من المعروف أن كل جيل يعبر عن زمنه وعالمه. فبيرم التونسي الشاعر العظيم،الذي عبر عن هموم الشعب المصري بكل فئاته، وشارك في كل قضايا بلاده بشعره السهل الجميل،لم يستطع أن يعبرعن أزمة السويس بالقدر الذي عبر به صلاح جاهين؛الذي أصبح ممثلاً لشعر العامية في ذلك الوقت.
وابتعد إبراهيم حمودة وعبد الغني السيد وعبد العزيز محمود وغيرهم من الأصوات الجميلة عندما ظهر عبد الحليم حافظ،لأنه كان ممثلا لذلك الجيل في ميدان الغناء.
لكن اثنين، في رأيي،شذا عن ذلك،وحطما هذه النظرية هما:محمد عبد الوهاب، ونجيب محفوظ.فقد عاشا في جيلهما وأجيال أخرى عديدة بعد ذلك.
كان من المتوقع أن يبتعد نجيب محفوظ بعد هزيمة يونيو 1967 ليبدأ جيل جديد تفرزه تلك الظروف القاسية التي يمر بها الوطن.لكنه ـ ولأنه حالة متفردة ـ عبَّر عن هذه المرحلة أيضا،وشارك كتَّاب الموجة الجديدة في فترة القلق وعدم التوازن التي أعقبت هزيمة يونيو 67 مباشرة. لكنه سرعان ما عاد ثانية إلى طبيعته الفنية السليمة.
ونجيب محفوظ استحق ما وصل إليه بجدارة،لأنه أخلص تماما لعمله.ففي حديث له مع إحدى المجلات؛يذكر زوجته بالخير لأنها تحمَّلت من أجله؛ وضحت بالزيارات العائلية التي تهتم بها المرأة عادة، لأنه لا يستطيع أن يستجيب لتلك الرغبة في الزيارات وحضور المناسبات الاجتماعية،لأن وقته لا يسمح له بذلك.
ولو تتبعنا مسيرة كبار الروائيين في العالم لوجدناهم يعملون عددا كبيرا جدا مـــــــــن الساعات في اليوم الواحد.فالرواية تستوجب عملا شاقا من القراءة المتواصلة والتحضير للرواية ثم كتابتها.وفي ذلك يقول يحيى حقي عن نجيب محفوظ: مما لفت نظري شدة أمانته لعمله وإخلاصه له، فهو لا يهجم على أمر دون أن يتخذ له عدته حتى في رسم الشخصيات الثانوية. إن قدرته على البصر والإبصار خارقة. وإني لتأخذني رجفة كلما تصورت حال أدب القصة عندنا لو لم نسعد بفن نجيب محفوظ.
وحكى الأستاذ الدكتور صلاح فضل في ندوة له في الإسكندرية، من أنه سأل نجيب محفوظ يوما عن أسباب وصوله إلى هذه المكانة العظيمة والمقدرة الواضحة في كتابة الرواية فقال نجيب: السبب هو المثابرة.
نجيب محفوظ لا يهتم بمتطلبات عادية تشغل سائر الناس.فقد تعطل تليفون بيته في الإسكندرية، حيث كان يقضي إجازته الصيفية فيها، فلم يلجأ إلى المسئولين طالبا إصلاحه،إنما تحدث عنه في جلسته.وربما جاء هذا عرضا،عندما سأله أحد الجلوس عن عدم رده عليه تليفونيا، فتطوع أديب سكندري،ي شاركه الجلسة وقتذاك،بالسعي لإصلاح التليفون.
وقد حكى لي صديقي حسين عيد، الناقد المعروف، إنه كان يقف في طابور لتجديد رخصة سيارته، فإذ بنجيب محفوظ في الطابور. فقال له:
ـ معقولة.سيادتك واقف في الطابور بنفسك،كان من الممكن أن ترسل أحد معارفك.
فقال: أنا قلت أشوفهم بيعملوا إيه.
يوسف إدريس، في رأيي، موهبة متأججة مشتعلة، وموهبته أكبر من موهبة نجيب محفوظ، لكنه لم يعط لعمله كما أعطى نجيب محفوظ لعمله من جهد وتعب.فإدريس كان نجما في سماء الأدب،يتعامل مع الآخرين على هذا الأساس؛ولابد أن يحاط بالعديد من النجوم السينمائية،يكون هو محط اهتمامهم بل وقاضيهم أحيانا،يشكون إليه؛فيصالحهم. بينما يبتعد نجيب محفوظ عن أشياء عديدة هامة من أجل أن تكون الرواية محط اهتمامه،يحملها معه في سيره وفي عمله – أيام كان يعمل ـ وفي جلساته مع أصدقائه وتلاميذه. فهو يختار الأماكن التي تفيده في عمله الروائي، ويختار بعض الشخصيات التي تفيده عند بناء الشخصيات في كتابة رواياته.
وقد أوضحت في قصة لي نشرت في جريدة القاهرة عن اهتمام نجيب محفوظ بشخصية غريبة كانت ترتاد النوادي الأدبية في الإسكندرية،وتحرص على مشاركة نجيب محفوظ في جلساته. وأن نجيب تعامل معه كمادة قصصية.فكان يسأل عنه، وأطلق عليه اسم " المسكين الغامض"
وتقول الدكتورة فاطمة موسى في ذلك: كان نجيب محفوظ دائما من أكثر كتابنا وعيا بنفسه وبتطوره الفني.وربما ساعده على ذلك تراثه الفلسفي القديم وتمسكه، لسنوات طويلة،بلقاءات منتظمة مع أجيال من شباب الكتاب والصحفيين وهم في أكثر الأوقات يمطرونه بالسؤال تلو السؤال عن كتاباته وآرائه،ويضعون إنجازه تحت المجهر من الفحص الدائم.
ويتضح مما نشر من أحاديثه – في تلك الفترة – أنه كان يسير في تطوره الفني مفتوح العينين، يعرف مكانه وسط خضم الأحداث.كما يعرف مكانه في خريطة الأدب في العالم ويتنبأ بالخطوة التالية في إبداعه.
سكندريات محفوظية
إنني أرى أن تطور الشكل عند نجيب محفوظ بدأ منذ أن كتب عن الإسكندرية. فأعماله الأولى رغم جودتها، كان أسلوبها لا يخلو من ملل، وتحمل تفصيلات زائدة عن الحاجة.
نجيب محفوظ محب للإسكندرية، وفي جلساتي القليلة معه فيها سمعته يتحدث عن زياراته لها أيام كان موظفا في وزارة الأوقاف.
وقد سُئلت في برنامج تليفزيوني عن صورة السكندري في الدراما التلفزيونية، وعن المبالغة في إظهار "الكاركتر" السكندري.فقلت إن هذا راجع إلى أن بعض الكتاب يبدءون الكتابة دون أن يدرسوا البيئة التي يكتبون عنها وقلت إن نجيب محفوظ كتب عن الإسكندرية فلم يأت بهذه المبالغات الغريبة لأنه يعرف العادات والتقاليد السكندرية لزياراته الكثيرة لها ولصلاته الوثيقة بالكثيرين من أهلها.
بدأ نجيب محفوظ الكتابة عن الإسكندرية بروايته اللص والكلاب فاتجه بها اتجاها جديدا على مستوى الرواية العربية.فالرواية العربية حتى اللص والكلاب كانت تعتني بالوصف الخارجي للشخصيات والأحداث وتركز على الصراع الذي يدور بين الشخصيات والمجتمع.وتركز على ملامحه الخارجية دون أن تلقي ضوءا على ما يدور داخل الشخصية وانعكاسات الظروف الخارجية على التكوين النفسي لها.
في اللص والكلاب صيغة مختبئة بارعة تكاد يتفرد صاحبها بمستواها الرفيع، فتجردت الرواية من التفصيلات الثانوية.كانت اللص والكلاب أول رواية يكتبها نجيب محفوظ بنبض ديناميكي جعلنا نغفر له إسهابه القديم.قدم لنا البطل من الداخل والخارج معا حتى يكاد القارئ يحس بوجود البطل الفعلي أمام عينيه.فهو هنا لا يهتم بتسجيل التجربة بل آثارها وإنارتها من الداخل،ومن زاوية فردية بحتة،هي زاوية بطل الرواية سعيد مهران.
لا يهتم نجيب محفوظ بقضية خيانة زوجته له، ولا يفسرها أو يحللها، لكنه يواجه سعيد مهران ويواجهنا بها كأمر محتوم كالقدر نفسه.
استوحى نجيب محفوظ روايته من حادث سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان الذي شغل الأذهان يوما وأقام الدنيا وأقعدها قبيل نشر الرواية.وجعلت منه تهويلات الصحافة بطلا، وصورته في صورة الإنسان الخارق القادر على كل شيء. كانوا يقولون إنه يستطيع القفز من عدة أدوار دون أن يصاب بسوء،لأنه خلع عظمتي ركبتيه في عملية جراحية، واقتفت أثره الكلاب البوليسية حتى فر إلى كهف في الجبل كما تفر الضواري أمام كلاب الصيد.
الإسكندرية مدينة السفاحين
ظهر في الإسكندرية العديد من السفاحين منهم ريا وسكينة في عشرينيات القرن العشرين.فكتب البعض عنهما، نجيب محفوظ عندما كتب سيناريو الفيلم المأخوذ عن حياتهما لتحقيق صحفي للطفي عثمان؛والذي أخرجه الفنان صلاح أبو سيف.ثم كتب بهجت قمر مسرحيته الكوميدية ريا وسكينة.
ثم ظهر سعد إسكندر سفاح كرموز.وكُِتبت عنه بعض الأعمال وإن كانت لم ترق إلى مستوى ما ُكتب عن ريا وسكينة.
السكة الحديد في الإسكندرية، وكانا يصطادان السائرين أمامهما في منطقة "المناورة" التي يندر مرور الناس فيها؛ فيأخذان نقودهم ثم يقتلونهم. وتم القبض عليهما وأعدما.
وظهر حسن قناوي الذي كان يعمل مع بعض الإقطاعيين،فيجندونه للقتل لحسابهم، وتم القبض عليه في جريمة النزهة الشهيرة،ولم يحكم عليه القاضي الخازندار، بالإعدام، فقد تم إنقاذ المجني عليه،ولم تثبت إدانة قناوي في الجرائم السابقة.
وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين ظهر آخر السفاحين السكندريين محمود أمين سليمان الذي كتب عنه الفريد فرج ونجيب محفوظ وغيرهما. .
كانت شخصية السفاح محمود أمين سليمان في الواقع تافهة لا معنى لها ولا قيمة. لمع صاحبها يوما ثم انطفأ وزال أثره في الوجود.لكن أسبابا كثيرة تجعل نسبة كثيرة من المصريين تنحاز إلى الذين يخرجون على الشرعية ويواجهون السلطة؛حتى وإن كانوا على غير الحق.
فالعديد من الأبطال الشعبيين أمثال: أدهم الشرقاوي وياسين حبيب بهية ومتولي شقيق شفيقة،وغيرهم،مجرد خارجين على القانون أو قطاع طرق.لكن الظلم المتراكم من السلطة جعل العديد من المصريين ينحازون إلى هؤلاء ويعجبون بهم.
وأذكر بعد مقتل محمود أمين سليمان وكنت قريبا من سكنه،قرأت على جدران "العُرضي" الذي تحول إلى مساكن شعبية في حي محرم بك، قرأت عبارة {السفاح عاش بطلا، ومات بطلا{
وترى الدكتورة فاطمة موسى أن محمود أمين سليمان لا يصلح بطلا لعمل فني بالمعنى الدقيق. وأنه كانت تسيطر عليه فكرة أن زوجته تخونه وقد وجب عليها القصاص. ولعل في هذا سر عطف الكثيرين عليه في حينه.ولم يثبت أن زوجته نوال عبد الرءوف قد خانته أم لا. إنه كان واهما.لكن نجيب محفوظ جزم وحزم الأمر وأكد هذه الخيانة في روايته..
فنحن نعلم أن محمود أمين سليمان قد سيطرت عليه فكرة أن محاميه بدر الدين أيوب، الذي تولى الدفاع عنه في سرقاته والذي تزوره زوجته في مكتبه بميدان محطة مصر الشهير ؛ قد أقام علاقة آثمة معها.
في الوقت الذي يوصم نجيب محفوظ زوجة سعيد مهران بالخيانة،يصور نور الغانية بصورة بيضاء ناصعة.ومحفوظ ينحاز دائما إلى هذه الطبقة من الغانيات، ففي واحدة من قصصه القصيرة القديمة،يصور غانية بطلة وطنية،بينما شيخ المسجد ينحاز إلى الإنجليز ويخون وطنه.
ويظهر نجيب محفوظ مقدرة ودراية بتصوير طبقة الغانيات ويبرر عادة سقوطها ابتداء من حميدة بطلة زقاق المدق،ونور بطلة اللص والكلاب،وريري بطلة السمان والخريف.فنور مخلصة بلا حدود في مقابل الزوجة الخائنة والابنة المنكرة لأبيها والصديق عليش صدرة الأشد فتكا من جميع الأعداء،والمرتد رءوف علوان الذي حول مبادئه إلى رطانة تبريرية.
تقـوم نــور بواجـبات مهـنتها في مثـابــرة يمـليها علـيها ضـمير يقـظ ، قانـعـة بالقـدر والنصيب.فهي تتعامل مع الزبائن بجدية وكأنه عمل تطهيري. هي أشبه بفتيات الجيشا في اليابان اللائي يضيفن إلى عملهن مسحة من القدسية،وغاية سامية.فعندما يتعاملن مع رجال الأعمال جنسيا،يساعدونهم على الراحة والاسترخاء،مما يؤدي إلى أن يعملوا بقدرة أكبر على زيادة الإنتاج وبناء الاقتصاد الياباني.
ميرامار والتنبؤ بالنكسة
ميرامار هي الرواية الوحيدة لنجيب محفوظ التي تدور أحداثها كلها في الإسكندرية. فرغم أن رواية اللص والكلاب مستوحاة من حادثة حدثت بالفعل في الإسكندرية. إلا أن نجيب محفوظ استحضر مدينة القاهرة عندما كتبها، والإسكندرية في السمان والخريف تبدأ عندما يتقابل عيسى الدباغ مع ريري أمام تمثال سعد زغلول الشهير على بحر الإسكندرية.
لكن في ميرامار نجيب محفوظ يعيش داخل البنسيون،ولاشك هو يستدعي ذكريات قديمة عندما كان يسكن بنسيونا مثل هذا، أو ربما هو نفس البنسيون الذي كان يسكنه عندما كان يأتي إلى الإسكندرية في وقت من الأوقات.
بنسيون قوادة أوشكت على التقاعد في محطة الرمل، أكثر أماكن الإسكندرية حركة وبهجة وحيوية وزحاما، حيث المسارح والسينمات والأنوار اللامعة الكاشفة والسهر حتى الصباح. امرأة يونانية عجوز، ومقهى يوناني قديم في أسفل العمارة الضخمة الشاهقة التي تطالعك كوجه قديم.
كتب نجيب محفوظ ميرامار في خريف 1966 كاشفا عن خلل في التركيبة الاجتماعية، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على قيام الثورة. والخلل في الطبقات الاجتماعية لم يعالج، والصدع لم يلتئم.
صدرت رواية ميرامار قبل بضعة شهور من هزيمة يونيو 1967. كتب نجيب محفوظ الرواية في صورة الرباعية لكي يؤكد فكرة الانعزال التي تعيش فيه كل شخصية من شخصيات الرواية، ويؤكد انفصال الشخصيات الأربع، وعدم التوافق والتئام لكل طبقة تمثلها الشخصية.
أو أن كتابة نجيب محفوظ لأول رواية كاملة عن الإسكندرية جعلته يستحضر رواية رباعية الإسكندرية للورانس داريل الشهيرة. فأخرج الرواية بهذا الشكل القريب جدا من شكل الرباعية الذي اعتمد على سرد الأحداث من خلال رؤية كل شخصية من شخصياته الأربع: جوستين، وبلتازار، ومونت أوليف، وكليا.
ولقد اجتمع داريل ومحفوظ في تصوير الطبيعة والمكان في الإسكندرية بوصف قريب. فالنغمة المميزة التي يوردها الكاتب في مفتتح حديثه عن عامر وجدي قريبة من اللغة الشعرية التي يتحدث بها داريل عن الإسكندرية.
ولكل من الرواة الأربعة نغمته المميزة التي يوردها الكاتب في مفتتح حديثه. فـعامر وجدي يقول: الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. ومن هذه الجملة أخذ أسامة أنور عكاشة اسم مسلسله التليفزيوني الشهير الشهد والدموع.
أما حسني علام الشاب الباحث عن المتعة، والهارب من جدية الحياة التي لا يقدر عليها، فيقول : فريكيكو لا تلمني"
وسرحان البحيرى يقول هاى لايف، معرض أشكال وألوان مثير للشغب.
والمضيفة في البنسيون ماريا بلا أبناء نتيجة لعقم زوجها وعقم عشاقها الكثيرين، تؤمن بالحب وتذيبها الأغنيات العاطفية الحالمة وتقدم لكل نزيل يصطحب امرأة سريرا بأسعار لا تبارى، وهي في ذلك مثل "غلمة" التي يضرب العرب بها المثل في الزنا. فيقولون "أزنى من غلمة". فغلمة بعد أن أصبحت غير قادرة على ممارسة الحب؛ جاءت بالخراف وجعلتها تمارس الحب أمامها لتتلذذ هي من رؤيتها.
الرجال يأتون إلى البنسيون من بعيد، طلبة مرزوق الذي أطاحت الثورة بفدادينه الألف فأشعرته القاهرة بهوانه، بعد أن كان وكيلا لوزارة الأوقاف. جاء هاربا من الريف الذي شهد سطوته وغناه، وهربا من القاهرة، أيضا، إلى عشيقته القديمة ماريا علَّه يستعيد لحظة من لحظات الماضي التي ولَّت.
طلبة مرزوق: شبح من أشباح الماضي، فهو موضوع تحت الحراسة لمواقف وأعمال غير شرعية فعلها. وهو يرى أن الاعتداء على ماله اعتداء على كون الله وسنته وحكمته. يبحث عن الدين فقط للدفاع عن ماله. وفي غير هذا، هو داعر مستهتر لا يتورع عن العبث دون اعتدال. ويرى أن سعد زغلول كان السبب في كل ما آلت إليه الأحداث. فهو الذي بذر بذرة الثورة الخبيثة التي نمت وأتت ثمارها في يوليو 1952.
وعامر وجدي صحفي في الثمانين،اعتزل العمل وجاء إلى البنسيون لأنه لا يعرف مكانا أفضل يذهب إليه.هو لم يخلف ذرية أو حتى ذكرى.وهو يعشق سعد زغلول ويكاد يقدسه بعكس طلبة مرزوق.
وأعتقد أن نجيب محفوظ، هو الآخر،يحب سعد زغلول إلى هذه الدرجة.فقد حكى لي الأستاذ يوسف القعيد أنه بكى فور موت جمال عبد الناصر في حضور نجيب محفوظ.فقال محفوظ دون أن يتأثر بشيء " لقد بكيت بعد موت سعد زغلول،ولست على استعداد أن أبكى على زعيم غيره".
عامر وجدي خصَّه نجيب محفوظ بمساحة كبيرة من صفحات الرواية،فهو يشغل أكثر من ثلث الرواية،وذلك لعدة أسباب أهمها: أنه صحفي وكاتب ذو بلاغة في الأسلوب، وعمله الكتابة والتأمل والتعليق على الأحداث. ومن الطبيعي أن يكتب عما يراه في البنسيون الذي يعيش فيه. واعتقد أن شهادته كانت من هذا المنطلق. فقد كان مجرد متابع، ودوره في الأحداث غير مؤثر. كما أنه رجل معتدل،ليس مغاليا في كره الثورة كـطلبة مرزوق،ولا منفلت أخلاقيا كـحسني علام. ولا انتهازيا كـسرحان البحيري.ولا مغاليا في رومانسيته كـمنصور باهي.
عامر وجدي رغم معاناته الآن،لا يزال يحب هذا البلد ويدافع عنه.تعدى الثمانين وابتعد عن القاهرة، مركز التوهج والإعلام، التي تذكره بأنه قد شاخ ولم يعد قادرا على مسايرة الصحفيين الجدد.فهو،في رأيهم، يحمل جسدا محنطا يخفيه تحت بدلته السوداء التي اشتراها في عهد النبي نوح.
هروب عامر وجدي من القاهرة أمر طبيعي لمن هم على شاكلته.فأعرف كاتبا سكندريا كلما سافر إلى القاهرة أصيب بحالة نفسية سيئة لأنها تذكره بما حدث له أيام كان موظفا بها.وأعرف آخر؛ ابتعد عن زملائه الذين بدءوا معه الكتابة، لأنهم يذكرونه بأنه لم يستطع أن يكمل المشوار مثلهم.
مازال عامر وجدي يكتب ببلاغة وإطناب وجزالة عصر المنفلوطي.ورئيس التحرير يريده أن يكتب بلغة جديدة تصلح لراكبي الطائرات.
يأتي عامر وجدي إلى بنسيون كان يأتيه أيام عزه ونجوميته كصحفي وسياسي.أيام كانت المرايا والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضضة، وأيام كانت الإسكندرية أنظف مدينة في العالم.
هناك نقاط تشابه بين عامر وجدي ونجيب محفوظ، الذي لم يتحمس مثله للثورة، لكنه أيضا، لم يناصبها العداء، ولم يدفعه عدم تحمسه لها أن يكره بلده أو لا يبارك خطواتها. ومثله؛ قضى عمره محبا لسعد زغلول إلى حد بعيد.
لقد جاءت ثورة يوليو فامتصت خير ما في التراث التاريخي وأنهت خبرة عامر وجدي السياسية. ونجيب محفوظ من هذا الجيل الذي وجد الثورة قد حققت أقصى ما كانوا يحلمون به ويطالبون بتحقيقه بالنسبة للعدالة الاجتماعية، وطرد المستعمر واعتناق موقف قومي تجاه مصر والعرب.
وقد لاحظت أن العديد ممن عايشوا سعد زغلول يحبونه إلى درجة حب عامر وجدي ونجيب محفوظ له،فهم يدينون بالولاء له رغم مرور السنوات الطوال على موته.فالعقاد عندما تحدث عنه قال:
- عندما خلقه الله؛ قال له: اذهب، فأنت غابة بأكملها، وبقية الناس أعشاب بشرية.
وفي البرنامج التليفزيوني الشهير " النهر الخالد" الذي قدمه المرحوم سعد الدين وهبه مع الموسيقار الخالد محمد عبد الوهاب، تحدث عبد الوهاب عن سعد زغلول حديث العاشق المتيم المعجب والذي مازال يحفظ كلماته ويذكر تصرفاته.
حسني علام ثالث هؤلاء الرجال الذين اجتمعوا في البنسيون.إنه يعيش في الماضي، حيث الأهمية تأتي في المقام الأول للمال والحسب دون النظر إلى الدرجة العلمية. لكن ثورة يوليو 52 شجعت التعليم وأقامت أكثر من جامعة حتى في الصعيد،فتغير الحال، ولم يعد الرجل الغني غير المؤهل مطلوبا ولا مهما.فرفضت الفتاة الجميلة ذات العيون الزرقاء زواجه.
رابع هؤلاء هو سرحان البحيري الشاب الريفي الذي جاء من أسرة متوسطة تمتلك رقعة صغيرة من الأرض. استغل ما أعطته الثورة له؛فأكمل تعليمه وحصل على بكالوريوس التجارة،وعمل وكيلا للحسابات في شركة الغزل بالإسكندرية.
سرحان البحيرى هو المناقض لشخصية حسني علام من حيث التكوين الطبقي، كلاهما من الريف. أحدهما من أسرة كبيرة لكن دون مؤهل، لو لم تقم الثورة لظل حسني علام هو الأهم، ولسعت إليه أسرة الفتاة ذات العيون الزرقاء وغيرها من الأسر الكبيرة؛ تطلب مصاهرته. لقد حظي سرحان البحيري بدراسات عديدة وأصبح نموذجا للانتهازي مثل يوسف السيوفي بطل الرجل الذي فقد ظله لفتحي غانم.كلاهما أخذ قطاعا عظيما من الاهتمام النقدي،حتى جعلا الكتابة عن الانتهازية صعبة جدا،مثلما أصبحت الكتابة عن البخل والبخلاء صعبة بعد البخيل لموليير.إن صورت شخصية انتهازية في قصة أو رواية قالوا إنك تأثرت بـيوسف السويفي أو تأثرت بـسرحان البحيري وإن صورت شخصية بخيلة قالوا إنك تأثرت ببخيل موليير.
سرحان البحيري هو الممثل للطبقة التي تجدها في كل الثورات.يعمل صانعو الثورة ثم يأتي هؤلاء لجني ما زرع الآخرون.هو رئيس لجنة الاتحاد الاشتراكي في المصنع. يسرق البضائع ويبيعها لحسابه مستغلا موقفه السياسي.
حسني علام يكرهه لأنه يمثل الطبقة الجديدة التي أزاحت طبقته: " كرهته في تلك اللحظة، به لهجة ريفية خفيفة لصقت به كرائحة طعام في إناء لم يحسن غسله" ص94.
ويكرهه منصور باهي لأنه في رأيه يدعي الوطنية والاشتراكية لأجل تحقيق غاياته. بينما منصور باهي يضحي بأشياء كثيرة من أجل غاية يحلم بتحقيقها.
منصور باهي أعلن ارتداده عن الماركسية، فأفلت من السجن بعد أن أرغمه أخوه، ضابط الداخلية،على ذلك،فهجر القاهرة وانتقل من مذيع في إذاعة القاهرة إلى إذاعة الإسكندرية.
منصور باهي شخصية هادئة حالمة في صراع دائم بين ما يمليه عليه ضميره وواجبه، وبين سيطرة أخيه الكبير عليه وانصياعه له، ثم ندمه على ذلك.
كل نزلاء البنسيون يميلون إلى زهرة.تلك الزهرة البرية التي هربت من قريتها في البحيرة بعد وفاة والدها لأن جدها أراد أن يزوجها لعجوز تخدمه.
عامر وجدي لا يرغب فيها جنسيا،ويشاركه في هذا منصور باهي الذي يعجب بجمالها وطيبتها ويدخر لها البسكويت في الحجرة ليعطيه لها عربونا للصداقة.
زهرة أحبت عامر وجدي كوالدها،وهو يخاف عليها ويحس بالخطر الذي يحيق بها فينصحها بأن تحتاط.
وعندما اكتشفت زهرة خيانة سرحان البحيري لها واجهته.ثار منصور باهي واعتبر سرحان عدوه اللدود،بصق في وجهه صارخا "على وجهك،ووجه كل وغد وكل خائن."
وعرض باهي عليها الزواج لكي يمنع العذاب عنها.
لقد انحاز نجيب محفوظ إلى منصور باهي واعتبره أكثر طهارة من الجميع في البنسيون.فـعامر وجدي الطيب،يكتفي بالمتابعة، حتى دفاعه عن زهرة كان دفاعا سلبيا. لكن منصور باهي الوحيد الذي واجه الخائن وقتله نظير خيانته لها.
وسأجاسر وأقول إن نجيب محفوظ لم يكن منحازا للماركسية حقا،وإنما أراد أن يغازل النقاد الذين كان معظمهم من الماركسيين في ذلك الوقت، لكي يحتفوا برواياته، وأعطاهم المفاتيح التي تجعلهم يقولون إن زهرة هي مصر. إنه قادر على أن يصنع هذا؛ يعبر عن أشياء غير صادق بالإيمان بها،ويصنعها بمهارة وحذق. وهذا ليس جديدا. فقد فعل المتنبي وغيره من شعراء العرب الكبار هذا،كانوا يمدحون ملوكا وأشخاصا،وفي الحقيقة هم يكرهونهم ويبدون عكس ما يخفون، وتأتي أشعارهم غاية في الفن والجودة.
زوار الإسكندرية والذاكرة المحفوظية
لقد اختار نجيب محفوظ شخصية السفاح السكندري الشهير محمود أمين سليمان وكتب عنه اللص والكلاب، لكنه أعطاه بعدا فلسفيا أبعده عن الإسكندرية كمكان، وعن البطل كشخصية سكندرية، فصار سعيد مهران شخصية من الممكن أن تجدها في أي مكان في العالم. وفي السمان والخريف جاء عيسى الدباغ إلى الإسكندرية كزائر، أو كهارب من ماضيه ليلتقي بـريري التي لا تبعد كثيرا عن نور في اللص والكلاب،وعن حميدة في زقاق المدق.وفي بنسيون ميرامار اجتمع الجميع فيه ضيوفا على الإسكندرية فـماريا صاحبته، جاءت من اليونان،وعامر وجدي وطلبة مرزوق جاءا من القاهرة.وكذلك فعل منصور باهي.أما سرحان البحيري زهرة فقد جاءا من قرية من قرى البحيرة.
كل أبطال نجيب محفوظ جاءوا من خارج الإسكندرية.هو لم يقدم شخصية سكندرية واحدة ذات ملامح سكندرية واضحة.
المراجع
* العالم الروائي عند نجيب محفوظ. إبراهيم فتحي.
* نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية. أ. د. فاطمة موسى.
* دراسات في القصة العربية الحديثة. أ. د. محمد زغلول سلام.
وابتعد إبراهيم حمودة وعبد الغني السيد وعبد العزيز محمود وغيرهم من الأصوات الجميلة عندما ظهر عبد الحليم حافظ،لأنه كان ممثلا لذلك الجيل في ميدان الغناء.
لكن اثنين، في رأيي،شذا عن ذلك،وحطما هذه النظرية هما:محمد عبد الوهاب، ونجيب محفوظ.فقد عاشا في جيلهما وأجيال أخرى عديدة بعد ذلك.
كان من المتوقع أن يبتعد نجيب محفوظ بعد هزيمة يونيو 1967 ليبدأ جيل جديد تفرزه تلك الظروف القاسية التي يمر بها الوطن.لكنه ـ ولأنه حالة متفردة ـ عبَّر عن هذه المرحلة أيضا،وشارك كتَّاب الموجة الجديدة في فترة القلق وعدم التوازن التي أعقبت هزيمة يونيو 67 مباشرة. لكنه سرعان ما عاد ثانية إلى طبيعته الفنية السليمة.
ونجيب محفوظ استحق ما وصل إليه بجدارة،لأنه أخلص تماما لعمله.ففي حديث له مع إحدى المجلات؛يذكر زوجته بالخير لأنها تحمَّلت من أجله؛ وضحت بالزيارات العائلية التي تهتم بها المرأة عادة، لأنه لا يستطيع أن يستجيب لتلك الرغبة في الزيارات وحضور المناسبات الاجتماعية،لأن وقته لا يسمح له بذلك.
ولو تتبعنا مسيرة كبار الروائيين في العالم لوجدناهم يعملون عددا كبيرا جدا مـــــــــن الساعات في اليوم الواحد.فالرواية تستوجب عملا شاقا من القراءة المتواصلة والتحضير للرواية ثم كتابتها.وفي ذلك يقول يحيى حقي عن نجيب محفوظ: مما لفت نظري شدة أمانته لعمله وإخلاصه له، فهو لا يهجم على أمر دون أن يتخذ له عدته حتى في رسم الشخصيات الثانوية. إن قدرته على البصر والإبصار خارقة. وإني لتأخذني رجفة كلما تصورت حال أدب القصة عندنا لو لم نسعد بفن نجيب محفوظ.
وحكى الأستاذ الدكتور صلاح فضل في ندوة له في الإسكندرية، من أنه سأل نجيب محفوظ يوما عن أسباب وصوله إلى هذه المكانة العظيمة والمقدرة الواضحة في كتابة الرواية فقال نجيب: السبب هو المثابرة.
نجيب محفوظ لا يهتم بمتطلبات عادية تشغل سائر الناس.فقد تعطل تليفون بيته في الإسكندرية، حيث كان يقضي إجازته الصيفية فيها، فلم يلجأ إلى المسئولين طالبا إصلاحه،إنما تحدث عنه في جلسته.وربما جاء هذا عرضا،عندما سأله أحد الجلوس عن عدم رده عليه تليفونيا، فتطوع أديب سكندري،ي شاركه الجلسة وقتذاك،بالسعي لإصلاح التليفون.
وقد حكى لي صديقي حسين عيد، الناقد المعروف، إنه كان يقف في طابور لتجديد رخصة سيارته، فإذ بنجيب محفوظ في الطابور. فقال له:
ـ معقولة.سيادتك واقف في الطابور بنفسك،كان من الممكن أن ترسل أحد معارفك.
فقال: أنا قلت أشوفهم بيعملوا إيه.
يوسف إدريس، في رأيي، موهبة متأججة مشتعلة، وموهبته أكبر من موهبة نجيب محفوظ، لكنه لم يعط لعمله كما أعطى نجيب محفوظ لعمله من جهد وتعب.فإدريس كان نجما في سماء الأدب،يتعامل مع الآخرين على هذا الأساس؛ولابد أن يحاط بالعديد من النجوم السينمائية،يكون هو محط اهتمامهم بل وقاضيهم أحيانا،يشكون إليه؛فيصالحهم. بينما يبتعد نجيب محفوظ عن أشياء عديدة هامة من أجل أن تكون الرواية محط اهتمامه،يحملها معه في سيره وفي عمله – أيام كان يعمل ـ وفي جلساته مع أصدقائه وتلاميذه. فهو يختار الأماكن التي تفيده في عمله الروائي، ويختار بعض الشخصيات التي تفيده عند بناء الشخصيات في كتابة رواياته.
وقد أوضحت في قصة لي نشرت في جريدة القاهرة عن اهتمام نجيب محفوظ بشخصية غريبة كانت ترتاد النوادي الأدبية في الإسكندرية،وتحرص على مشاركة نجيب محفوظ في جلساته. وأن نجيب تعامل معه كمادة قصصية.فكان يسأل عنه، وأطلق عليه اسم " المسكين الغامض"
وتقول الدكتورة فاطمة موسى في ذلك: كان نجيب محفوظ دائما من أكثر كتابنا وعيا بنفسه وبتطوره الفني.وربما ساعده على ذلك تراثه الفلسفي القديم وتمسكه، لسنوات طويلة،بلقاءات منتظمة مع أجيال من شباب الكتاب والصحفيين وهم في أكثر الأوقات يمطرونه بالسؤال تلو السؤال عن كتاباته وآرائه،ويضعون إنجازه تحت المجهر من الفحص الدائم.
ويتضح مما نشر من أحاديثه – في تلك الفترة – أنه كان يسير في تطوره الفني مفتوح العينين، يعرف مكانه وسط خضم الأحداث.كما يعرف مكانه في خريطة الأدب في العالم ويتنبأ بالخطوة التالية في إبداعه.
سكندريات محفوظية
إنني أرى أن تطور الشكل عند نجيب محفوظ بدأ منذ أن كتب عن الإسكندرية. فأعماله الأولى رغم جودتها، كان أسلوبها لا يخلو من ملل، وتحمل تفصيلات زائدة عن الحاجة.
نجيب محفوظ محب للإسكندرية، وفي جلساتي القليلة معه فيها سمعته يتحدث عن زياراته لها أيام كان موظفا في وزارة الأوقاف.
وقد سُئلت في برنامج تليفزيوني عن صورة السكندري في الدراما التلفزيونية، وعن المبالغة في إظهار "الكاركتر" السكندري.فقلت إن هذا راجع إلى أن بعض الكتاب يبدءون الكتابة دون أن يدرسوا البيئة التي يكتبون عنها وقلت إن نجيب محفوظ كتب عن الإسكندرية فلم يأت بهذه المبالغات الغريبة لأنه يعرف العادات والتقاليد السكندرية لزياراته الكثيرة لها ولصلاته الوثيقة بالكثيرين من أهلها.
بدأ نجيب محفوظ الكتابة عن الإسكندرية بروايته اللص والكلاب فاتجه بها اتجاها جديدا على مستوى الرواية العربية.فالرواية العربية حتى اللص والكلاب كانت تعتني بالوصف الخارجي للشخصيات والأحداث وتركز على الصراع الذي يدور بين الشخصيات والمجتمع.وتركز على ملامحه الخارجية دون أن تلقي ضوءا على ما يدور داخل الشخصية وانعكاسات الظروف الخارجية على التكوين النفسي لها.
في اللص والكلاب صيغة مختبئة بارعة تكاد يتفرد صاحبها بمستواها الرفيع، فتجردت الرواية من التفصيلات الثانوية.كانت اللص والكلاب أول رواية يكتبها نجيب محفوظ بنبض ديناميكي جعلنا نغفر له إسهابه القديم.قدم لنا البطل من الداخل والخارج معا حتى يكاد القارئ يحس بوجود البطل الفعلي أمام عينيه.فهو هنا لا يهتم بتسجيل التجربة بل آثارها وإنارتها من الداخل،ومن زاوية فردية بحتة،هي زاوية بطل الرواية سعيد مهران.
لا يهتم نجيب محفوظ بقضية خيانة زوجته له، ولا يفسرها أو يحللها، لكنه يواجه سعيد مهران ويواجهنا بها كأمر محتوم كالقدر نفسه.
استوحى نجيب محفوظ روايته من حادث سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان الذي شغل الأذهان يوما وأقام الدنيا وأقعدها قبيل نشر الرواية.وجعلت منه تهويلات الصحافة بطلا، وصورته في صورة الإنسان الخارق القادر على كل شيء. كانوا يقولون إنه يستطيع القفز من عدة أدوار دون أن يصاب بسوء،لأنه خلع عظمتي ركبتيه في عملية جراحية، واقتفت أثره الكلاب البوليسية حتى فر إلى كهف في الجبل كما تفر الضواري أمام كلاب الصيد.
الإسكندرية مدينة السفاحين
ظهر في الإسكندرية العديد من السفاحين منهم ريا وسكينة في عشرينيات القرن العشرين.فكتب البعض عنهما، نجيب محفوظ عندما كتب سيناريو الفيلم المأخوذ عن حياتهما لتحقيق صحفي للطفي عثمان؛والذي أخرجه الفنان صلاح أبو سيف.ثم كتب بهجت قمر مسرحيته الكوميدية ريا وسكينة.
ثم ظهر سعد إسكندر سفاح كرموز.وكُِتبت عنه بعض الأعمال وإن كانت لم ترق إلى مستوى ما ُكتب عن ريا وسكينة.
السكة الحديد في الإسكندرية، وكانا يصطادان السائرين أمامهما في منطقة "المناورة" التي يندر مرور الناس فيها؛ فيأخذان نقودهم ثم يقتلونهم. وتم القبض عليهما وأعدما.
وظهر حسن قناوي الذي كان يعمل مع بعض الإقطاعيين،فيجندونه للقتل لحسابهم، وتم القبض عليه في جريمة النزهة الشهيرة،ولم يحكم عليه القاضي الخازندار، بالإعدام، فقد تم إنقاذ المجني عليه،ولم تثبت إدانة قناوي في الجرائم السابقة.
وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين ظهر آخر السفاحين السكندريين محمود أمين سليمان الذي كتب عنه الفريد فرج ونجيب محفوظ وغيرهما. .
كانت شخصية السفاح محمود أمين سليمان في الواقع تافهة لا معنى لها ولا قيمة. لمع صاحبها يوما ثم انطفأ وزال أثره في الوجود.لكن أسبابا كثيرة تجعل نسبة كثيرة من المصريين تنحاز إلى الذين يخرجون على الشرعية ويواجهون السلطة؛حتى وإن كانوا على غير الحق.
فالعديد من الأبطال الشعبيين أمثال: أدهم الشرقاوي وياسين حبيب بهية ومتولي شقيق شفيقة،وغيرهم،مجرد خارجين على القانون أو قطاع طرق.لكن الظلم المتراكم من السلطة جعل العديد من المصريين ينحازون إلى هؤلاء ويعجبون بهم.
وأذكر بعد مقتل محمود أمين سليمان وكنت قريبا من سكنه،قرأت على جدران "العُرضي" الذي تحول إلى مساكن شعبية في حي محرم بك، قرأت عبارة {السفاح عاش بطلا، ومات بطلا{
وترى الدكتورة فاطمة موسى أن محمود أمين سليمان لا يصلح بطلا لعمل فني بالمعنى الدقيق. وأنه كانت تسيطر عليه فكرة أن زوجته تخونه وقد وجب عليها القصاص. ولعل في هذا سر عطف الكثيرين عليه في حينه.ولم يثبت أن زوجته نوال عبد الرءوف قد خانته أم لا. إنه كان واهما.لكن نجيب محفوظ جزم وحزم الأمر وأكد هذه الخيانة في روايته..
فنحن نعلم أن محمود أمين سليمان قد سيطرت عليه فكرة أن محاميه بدر الدين أيوب، الذي تولى الدفاع عنه في سرقاته والذي تزوره زوجته في مكتبه بميدان محطة مصر الشهير ؛ قد أقام علاقة آثمة معها.
في الوقت الذي يوصم نجيب محفوظ زوجة سعيد مهران بالخيانة،يصور نور الغانية بصورة بيضاء ناصعة.ومحفوظ ينحاز دائما إلى هذه الطبقة من الغانيات، ففي واحدة من قصصه القصيرة القديمة،يصور غانية بطلة وطنية،بينما شيخ المسجد ينحاز إلى الإنجليز ويخون وطنه.
ويظهر نجيب محفوظ مقدرة ودراية بتصوير طبقة الغانيات ويبرر عادة سقوطها ابتداء من حميدة بطلة زقاق المدق،ونور بطلة اللص والكلاب،وريري بطلة السمان والخريف.فنور مخلصة بلا حدود في مقابل الزوجة الخائنة والابنة المنكرة لأبيها والصديق عليش صدرة الأشد فتكا من جميع الأعداء،والمرتد رءوف علوان الذي حول مبادئه إلى رطانة تبريرية.
تقـوم نــور بواجـبات مهـنتها في مثـابــرة يمـليها علـيها ضـمير يقـظ ، قانـعـة بالقـدر والنصيب.فهي تتعامل مع الزبائن بجدية وكأنه عمل تطهيري. هي أشبه بفتيات الجيشا في اليابان اللائي يضيفن إلى عملهن مسحة من القدسية،وغاية سامية.فعندما يتعاملن مع رجال الأعمال جنسيا،يساعدونهم على الراحة والاسترخاء،مما يؤدي إلى أن يعملوا بقدرة أكبر على زيادة الإنتاج وبناء الاقتصاد الياباني.
ميرامار والتنبؤ بالنكسة
ميرامار هي الرواية الوحيدة لنجيب محفوظ التي تدور أحداثها كلها في الإسكندرية. فرغم أن رواية اللص والكلاب مستوحاة من حادثة حدثت بالفعل في الإسكندرية. إلا أن نجيب محفوظ استحضر مدينة القاهرة عندما كتبها، والإسكندرية في السمان والخريف تبدأ عندما يتقابل عيسى الدباغ مع ريري أمام تمثال سعد زغلول الشهير على بحر الإسكندرية.
لكن في ميرامار نجيب محفوظ يعيش داخل البنسيون،ولاشك هو يستدعي ذكريات قديمة عندما كان يسكن بنسيونا مثل هذا، أو ربما هو نفس البنسيون الذي كان يسكنه عندما كان يأتي إلى الإسكندرية في وقت من الأوقات.
بنسيون قوادة أوشكت على التقاعد في محطة الرمل، أكثر أماكن الإسكندرية حركة وبهجة وحيوية وزحاما، حيث المسارح والسينمات والأنوار اللامعة الكاشفة والسهر حتى الصباح. امرأة يونانية عجوز، ومقهى يوناني قديم في أسفل العمارة الضخمة الشاهقة التي تطالعك كوجه قديم.
كتب نجيب محفوظ ميرامار في خريف 1966 كاشفا عن خلل في التركيبة الاجتماعية، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على قيام الثورة. والخلل في الطبقات الاجتماعية لم يعالج، والصدع لم يلتئم.
صدرت رواية ميرامار قبل بضعة شهور من هزيمة يونيو 1967. كتب نجيب محفوظ الرواية في صورة الرباعية لكي يؤكد فكرة الانعزال التي تعيش فيه كل شخصية من شخصيات الرواية، ويؤكد انفصال الشخصيات الأربع، وعدم التوافق والتئام لكل طبقة تمثلها الشخصية.
أو أن كتابة نجيب محفوظ لأول رواية كاملة عن الإسكندرية جعلته يستحضر رواية رباعية الإسكندرية للورانس داريل الشهيرة. فأخرج الرواية بهذا الشكل القريب جدا من شكل الرباعية الذي اعتمد على سرد الأحداث من خلال رؤية كل شخصية من شخصياته الأربع: جوستين، وبلتازار، ومونت أوليف، وكليا.
ولقد اجتمع داريل ومحفوظ في تصوير الطبيعة والمكان في الإسكندرية بوصف قريب. فالنغمة المميزة التي يوردها الكاتب في مفتتح حديثه عن عامر وجدي قريبة من اللغة الشعرية التي يتحدث بها داريل عن الإسكندرية.
ولكل من الرواة الأربعة نغمته المميزة التي يوردها الكاتب في مفتتح حديثه. فـعامر وجدي يقول: الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع. ومن هذه الجملة أخذ أسامة أنور عكاشة اسم مسلسله التليفزيوني الشهير الشهد والدموع.
أما حسني علام الشاب الباحث عن المتعة، والهارب من جدية الحياة التي لا يقدر عليها، فيقول : فريكيكو لا تلمني"
وسرحان البحيرى يقول هاى لايف، معرض أشكال وألوان مثير للشغب.
والمضيفة في البنسيون ماريا بلا أبناء نتيجة لعقم زوجها وعقم عشاقها الكثيرين، تؤمن بالحب وتذيبها الأغنيات العاطفية الحالمة وتقدم لكل نزيل يصطحب امرأة سريرا بأسعار لا تبارى، وهي في ذلك مثل "غلمة" التي يضرب العرب بها المثل في الزنا. فيقولون "أزنى من غلمة". فغلمة بعد أن أصبحت غير قادرة على ممارسة الحب؛ جاءت بالخراف وجعلتها تمارس الحب أمامها لتتلذذ هي من رؤيتها.
الرجال يأتون إلى البنسيون من بعيد، طلبة مرزوق الذي أطاحت الثورة بفدادينه الألف فأشعرته القاهرة بهوانه، بعد أن كان وكيلا لوزارة الأوقاف. جاء هاربا من الريف الذي شهد سطوته وغناه، وهربا من القاهرة، أيضا، إلى عشيقته القديمة ماريا علَّه يستعيد لحظة من لحظات الماضي التي ولَّت.
طلبة مرزوق: شبح من أشباح الماضي، فهو موضوع تحت الحراسة لمواقف وأعمال غير شرعية فعلها. وهو يرى أن الاعتداء على ماله اعتداء على كون الله وسنته وحكمته. يبحث عن الدين فقط للدفاع عن ماله. وفي غير هذا، هو داعر مستهتر لا يتورع عن العبث دون اعتدال. ويرى أن سعد زغلول كان السبب في كل ما آلت إليه الأحداث. فهو الذي بذر بذرة الثورة الخبيثة التي نمت وأتت ثمارها في يوليو 1952.
وعامر وجدي صحفي في الثمانين،اعتزل العمل وجاء إلى البنسيون لأنه لا يعرف مكانا أفضل يذهب إليه.هو لم يخلف ذرية أو حتى ذكرى.وهو يعشق سعد زغلول ويكاد يقدسه بعكس طلبة مرزوق.
وأعتقد أن نجيب محفوظ، هو الآخر،يحب سعد زغلول إلى هذه الدرجة.فقد حكى لي الأستاذ يوسف القعيد أنه بكى فور موت جمال عبد الناصر في حضور نجيب محفوظ.فقال محفوظ دون أن يتأثر بشيء " لقد بكيت بعد موت سعد زغلول،ولست على استعداد أن أبكى على زعيم غيره".
عامر وجدي خصَّه نجيب محفوظ بمساحة كبيرة من صفحات الرواية،فهو يشغل أكثر من ثلث الرواية،وذلك لعدة أسباب أهمها: أنه صحفي وكاتب ذو بلاغة في الأسلوب، وعمله الكتابة والتأمل والتعليق على الأحداث. ومن الطبيعي أن يكتب عما يراه في البنسيون الذي يعيش فيه. واعتقد أن شهادته كانت من هذا المنطلق. فقد كان مجرد متابع، ودوره في الأحداث غير مؤثر. كما أنه رجل معتدل،ليس مغاليا في كره الثورة كـطلبة مرزوق،ولا منفلت أخلاقيا كـحسني علام. ولا انتهازيا كـسرحان البحيري.ولا مغاليا في رومانسيته كـمنصور باهي.
عامر وجدي رغم معاناته الآن،لا يزال يحب هذا البلد ويدافع عنه.تعدى الثمانين وابتعد عن القاهرة، مركز التوهج والإعلام، التي تذكره بأنه قد شاخ ولم يعد قادرا على مسايرة الصحفيين الجدد.فهو،في رأيهم، يحمل جسدا محنطا يخفيه تحت بدلته السوداء التي اشتراها في عهد النبي نوح.
هروب عامر وجدي من القاهرة أمر طبيعي لمن هم على شاكلته.فأعرف كاتبا سكندريا كلما سافر إلى القاهرة أصيب بحالة نفسية سيئة لأنها تذكره بما حدث له أيام كان موظفا بها.وأعرف آخر؛ ابتعد عن زملائه الذين بدءوا معه الكتابة، لأنهم يذكرونه بأنه لم يستطع أن يكمل المشوار مثلهم.
مازال عامر وجدي يكتب ببلاغة وإطناب وجزالة عصر المنفلوطي.ورئيس التحرير يريده أن يكتب بلغة جديدة تصلح لراكبي الطائرات.
يأتي عامر وجدي إلى بنسيون كان يأتيه أيام عزه ونجوميته كصحفي وسياسي.أيام كانت المرايا والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضضة، وأيام كانت الإسكندرية أنظف مدينة في العالم.
هناك نقاط تشابه بين عامر وجدي ونجيب محفوظ، الذي لم يتحمس مثله للثورة، لكنه أيضا، لم يناصبها العداء، ولم يدفعه عدم تحمسه لها أن يكره بلده أو لا يبارك خطواتها. ومثله؛ قضى عمره محبا لسعد زغلول إلى حد بعيد.
لقد جاءت ثورة يوليو فامتصت خير ما في التراث التاريخي وأنهت خبرة عامر وجدي السياسية. ونجيب محفوظ من هذا الجيل الذي وجد الثورة قد حققت أقصى ما كانوا يحلمون به ويطالبون بتحقيقه بالنسبة للعدالة الاجتماعية، وطرد المستعمر واعتناق موقف قومي تجاه مصر والعرب.
وقد لاحظت أن العديد ممن عايشوا سعد زغلول يحبونه إلى درجة حب عامر وجدي ونجيب محفوظ له،فهم يدينون بالولاء له رغم مرور السنوات الطوال على موته.فالعقاد عندما تحدث عنه قال:
- عندما خلقه الله؛ قال له: اذهب، فأنت غابة بأكملها، وبقية الناس أعشاب بشرية.
وفي البرنامج التليفزيوني الشهير " النهر الخالد" الذي قدمه المرحوم سعد الدين وهبه مع الموسيقار الخالد محمد عبد الوهاب، تحدث عبد الوهاب عن سعد زغلول حديث العاشق المتيم المعجب والذي مازال يحفظ كلماته ويذكر تصرفاته.
حسني علام ثالث هؤلاء الرجال الذين اجتمعوا في البنسيون.إنه يعيش في الماضي، حيث الأهمية تأتي في المقام الأول للمال والحسب دون النظر إلى الدرجة العلمية. لكن ثورة يوليو 52 شجعت التعليم وأقامت أكثر من جامعة حتى في الصعيد،فتغير الحال، ولم يعد الرجل الغني غير المؤهل مطلوبا ولا مهما.فرفضت الفتاة الجميلة ذات العيون الزرقاء زواجه.
رابع هؤلاء هو سرحان البحيري الشاب الريفي الذي جاء من أسرة متوسطة تمتلك رقعة صغيرة من الأرض. استغل ما أعطته الثورة له؛فأكمل تعليمه وحصل على بكالوريوس التجارة،وعمل وكيلا للحسابات في شركة الغزل بالإسكندرية.
سرحان البحيرى هو المناقض لشخصية حسني علام من حيث التكوين الطبقي، كلاهما من الريف. أحدهما من أسرة كبيرة لكن دون مؤهل، لو لم تقم الثورة لظل حسني علام هو الأهم، ولسعت إليه أسرة الفتاة ذات العيون الزرقاء وغيرها من الأسر الكبيرة؛ تطلب مصاهرته. لقد حظي سرحان البحيري بدراسات عديدة وأصبح نموذجا للانتهازي مثل يوسف السيوفي بطل الرجل الذي فقد ظله لفتحي غانم.كلاهما أخذ قطاعا عظيما من الاهتمام النقدي،حتى جعلا الكتابة عن الانتهازية صعبة جدا،مثلما أصبحت الكتابة عن البخل والبخلاء صعبة بعد البخيل لموليير.إن صورت شخصية انتهازية في قصة أو رواية قالوا إنك تأثرت بـيوسف السويفي أو تأثرت بـسرحان البحيري وإن صورت شخصية بخيلة قالوا إنك تأثرت ببخيل موليير.
سرحان البحيري هو الممثل للطبقة التي تجدها في كل الثورات.يعمل صانعو الثورة ثم يأتي هؤلاء لجني ما زرع الآخرون.هو رئيس لجنة الاتحاد الاشتراكي في المصنع. يسرق البضائع ويبيعها لحسابه مستغلا موقفه السياسي.
حسني علام يكرهه لأنه يمثل الطبقة الجديدة التي أزاحت طبقته: " كرهته في تلك اللحظة، به لهجة ريفية خفيفة لصقت به كرائحة طعام في إناء لم يحسن غسله" ص94.
ويكرهه منصور باهي لأنه في رأيه يدعي الوطنية والاشتراكية لأجل تحقيق غاياته. بينما منصور باهي يضحي بأشياء كثيرة من أجل غاية يحلم بتحقيقها.
منصور باهي أعلن ارتداده عن الماركسية، فأفلت من السجن بعد أن أرغمه أخوه، ضابط الداخلية،على ذلك،فهجر القاهرة وانتقل من مذيع في إذاعة القاهرة إلى إذاعة الإسكندرية.
منصور باهي شخصية هادئة حالمة في صراع دائم بين ما يمليه عليه ضميره وواجبه، وبين سيطرة أخيه الكبير عليه وانصياعه له، ثم ندمه على ذلك.
كل نزلاء البنسيون يميلون إلى زهرة.تلك الزهرة البرية التي هربت من قريتها في البحيرة بعد وفاة والدها لأن جدها أراد أن يزوجها لعجوز تخدمه.
عامر وجدي لا يرغب فيها جنسيا،ويشاركه في هذا منصور باهي الذي يعجب بجمالها وطيبتها ويدخر لها البسكويت في الحجرة ليعطيه لها عربونا للصداقة.
زهرة أحبت عامر وجدي كوالدها،وهو يخاف عليها ويحس بالخطر الذي يحيق بها فينصحها بأن تحتاط.
وعندما اكتشفت زهرة خيانة سرحان البحيري لها واجهته.ثار منصور باهي واعتبر سرحان عدوه اللدود،بصق في وجهه صارخا "على وجهك،ووجه كل وغد وكل خائن."
وعرض باهي عليها الزواج لكي يمنع العذاب عنها.
لقد انحاز نجيب محفوظ إلى منصور باهي واعتبره أكثر طهارة من الجميع في البنسيون.فـعامر وجدي الطيب،يكتفي بالمتابعة، حتى دفاعه عن زهرة كان دفاعا سلبيا. لكن منصور باهي الوحيد الذي واجه الخائن وقتله نظير خيانته لها.
وسأجاسر وأقول إن نجيب محفوظ لم يكن منحازا للماركسية حقا،وإنما أراد أن يغازل النقاد الذين كان معظمهم من الماركسيين في ذلك الوقت، لكي يحتفوا برواياته، وأعطاهم المفاتيح التي تجعلهم يقولون إن زهرة هي مصر. إنه قادر على أن يصنع هذا؛ يعبر عن أشياء غير صادق بالإيمان بها،ويصنعها بمهارة وحذق. وهذا ليس جديدا. فقد فعل المتنبي وغيره من شعراء العرب الكبار هذا،كانوا يمدحون ملوكا وأشخاصا،وفي الحقيقة هم يكرهونهم ويبدون عكس ما يخفون، وتأتي أشعارهم غاية في الفن والجودة.
زوار الإسكندرية والذاكرة المحفوظية
لقد اختار نجيب محفوظ شخصية السفاح السكندري الشهير محمود أمين سليمان وكتب عنه اللص والكلاب، لكنه أعطاه بعدا فلسفيا أبعده عن الإسكندرية كمكان، وعن البطل كشخصية سكندرية، فصار سعيد مهران شخصية من الممكن أن تجدها في أي مكان في العالم. وفي السمان والخريف جاء عيسى الدباغ إلى الإسكندرية كزائر، أو كهارب من ماضيه ليلتقي بـريري التي لا تبعد كثيرا عن نور في اللص والكلاب،وعن حميدة في زقاق المدق.وفي بنسيون ميرامار اجتمع الجميع فيه ضيوفا على الإسكندرية فـماريا صاحبته، جاءت من اليونان،وعامر وجدي وطلبة مرزوق جاءا من القاهرة.وكذلك فعل منصور باهي.أما سرحان البحيري زهرة فقد جاءا من قرية من قرى البحيرة.
كل أبطال نجيب محفوظ جاءوا من خارج الإسكندرية.هو لم يقدم شخصية سكندرية واحدة ذات ملامح سكندرية واضحة.
المراجع
* العالم الروائي عند نجيب محفوظ. إبراهيم فتحي.
* نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية. أ. د. فاطمة موسى.
* دراسات في القصة العربية الحديثة. أ. د. محمد زغلول سلام.