى سياسية.وكلها تعكس روح الإنسان التنافسية، ومن ثم الصراع الحتمي حول الثروة والسلطة. ولولا ذلك لما احتلت أمريكا العراق ودمرته، وقبلها ضربت اليابان بقنبلة نووية، ولولا أن فعلت، لما كانت اليوم دولة عظمى تتفوق على دول وشعوب ذات حضارات من آلاف السنين رغم حداثة عهدها كدولة بالمعنى الحديث. والصراع الاجتماعي ضرورة، ومن ثم فجريمته ضرورة أيضاً، ومن هنا نشأت السينما الاجتماعية، والفنون والآداب قبلها بمختلف أنواعها واجناسها. فلو عاش الإنسان في سلام دائم لفترت قريحته وتقشف خياله، وفقد متعة وصف مجتمعه، وبالتالي انتهت كل دوافع البحث والمعرفة العلمية، فما حاجتنا للقانون في عالم ليس فيه منازعات أو جرائم، وما حاجتنا لعلم الاجتماع، أو الاقتصاد..الخ. بل ولولا ذلك الذي يسمونه شراً لما كان هناك صراع في العلوم الطبيعية، كالتنافس حول الوصول إلى القمر أو المريخ بسبب الحرب الباردة، أو تصنيع لقاح للكورونا..لا شيء في هذا العالم يخرج عن تكامله، ولا شر في هذا العالم، إنما نحتاج فقط أن نقتنع بذلك، لكي نحسِّن من أدائنا التفاوضي مع الآخر إن كنا متعادلين في القوة، أو نحاربه إن كان اضعف، فنهزمه وننكل به، أو نصادقه ونتملقه إن كان أقوى منا..أو حتى لا نشعر بالعار عندما يعلقنا عدونا على المشانق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...