في ترجمته لبعض الأساطير الشعبية المكونة لمعتقدات بعض القبائل البدائية، نقل جيمس فريزر(1) حكايةً تقول : كلَّف القمرُ الأرنبَ برسالة إلى الناس جاء فيها "كما أنني سأموت ثم أعود إلى الحياة مرة أخرى، فإنه سيصيبكم ما أصابني. فإذا متم، فإنكم لن تموتوا كلية بل سرعان ما تعودون للحياة مرة أخرى".
ولكن الأرنب ـ كما تذكر الأسطورة ـ قام بتحريف الرسالة وتشويهها عن قصد، فأبلغها على النحو التالي: "كما أنني سأموت ولا أعود إلى الحياة مرة أخرى فإنكم كذلك تموتون ولا تعودون إلى الحياة مرة أخرى"(2). ثم عاد إلى القمر وذكر له النص الذي أبلغه للناس فغضب القمر ورماه بعصا شقت شفته، فظلت شفته مشقوقة إلى الآن.
ويقال: كان الأرنب رجلا، ولكنه تحول إلى أرنب مشقوق الشفة بسبب غضب القمر عليه، بعد أن أخطأ في توصيل الرسالة .
تبدو الحكاية مُسَليَّة، بسيطة. هذا إنْ تعاملنا معها على أنها مجرد تراثٍ إنساني يعكس معتَقَداً ما. ولكن بنظرة فاحصة إلى الدلالة التي تحملها لفظة (القمر) في علاقتها بالدلالة التي تحملها لفظة (الأرنب) نجد أنها علاقة جدليّة تقوم على صراع مُضمَر بين (العلوّ / الدنوّ)، (السماء / الارض) ، (الضوء/ الظلام)، (السعة/ الضيق)، (الجمال / القبح). بين قمر ينشر النور والخير والبقاء، و أرنب يضمر الظلام والشر والفناء. حيث يمكن إزاحة هذه الدلالات على ذلك الصراع الأزلي بين أصحاب الرسالات من الأنبياء والإصلاحيين الذين يريدون الخير للإنسانية، وتلك الأرانب التي تستتر في جحور الجهل الضيقة المظلمة ليفعلوا ما يشاؤون دون أن يراهم أحد. فإذا ما أطلّ قمرٌ من أيِّ زاوية فإنهم يحاولون صرف أعين الآخرين عن ذلك الضوء المنبعث منه، من خلال تحريف المغزى أو الرسالة التي جاء القمر لينشرها. أو يهربون ويختفون في جحورهم حتي تسنح لهم فرصة أن يأتي الظلام من جديد. ففي الظلام لا تنكشف تلك الوجوه التي تحمل الشفاه المشقوقة بالكذب والزيف والتحريف.
ربما يكون زمنُ أسطورة (القمر والأرنب) قد انتهى، ولكن بقيت الأرانب تسعى بين بني البشر لتقوم بدورها في تشويه وتحريف ما يقوله أصحاب الرسالات، سعيا وراء مكاسب شخصية، أو إضمارا لحقد عجزوا عن علاج صدورهم منه، فلا يتركون فرصة لنشر الظلام إلا سعوا وراءها سعيا حثيثا.
وحينما نتأمل الآية القرآنية التي تحدثت عن قوم لوط، والتي يقول فيها الحق تعالى: "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"(الأعراف ـ 82). نجد أن الآية تعكس المدى الذي تصل إليه بعض العقول من سوء تقدير الأمور. فكما قام الأرنب في الحكاية بتوصيل الرسالة بصورة معكوسة، ضنا منه على الإنسان بالنور والحياة، ضن قوم لوط على أنفسهم بالفهم والروية، حيث اتهموا لوطا ومن معه بتهمة تحمل في منطوقها أسانيد البراءة بصورة مباشرة بلا تورية ولا مجاز. ليبدوَ المشهدُ باعثا للعجب، عندما يتحاضّ القوم على إخراج لوط ومن معه لا لسبب سوى التطهر والعفة، ليصبح التحريف بوضع الأمور في غير مكانها السليم سُنّة أولئك الذين يحملهم الحقد على تعمية البصيرة عن رؤية الصالح، رغم أنه يبدو كالبدر في ليلة التمام.
ثم يأتي بنو إسرائيل ليكونوا آيةً في التحريف والتدليس، حيث دسُّوا على الأنبياء ما لا يليق من الأخبار، ليجعلوا منها ذريعةً تبرر كل عيب، وتبيح كل محظور. فدسوا على لوط و يعقوب وداوود وسليمان وهارون وغيرهم من الأنبياء، فنسبوا إليهم الزنا وشرب الخمر والطمع ومخالفة التعاليم التي نزلت بها شريعة السماء.
و جاء المنافقون كتلاميذ نجباء تخرجوا من مدرسة بني إسرائيل، فلم يتركوا حادثة ولا موقفا على عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلا وطعنوا فيه، فانبروا ليبثوا سمومهم بين الناس ليزعزعوا عقيدتهم. وكانت حادثة الإفك التي طعنت في طهر السيدة عائشة بل وطهر آل بيت النبوة مثالا صارخا لتحريف الوقائع؛ لإظهارها بالصورة التي تتوافق مع قلوبهم المريضة، ونفوسهم الخبيثة، التي تأبى أن تلين لرسالة الإيمان، فلا يملكون إلا التدليس والتزوير.
كما كان تغيير القبلة من الأمور التي لم يتركها المنافقون تمر بسلام، حيث سنحت لهم الفرصة ليتساءلوا: "مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا" ( البقرة ـ 142) ، ليجعلوا من ذلك مبررا للإنسلاخ من الإسلام . وتبريرا للخروج عليه.
وما كاد عهد النبوة ينقضي حتى شرَع فريق من المدلسين في دس الأحاديث الكاذبة بروايات مصطنعةٍ ليفسدوا على الناس أمور دينهم، فنسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وما لم يفعل، لتحقيق حاجة في نفوسهم.
وكما فعلت أرانب التدليس مع الأنبياء، فعلوا الأمر نفسه مع العلماء(3) ، فلم يَسْلَم العلماء من كيدهم ومكرهم، فتعرضوا للسجن والتعذيب والقتل والنفي، وتعرضت كتبهم للتشويه والحرق والتمزيق والضياع.
وتحكي الأسطورة أيضا أن الأرنب خمش وجه القمر وهرب، حيث ترك في القمر ندوبا ما زالت آثارها بادية في وجهه إلى اليوم. وما زال أهل التحريف يحاولون ترك ندوب في وجه كل قيمة تعلي من شأن الإنسان، وتحاول إخراجه من الظلمات إلى النور، ليصبح وجه كل قيمة مشوها، ليكون في منزلة سواء مع ضمائرهم المشوهة.
و الأرانبُ حين تعمد إلى تشويه المشهد، فإنها تعتمد في ذلك على الجهل والظلام الذي يغطي بعض العقول. فتقوم بحَجبِ أيَّ ضوء لأيِّ قمر يرغب في نشر النور والوعي. وأي صوت يحاول تجديد المفاهيم السائدة، أو يحارب العادات البائدة. وغالبا ما تجد هذه الأرانب من يستمع إليها، ويأنس لكلماتها، فما ألِفَتْه العامة واعتادت عليه أيسر كثيراً في تصورها من عناء التغيير، ومشقة التجديد.
1ـ جيمس فريز: عالم انثروبولوجيا إسكتلندي (1854- 1941).
2ـ انظر : جيمس فريزر "الفولكلور في العهد القديم". ترجمة د. نبيلة إبراهيم ( الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية ـ 1998)، ص 152 وما بعدها.
3ـ انظر : دكتور محمد رجب البيومي "أبرياء ويتهمون" الأزهر1426هـ ـ 2005م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
# أبوزيد بيومي
www.facebook.com
ولكن الأرنب ـ كما تذكر الأسطورة ـ قام بتحريف الرسالة وتشويهها عن قصد، فأبلغها على النحو التالي: "كما أنني سأموت ولا أعود إلى الحياة مرة أخرى فإنكم كذلك تموتون ولا تعودون إلى الحياة مرة أخرى"(2). ثم عاد إلى القمر وذكر له النص الذي أبلغه للناس فغضب القمر ورماه بعصا شقت شفته، فظلت شفته مشقوقة إلى الآن.
ويقال: كان الأرنب رجلا، ولكنه تحول إلى أرنب مشقوق الشفة بسبب غضب القمر عليه، بعد أن أخطأ في توصيل الرسالة .
تبدو الحكاية مُسَليَّة، بسيطة. هذا إنْ تعاملنا معها على أنها مجرد تراثٍ إنساني يعكس معتَقَداً ما. ولكن بنظرة فاحصة إلى الدلالة التي تحملها لفظة (القمر) في علاقتها بالدلالة التي تحملها لفظة (الأرنب) نجد أنها علاقة جدليّة تقوم على صراع مُضمَر بين (العلوّ / الدنوّ)، (السماء / الارض) ، (الضوء/ الظلام)، (السعة/ الضيق)، (الجمال / القبح). بين قمر ينشر النور والخير والبقاء، و أرنب يضمر الظلام والشر والفناء. حيث يمكن إزاحة هذه الدلالات على ذلك الصراع الأزلي بين أصحاب الرسالات من الأنبياء والإصلاحيين الذين يريدون الخير للإنسانية، وتلك الأرانب التي تستتر في جحور الجهل الضيقة المظلمة ليفعلوا ما يشاؤون دون أن يراهم أحد. فإذا ما أطلّ قمرٌ من أيِّ زاوية فإنهم يحاولون صرف أعين الآخرين عن ذلك الضوء المنبعث منه، من خلال تحريف المغزى أو الرسالة التي جاء القمر لينشرها. أو يهربون ويختفون في جحورهم حتي تسنح لهم فرصة أن يأتي الظلام من جديد. ففي الظلام لا تنكشف تلك الوجوه التي تحمل الشفاه المشقوقة بالكذب والزيف والتحريف.
ربما يكون زمنُ أسطورة (القمر والأرنب) قد انتهى، ولكن بقيت الأرانب تسعى بين بني البشر لتقوم بدورها في تشويه وتحريف ما يقوله أصحاب الرسالات، سعيا وراء مكاسب شخصية، أو إضمارا لحقد عجزوا عن علاج صدورهم منه، فلا يتركون فرصة لنشر الظلام إلا سعوا وراءها سعيا حثيثا.
وحينما نتأمل الآية القرآنية التي تحدثت عن قوم لوط، والتي يقول فيها الحق تعالى: "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"(الأعراف ـ 82). نجد أن الآية تعكس المدى الذي تصل إليه بعض العقول من سوء تقدير الأمور. فكما قام الأرنب في الحكاية بتوصيل الرسالة بصورة معكوسة، ضنا منه على الإنسان بالنور والحياة، ضن قوم لوط على أنفسهم بالفهم والروية، حيث اتهموا لوطا ومن معه بتهمة تحمل في منطوقها أسانيد البراءة بصورة مباشرة بلا تورية ولا مجاز. ليبدوَ المشهدُ باعثا للعجب، عندما يتحاضّ القوم على إخراج لوط ومن معه لا لسبب سوى التطهر والعفة، ليصبح التحريف بوضع الأمور في غير مكانها السليم سُنّة أولئك الذين يحملهم الحقد على تعمية البصيرة عن رؤية الصالح، رغم أنه يبدو كالبدر في ليلة التمام.
ثم يأتي بنو إسرائيل ليكونوا آيةً في التحريف والتدليس، حيث دسُّوا على الأنبياء ما لا يليق من الأخبار، ليجعلوا منها ذريعةً تبرر كل عيب، وتبيح كل محظور. فدسوا على لوط و يعقوب وداوود وسليمان وهارون وغيرهم من الأنبياء، فنسبوا إليهم الزنا وشرب الخمر والطمع ومخالفة التعاليم التي نزلت بها شريعة السماء.
و جاء المنافقون كتلاميذ نجباء تخرجوا من مدرسة بني إسرائيل، فلم يتركوا حادثة ولا موقفا على عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلا وطعنوا فيه، فانبروا ليبثوا سمومهم بين الناس ليزعزعوا عقيدتهم. وكانت حادثة الإفك التي طعنت في طهر السيدة عائشة بل وطهر آل بيت النبوة مثالا صارخا لتحريف الوقائع؛ لإظهارها بالصورة التي تتوافق مع قلوبهم المريضة، ونفوسهم الخبيثة، التي تأبى أن تلين لرسالة الإيمان، فلا يملكون إلا التدليس والتزوير.
كما كان تغيير القبلة من الأمور التي لم يتركها المنافقون تمر بسلام، حيث سنحت لهم الفرصة ليتساءلوا: "مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا" ( البقرة ـ 142) ، ليجعلوا من ذلك مبررا للإنسلاخ من الإسلام . وتبريرا للخروج عليه.
وما كاد عهد النبوة ينقضي حتى شرَع فريق من المدلسين في دس الأحاديث الكاذبة بروايات مصطنعةٍ ليفسدوا على الناس أمور دينهم، فنسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وما لم يفعل، لتحقيق حاجة في نفوسهم.
وكما فعلت أرانب التدليس مع الأنبياء، فعلوا الأمر نفسه مع العلماء(3) ، فلم يَسْلَم العلماء من كيدهم ومكرهم، فتعرضوا للسجن والتعذيب والقتل والنفي، وتعرضت كتبهم للتشويه والحرق والتمزيق والضياع.
وتحكي الأسطورة أيضا أن الأرنب خمش وجه القمر وهرب، حيث ترك في القمر ندوبا ما زالت آثارها بادية في وجهه إلى اليوم. وما زال أهل التحريف يحاولون ترك ندوب في وجه كل قيمة تعلي من شأن الإنسان، وتحاول إخراجه من الظلمات إلى النور، ليصبح وجه كل قيمة مشوها، ليكون في منزلة سواء مع ضمائرهم المشوهة.
و الأرانبُ حين تعمد إلى تشويه المشهد، فإنها تعتمد في ذلك على الجهل والظلام الذي يغطي بعض العقول. فتقوم بحَجبِ أيَّ ضوء لأيِّ قمر يرغب في نشر النور والوعي. وأي صوت يحاول تجديد المفاهيم السائدة، أو يحارب العادات البائدة. وغالبا ما تجد هذه الأرانب من يستمع إليها، ويأنس لكلماتها، فما ألِفَتْه العامة واعتادت عليه أيسر كثيراً في تصورها من عناء التغيير، ومشقة التجديد.
1ـ جيمس فريز: عالم انثروبولوجيا إسكتلندي (1854- 1941).
2ـ انظر : جيمس فريزر "الفولكلور في العهد القديم". ترجمة د. نبيلة إبراهيم ( الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية ـ 1998)، ص 152 وما بعدها.
3ـ انظر : دكتور محمد رجب البيومي "أبرياء ويتهمون" الأزهر1426هـ ـ 2005م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
# أبوزيد بيومي
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
Sieh dir auf Facebook Beiträge, Fotos und vieles mehr an.