عبد الرحيم التدلاوي - إني رأيتكما» لأحمد بوزفور.. دهشة الحكي وانشطاره

عن منشورات دار توبقال للنشر، صدرت مجموعة «إني رأيتكما» للمبدع المتميز، وشيخ القصة والقصاصين، والعاشق لهذا الجنس حد الوله، أحمد بوزفور، في طبعة أولى فاخرة سنة 2020.
وتضم قسمين، الأول اشتمل على ثماني قصص، والثاني إحدى عشرة قصة، جاءت كلها مرقمة باستثناء النص الأخير، الذي حرم منه، إلا في الفهرست، وافتتح العمل وختم بنصين قصيرين جدا، ويتناولان موضوع الحب والموت في تركيبة لا انفصال بين أطرافها.
وعناوينها مثيرة لكونها تجمع بين المتناقضات، فضلا عن ميلها إلى التعريف ب»أل» وبالإضافة…

عن العنوان:

يبدو عنوان «إني رأيتكما معا»، لأحمد بوزفور ذا حمولة رومانسية كونه يستدعي قصيدة للشاعر المصري كمال الشناوي بعنوان «لا تكذبي»، غناها كل من عبد الحليم حافظ محمد عبد الوهاب ونجاة الصغيرة، وتحمل بعدي الحب والكذب؛ بيد أنه اكتفى بهذه الجملة ذات الارتباط بالمراقبة؛ لكن الرؤية تطرح سؤال العين، أهي العين الحسية أم القلبية؛ ومن ثم، الرؤية البيانية أم العرفانية؟
أتى العنوان جملة اسمية مؤكدة ب»إن» كوثوقية لا يخالطها شك، لكن تدبرها يحملنا إلى معنيين اثنين قد يبدوان متعارضين، أولهما الرؤية التقريرية، وثانيهما التحذيرية، فكأن الرائي يتوعد موضوع الرؤية بعقاب ما أو وشاية…أو أنه يشاركهما سرهما ضاحكا وممازحا ومشاطرا..
والرؤية ذات أطراف ثلاثة، الرائي وموضوع الرؤية، هو فرد وهما ثنائي، هو الفاعل وهما المفعول به، لكن، متى وكيف وأين؟
اختيار هذا العنوان يستحث القارئ على قراءة العمل؛ لأن المشترك فخ لذيذ يبغي الإيقاع بالقارئ حتى يتفاعل مع المقروء. ثم إن سؤالا آخر يطرحه هذا العنوان ويرتبط بمن يرى ومن أي زاوية؟ لم يكن العنوان اعتباطيا بل اختياريا واعيا ذا بعد فني وجمالي، ويستحث القارئ على البحث عن أجوبة محتملة؛ فلا يقين في الكتابة الإبداعية وبخاصة الماكرة..

عن الحب والموت:

وإذا كانت الأغنية عن الحب، فإن العمل هو الآخر تغنى به. فجاء العمل جامعا بين الحب والموت. الجزء الأول يضم ثماني قصص عن «الحب». والجزء الثاني عنوانه «الموت» ويتضمن إحدى عشرة قصة. اللافت للانتباه أن جميع القصص قصيرة جدّا. ومنذ القصة الأولى يتبين أن المبدع قد اعتمد تقنية التكثيف وبلاغة الاختزال، فخير الكلام ما قل ودل، وتلك خاصية الإيجاز وجماليته، ويتجلى هذا الأمر في قصته الأولى التي قدمت لنا تاريخا موجزا عن الحب جاء في صفحتين وسطرين. وهو تاريخ يستضمر الموت، ويحتفي به؛ إذ تعددت صوره بين السقوط من على ظهر الجمل، وبين الانتحار، وبين التحول ذرة رمل عقيم.
وفي قصة «القنفذ» يهيمن الحب و الموت معا في تركيبة لا يمكن الفصل بين جزأيها، فهما كالعملة بوجه وقفا، إذ تنتهي حياة شخصياتها قتلا، لنصل إلى نتيجة مفادها أن الحب قاتل، ولا خير في حب لا يفضي إلى الموت، أليس كذلك يا قيس؟ فالجنون موت بمعنى من المعاني.
قصص الباب الأول كانت عن الحب المُؤدي إلى الموت، فيما خصص الباب الثاني للموت كنهاية ربما سعيدة أو مطلوبة.

اللذة والألم:

تتولد من هذه الثنائية أخرى هي ثنائية اللذة والألم؛ فضلا عن ثنائيات أخر تتخلق من رحم الأولى وتقويها. فثنائية اللذة والألم تكاد تعبر كل النصوص مما يعني حبل الواقع بما يقوي التجربة الحياتية…

الفانطاستيك:

يستثمر المبدع الفانطاستيك والعجائبي بمهارة تحدث الادهاش؛ وتقوي فكرة قدرة الخيال على ابتلاع كل شيء وكأنه ثقب أسود يلتهم النور؛ كما التهمت ناقة الصمت كل ما حولها بمن فيهم السارد، بنهاية تشبه نهاية رواية «اللجنة» حيت يلتهم الراوي نفسه.
إن المطلوب في هذا الجانب، كما في بقية الجوانب الأخرى، هو التصديق كميثاق ضمني قائم بين المبدع والقارئ؛ تصديق أن كل ما يقع حقيقي، أو ممكن الوقوع، وأن الحقيقي، أو الواقعي مجرد وهم، وأن الخيال طائر مجنح، يحلق متى شاء وأنى شاء، وكيفما يشاء.
فيمكن للميت أن يكون حيا يتبادل الكلام مع الأحياء بضربة خيال، ويمكن للقبر أن يكون بمثابة مدينة يمارس فيه الميت حياته، لنتذكر القولة الشعبية الشائعة» قبر الحياة».
فكل شيء في الكتابة الإبداعية وارد وممكن الحدوث، ذلك أن الكتابة لعب «نحن نلعب دائما حين نريد، والكون كله يلعب معنا» ص22. وفي هذا الجانب يكمن الاختلاف بين الشاعر والفيلسوف، فإذا كان هذا الأخير شغوفا بالسؤال «لماذا» فهو فقير يبني سكة ويسير عليها، أما الشاعر فهو ملياردير. يملك العالم كله، ويتجول فيه حرا، ويخلق حيثما حل عوالم أخرى جديدة. ص23.
لقد خلقنا الله لكي نكون مثله، ونخلق نحن أيضا خلقنا الخاص؛ هذه، إذن، خلاصة مقطرة، تسمح للسارد بأن يخلق عوالمه الغرائبية التي تولد الدهشة لدى القارئ، وذلك شرطها.
وليس من شأن القصة القصيرة، في هذا المقام، أن تنقل الواقع، إنها تُنشئه وفق رؤية كاتبها، وتعبث بنظامه وتنتهك حدوده وتنزع عنه كل الثوابت. وهذا ما يجعل القصة لا تتجه إلى موضوعها، وإنما تطور من ذاتها في تأمل تحققها النصي.

السارد شاعرا:

من أهم مميزات الأسلوب في هذا العمل المدهش شاعريته، فهو مشحون بطاقة شعرية تسمح بالقراءات المتعددة وتحقق المتعة والإدهاش، ويمكن التدليل على ذلك بمقاطع كثيرة ومتعددة، وأكتفي بسرد هذا المقطع القصير جدا يقدم فيه الزوج وصفا لذيذا لحبيبته/زوجته وهو الأعزب، إذ يقول: فتضع سبابتها العنابية على شفتيها التوتيتين تأمرني بالصمت، وهي عاقدة الحاجبين، على الجبين اللجين. ص71.
وتجدر الإشارة إلى مسألة مهمة، تتعلق بجدلية الصمت والكلام، وجدلية اللغة والإشارة، وهو موضوع آخر.
وإليكم هذا المقطع الضاج بالتشبيهات والصور البيانية البليغة: «كان الصمت ناقة. ويربط بيني وبينها حبل طويل أجرها به إلى المرعى. أجلس على ربوة قريبة وأرعى الناقة بعيني، وهي تخضم شيح الكلام. تقترب مني الناقة وهي ترعى. تأكل ما حولي.. ثم.. ترعاني أنا. تأكل الكتاب الذي كنت أقرأ. المرأة المتخارسة التي كنت أحب. الشيخ والعجوز التلفزيين… رجلي وبطني..رأسي.. يدي اليسرى.. ها هي تأكل الآن يدي اليمنى.. يدي التي أكتب بها..»ص73.
وليس غريبا أن يكون العاشق للكتابة موضوع التهام؛ تلتهمه القصة التي استهوته، وملكت قلبه وجوارحه، وصرفته عن كل أصناف القول..

الاحتفاء بالحكاية وانشطارها:

كما في قصة «نلتقي حيث نفترق» على سبيل التمثيل،حيث بنى السارد قصته على حدث صغير، تولدت عنه أربعة مشاهد/سيناريوهات، أو بدائل ممكنة ومحتملة للحكاية. فشخصية القصة الأساس تلقّت دعوة غريبة وتوقفت بها الحافلة عند الكيلومتر 87. وأمام تعدد المسالك، صاغ السارد أربعة سيناريوهات لمسار الحدث، سماها الكاتب بدائل. عمد السارد في بداية القصة إلى تحديد الحالة البدئية لها. وانتقل بعدها إلى رصد واقع الشخصية مؤولا فيه بطولة الإحساس والموقف إلى ضمير المتكلم. جاء في البديل الرابع من القصة قول السارد: « لم أكن قد سرت أكثر من بضعة كيلومترات حين لمحتهم. مجموعة من الرجال والنساء يتحركون بين خيام منصوبة، وفي أيديهم آلات مختلفة. سلمت على أول رجل لقيته، وقدمت له بطاقة الدعوة، فقادني إلى رجل آخر قال لي إنه المخرج. قرأ المخرج بطاقة الدعوة، ثم نظر إلي لحظة قبل أن يبتسم ويمد لي يده مرحبا. قال لي إنني مدعو إلى المشاركة في تمثيل شريط سينمائي، وإنهم قد بدأوا في التصوير هذا الصباح..»4.
إن مركز القصة هو الدعوة الغريبة التي يستطيع أن يقرأها كل من فتحها، وهي رسالة وحيدة موجهة إلى أربع شخصيات، وكلهم معنيون بها. فهي تخاطب ذواتا متعالية في القيمة والمعنى، لأن مرسلها معلوم ومجهول ومعلوم في آن. السيناريوهات التي تعمدت القصة طرحها، تضع البطل موزعا على أربعة أدوار، أو بالأحرى احتمالات الوصول إلى الهدف. فهذه الدعوة الغريبة مصيرها عودتها إلى صاحبها في نهاية المطاف.
ينم هذا الانشطار، أو تعدد المنافذ، عن فكرة خاصة بأحمد بوزفور تجاه الحياة، فهو يريد صدّ الموت بنقيضه، ويكوّن موقفا من المسار الحياتي الفردي، فالحياة بنت الحاضر والموت ابن الغيب أو المستقبل كما يقال. والقصة ترهن كيانها بالانشطار والتفرع وخلق بنيات سردية موزعة داخل الجسم النصي الواحد.
وأنت تقرأ قصة « نلتقي حيث نفترق»، تحس أن الكاتب يريد التغلب على إحساسه وعلى الصورة القاتمة للموت بالصورة المضادة التي تتعزز فيها عبثية الحياة، أو إنه يريد أن يحقق الفرضية الجمالية التي تصدق عليها فكرة الوجود كعدمه، ميت ولذلك فهو يعنى بأضداد هذه الفكرة.1

الختم الفلسفي:

لا يمكن القول إن الكتابة في مفهوم العمل لعب مجاني، حر ومن دون ضوابط، ولا تحمل عمقا سوى الإدهش والإبهار، بل إن الكتابة، هنا، لعب جاد، وله قواعده وضوابطه وأبعاده، ويكفي القول إن بعض خواتم القصص جاءت محملة بمعاني لا تخطئها العين، لكونها أتت كإشارات بليغة وموحية، من ذلك، خاتمة قصة «أشششش. أحمد نائم التي تقول:
ياه، الناس قبور والأرض أرضة والتاريخ شواهد». (ص77) أو خاتمة قصة «الغابة» التي تقول على لسان ملك الغابة: «اسلك هذا الممر لتخرج من الغابة. اذهب إلى ناسك في المدينة، ولا تعد إلى هنا أبدا. الغابة ليست هنا. الغابة هناك». (ص 70)، أو خاتمة قصة «الشاحنة» التي تقول: كل شيء ذهب أو يذهب أو سيذهب. هذه الحياة اسمها {الذهاب}. ونحن لا نعيش. نحن فقط نذهب. (ص66).
وأما خاتمة قصة «ما»، فتمنح قول إن الكتابة لعب جاد، حيث تقول على لسان السارد:
«يا إلهي..لابد أنني مريض نفسيا. ما اسم هذا المرض؟ وهل له دواء؟ وما دواؤه؟ لكنني في كل الصور لم أكن واضحا. كأنني لست شخصا. كأنني مجرد كلمة مكتوبة بقلم رصاص. من ينقذني من هذا الخوف المزلزل؟ من يأخذ ممحاة.. ويمحوني؟»
وأنت أيها القارئ الذي توجه إليه الخطاب في هذا العمل كما في قصة «الغراب الأبيض»، عليك أن تأخذ الممحاة، وبعد المحو تكتب، فالكتابة محو وكتابة، وكتابة ومحو إلى آخر الحياة.
«إني رأيتكما معا» عمل مدهش بلغته الشعرية العميقة، والمشحونة بصورها المتعددة والمبهرة، وبتقنياته الموظفة بمهارة، وبما يتوفر عليه من ثنائيات خصبة وغنية.عمل لا يني يغري بالقراءة والفهم والتأويل.
**
1- القـصة وأفق الامتداد : في «إني رأيتكما معا» لأحمد بوزفور
عمر العسري، جريدة الاتحاد الاشتراكي النسخة الرقمية.

عبد الرحيم التدلاوي


بتاريخ : 26/03/2021
أ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...