د. السيد العيسوي عبد العزيز - تأملات جمالية في "كورال الدمي" لنهى الطرانيسي

من الأعمال التي صدرت مؤخرًا مجموعة قصصية بعنوان "كورال الدمي" للقاصة نهى الطرانيسي عن دار البشير للثقافة والعلوم، وهي مجموعة قصصية متراوحة المستوى،إذ نشهد فيها ارتفاعًا في بعض المناطق، وهبوطًا في بعضها الآخر مما يتعلق بالمباشرة أو التناول المباشر، ولربما يعود ذلك إلى فترات مختلفة من التطور والنضج في كتابة القاصة، ولا يعنيني التناول العام للمجموعة بقدر ما يعنيني الوقوف بشكل خاص أمام قصة بعنوان "السماء تعزف ألحانًا"، وهي واحدة من أحب القصص إليّ في هذه المجموعة، بحيث دعتني للقراءة كثيرًا وفي فترات مختلفة حتى دعتني إلى مغامرة الكتابة، وكل نص حقيقي هو مغامرة إبداعية تستدعي مغامرة في التلقي والكتابة، وفي المغامرة كثير من المتعة والاكتشافات المذهلة لما خفي في عالم الروح والجمال. ولعل السبب أني أتوق لعالم الأنوار، وعالم الماوراء، والطرافة، والدهشة، وهو ما تتناوله هذه القصة ببراعة لافتة، وما نريد أن نقف أمامه من خلال قراءة خاصة وتفصيلية للقصة بكل منعرجاتها وتفاصيلها وخفاياها.
لقد أنجزت هذا في دراسة طويلة، ولكني سأكتفي هنا بعرض فقرة أو فقرتين من الدراسة إلى حين نشرها، بما يدخل المتلقي في هذا العالم.
في مطلع القصة تقول الكاتبة:
"ضوضاء وأبواق.. هتاف من كل جانب، عالم آخر يعج بكل الاختناق والدخان.. وهناك بعيدًا في الأعلى.. في مدار بعيد عند القمر دنيا لها ما لها من أنوار هادئة متقاربة، كل اختار قرينه ليتسامر معه، حتى يُؤذَن للشمس بالبزوغ." ص 55
هذه هي الخلفية التي تبدأ بها القاصة قصتها، وهي تحدد المكان والزمان، بما يضفي كثيرًا من التشويق على العرض، ويثير فتنتنا بالبحث والتساؤل، في أجواء غير مألوفة، تختارها الكاتبة بحثًا عن المناطق البكر في الكتابة، وهي (هناك بعيدًا.. في مدار بعيد عند القمر.) خيالنا لا يرقى إلى هذه المنطقة، ولكن خيال الكاتب يستطيع، لأنه يتحفز لشيء ما، ويظل يسعى وراءه، هو خيال يقرأ المكان والزمان بآلية مختلفة، والمكان والزمان عنده مختلف، ينطق بدلالات وأشواق ويُحمَّل برؤى غير مألوفة.
ما الذي يحدث في هذا العالم الخفي؟
هنا بعد هذه الجرعة من التشويق تبدأ الأحداث في الظهور من خلال حوار بين طرفين، من هما؟ :
"النور: مرحبا!
قرينه: أين كنت؟ انتظرتك طويلاً.
النور: عذرًا حبيبتي، منذ قليل عدت من العمل.
قرينه: هل العمل بالأسفل مرهق مثل عملنا؟
النور: لا أظن.
قرينه: أنظر دائما إلى وجوههم المليئة بالضيق والتي يكاد الغم يكفنها.
النور: فما بالك إذًا بنا نحن الذين نحمل أجسادهم؟!" ص55
تزداد جرعة التشويق والإثارة والمتعة بعد أن انكشف لنا الغطاء عن قدر من الغامض في حيز الزمان والمكان، ولكن سرعان ما يعود الغطاء مرة ثانية، إذ نجد حوارًا بين طرفين غير مألوفين، هما (النور) و(قرينه) لا ندري دلالة النور هنا، هنا يحدث نوع من التجريد للمفردة كي تكتسي بمعنى آخر وعالم جديد، تكتسب فيه أبعادًا غير أبعاده المألوفة. ووحده الحوار الذي يمكن أن يكشف عن حقيقة النور. ومع ذلك الحوار يمارس نفس اللعبة معنا: الوضوح والخفاء أو الإخفاء.. إذ إن الحوار يلمح ولا يصرح، ويتركنا للاستنتاج، ويترك من الثغرات والفجوات ما يجعلنا نذهب أكثر من اتجاه، وهذه كلها علامات براعة تشد المتلقي في هذه القصة، لأنها تفتح أفق التلقي على احتمالات عدة، ومن ثم تجعل كل قارئ يكتب النص من جديد أو يعيد كتابته في أفقه الخاص.
.......................................................................................
أكتفي بهذا كنموذج دال، وأبارك للقاصة صدور عملها متمنيا لها مزيدا من التوفيق والتألق والنجاح، محييا إياها على هذه القصة البديعة بشكل خاص بما يليق بقلمها.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...