دَربٌ طَوِيلٌ تَحتَ ظِلَالِ غَابَاتِ المَانجُو- أمل الكردفاني

تحت ظلال غابات المانجو يمتد طريق رملي أحمر، ورائحة المانجو اليابسة على الأرض الطينية السوداء تطغى على رائحتها وهي معلقة بطزاجتها على أغصانها.. ظلال باردة، ورائحة دافئة. الطريق أو الممر، يمتد لمسافة ليست بالقصيرة على طول تلك الغابات، وهناك ستسمع أصوات ضحكات القرود الماجنة وشقشقات العصافير وورورتها ونعيق البوم السماوي وهسيس أقدام السحالي سريعة الجري. شيء أقرب إلى الجنة. ومهما تخيلت فلن يظهر لك جنيون أقزامَ يرتدون قنابير فوق رؤوسهم، رغم أن المشهد فانتازي جداً. لكنك -وإن تمتعت بقلب قوي- سوف تتحمل نظرات بومة رمادية رابضة على غصن قوي يتدلى من فوق رأسك. وستشعر أيضاً بزحفات السحالي ذات الأذيال الملونة، التي لا تراها بسبب فرط سرعتها وهي تمرق من تحت أوراق الشجر الجافة المستلقية على الأرض لتدخل في أخرى. قد تسمع موسيقى ساحرة لكنها ستكون من بنات خيالك. لن ترى الكثير من الثعالب إذ تميل الثعالب إلى الحياة على السهول والأكمات القصيرة، ولا تحبذ حياة الأدغال فهي تميل إلى العزلة والوفاء لأسرتها الصغيرة. غير أن هذا لا يعني أن غابة المانجو خالية من الأخطار، فالأفاعي والثعابين قد تجلجل قرب خدك وهي تمد رأسها ولسانها المشقوق من غصن تلتف بجسدها الجميل حوله. غير أنها نادراً ما ستهاجمك إن لم تدس لها على طرف.
وعموماً فالطريق أو الدرب الظليل تحت أغصان أشجار المانجو آمن لكثرة طُرَّاقِهِ من الأقنان، الذين يعبرون الدغل ليعملوا في مزارع أسيادهم. وهم رجالٌ خشنون تتلبسهم غلظة، والبلادة ليست بالشيء القليل فيهم. لذا فإن كنت راغباً في عبور هذا الممر فعليك بمنتصف النهار، أي بعد ذهابهم وقبل إيابهم. هناك قلة من العشاق يعبرون هذا الطريق، لأن الفتيات عموماً يخفن منه. وهن يفضلن الأمان على الرومانسية في أغلب الأحوال كما أن التحلل من الملابس قرب الثعابين ليس بالفكرة الذكية، وإن كان لا بأس ببعض القبلات الخاطفة التي تؤجج نيران الأفئدة ولا تطفئ جُذوة العطش. ولا شيء يغري بعبور هذا الطريق إلا توهمات الشعراء، الذين يرتعبون من زحام البشر ويفضلون الحياة داخل ثلاجة محكمة الغلق. ويوفر هذا الدرب الاحمر تحت ظلال أشجار المانجو خيالاً خصباً للشعراء لا تنغصه سوى صورة أفواه القرود الضاحكة باستمرار. أما الطيور فأصواتها تتكامل معاً وتدفع بروحانية الشاعر إلى السماوات العُلى، وفي كتابة العُلى أَمِ العُلا عند اللغويين وجوه متنافرة، كتنافر الطمأنينة والخوف في هذه الغابة، والجمال والقبح، والسكون والضجيج والرغبة والرهبة، ولذا فهي مكان لشاعر ملحمي، تفيض كتابته بأساطير الكتب المقدسة مثل جون ميلتون ودانتي أليجيري. وربما يكون كاتباً يؤلف قصص الأطفال المصورة، عن ممالك القرود وصراعات الأفاعي والأقزام الضاحكين رغم شرهم وقساوة قلوبهم. غير أنك حتى لو كنت إنساناً عادياً (اي غير مصاب بالكبت النفسي المنخفض الذي يعانيه العباقرة)، فسوف لن تفقد تلك النشوة التي ستجتاح روحك وأنت تعبر هذا الطريق؛ اللهم إلا إن كنت متبلدَ الإحساس كالأقنان الذين يعبرونه كل يوم دون أن يروا فيه سوى مختصر للوصول إلى أرض عبوديتهم. والحق أنهم لو امتلكوا روحاً إنسانية لما ارتضوا بالقنانة ساعة واحدة، بل هم أشبه بنوع مختلف من البشر، أوجدته ربات البؤس على الأرض ليكون كائناً عدمياً نافعاً بقوة جسده لا قلبه فهو كزواحف هذه الغابة التي تأكل الحشرات، وتأكلها الأفاعي هذه الأخيرة التي تكون طعاما للبوم وسائر الجوارح، لتحدث توازناً بيئياً ليس إلا.
وكي لا أنحرف عن أصل الحكاية؛ فإن هذا الطريق الساحر، يستدعيك كي تتوقف في منتصفه لتتأمله بصمت كأي برجوازي لم يقنع بما لديه أبداً، فإنك ستستنشق هواء لطيفاً، وترى محبوبتك الغادرة تتعذب بتفويت فرصة مشاهدة هذا الطريق وهي معك. وربما لو كنت عالمي الفكر، لانطلقت بحامل الرسم والفُرش والأصباغ الملونة، لترسم مقطعاً عبثياً يشوه أصل الحقيقة كملك مُلزم بالأكل بالشوكة والسكين إطاعة لقواعد الاتيكيت التي لا يعرف أحد أي برلمان ذاك الذي سنها. فليست الطبيعة إلا الطبيعة، هي الأصل وما دونها ناقص، وما محاكاة الفنان لها إلا محاكاةً قاصرة، ولكنها في كل الأحوال محاكاة يقصد منها الفنان أن يطرح على العالم المقطع الذي اختاره دليلاً ومعبراً لفلسفته.
أشجار المانجو بين جانبي الطريق، تتلامس قممها بالأغصان فتختفي من فوقها السماء، غير أن آخر هذا النفق يشع بضوء ما، ضوء يعدك بأشياء لا تعرفها، ربما انفتاحاً على الحياة، وربما سهولاً وودياناً وربما مزارعَ الإقطاعيين، وربما خرائب وفلوات من البؤس. فحينما تكون في الفردوس يبدو كل خيار للخروج أقل وعداً مما أنت قابع فيه..ويقول البعض أن الخروج من الممر تحت ظلال المانجو، أفضل ولو كان مفضياً إلى الجحيم، إن كان في قعر ذلك الجحيم إنسان آخر ينتظرك، لأن الوحدة موحشة في هذا الدخل ذو الأشجار المتشابكة، والثمار الملونة، والشقشقات الحانية وضحكات القرود الماجنة. وهذا قول ليس فيه نظر، ولا نناقضه ولا ننقضه، لأنه معيار شخصي من ناحية؛ ولأنه صحيح رغم كل شيء. ويمكن لكل منا أن يتحسس ضلعه المفقود ليتأكد من ذلك. هل تحسست ضلعك المفقود من قبل؟ إضحك سراً.
هذا البهو الطبيعي، شجي جداً، غير أن شيئاً واحداً ظل ينقصه، وهو الماء. فليس في الأدغال باحات ماءٍ كالسهول، وهذا مَدَقُّ الإختلاف الجمالي بينهما. أتُفضل الأرض الرطبة، أم تلك التي ترتمي عليها مرايا البحيرات الصقيلة؟ هناك جمال في تلك وجمال في هذي، سحر في تلك وسحر هنا لكنك لن تكون في مكانين مختلفين في وقت واحد، هكذا تقول قواعد الفيزياء الكلاسيكية، وفي ذات المنحى لن تجتمع الأدغال بالسهول أبداً؛ هكذا تقول قواعد الطبيعة الخالدة. لذلك فأنت دائماً في خيار بين أن تكون هنا أو هناك، تماماً كما تفعله النقود القليلة بالإنسان الفقير إذ تمنحه خيارات كثيرة ضرورية وملحة ليختار منها خياراً واحداً فقط، ولكن اختيار واحدٍ منها أشد مرارة من عدم الاختيار. وهكذا هي الحياة. وهكذا تفرض عليك اتخاذ قرارات مريرة. وهكذا قررت الخروج من هذا الطريق بأسرع ما يكون، متحرراً من خمر الطبيعة.
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...