د. أحمد مجذوب الشريفي - د.سيد شعبان.. الكتابة بسرد متقطع و الاخراج الدرامي.

كتابات سيد شعبان عندما تقرأها تجد نفسك قد دخلت في متاهات ، فالنص عادة متشعب الأحداث ، دروبه قصيرة ، يقفز بك من حدث ليقربك الي حدث آخر ثم يبعدك تماما من الحدث الأصلي ، قبل أن تلتقط أنفاسك تجده قد أعادك الى حدث سابق فلاحق فسابق حتي تجده قد أوصلك الى فكرته الأساسية التي بني عليه نصه ، اذا يجعلك تنازع الروح بسرد عجيب فتحتار أيكتب قصة؟ ، نعم هي كذلك و ان ابتعد بها عن القواعد المعروفة و لكنه يحتفظ بها بطريقته الخاصة. ثم تبعد القصة كلية من تفكيرك و أنت تقرأ لتقول لنفسك لا هذا سرد لأحداث نمت وتطورت من حدث واحد أو قل لا شيء ، يجلس السارد فيكتب ، أي شيء ، لا يهم في البداية ، سرعان ما تتجمع لديه مقاطع توحي عن موضوع فينتهي لتجد سردا به شيء من قصة و شيء من سرد ، رغم أن السرد من أساسيات القص و الحكي عموما ، يبقي كيف نستطيع أن نوظف هذا السرد ليخدم القصة ، كذلك المقال ، حتي الحكواتي و هو يجلس أمام مستمعيه له أسلوبه الخاص في سرد ما يحكي فيجذب من يجذب و ينفر من ينفر ..
اذا تتميز كتابات د. سيد بالتجزئيي و التقطيع غير المترابط (ظنا) ، لكنه مترابط من حيث الانتقالات بين الأحداث التي تعبر عن روح المكان بكل حركاته و انفعالات مجتمعه ، و كأنه يفلت الحبل من هنا ليقبض ذاك الحبل ، فالمجتمع الريفي حركي ، فحدث هنا يربط حدث هناك "وحدة موضوع" لكنها تختلف في فهم د. سيد فوحدة موضوعه "الريف" ، "القرية" ، شخص واحد ، لكنه كأنه يمثل القرية كلها ، الهم واحد ، الفكر واحد ، الأكل واحد ، كل نمط الحياة واحد ، هذا ما يبدوا واضحا في كل كتابات د. سيد السردية
و على هذا أسأل.. د. سيد شعبان أستاذ جامعي ، سكن المدن داخل مصر و خارج مصر ، لبس البدلة و الكرافتة بكل أناقتها ، الا أنك عندما تقرأ سردياته ، تجد الانسان الريفي بكل مدلولاته العميقة المتجذرة في البعد الريفي ، فحكاياته التي يسردها و مواضيعها ووحدة موضوعها موغلة في التراث الشعبي و الفلوكور المحلى ، نعم هو يفصح عن هذا بصورة مباشرة ، لأنك تجد انسانه و موضوعه بسيط ، معفر بالتراب ، موشح بالطين ، متسربل بما يلبسه جديدا كان أو قديما ، و اغلبه قديم ، منغمس في عالم السحر و الدجل و الشعوذة ، و أولياء الله الصالحين ، يرتدي الطين ثوبا ، يلفحك عرقه النقي الذي لا تشم رائحة العفن فيه ، فهو عرق فلاح ، عامل بناء ... الخ ، لاستمرار حركته لا يركد عرقه ، فتبخره الشمس سريعا ، ثم تتجدد جداوله ليخر في الجسم عرقا جديدا..
سرديات د. سيد شعبان تصلح لعمل درامي فكاتباته قريبة جدا الى كتابات السيناريو ، و انتقالات الكاميرا و مقاطع الصوت بكل مؤثراته ، يظهر ذلك جليا اذا قرأت بحواسك كلها و انت تستحضر المشاهد و كيفية معالجتها بقيادة مخرج خبير.
فمن سردياته "حدث مرة" نجد هذا الترابط في شخصياته " وإمعانا في الغرابة؛ ارتديت تلك الثياب، صرت رجلا آخر، احتفى بي المارون، بالغوا في احترامي؛ جاءوا إلي بحصان أبيض أركبوني فوقه، تجمع العشرات حولي، صاروا يتنادون: لقد عاد عرابي من جديد، أتحسس وجهي فإذا شارب كبير قد نبت، رأسي يعلوها طربوش سلطاني أحمر، أحقا عاد عرابي؟ "
لنقرأ من "رجل يسكن القمر" ونادرا ما يحدث هذا؛ يقال إنها شجرة تحفها عناية الله؛ تربض تحتها جنية منذ مئات الأعوام، جلس تحتها قطز وبيبرس يوم أن هزموا جحافل التتار، آوى إليها عبد الله النديم حين اختفى عن عيون الوشاة؛ في بلاد يتجمع فيها الفرح والقهر في مشهد واحد؛
و نقتطف من "التائه" (طافت بي أمي عيادات الأطباء، أزارتني مقامات الأولياء، ثم بعد غادرت الدنيا ولما ترى لي لسانا مثل كل الأطفال) لا ينتهي توهان السارد هنا بل في رجل يسكن القمر تستمر حالته كتائه " سرت أشبه بريشة تذروها الريح، هل أنا التائه من عالمه أو الهارب من أيامه؟ "و كذلك " جئت إلى هنا وحيدا، لم يكن يسمع بي أحد، في عالم مصاب بالجنون تبدو الأشياء بلا نفع"
اذا هكذا د. سيد شعبان ، عيب سرده أنه لا يخاطب العامة ، و كذلك لا يخاطب الخاصة ، اذا من يخاطب ، في تقديري يخاطب نفسه ، فيكتب لي بصوت مسموع ليفرغ تراكمات مجتمعات ريفية عاشها ، أشخاص علي هامش الحياة مر بهم أو مروا به ، لهذا قلت سابقا يدخلك في متاهات ، و متاهاته ليست اعتباطا لأن حياة هولاء الذين شغلوا فكره فكتب عنهم ، نفسها متاهات ، فالعامة لا يستهدفها بكتاباته هذه ، فالنتاهات التي يكتب بها تجعلهم يجفلون من القراءة و قد يحدث لديهم حالة من "الغبش الفكري" ، و لا الخاصة ، لأن للخاصة قواعد يصعب الخروج عنها فتكثر تساؤلاتهم ،عن و عن فيحدث هرج ذهني ، و علي هذا يتحاشي د. سيد هذا و ذاك فيكتب أو كأنه يكتب لنفسه ، محتفظا بمسافاته الجمالية لكل حالة سرد.
و قد كتبت سابقا في قراءة لقصته (التائه)..
بين تفاصيل هذا السرد تتشكل المسافة الجمالية التي يقدمها هذا السرد ، بوصفه جنساً سردياً، تتحدّد هويته الفنية في تشكيلات العلاقة وماهيتها بين السرد والتلقي ، و ما هو متروك للقارئ المتلقي وفق مزاجه و ثقافته و اهتمامه ، فتمدّدت الدلالة باستخدم اسلوب الاستدعاء الحر ، و هو التذكر الحر أو الاسترجاع الحر هو نموذج أساسي في الدراسة النفسية للذاكرة. وهنا هو ذروة الصراع المتشتت في هذا السرد ، من هنا قاد د. د.سيد شعبان نصه بتمدد دلالته و لم يضيع البوصلة بل فتح لي كقارئ استدعاء حر من خلال صور ومواقف واشتباكات ، قد تكون متشتتة ، ولكنها تلتصق بخيط خفي داخل السرد ، و هنا مكمن تميز هذا السرد ، و قد تحاشي السارد التطور الدرامي المتصاعد ، بل جعل السرد يسير بهدوء ، قائم على صراع مشوش، لأن الشخصية نفسها مشوشة تعاني من صراع الذات مع النفس و مع المجتمع..
و علي هذا عندما قرأت "رجل يسكن القمر" و " حدث مرة" وجدت السارد لديه نقاط ارتكاز كثيرة ترجعني الي "التائه" الى سرديات أخري ، من حيث الأسلوب و التكنيك الفني ، و كأن هذه جزء من تلك أو من ذاك ، او كأنها حلقات متسلسلة يختلف وحدة موضوعها رغم تقاربه الا أن المعالجة قريبة الشبه ، حيث أن السارد يتحاشي التطور الدرامي المتصاعد ، بل يجعل السرد يسير بهدوء ، قائم على صراع مشوش، لأن شخصياته نفسها مشوشة تعاني من صراع الذات مع النفس و مع المجتمع " في بلاد تحوطها العجائب من كل نواحيها، ذيل طويل يمتد مسافة ليلة ونصف، ظهر في مرآة عملاقة لطيف يتراقص عند منتصف الليل ، مطلع الشهر القمري، يلتف حول العالم الأرضي، تدور عقارب الساعة المثقوبة دائما "
هناك فراغات "نفسية" في شخصيات د. سيد ، ارتباط وجداني ، فراغ مالى "ضعف و قلة حيلة" و كذا فراغ مادي فشخصياته كأنها تعاني من كل هذا ، فيسد لها الفراغ بأولياء الله الصالحين كركن قوي يلجأون اليه فيعوضعهم ولو وهما .
أتساءل لماذا لم تؤثر المدينة و حياة الحضر في كتابات د.سيد شعبان.
عموما ...
سرديات د. سيد شعبان تصلح في تقديرى كعمل درامي ، فالتقطيع و الانتقالات الحركية من مشهد لآخر ، انتقالات سريعة كمصور يأخذ لقطات من هنا و من هناك ، نعم تكون مبعثرة ، لكن خبير المونتاج و يربط بينها دون أن تشعر بقراغات الصوت و الصورة ، بالتالي كتاباته قريبة جدا الى كتابات السيناريو ، و انتقالات الكاميرا و مقاطع الصوت بكل مؤثراته ، يظهر ذلك جليا اذا قرأت بحواسك كلها و انت تستحضر المشاهد و كيفية معالجتها بقيادة مخرج خبير.
رجل يسكن القمر (نموذجا)
في بلاد تحوطها العجائب من كل نواحيها، ذيل طويل يمتد مسافة ليلة ونصف، ظهر في مرآة عملاقة لطيف يتراقص عند منتصف الليل مطلع الشهر القمري، يلتف حول العالم الأرضي، تدور عقارب الساعة المثقوبة دائما، تتساقط أوراق شجرة الكافور العملاقة ونادرا ما يحدث هذا؛ يقال إنها شجرة تحفها عناية الله؛ تربض تحتها جنية منذ مئات الأعوام، جلس تحتها قطز وبيبرس يوم أن هزموا جحافل التتار، آوى إليها عبد الله النديم حين اختفى عن عيون الوشاة؛ في بلاد يتجمع فيها الفرح والقهر في مشهد واحد؛ أليست هي حبلى بالعجب تلده كل آونة. الخالة مرزوقة لديها تأويل لكل الأحداث التي تنتاب قريتنا، في السنة الماضية ولدت عنزة الجيران صغيرتها برأسين لم تعش غير يوم وليلة، ساعتها قالت لنا: الجراد على وشك أن يهاجم حقول القمح، لم تكد تنتهي من تناول كوب الشاي المعد فوق بقايا أخشاب الصفصاف، حتى غطت السماء تلك الوحوش الطائرة، أخذنا نضرب فوق المواعين ونحرق القش، يزداد صريخنا كلما اقتربت. ماتت ابنة العنزة، ركض حمار عمنا مسعود في طريق تسكنه حيات وعقارب؛ أقسمنا له إن حماره لن يعود، الخالة رأت ثعبانا كبيرا يمتطى ظهر الحمار؛ أنبأتنا بأن الفيضان سيجتاح قريتنا منتصف الليل، لم نعرها انتباها؛ إنها تخرف لقد تجاوزت التسعين عاما. تأخر النيل أسبوعا كاملا ومن ثم صحونا وقد صار الدقيق فتات عجين، الطيور سبحت في الماء، حمدنا الله أن الصغار لم يمسهم سوء. احتطنا لكل الأشياء الثمينة؛ نحفر في الحائط كوة؛ نختزن بها أسرارنا، عقود الزواج، حتى لا تتشابه علينا النساء بدأ كل واحد يضع وشما لامرأته، بعض الماكرين لم يفعلوا هذا، الخالة مرزوقة تفضح النسوة اللواتي يأتين ببهتان يفترينه في أثداءهن. اعتدلت في جلستها، جزاء سخريتنا منها هكذا قالت لم تشأ أن تخبرنا بالموعد بدقة؛ من يومها نتحسب لكل ما تعظنا به، هذه الأيام لديها رحلة إلى ضفة النهر الأخرى؛ لها أخت تبلغ من العمر مائة عام تقول عنها: إنها تجدد عمرها؛ الأسنان اللبنية بدأت تظهر في مقدمة فمها، نضحك لأجل هذا، جعلناه طرفتنا مساء؛ الخالة مرزوقة ستعمر طويلا؛ نحتاج إليها لتأول لنا الأحلام؛ نشعر بالأمان حين تكون معنا. لا ندري ما سيحدث لنا حين تغيب عنا، ظلت الأحلام تهاجمنا كل ليلة؛ غراب يجري وراء قطة بيضاء، شجرة الكافور العملاقة تطير عاليا حتى تستقر فوق مأذنة الجامع القبلي؛ الزاوية مليئة بأسماك القرش، طاحونة الكيال تزغرد فيها جنية حمراء، أبواب المدرسة الإبتدائية تقرضها فئران من حديد. صرنا من دون الخالة مرزوقة أيتاما، تصلها أحلامنا لحظة بلحظة؛ نشك في أنها تخايلنا بكل هذا. أغرب من كل هذا أننا نرى ثعلبا يجري وراء رجل كبير، يظهر في صفحة النهر حين يكون القمر بازغا، نخاف أن يغور الماء، اتسعت مساحة الحلم، كل سكان القرى المجاورة بدأوا يشعرون بثقل هذا الكابوس، انتاب الجميع هياج وصل بهم إلى حالة من الذعر، لا نرى الخالة مرزوقة، جاء خبر حزين: إنها تستعد لتسكن أطراف المدينة، سمع بها الحاكم، يحتازها لنفسه؛ ثمة مؤمرات تحاك ضده، يريد أن يستمر في مقعده؛ يحتسي أكواب الشاي في الشرفة العالية. عليها أن تزورنا قبل أن ترتحل بعيدا، أوصينا عم مسعود أن يعلف حماره فولا حتى يستطيع أن يجر العربة المزينة ذات المقعد المذهب والمخصص للخالة مرزوقة؛ ستأول لنا كل الأحلام المؤجلة. أشارت إلى طفل صغير يمسك بطرف ثوب أمه، يرتدي جلبابا ممزقا، يتدلى خيط من أذنه اليمنى، شفته العليا مشقوقة؛ أشبه بأرنب جبلي، تضع له أمه خرزة زرقاء في حبل تتطوح منه قوقعة كبيرة، أمسكت به الخالة مرزوقة، همست في أذنه، أخذ يتمرغ في التراب، سال ريقه ماء أشبه بمخاط أصفر، أخذ يعدو على يديه، تضرب وراءه امرأة زنجية بالطبلة؛ زغردت أمه، أخبرتنا الخالة بأنه صار المبارك أينما ذهب؛ أعطته سر تأويل الرؤيا، نتبادل القبلات، نرقص بالعصي؛ لن نخاف من تأويل أحلامنا. لدينا قائمة بها، فتيات ينتظرن الزواج، خراف تهرب من الثعالب، سيقام مولد سيدي العريان في موعده؛ سنهبه ثيابا جديدة؛ نزرع قطنا، نجني خيوطا نغزلها في نواحي البر المبارك بالنهر يعبث بجسد الدلتا، يترك بها وشيا ملونا. جاء خليفته المنتظر؛ يخرج من السرداب، نحن نسكن في قرية مباركة. لم ننم تلك الليلة، نبني له حجرة أعلى المسجد، نعطيه لبن البقرة الشهباء، نطعمه لحما كل أسبوع، نشتري له حمارا أبيض، نحوطه بزينة. حتى ﻻ يسرقه منا حاكم المدينة؛ اتفقنا أن نصعد به مأذنة المسجد الكبير، نكتب اسمه في ورقة صغيرة، نربطها في رجل حمامة، نطلقها صوب السماء، نخفيه في بئر؛ ندعي أنه سكن القمر. فعلنا كل هذا، حتى إذا بلغت الخالة مرزوقة مائة عام، أوشكت أن تظهر لها الأسنان اللبنية، أوصت به حاكم المدينة، عند منتصف الليل جاء رجال غلاظ، خلعوا باب البئر الحجري الذي يختفي فيه. أركبوه سيارة تدوي صافرتها رعبا، لم نعد نشعر بالأمان، نتبادل حماية بوابة القرية كل مساء؛ ثمة أنباء عن غول يلتهم الأبقار، يسرق النسوة ويذهبن بهن إلى ما وراء التلة الكبيرة؛ عندها ساحر له أنياب من ذهب، يلبسهن حريرا ويصرن كائنات تتراقص في صورة جنيات تلمع في مرآة. لم نفعل شيئا، بكينا ضياع أحلامنا، ومن يومها تراكمت تلك الرؤى حتى صارت تلالا من الأوهام
تحياتي د. سيد شعبان و لقرائك







تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...