لا أعْجَب إلا لِمنْ يعْتبِرون الذاكرة هيْكلاً عظمياً تحتاج كي نستدعيها لِحَاضرنا نبْشاً في القُبور، وكأنَّ أعينهم مُسْدلةُ الجفون عن رؤية هذه الذاكرة تحيا بيننا بأكثر من روح ولا تخضع بالضَّرورة لتصاريف الماضي بل هي أنا وأنت والآخر.. حقاً لا يسيءُ البحيرة التي تروي ظمأ الجميع، إلا لعب الصغار حين يقذفونها بالحجارة خادشين هيبتها في الصَّفاء، ولكن ليس كل بحيرة تبقى حبيسة الضفتين ولا تَمْلكُ أن توظِّف قُدُراتها الفكرية في الفيضان، خصوصاً حين يتعلَّق الأمر أو الشِّعر سِيَّان بالشَّاعرة مليكة العاصمي الموصُولة الغضب بهموم المجتمع، وإلا ما جدوى الارتكان لصفاء القصيدة المحروسة في إحدى الزوايا القائمة بالقمر، ما جدوى أن ننْتمي لنفس البُحيرة إذا كان يعكِّرُها بلغة الحوافر ما تشابه علينا من بقر!
قد تُفْسد السِّياسة الدِّين حين يتَّخذُه البعض عاتقاً يُوصل لِسُدَّة الحُكْم، ولكن الشِّعر في زمننا المُعقَّد نفسياً ومادياً أحوج إلى تدبير سياسي يشقُّ قنوات تواصل أوسع ليؤثر في الناس، أحوج إلى مليكة العاصمي ليتخلَّص خِطابُ الحلم من إدمانه المتلاعب بالعقول، ورغم كل ما يُقال إنَّ أعْذَب الشِّعر أكذبه إلا أن الشاعر إذا كان حقيقيا لم تُزيِّفْه الأيام بكثرة ألْوِيتها، أضعف من أن يرُدَّ قوة صِدْقية كلماته أو يُحرِّف مجرى سيْلِها العارم الذي يعرِّي في طريقه مكامن الخلل، كذلك هي شاعرة كبيرة بحجم مليكة العاصمي حتى وهي تُنْشِد قصائدها لا يستطيع مُسيِّر الأمسية الشعرية أن يُوقفها، لأنها تريد أن يصل الجميع إلى الحقيقة التي تتجاوز الشعر داخل القاعة إلى الشارع !
هل يحتاج من يشتغل بحماسةٍ على الذاكرة الجَمْعيَّة لمن يتذكَّره فرداً، ولِمَ لا.. فأفظع من النسيان النُّكْران، ولكن قدْ تُشْرق بين الغيمة والأخرى بارقة أملٍ تُبَدِّدُ ما تَلَبَّدَ وتراكم على القلب بسبب كوليسترول اليأس، ورغم أنَّه ما كل بارقةٍ تجُود بمائها، فقد التَقَطْتُ من إحْداها شعاعاً أدبياً رصيناً تَمَكَّن من تغيير رأيي كما يُغيِّر الضوء رأي العتمة حين يتسرَّبُ إلى حُجْرة الروح، وقد راقني الحوار السِّير ذاتي الذي أجراه الصَّديق الشاعر عبد اللطيف الوراري مع مليكة العاصمي، فهي بتاريخها الأدبي قارَّة من حيث تَشعُّب ضُروب كتاباتها المُراوحة بين الشِّعري والسياسي والاجتماعي، وقد فطن الوراري أنَّ قارَّة بهذه السِّعة لا يمكن لحوار صحافي عابر أنْ يسْتجلي ما تكتنفه سواء في ميثولوجياها الشخصية أو في مُنجزها الأدبي والفكري، فأزمع السَّفر ينتقل من محطة مضيئة لأخرى أشد سطوعاً ثقافيا في حياة الشاعرة، ومازلتُ أنا ومن أفْتَرِضُه من الأجيال المُتعاقبة من الحاضر إلى المستقبل، نقْتَفي الأثر في أسْطُر جعلتنا نتعرَّف على العاصمي بذكريات طفولتها وتفتُّق وعيها في المراحل الأولى للتعليم، حتى أدركها الشِّعر ولن أقول أدْركَهُ أحدٌ هو العابر بنعال من ريح !
حقّاً إنَّ الأسماء الأدبية أشْبه بمعالم أثرية قد تعيش بين الناس ولكنها تحتاج كي تتناقلها الأزمنة بدون غموض، إلى كلمات تُعْطي للموجودات كما للوجود معنى على امتداد التاريخ الأدبي والإنساني، وهل يكفي القول إنَّ عبد اللطيف الوراري بهذا الكتاب التَّرْجَمي، قد نجح في رسم خريطة طريقٍ لقارَّة شعرية هي مليكة العاصمي وما زالت بجمالية قصائدها مالكة للشِّغاف، بل الأجدر أن نُضيف جرعةً قائلين إن خزانتنا الأدبية المغربية فقيرة في شِقِّها الأنطولوجي المُتعلِّق بالسِّيَر الذاتية، وقد أثْرى المُحَاوِر هذا الرُّكْن بإضافة سابغة، فما أقْسَى أنْ تبقى روحُ أحد أعلامنا هائمة دون أن تجد جسدها الرمزي أو حياتها الأخرى في كتاب يُقاوم النسيان، وما أشقَّ على نفس الباحث أن يُسافر في عوالمها تائهاً لا يَسْتدِلُّ بِمَرْجِع، أمَّا أنَا فلا مَرْجِعَ يُعيدني لِرُشْدي كلما شَطَطْتُ في السَّفر مع ما تكتبه شاعرتنا مليكة العاصمي، ومن يبحث عن عنوان لحيرتي يجده في ديوانها "شيء له أسماء" !
إذا كانت آفة العِلم النِّسيان، فإنَّ هذه الآفة لا تطال شاعرةً بسبعة رجال من عيار مليكة العاصمي، وهو عيارٌ أثقل من أن يُوزن ببحور الشِّعر أو مروج الذهب، بل بإيقاع الطير الذي تخِرُّ لروحه المُرفْرِفة الجبال في أعالي أغمات، ومن أين للنِّسيان أن يطال مليكة وهي تشتغل بدون مهادنة على تحيين الذاكرة الوطنية بكل نوافذها الاجتماعية والحقوقية والنسائية، ولن أجرؤ على النطق بكلمة النضال بعد أن لوثها المُفسدون وصار كل من يستعملها اليوم مُضْطَهداً بتهمة الانتهازية حليفاً للشيطان، ولست هنا أكتب عن الشاعرة إنما هي من يكتبني وكأنها تعيد رسم "بورتريهات لأسماء مؤجلة"، هل كان يجب أن أعترف بعد كل هذا الخرس الذي تجيبنا به الكلمات في زمننا، أني ما عُدتُ أفرِّق بين الوصِيَّة والبَيانْ!
.......................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس فاتح أبريل 2021.
www.facebook.com
قد تُفْسد السِّياسة الدِّين حين يتَّخذُه البعض عاتقاً يُوصل لِسُدَّة الحُكْم، ولكن الشِّعر في زمننا المُعقَّد نفسياً ومادياً أحوج إلى تدبير سياسي يشقُّ قنوات تواصل أوسع ليؤثر في الناس، أحوج إلى مليكة العاصمي ليتخلَّص خِطابُ الحلم من إدمانه المتلاعب بالعقول، ورغم كل ما يُقال إنَّ أعْذَب الشِّعر أكذبه إلا أن الشاعر إذا كان حقيقيا لم تُزيِّفْه الأيام بكثرة ألْوِيتها، أضعف من أن يرُدَّ قوة صِدْقية كلماته أو يُحرِّف مجرى سيْلِها العارم الذي يعرِّي في طريقه مكامن الخلل، كذلك هي شاعرة كبيرة بحجم مليكة العاصمي حتى وهي تُنْشِد قصائدها لا يستطيع مُسيِّر الأمسية الشعرية أن يُوقفها، لأنها تريد أن يصل الجميع إلى الحقيقة التي تتجاوز الشعر داخل القاعة إلى الشارع !
هل يحتاج من يشتغل بحماسةٍ على الذاكرة الجَمْعيَّة لمن يتذكَّره فرداً، ولِمَ لا.. فأفظع من النسيان النُّكْران، ولكن قدْ تُشْرق بين الغيمة والأخرى بارقة أملٍ تُبَدِّدُ ما تَلَبَّدَ وتراكم على القلب بسبب كوليسترول اليأس، ورغم أنَّه ما كل بارقةٍ تجُود بمائها، فقد التَقَطْتُ من إحْداها شعاعاً أدبياً رصيناً تَمَكَّن من تغيير رأيي كما يُغيِّر الضوء رأي العتمة حين يتسرَّبُ إلى حُجْرة الروح، وقد راقني الحوار السِّير ذاتي الذي أجراه الصَّديق الشاعر عبد اللطيف الوراري مع مليكة العاصمي، فهي بتاريخها الأدبي قارَّة من حيث تَشعُّب ضُروب كتاباتها المُراوحة بين الشِّعري والسياسي والاجتماعي، وقد فطن الوراري أنَّ قارَّة بهذه السِّعة لا يمكن لحوار صحافي عابر أنْ يسْتجلي ما تكتنفه سواء في ميثولوجياها الشخصية أو في مُنجزها الأدبي والفكري، فأزمع السَّفر ينتقل من محطة مضيئة لأخرى أشد سطوعاً ثقافيا في حياة الشاعرة، ومازلتُ أنا ومن أفْتَرِضُه من الأجيال المُتعاقبة من الحاضر إلى المستقبل، نقْتَفي الأثر في أسْطُر جعلتنا نتعرَّف على العاصمي بذكريات طفولتها وتفتُّق وعيها في المراحل الأولى للتعليم، حتى أدركها الشِّعر ولن أقول أدْركَهُ أحدٌ هو العابر بنعال من ريح !
حقّاً إنَّ الأسماء الأدبية أشْبه بمعالم أثرية قد تعيش بين الناس ولكنها تحتاج كي تتناقلها الأزمنة بدون غموض، إلى كلمات تُعْطي للموجودات كما للوجود معنى على امتداد التاريخ الأدبي والإنساني، وهل يكفي القول إنَّ عبد اللطيف الوراري بهذا الكتاب التَّرْجَمي، قد نجح في رسم خريطة طريقٍ لقارَّة شعرية هي مليكة العاصمي وما زالت بجمالية قصائدها مالكة للشِّغاف، بل الأجدر أن نُضيف جرعةً قائلين إن خزانتنا الأدبية المغربية فقيرة في شِقِّها الأنطولوجي المُتعلِّق بالسِّيَر الذاتية، وقد أثْرى المُحَاوِر هذا الرُّكْن بإضافة سابغة، فما أقْسَى أنْ تبقى روحُ أحد أعلامنا هائمة دون أن تجد جسدها الرمزي أو حياتها الأخرى في كتاب يُقاوم النسيان، وما أشقَّ على نفس الباحث أن يُسافر في عوالمها تائهاً لا يَسْتدِلُّ بِمَرْجِع، أمَّا أنَا فلا مَرْجِعَ يُعيدني لِرُشْدي كلما شَطَطْتُ في السَّفر مع ما تكتبه شاعرتنا مليكة العاصمي، ومن يبحث عن عنوان لحيرتي يجده في ديوانها "شيء له أسماء" !
إذا كانت آفة العِلم النِّسيان، فإنَّ هذه الآفة لا تطال شاعرةً بسبعة رجال من عيار مليكة العاصمي، وهو عيارٌ أثقل من أن يُوزن ببحور الشِّعر أو مروج الذهب، بل بإيقاع الطير الذي تخِرُّ لروحه المُرفْرِفة الجبال في أعالي أغمات، ومن أين للنِّسيان أن يطال مليكة وهي تشتغل بدون مهادنة على تحيين الذاكرة الوطنية بكل نوافذها الاجتماعية والحقوقية والنسائية، ولن أجرؤ على النطق بكلمة النضال بعد أن لوثها المُفسدون وصار كل من يستعملها اليوم مُضْطَهداً بتهمة الانتهازية حليفاً للشيطان، ولست هنا أكتب عن الشاعرة إنما هي من يكتبني وكأنها تعيد رسم "بورتريهات لأسماء مؤجلة"، هل كان يجب أن أعترف بعد كل هذا الخرس الذي تجيبنا به الكلمات في زمننا، أني ما عُدتُ أفرِّق بين الوصِيَّة والبَيانْ!
.......................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس فاتح أبريل 2021.
Mohamed Bachkar
Mohamed Bachkar is on Facebook. Join Facebook to connect with Mohamed Bachkar and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.