د. نجاح إبراهيم - قراءة في ديوان (قبل أن يستفيق الضّوء) للشَّاعر والأديب السُّوري مصطفى الحاج حسين .

مثلُ تراتيل موشاة بالسّذاب المقدّس ، تبدو قصائد ديوان” قبل أن يستفيقَ الضوء” للشاعر ” مصطفى الحاج حسين” إذ تنبلجُ من أسمى المطالع : العشق والجرح.
فالشاعرُ يرشحُ عشقاً ظهر له كليلة القدر، ليختزلَ ما جبّ من أعمار قبله راحت هباءً وعناءً، فيرهن المداد والنفس والرّوح له. يسخّر الحبر، يؤرّثه خلوداً ، يكتبه قبل أن يكتبه غيره، وهل أقدر من الشاعر على رصد حالة نبيلة تمورُ به؟!
إنّ المتتبع للتواريخ التي أُمْهرتْ بها القصائد، لوجدها كُتبت جميعُها في وقت قصيرٍ متقارب ومتلاهث، وهذا يؤكّد أنّ في داخل الشاعر بركانٌ ثار دفعة واحدة نتيجة انصهار كبير وضغط أكبر.
وثمّة عوامل كثيرة أسهمت في تشكيلها ، لعلّ أولها: موهبة وثقافة الشاعر ،وعهده بكتابة السّرد ، وثانيها: الألم النابض ، المتدفق الذي يفيضُ في عروقه، والذي لا يمكن أن يظلّ خبيئاً أومخنوقاً ، فالألم كما يُقال يصنعُ المعجزات ، وعند المبدع يغدو إعصاراً هائجاً ، بركاناً لا يقف في وجهه شيء، عطاءاً لا يُحدّ من التبريكات.
وثالثها :حبٌّ عظيم نضجَ بسرعة الضوء ليصير عشقاً كبيراً يوازي عشق وطن غادره الشاعر قسراً، ولم تختف رائحته من مسامه ، بل ظلت تفضحه وتنمّ عنه.
ورابعها: أنّ الشاعر اتخذ الشعر صهوةً لتعبيرٍ راقٍ أراد أن يجسّد حالاته الجوّانية ، فجاء سلاحاً كما سلاح الفقراء في ليل الهزيمة كما قال البياتي عن الشعر.
فلولا الشعر ، ولولا تلك القصائد الرّاعفة لكان “مصطفى الحاج حسين” يتيماً ، مقهوراً أمام غليانه الدّاخلي واحتقانات مشاعره، لأنه مستلب ومأزوم ، وموجوع حتى الترمّد، يعاني اغتراباتٍ عديدة . لهذا أراد وبإصرار أن يتقن لعبة اغتصاب العالم بالكلمات ، بل مفاجأته وخطف ذهوله، ثم غناءه تراتيلَ على فوهة جرح ما يزال يرعف أنيناً صامتاً ، نبيلاً وموحياً:
"أقضمُ الوقت
غريباً
أنزفُ العمر
شريداً
أبعثرُ أدمعي
على سفوح الآلهة
والأنين ..”
في الدّيوان اثنتان وخمسون قصيدة نثرية، ترسمُ كلّ واحدة لوحة خاشعة أمام صلاة ، زاخرة بالضوء والأقمار والمطر واللون والعشق، بطلها الشاعر، يتقمّص الذات العاشقة ، المتيّمة ، والمتسربلة بالمعاناة والألم والحبّ:
”أحتطبُ قهري من حقول الرّوح
وأجمعُ أسراب عذابات الحنين
أفنّد نبضه من آهات الشوق
وأسألُ عمري عن دربه
الذي أطاح بخطاه
عن مفترق الضلالة..”
من اللافت أنّ الشاعرَ يعملُ على كتابة قصيدته بشكلٍ مغايرٍ ، ولعلّ ما يشي بذلك، اللغة الشعرية الرّافلة بحضورها البهيّ ، حيث يقوم بتحريرها من التقليد بممارسة أسلوب التكثيف واعتماد الرّمز والتنويعات الدّلالية التي لا يحدّها حدّ ، والتي تدفعُ إلى الأسئلة باستمرار ، والرّغبة في الكشف، خاصّة وأنّ الشاعر يعزفُ على وترِ شعرٍ ذي بنية فنيّة قويّة، وأبعاد ذاتية وموضوعية ، بأسلوب تلقائي يأتي كماء نبع ، وإحساس بارق كشهاب. فجاءت كتابته مختلفة لأنه يرى العالم برؤية أخرى في تفاصيله وموحياته ، والرّغبة المستميتة في تقديم صور مُدهشة للحياة ، ومفرداتها ، وجماليات انبعاثاتها ، وما تثيره الذات المبدعة من حسّ جماليّ يناضلُ الشاعر ليحيلها إلى خطاب يرتقي بها عالياً ويتمايز من خلالها:
” سأمضي إلى عطشٍ
أسقي منه ندى أيامي
وأرشّ الماءَ على الليل
ليغتسلَ
وأبللَ جذوة الوقت
فقد تيبست أصابعُ الحلم ..”
لم تكتفِ قصيدةُ الشاعر “مصطفى الحاج حسين” في أن تتميّز بانفلاتها من القوالب الشعرية، بل ارتأت أن تستقل بلغتها الخاصّة وتعابيرها وصورها التي اختارها بفنيّة فائقة لتطير في فضاءات تجدّدها ، فعملية بناء اللغة التي قام عليها في جملته الشعرية ليست بالأمر السهل ، إنه يؤرّثها من دمه لتتسم بالمختلف من حيث التعبير .
القصائد تدورُ في فلك الحبيبة التي يلاحقُ الشاعر خيوط انسرابها فيه ، فهو كالفراشة التي تلاحق الضوء وإن احترقت به ، المهم أنها تبغي نهاية نبيلة ومؤثرة، بينما لا نلمح تبادل المرأة له بهذا الشعور. أراد أن يُبقيها بعيداً ، غير متفاعلة كي يبقى معذباً ، متألماً ، متراعفاً، وحالماً في ملكوت الاحتراق، ولو أنها بادلته الحبّ لاكتفى بذلك، ووقف عنده، ولنضب نسغ تدفقه:
” أحبيني
لأحبّ نفسي
وأرى العالم أجمل
وأنجو من موت يلاحقني ..”
بيد أنه يرغب في أن تحبّه ، لأنه سيرى اختلافاً في الوجود، وسيعيد للعمر هسيس الضحكة ، وسيُدخل الفرحة إلى بابه. بينما نجده في قصائد أخرى يلوم قلبه على ما يعتمل فيه من حبٍّ يتعاظم كلّ حين، فيزجره ويرغمه على السكون ويصفق بوجهه الأبواب.
ويستمرئ هذا الحلم في صدّ وردّ ، يشتعل لائباً على همسة منها ، كسرة دفء في صقيع الغربة ، ابتسامة تحيي فيه الرّوح الغاربة. لينتهي الحلم برؤية وجهها فقط ، يتمنى أن يشرق عليه ليشهد على انهياره الأخير، يهديها انهزامه وينتعل الرحيل ويمضي:
” سأهديك انهزامي وأرحل
وأوزع حسرتي على شبابيك السخرية
أدركت بعد عمر ونيف
لا شيء يجمعنا سوى الألم
القاسم المشترك بيني وبينك..”
إنّ معنى عباراته في القصيدة يهمي كمطر حامضٍ لا يعرف التوقف، معنى له أبعاد راعفة ، فدلالاته شديدة الاشتعال، ينضحُ بما تفيضُ به الرّوح ورغبتها الحثيثة في الحياة المأمولة والقضاء على الغربة التي تكاد لا تخلو قصيدة من لذوعة طعمها، والتي ولدت من جرّاء حرب على وطن الشاعر، فصنعت منه مغترباً ما كان راغباً في أن يكونه ، وإنما ظروف قاهرة حملته إلى أن يغادر الحدود ، وقلبه وروحه ينظران إلى الوراء حيث حبّ يتدحرج على أرضه المغسولة بالأرجوان والأنين. لينتجَ عن هذه الغربة اغترابات شتى ، جعلت منه ذاتاً لائبة، مأزومة ومتألمة:
” هو الاغتراب اللعين
سأمشي
حيث لا جهة تودي إليك
ولا شمس
تشرق من صوبك
وحيث
قلبي لا يعرف العودة
سأحمل غصتي على ظهري
وحزم أشواقي الناحبات
وأجر روحي عنوة..”
وعلى الرّغم من انشغال القصائد بموضوعة الحبّ ، إلا أنها تشفّ حزناً وتبدي مرارة ووجعاً لما لاقاه الشاعر من فقد للأحبة وفراق أصدقاء ، و نزول محن وفواجع وخراب نال من البلاد ، فعزف على وتر الألم اللامنتهي ، لهذا فمن البديهي أن تحملَ القصائد رائحته ، وطعم ما يفرزه الواقع من أوضاع يُعاني منها كفرد ينحلّ في الجماعة المحترقة، وذلك من خلال عملية إبداع ينتضي الشاعر دمه وسيفه ليرسمها بحدّه الوهاج، لتنعكس رؤيته بوصفه الخالق للقصيدة ، لهذا فإن ماتعاني منه الذات إنّما هي معاناة شعبٍ ووطن:
” ومازالت تقاوم
توحّد العالمُ على قتلها
الصديق
قبل العدو
كلٌّ يدمرُ ما يرغب فيها
ويقتلُ من شعبها ..”
تختلف القصائد التي يتناول فيها الشاعر وطنه ومأساته وحربه ، نجده يشفّ فيها وضوحاً ، يخفف من اللغة الشعرية التي يمتلكها ، يترجل عنها ليقارب بؤرة الغُصة والوجع ، فتبدو القصيدة سهلة الفهم ، سلسة، تنز ألماً. بينما فيما تبقى من قصائد حملت مواضيع أخرى نجده يمتطي زقورة بنائية سردية مغايرة ، محتفية به كنبيّ صغيرٍ قادرٍ على مزج ما بين مخيال وواقع من خلال لغة متفردة تشكل جسدها اليانع الرّافل بالإيحاء . ومع ذلك وعلى الرّغم من حجم الانكسارات التي فرضتها الحرب ، واغترابه الموجع، حاملاً تشرده وضياعه على أرصفة بلاد باردة الوجه ، سميكة القلب والجلد ، إلا أننا نلمح صبره ، واتقانه في رسم أفق للنجاة والأمل ، ورغبة في مصير مريح، وهذا يدل على وعي الشاعر وقدرته على التعبير من خلال قصائده التي تنفتح على أسئلة متناسلة ، وما هذه التساؤلات إلا مرآة تعكس قلق الشاعر وبحثه الحثيث عن إجابات مضنية أراد أن تُغني بناءه الفنيّ لأنه في حركة دؤوبة تشبه التمرّد المستعر ، يمتطي الشاعر صهوتها من أجل الخلاص الذي يرتئيه ، واطمئنان الإنسان الذي فيه، وولادات الذات المبدعة التي يمارس مخاضاتها. ماضياً بنا إلى مطالع الضوء لتمنحنا قصائده استيحاءً فريداً لواقع يتشظى احتراقاً ورغائب مقدّسة تبْرَع في ارتداء الحلم .. في هذه القصائد وفي تلك..
وبين ضفتيّ ” قبل أن يستفيق الضوء” من هجوعه نقبضُ عليه ، على شاعر مسكون بالشعر، يقدّم بوحاً ذاتياً وموضوعياً ، فيجيء صادقاً لأنه يخاطب الإنسان ، بأسلوب يبحث عن الاختلاف من خلال لوبانه عن عشق له صفة الدّيمومة، عشق الحياة ، النفس ، المرأة ، يوقدُ من خلاله معنىً نبيلاً ، وانفتاحاً على أمل وحلم، ليناهض الخراب الذي ملأ أرجاء وطنٍ محترق . إنها مسؤولية الكلمة التي يحملها الشاعر على عاتقه ، مسؤولية قطف الجمال واللهاث نحو عبارة يأتي بها عابرةً ملامحه القديمة ، وصولاً إلى بوابة المغاير والجديد ، وهذا ما جعلها تتجه صوب فضاءات مثيرة ورحبة .
نجاح إبراهيم .
======================
** ديوان : ( راية النّدى ) ..
للشاعر والأديب السوري : مصطفى الحاج حسين .
بقلم : الأديبة والشاعرة والناقدة : نجاح إبراهيم .
شاعر يشفّ ندى ..
هل أقولُ
الحقيقة ؟
=============================
وأعترفُ أنني أدمنتُ قمحَ قصائدِ الشاعر” مصطفى
الحاج حسين” كما يدمنُ الجائعُ المهووس بخبزِ
البلاد !
من أوّل قصيدةٍ له ، أعلنتُ قسمي، ألا يبرحني صدقُ
إحساسه ، ولا نبلُ عواطفه ، ولا ألمه العميق ، ولا
قلبه المحشو بالنقاء والجراح، ذو الملامح البريئة
كقلب يمامة تشتهي الأمان.
لن أغادرَ قصائده وإن استعطفتني قصائد تأتي من
جهات مختلفة، فهو الشّاعر المُجدّ، المواكبُ لكلّ
نسمة تأتي بالبشارة ، فتزيل ما تراكم من على
الأجفان.
كلُّ صباح أفتحُ عينيّ لأجدَ الشاعر منكباً ليله على
نصّه ، يُطعمه آخرَ قطرةٍ من الرّوح ، وفي المساء
يختزلُ الوجعَ ليغزله نصاً جديداً يرسله في آخر
الأوقات المستغيثة بحفنة هدأة ، وهكذا دواليك..
فكيف أغادرُ هذا الترف الموجع؟ على الرّغم من أنّ
قلبي رهيف لا يحتمل الألم ، فما فيه يفيضُويتنابعُ ؟
فإلى أين أذهب من هذا الحصار الندي؟ وكيف أغادر
الاحتفاءات؟
مرات استقبلتُ ما يرسلُ بكاءً صامتاً ، يصعبُ أن
أحدّ سيله بأصابع مرتعشة!
ومراتٍ حاربتُ ذلك، بالتجاهل المتعمّد إلى حين، كي
أصونَ هذا القلب الصغير من الوجع:
” الآن عرفت
لماذا القمر يدور حول الأرض
إنه يلاحقك
أبصرته كان يسترقُ النظر
يراقب تحركاتك باستماتة
ويلتقط لك صوراً ..”
وما كنتُ أدري أنني أبتعدُ عن الدواء إلى داءٍ ، وما
كان الدّاء إلا الدواء!.
وحين كان يتأخرُ بريده وقتاً ، أتذرعُ بالصّبر وأفشلُ
في تحمله ، أتذرعُ بالكتابة وأفشلُ، ليس فيها وإنّما
بنسيان ما أنتظر، علماً أنني أدرك أنّ الذي أخّر البريدَ
هو بكاء الشاعر، وتعاظم اغتراباته ، وحنينه المغروس في الحبر صفصافاً يدقُّ أجراسه، ليعزفَ سيمفونية القهر والشوق والغُصص، وأعرفُ أنه- كما كلّ مرّة- في حوار مع نحيبِ الجهات ، يحاصره الخرابُ الرّوحي، وأنه يحاولُ أن يصالحَ نفسه لتتواطأ مع ما يشعر به ، لتنبلج قصيدة تسافرُ منه إليّ:
” حاور نحيبَ الجهات
تكدّس خرابُ الأفقِ
في صوتك
وتراكمت المسافاتُ الخائبة
من أجنحتك العرجاء
وهامتْ بك الأوجاع..”
أعرف أنك في هذه الدّائرة، وأتجاهلُ ما أعرفُ،
لأصبرَ وأنضحَ شوقاً لما يجيئ.
أريد للصفصاف أن يعلن قياماته مع الرّيح، وللكرزِ أن
يُزهرَ، وللضوء أن يُثمرَ.
لهذا أودُّ أن أهمسَ في أذنِ الشّاعر، وأكتبَ بشكلٍ
غير متعارف عليه في كتابة المقدّمات ، ليشكلَ
همسي شاطئناً، أو جسراً يمتدُّ من دهشةِ ما بين
عينيّ ودمي اللاهب ، وما بين القصائد المترفة
بالألم والرغبة في السلام، وأصداف من أريج محبّة،
وأسراب يمامٍ يعلو، ويعلو، ثمّ يحطّ على قلعة
الإباء ، يشي بما حمّله الشاعر المنفي بسربالِ
الاحتماء إلى أمانٍ مفقود، وداليةِ شوقٍ ، وشجرةِ
بيلسان تسّاقط شموساً وفراشاتٍ وصوتاً معشّقاً
بالحبّ ، وكفين فيهما من سنابل البلاد..يا للبلاد!
كم فيها من رائحةٍ تعبقُ في قصائده ، تجعلُ القارئَ
يسجدُ عند عتباتِها، وفي الصدر تتلى سِيَرٌ، تبدأُ من
أوّل رُقمٍ طينيّ، إلى ما بعد دواوين الدّم الظامئ
لملحمة الهوية، والوطن الذي يبقى ما بقي الإبداع:
” كلُّ المدائن
خُلقتْ من ضلعكَ
سيقولُ المؤرخُ:
كانت عصية على الغناء..”
فالشاعر يمضي حاملاً الجرحَ ساريةً، يقبعُ الحزنُ في
حنجرته ، ويكثر الشوكُ في طريقه ، وعيناه يَسكنهما الصّمتُ ، ويبقى كالقديسين في محراب القصيدة ، يؤرّث عسلَ الكلام، أميراً للحرف في زمنِ انهياراتِ القيم ، يستمطرُ من نداه كلّ برهةٍ قصيدة، تنقذُ ما يتماوتُ فيه ، تحيي رميمَ الوقت ،ولكن لابدّ من المرورِ بأزقةِ الموت، ودهاليز الألم كي يدلج إلى ساحات الحياة. لا بدّ من العتمة لكي يبهرنا مطلعُ الشمس، لا بدّ من الظمأ كي ندرك عذوبة الفرات ، فيا:
” قلب النور
ستنتهي المأساة بالفرحة
ويعمُّ الغناء..”
وأنا لستُ أنظرُ أمام مواتك وانبعاثاتك أيّها الشاعر ،
وإنّما هي روحي المؤمنة بك ، وبما يتقاطرُ من مداد
قصائدك من ندىً، فسيّد الانثيالات أنت ، وحامل
راية الندى. وزّع علينا من غدقكَ ما يجعلنا ندهَش :
” وزّع عسلَ الشهقة
على جسم التلعثم الباكي
سيّد العشق أنت
إذ تمطر بالاكتواء
ناسك العفّة الوارفة بالياسمين
ذائع الحبّ النبيل..”
هي قصيدتك المكتظةِ بالوهج ، ونبضك الممتلئ
بالشوق، وقدَرك تمشيه فوق الجراح ، يكتبُ لك
طريقاً ممتدّاً فوق الدّمع ، لتغني القصيدة الحلم،
وتمشط شعرَ الشمس.
فمن منكما يستطيعُ مغادرةَ الآخر، وقد سكنتك
كأنثاك، وأنت تسكنها خالقاً وباعثاً؟
كلاكما يحتفي بوطنٍ سُقي بروح الله ، لهذا تسامى
فيكما ، ورحتما معاً تتباريان على رسمه ، فيجيئُ
الوطنُ راعفاُ بالدّم، وتارة بالقضاء والقدر وبآياتٍ من
طهر ، وأخرى من ضوءٍ وعشقٍ وعشبٍ وجرح و..و..
ياااه!
مصطفى الحاج حسين!
أيّها الشاعرُ الصّامت ، المُضمخُ بحزنٍ عميقٍ ، تشهد
عليه أخاديدُ الوجه ، ومساربُ القلب، والمسافاتُ
التي يناظرها كلّ صبح ، والحلم الذي يشكله عند
مطالعه ، والوحدة التي تدعوه لأن يكتب. هذا ما
جعلك قادراً على سكب ما في ذاتك في القصيدة ،
يا أيها الشاعر، الذي يسكب ذاته في قصيدة!
فتبعثُ فيها إثارة ودهشة وشمولية ، تبحثُ في كلّ
منها عن شكلٍ جديدٍ ، أنت الذي تسألني عقب كلّ
قصيدة : هل جئتُ بجديد؟
أظنك تقطف الإجابة من سؤالك لأنه مأزوم مثلك،
ولاهثٌ إلى شرفات الشروق. إنك لتأتي بما هو
جميل ، شكلاً ومضموناً ، وتُلبس كلّ قصيدة وشاحاً
ملوّناً. بالله عليك كم عدد الأوشحة التي صارت في
حوزتك؟! هل وصلت الألف ؟
قد اكتمل المهر إذن ..اعقدها واصنع أفقاً من ألوانٍ
تضاهي به ألوانَ قوسِ قزحٍ ، لنزفّك إلى حورية
الإلهام التي تنتظرك في (حلب) ، فتؤجج الحدائق
والغابات التي تتحرك أمام عيني كلّ متلقٍ؟
أجدك تسأل غير مصدقٍ، أنّ قصائدك تحرّك غابة من
الدّهشة والشفافية؟! هي على شفافيتها متعدّدة
الطبقات النصيّة ، قابلة لأن توقظ الرّؤى، فتنثالُ
القصائد رائحة ولوناً ، بحيث تأخذ المتلقي إلى
فضاءاتٍ من ألوان راقصة :
” يا طائر الفينيق عجّلْ
هذا الرّماد فتنة بلادي
هذا الدّم نزيفُ دهشتنا ..
امدد يدك لرائحةِ النهار
فكّ أزرار الشهوة الرّعناء
حطمْ أغلال الموج..”
ثقْ بي ولا تكنْ مثلَ “ماكبث” الذي ظنّ أنّ غابة “
بريام” ثابتة، في حين أنها كانت تتحرّك! وهل كانت
زرقاء اليمامة تكذبُ؟!.
تلك قصيدة مصطفى حاج حسين. تقرع أبوابَ
الرّوح، فتُدخِل إلينا الفرحَ، والضوءَ، والنبيذَ والوجدَ،
تدفعنا لأن نفتحَ أعيننا المندهشة .
وتلك ذاته الشاعرة، المفعمة بصورِ البّهاءِ والجمالِ ،
والتي تقفُ حارساً أمام بوّاباتِ الحَرفِ النبيلِ ،
والغابات التي تتحرّك فينا ، فهل صدّقت كيف
تتحرّك الغابة أيّها الشاعر؟إنك تعتلي رايةً من ندى ، تبحثُ في كلّ نصّ عنطريقة للخلاصِ والأملِ ، والرّغبة في التوحّد مع النصف الآخر، مع المرأة والاتحاد بها ، لتشكلا كوناً مفعماً بالرّوح والأسرار.
هي رغبتك واشتهاؤك الأكيد ، بشغفٍ تكتبُ عنها ،
تمتطي حلمَ اللقاء ، وصولاً إليها، إذ لطالما بوّأتها
مكانة رفيعة ، فحضورها يُشبه رؤية ليلةَ القدر،
لتأتي القصيدة هاتفة بسحرِها ، تدفع كأس نذرها ،
نخب الألوهة العابق:
” ينحني لك نبضي
بخشوعٍ جمّ
يُقبّلُ أصابعَ عطرِك
ويقعدُ فوقَ سجّادة الابتهال
يرنو لعينيك
بعطشٍ طائشٍ
أيتها الأنثى
المخلوقة من نور
في راحتيك يسكنُ لهاثي
ومن على بُعد المدى
يتناهى إليّ ما فيك من بهاء..”
هي المرأة المغايرة، التي تأتي فتأتي معها الأقمارُ
والنجومُ والهمسُ المقدّسُ، والفرح بلونِ عشبٍ
مندّى ، لا تستطيع فصلها عن عشقك الآخر /الوطن
الذي صعب علينا أن نفرّق بينه وبينك ، وبين
حبيبتك.
الوطن الذي شكّل لديك هاجساً يتعدّى المسافات،
تتراءى لنا نغمات ترصدُ صوراً لداخلك ، إشعاعاً
يتنافرُ إلى الخارج ، إلى جسدِ القصيدة ، رافلة به،
هاجساً كان بذرة، ثم نبتت، فأورقت، وتجذرت مما
ألمَّ بالوطن وبك ، فأثر كلُّ ذلك فيك تأثيراً عميقاً،
ولم تستطعْ أن تواربَ تلك الموجات أو تسترها ،
حتى تراكمت وانفجرت. تلك هي رحلة هاجسك
الأليم ، أن يعود الوطن إليه الأمان ، والبهجة إلى
المهجة ، أن يعود إلى أبنائه ، إليك ، طاوياً كلّ
اغتراب وغُصّة وضياع.
أجدك تصلي مغمضَ العينين، تقولُ في سرّك: ليت
هذا يكون.
ولكنه لن يكون إلاّ كما أردتَ أن يكون ، في الشكل
الذي ترتئيه، والصياغة التي حلمتَ بها. لكن سيبقى
الهاجسُ متنامياً، فما لديكَ من نماءٍ غريبٍ في داخلك لن يضمحل ، هاجسك اللا ينفك يتوالد ، آنى له أن يغادرك؟! .
أتدري لم؟ لأنك شاعرٌ مسكونٌ بالأوجاع وبالندى.
ولأنّ عندك رؤية وشعرٌ ، وهل ثمّة شعر دونها؟
كثيرون من الشعراء لا تتوفر لديهم فيما يكتبون ،
لهذا نجدهم أمواتاً، بينما أنت ستبقى على قيد
حياة . لأنك زاخرٌبها ، لديك الشمول ، والعمق والحلم
والقدرة المذهلة على التخيّل ، إضافة إلى الموقف الواعي. وعلى الرّغم من أن الرّؤى الغالبةعلى قصائدك هي رؤى سوداء ، بيد أنّ الأمل والبشارة موجودان في عشقك الكبير لتلك المعشوقة، التي استطاع أن تماهيها بالوطن،وبالمدينة الأثيرة لديك ألا وهي حلب.، حيث تأتلق كمكان داخل القصيدة ، ولأنها واقعة في ضيم الإرهاب ، فالشاعر الذي تكونه قادرٌ على التأثير
والاقناع ، ودلالات المكان لا تغادر عشقه له، فمنه
تأتي البداية وإليه تنتهي الطرق والدروب، وما بين
الأمرين رحلة اغتراب وضياع وألم وحنين وأمل
كبير بحجم حلب .
ولعل ما هو لافت، ثمة وحدة عضوية في كل قصة ،
جلية الملامح ، يانعة الاشراق ، مكللة بلغة متجدّدة ، تسعى كما كلّ مرّة بحثاً عن الانتقاء واختيار اللغة المعبّرة ، والصورة المكتحلة بالانبعاث، لتأتي القصيدة بعشقٍ تحبّر بياضه الأليم،بما يمتلكُ من فطرةٍ شعريّة ، وأفكارٍ منمّشة بجراحِ الواقع وغبار المعاناة ، وشقوق الوقت ، يكتبها بسهولة ودون افتعال أو احتباس، تهدلُ في وجداننا دون استئذان ، راتعة بجمالياتها ، نلامسُ فيها بساطة التعبير، على الرّغم من رمزيتها وعمق إيحائها ، ولعل ما يُدهشُ أنها تختمُ دنانَ حضورها.بالتفاؤل والحبّ السّامق.
فيا أيّها المصلوبُ على رايةِ الندى !
كلّ القصائدِ تتقاطرُ منك ، خطواتٍ في طريق
الضّوء، لتجعلَ منك فاتحاً قديماً على بوابات الألم
النبيل .
كلّ الأقصية تأتيك، أنت الذي تغرّب وما كان يرغب ،
فجددتك القصائد انتماء كل حين إلى الجذور ،
وصارت العناوين تأخذ عناوينها بفخرٍ ، حملت سيفاً
لتواجه به ظمأ الرّحلة ، وأشواك الطريق وعراء
الطريق، فنبتَ قدّاح على خدّيه ، ورفعتَ وأنت
مفعمٌ بالجراح راية الندى.
ياصاحب الندى !
سلامٌ لقصائدكَ التي أحالت السّكاكين إلى عشب وندى، والظلمة إلى فجرٍ، ومواسمَ الحداد إلىأغنيات خضراء.
لاهفة كنتُ وسأبقى إلى سحر عبارتك ، إلى مطرك
اللا يقف ، إلى عطاءاتك ، أحسني حين أقرأ قصيدة
ما لك ،أنني أقرأ شعراً له سحر وغواية، منذ عهد
آدم واغواءات الشجرة وهي تصعد في شرايين
الشهوات، تحملها في جيناتك ، تشعلها ناراً وإبداعاً
لا ينطفئ . أتخيلك تطرق برأسك حياءً ، بيد أنني
ما غاليتُ بما باحَ حبري في حقِّ قصائد لها اشتعالُ الندى.
نجاح إبراهيم .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...