لم يعد لهؤلاء المعدمين غير تلك التوابيت الحديدية يتحركون بها بين أجزاء وطن يغتال أحلامهم؛ ينتظرهم الموت كما الغربان تترصد لحظة القنص، أنت لن تضع قدمك مرتين في النهر، حاولت فهم تلك الحقيقة-سيما وأنا أسكن جواره- منذ جئت الدنيا، في ظني أنها مقولة خاطئة؛ فما زال النهر يجري وها أنا أسبح فيه، أدرت تلك الذكريات حين انتحيت جانبا، الآن بدت الحقيقة واضحة، فعلا الماء يتغير وكذلك أنا، انتابتني حالة من الخوف الشديد؛ دلسوا علينا في قاعات الدرس ذات الطلاء الباهت، حتى جرس الدوام ضربه الصدأ، لقد غامت الذاكرة، كل ما هنالك أنني صرت معطوبا واهنا، أشعر أن العجز يتسلل في غير هوادة ناحية جسدي، علي أن أحتاط لما هو قادم، كانت جدتي تخزن الحبوب في سنابلها؛ مثلما أوصى نبي الله يوسف، الآن تحولت الغلال إلى معلبات وشطائر ذات طيات يصعب علي أن أختزنها في مبرد الثلاجة، وأنى لي بعلاج لضمور خلايا مخي، بل وهزال جسدي الذي يجعلني مثل أعواد القش الملقاة عند قارعة الطريق؟
لقد قيل: العجز هو أن تغلق نافذتك عن الهواء ساعة المطر، والآن لا أثر لكل ذلك، ترى هل تفلح مقولاتهم تلك في أن تعيد إلي الدفء؟
باتت تلك الأحداث خامدة لا جديد فيها، ها نحن نجتر الكلمات مثل العلك ونتسلى بالتصبر كل آونة فلا أحد يحفل بآلامنا لكل امريء شأن يغنيه، أذكر أنه هاتفني ذات مرة وأخبرني أن زميلا لنا ركب القطار ولم ينزل في محطته كما هو المعتاد؛ ظننته سيقضى حاجة له؛ لكن المفارقة أنه وحتى اليوم ما يزال يدور بين العربات؛ عندنا نداهة تسرق الشباب، قالت جدتي: لقد مسه حبها فهام بها قلبه، وإذا لم يعثر على شبيهة لها سيظل هكذا في دوامة لا خروج منها!
تحايلت على هذا؛ جئت إلى زميل آخر رجوته أن يرسم صورة لفتاة ذات عينين خضراوين وشعر أصفر، وخصر نحيل وبهاء فاتن، حملتها وسرت بها بين العربات، كل الفتيات تبعنني، سهام لحظهن أوشكت أن تصيب قلبي الذي بلغ به الكبر مراحله، وحدها كانت تسكن حقائب المسافرين، تختال في غير مبالاة عند وجوه الصبايا، ترسم كل واحدة منهن قلبا وقد راشه سهم الحب الذي ينطلق عند كل محطة، صدقوني بدأ شعور غريب يتسلل إلي؛ عاودت وضع قدمي في النهر مرة ثانية، تخللت عطور الربيع أنفي، سمعتها تضحك بصوت عال، لقد أعادتني ثلاثين عاما؛ فتى يافعا، أجرى وراءهن، أنتظرها وأكتب لها كلمات الجمال، أرسم لها صورة جميلة، حقا هل صرت ممسوسا مثل زميلي؟
لا أدري لم فعلت هذا!
إنها محاولة للتمسك بالحياة بعدما ضربني الهزال، أخذت أشعر بأن صوتي عاد قويا، جرت فى جسدى رغبة محمومة أن أهتف مثلما كنت، الشعر والتاريخ يدفعان بي ناحيتها.
فالحياة أنثى كما أن تاء التأنيث تلحق الأشياء الجميلة في حياتنا، سوف أزيح ذلك الغبار عن نافذتي، في خريف العمر يتبقى من الحب ورده المجفف، تبعني زميلي وعند مدخل العربة دفع بي بعيدا حيث رصيف المحطة التي رأيتها أول مرة تمسك بيديها كتابا الحب الأول، عدوت نحوها، ابتسمت لي كأنما هي تودعني للمرة الأخيرة، تبينت أنه كان يتبعها في القطار مثل ظلها، سرقها مني- في خياله- يفعل هذا الأصدقاء دائما، قصة تتكرر كل آونة، بدأت أصيح في غير اتزان، كل من رآني أشفق علي لكنها رحلت!
لقد قيل: العجز هو أن تغلق نافذتك عن الهواء ساعة المطر، والآن لا أثر لكل ذلك، ترى هل تفلح مقولاتهم تلك في أن تعيد إلي الدفء؟
باتت تلك الأحداث خامدة لا جديد فيها، ها نحن نجتر الكلمات مثل العلك ونتسلى بالتصبر كل آونة فلا أحد يحفل بآلامنا لكل امريء شأن يغنيه، أذكر أنه هاتفني ذات مرة وأخبرني أن زميلا لنا ركب القطار ولم ينزل في محطته كما هو المعتاد؛ ظننته سيقضى حاجة له؛ لكن المفارقة أنه وحتى اليوم ما يزال يدور بين العربات؛ عندنا نداهة تسرق الشباب، قالت جدتي: لقد مسه حبها فهام بها قلبه، وإذا لم يعثر على شبيهة لها سيظل هكذا في دوامة لا خروج منها!
تحايلت على هذا؛ جئت إلى زميل آخر رجوته أن يرسم صورة لفتاة ذات عينين خضراوين وشعر أصفر، وخصر نحيل وبهاء فاتن، حملتها وسرت بها بين العربات، كل الفتيات تبعنني، سهام لحظهن أوشكت أن تصيب قلبي الذي بلغ به الكبر مراحله، وحدها كانت تسكن حقائب المسافرين، تختال في غير مبالاة عند وجوه الصبايا، ترسم كل واحدة منهن قلبا وقد راشه سهم الحب الذي ينطلق عند كل محطة، صدقوني بدأ شعور غريب يتسلل إلي؛ عاودت وضع قدمي في النهر مرة ثانية، تخللت عطور الربيع أنفي، سمعتها تضحك بصوت عال، لقد أعادتني ثلاثين عاما؛ فتى يافعا، أجرى وراءهن، أنتظرها وأكتب لها كلمات الجمال، أرسم لها صورة جميلة، حقا هل صرت ممسوسا مثل زميلي؟
لا أدري لم فعلت هذا!
إنها محاولة للتمسك بالحياة بعدما ضربني الهزال، أخذت أشعر بأن صوتي عاد قويا، جرت فى جسدى رغبة محمومة أن أهتف مثلما كنت، الشعر والتاريخ يدفعان بي ناحيتها.
فالحياة أنثى كما أن تاء التأنيث تلحق الأشياء الجميلة في حياتنا، سوف أزيح ذلك الغبار عن نافذتي، في خريف العمر يتبقى من الحب ورده المجفف، تبعني زميلي وعند مدخل العربة دفع بي بعيدا حيث رصيف المحطة التي رأيتها أول مرة تمسك بيديها كتابا الحب الأول، عدوت نحوها، ابتسمت لي كأنما هي تودعني للمرة الأخيرة، تبينت أنه كان يتبعها في القطار مثل ظلها، سرقها مني- في خياله- يفعل هذا الأصدقاء دائما، قصة تتكرر كل آونة، بدأت أصيح في غير اتزان، كل من رآني أشفق علي لكنها رحلت!