لا يصْنع العجبُ سوى عينين جاحظتين، لكنَّهما للأسف لا تصلان بجحوظهما إلى ما يصله بُعْدُ النظر، ومع ذلك لا أملك في زمني إلا العجب وسيلةً للتَّأسِّي وأنا أنظر للناس لا يتذكَّرون من أبريل إلا أنه شهر الكذب بدون حرج، بل حتى الطبيعة تُدعِّم هذا الطَّرْح حين تختار هذا الشهر لتطرح فاكهة المزاح بوفرة، وأغلب الظن أن قابيل سفك دم أخيه هابيل في أبريل وعاد إلى حياته الطبيعية بدم بارد معتبرا أن الأمر مجرد مزاح، لذلك ما زال هذا الحدث التاريخي يتكرَّر بأبشع الجرائم على مستوى الشعوب وليس فقط الافراد !
الشاعر محمد بنيس أثمر أيضا في أبريل كتاباً ضخما وأساسياً يحمل عنوان "فلسطين ذاكرة المقاومات"، وقد صدر عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء وبيروت في 423 صفحة، وما كدت ألمس طبعته الفاخرة حتى أيقنتُ أنه لا يمكن خلْطَ الأوراق بين الأشجار لتضليل الفصول، لا لشيء إلا لأن الكذب لا يستطيع أنْ يُغالط الجراح لِيُعمِّر طويلا ولو كان مصحوباً بألذِّ أطباق فاكهة المزاح، وكأنَّ هذا المؤلف الذي يتخذ الذاكرة مُنطلقاً للمقاومة، يريد القول إن الإسرائيليين الذين يفترون على من حواليهم في العالم ليُمْعِنوا في سرقة أرض الغير، لا يمكنهم الكذب على التاريخ مع ما نسوقه من حُججٍ في شهادات كتبها كبار المفكرين والأدباء والعلماء، أمثال سيغموند فرويد ومحمود درويش وعبد الله العروي وإدوارد سعيد وجاك دريدا وجيل دولوز وهشام شرابي ولويس ماسينيون وإدمون عمران المليح وعبد الكبير الخطيبي وشلومو صاند وجيمس بالدوين وجان جوني.. ولن أضيف إلى آخره بينما يقف في مُبتدإ وخبر هذا السجل الوجودي الشاعر محمد بنيس مُفنِّداً مزاعم صفقة القرن، وهل ثمة أبلغ من كلماته موصولةً بكلمات جمْهرة هذه الذاكرات الثقافية القوية بسلطتها الرمزية، هل ثمة أرض لا تخضع لمنطق اللَّفِّ والدوران أصلب من كلمة يُسجِّلها المثقف للتاريخ وليس فقط على الورق القابل للبيع والشراء كصكوك الغُفْران !
لا أنْكُر وأنا أنْضمُّ لذاكرة هذه المُقاومات في سجلِّ بنيس بالقراءة على الأقل التي أعتبرها كتابة أخرى، أنَّ هواجس الأسف قد خالَجتْني على كُتبٍ تصدر في أناس أغلبهم يفضلون عوض فتحها أن يفتحوا أفواههم لأجل التثاؤب، بل يُخيَّلُ إليَّ أن هذه الشهادات التي استقاها بنيس من قعر الخابية، ستبدو مع استحكام التَّضْليل السِّياسي المتلاعب بالعقول، أشبه بكلمات العزاء التي ينقُشها الأهالي على حجر أو رخام الشاهدة، وكأنهم يجبرون ما انكسر في خاطر الراحل بهذا الواجب الأخير !
ومع كل ما نتلمَّظه من أسفٍ، لا يسعنا إلا أن نشُدَّ بحرارة على كتاب بنيس لنرفعه علما فلسطيناً في قمة الفؤاد، فما أحوجنا في هذا التوقيت العصيب لمن يُوقظ الذاكرة من سبات قطبها الجليدي لتعود الأفكار لجريانها، والمحتوم أنَّ من يُحْيي الذِّكرى تُحْييه، ومن يقتلها بالنِّسيان كأنَّما يحجز مكانه بين الموتى لو افترضنا القبور مُجرد مقاعد إسمنتية في مسرح الحياة، ما أحوجنا لمثل هذه الأعمال الأساسيَّة التي تصنع زمنا آخر خارج الزمن الذي نعيشه محقوناً بما يُلْغي الوعي، أعمال تُفنِّدُ ما يفترونه للأيام والأشهر والسنوات من أكاذيب تجعلنا لا نُصدِّق أنفسنا ونحن ننظر للمرآة، وتجعل كل ما تربَّينا على معرفته من قيم تافهاً وعلى استعداد لنلعب دور أشجار تُغرَس رغم حزنها في الأفراح والمناسبات بدون جذور لتزيين جنبات الشوارع، فما أفظع أن يعيش الإنسان تجربة الاقتلاع كل يوم دون شعور، ولن نحتاج للقول إنَّه لا يعاني إلا من يحتفظ بجذوره في قلبه بقوة أضعف الإيمان، ولكن لا يستطيع لوحده أن يُقاوم تياراً يجرفه مع الجذوع الجوفاء إلى محرقة يصنعها النازيون الجُدد، لا يملك أن يقف ندّاً على ميزان القِوى المُختل ليُقنِع الهمج بخطابه الأول والأخير، ومن أيْن للرَّماد أن يجلس على نفس طاولة الحوار وجهاً لوجه مع الريح التي ينطوي مكرها على العاصفة !
أنا أيضاً أحِبُّ المِزاح فاكهة وتفكُّهاً، ولكن أما كان أجْدَر أنْ نتذكَّر أنَّ شهر أبريل بتردُّداته الشِّعرية لا يبدأ أيامه إلا بعد أن يتسلَّم من مارس أو آذار الورقة الجريحة ليوم الأرض الفلسطيني، أما كانت بعض الأزقة التي يتباهى سكانها بأبواب حديدية مُصفَّحة ومُدجَّجة بالقضبان، لِتُذكِّرنا أنَّه في أحد سجون أبريل الذي يتَّخذه أطفالنا الكبار موسماً لاصطياد الفراشات، يقبع يوم الأسير الفلسطيني، وهذا لا يمْنع أنَّ أبريل أيضاً شهر آكلي الشوكولاطة الذين أتضامن معهم بكل ما أوتيتُ من أسنان، ولكنْ لا أعجب إلا لِمن يسْتمِدُّ من طَعْمها مِزاجاً رائقاً وهو يعْلَم أنَّ ثمَّة نكهة في هذا الشهر تعكِّر لذة الشوكولاطة، ولا أقصد ذلك المذاق المُر والحرّيف الذي أحبه يتخلَّلُ هذه الحلوى العالمية، إنما أرمي للمرارة التي يُذيق ويلاتها يوميا الإسرائيليون لشعب يُكابر بأنفة ليَظْهر أنه يعيش حياة طبيعية ولو تضاعف الحِصار بآلاف الأسوار !
......................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 22 أبريل 2021.
الشاعر محمد بنيس أثمر أيضا في أبريل كتاباً ضخما وأساسياً يحمل عنوان "فلسطين ذاكرة المقاومات"، وقد صدر عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء وبيروت في 423 صفحة، وما كدت ألمس طبعته الفاخرة حتى أيقنتُ أنه لا يمكن خلْطَ الأوراق بين الأشجار لتضليل الفصول، لا لشيء إلا لأن الكذب لا يستطيع أنْ يُغالط الجراح لِيُعمِّر طويلا ولو كان مصحوباً بألذِّ أطباق فاكهة المزاح، وكأنَّ هذا المؤلف الذي يتخذ الذاكرة مُنطلقاً للمقاومة، يريد القول إن الإسرائيليين الذين يفترون على من حواليهم في العالم ليُمْعِنوا في سرقة أرض الغير، لا يمكنهم الكذب على التاريخ مع ما نسوقه من حُججٍ في شهادات كتبها كبار المفكرين والأدباء والعلماء، أمثال سيغموند فرويد ومحمود درويش وعبد الله العروي وإدوارد سعيد وجاك دريدا وجيل دولوز وهشام شرابي ولويس ماسينيون وإدمون عمران المليح وعبد الكبير الخطيبي وشلومو صاند وجيمس بالدوين وجان جوني.. ولن أضيف إلى آخره بينما يقف في مُبتدإ وخبر هذا السجل الوجودي الشاعر محمد بنيس مُفنِّداً مزاعم صفقة القرن، وهل ثمة أبلغ من كلماته موصولةً بكلمات جمْهرة هذه الذاكرات الثقافية القوية بسلطتها الرمزية، هل ثمة أرض لا تخضع لمنطق اللَّفِّ والدوران أصلب من كلمة يُسجِّلها المثقف للتاريخ وليس فقط على الورق القابل للبيع والشراء كصكوك الغُفْران !
لا أنْكُر وأنا أنْضمُّ لذاكرة هذه المُقاومات في سجلِّ بنيس بالقراءة على الأقل التي أعتبرها كتابة أخرى، أنَّ هواجس الأسف قد خالَجتْني على كُتبٍ تصدر في أناس أغلبهم يفضلون عوض فتحها أن يفتحوا أفواههم لأجل التثاؤب، بل يُخيَّلُ إليَّ أن هذه الشهادات التي استقاها بنيس من قعر الخابية، ستبدو مع استحكام التَّضْليل السِّياسي المتلاعب بالعقول، أشبه بكلمات العزاء التي ينقُشها الأهالي على حجر أو رخام الشاهدة، وكأنهم يجبرون ما انكسر في خاطر الراحل بهذا الواجب الأخير !
ومع كل ما نتلمَّظه من أسفٍ، لا يسعنا إلا أن نشُدَّ بحرارة على كتاب بنيس لنرفعه علما فلسطيناً في قمة الفؤاد، فما أحوجنا في هذا التوقيت العصيب لمن يُوقظ الذاكرة من سبات قطبها الجليدي لتعود الأفكار لجريانها، والمحتوم أنَّ من يُحْيي الذِّكرى تُحْييه، ومن يقتلها بالنِّسيان كأنَّما يحجز مكانه بين الموتى لو افترضنا القبور مُجرد مقاعد إسمنتية في مسرح الحياة، ما أحوجنا لمثل هذه الأعمال الأساسيَّة التي تصنع زمنا آخر خارج الزمن الذي نعيشه محقوناً بما يُلْغي الوعي، أعمال تُفنِّدُ ما يفترونه للأيام والأشهر والسنوات من أكاذيب تجعلنا لا نُصدِّق أنفسنا ونحن ننظر للمرآة، وتجعل كل ما تربَّينا على معرفته من قيم تافهاً وعلى استعداد لنلعب دور أشجار تُغرَس رغم حزنها في الأفراح والمناسبات بدون جذور لتزيين جنبات الشوارع، فما أفظع أن يعيش الإنسان تجربة الاقتلاع كل يوم دون شعور، ولن نحتاج للقول إنَّه لا يعاني إلا من يحتفظ بجذوره في قلبه بقوة أضعف الإيمان، ولكن لا يستطيع لوحده أن يُقاوم تياراً يجرفه مع الجذوع الجوفاء إلى محرقة يصنعها النازيون الجُدد، لا يملك أن يقف ندّاً على ميزان القِوى المُختل ليُقنِع الهمج بخطابه الأول والأخير، ومن أيْن للرَّماد أن يجلس على نفس طاولة الحوار وجهاً لوجه مع الريح التي ينطوي مكرها على العاصفة !
أنا أيضاً أحِبُّ المِزاح فاكهة وتفكُّهاً، ولكن أما كان أجْدَر أنْ نتذكَّر أنَّ شهر أبريل بتردُّداته الشِّعرية لا يبدأ أيامه إلا بعد أن يتسلَّم من مارس أو آذار الورقة الجريحة ليوم الأرض الفلسطيني، أما كانت بعض الأزقة التي يتباهى سكانها بأبواب حديدية مُصفَّحة ومُدجَّجة بالقضبان، لِتُذكِّرنا أنَّه في أحد سجون أبريل الذي يتَّخذه أطفالنا الكبار موسماً لاصطياد الفراشات، يقبع يوم الأسير الفلسطيني، وهذا لا يمْنع أنَّ أبريل أيضاً شهر آكلي الشوكولاطة الذين أتضامن معهم بكل ما أوتيتُ من أسنان، ولكنْ لا أعجب إلا لِمن يسْتمِدُّ من طَعْمها مِزاجاً رائقاً وهو يعْلَم أنَّ ثمَّة نكهة في هذا الشهر تعكِّر لذة الشوكولاطة، ولا أقصد ذلك المذاق المُر والحرّيف الذي أحبه يتخلَّلُ هذه الحلوى العالمية، إنما أرمي للمرارة التي يُذيق ويلاتها يوميا الإسرائيليون لشعب يُكابر بأنفة ليَظْهر أنه يعيش حياة طبيعية ولو تضاعف الحِصار بآلاف الأسوار !
......................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 22 أبريل 2021.