إذا كانت الكتابة الأدبية واعدة إبداعيا، فلأنها استساغت فورا صيغة وضع فوري للغة، تعمل لصالح تجدد شبابها الإبداعي، بفضل تكرار تعبيري يتجه الأسلوب نحو التسامي به روحيا. يشتغل الكاتب على ذلك، مكررا المادة اللغوية، ضمن الإطار الضيق الذي تبقى له، لكنه يعرف تحولا لفجوات ضمن فضاء لا ينضب بخصوص بلورة إبداعات كيفية،و إجرائية. هكذا، تنشأ عوالم غير متوقعة انطلاقا من إمكانات لغوية بسيطة.سياق ينعته دولوز بكيفية مقتضبة على نحو رائع: "الأسلوب،بمثابة شروع في تغيير اللغة، تحوير، ثم توتر لمجمل اللغة نحو وجهة خارجية''(1) .
ترتكز الممارسة الأدبية، حسب حمولتها الأسلوبية على إحداث اهتزازات غير متوقعة بين طيات جسم اللغة الجاهزة. إذا حظي مفهوم التكرار بامتياز عند دولوز بغية إدراك خطورة أن يبدو مُخْتزلا، فسرعان مالاءم بين التغير، وكذا التوتر الذي تعيشه اللغة صحبة الكاتب. هكذا، يجد التكرار نفسه، منطويا على وعود خلاقة، يتعاقب سياقه باستمرار نوع من التوتر الدائم تنجذب من خلاله اللغة نحو الخارج.
يمثل الأخير، فضاء غير قابل للشك بمثابة وعد لاندفاع الأسلوب إجرائيا وكذا تطلع الكاتب صوب تجديد شباب اللغة. فانطلاقا، من اشتغاله على جاهزية اللغة ماديا، ينساب الأسلوب مثل قوة حقيقية بعيدة عن المركز تطرح وعدا بالولوج إلى منظورات أخرى، وعوالم جديدة. بالتالي، يقدم الأدب نفسه باعتباره نتيجة، متجددة دائما، ذات توتر لا يتوقف عن الطموح تمارسه اللغة بواسطة الأسلوب. هكذا ينتهي ، جراء ذلك، ممتزجا على نحو رائع مع توتر من هذا القبيل، ثم يصير كليا، معطى خارجيا خالصا.
يجدر،عند هذا المستوى ، التذكير بأن اهتمام دولوز،منذ كتابه المعنون ب"منطق المعنى'' انصب باكرا جدا بكيفية ثابتة على مفهوم السطح. ينتقل لديه بالضرورة الفهم الحقيقي لماهية الأدب عبر الالتجاء الواضح للمفاهيم المضيئة للسطح وكذا الخارجي... فما هي الدلالة العميقة لنص أدبي،غير كونه سطحا استثنائيا تنساب فوقه حساسية نفسية وتقنية في الوقت ذاته؟ وبما أن أمره كذلك، فلا يمتلك جوهرا ولا رسالة،بل يستهلك ذاته كليا ضمن صنيع يسميه رولان بارت على نحو رائع، بعد بلانشو ب''اللازم''. ينطلق من اللغة، باعتبارها هاجسه الأول والأخير، وكذا السيمولاكر المطلق، ويعود إليها حتما بعد تحولات إجرائية عدة، بمعنى تقنيات مبهجة، أساسا تكرارية ومتعددة النتائج.
إذن، تظل دائما الممارسة الأدبية في نظر دولوز آلية نصية تنتج آثارا. تستوفي موضوعها، حسب مختلف معاني الكلمة، ضمن إطار هذا المشروع. من ثمة تنزع دائما نتيجة ذلك، نحو أفق مستحيل، يمثل جانب كبير منه،مبرر ضرورتها. تتحول، بفضل توجهها نحو هذا الخارج المستحيل، إلى عوالم مستحدثة وتجليات خالقة. وقد أوضح دولوز بكيفية مذهلة طبيعة السياق: "نكتب دائما من أجل خلق الحياة، ونحرِّرها من حيز اعتقالها،فنرسم خطوطا للهروب. من أجل ذلك، يلزم اللغة أن لاتكون نظاما متجانسا، بل مختلة التوازن، متباينة دائما : هكذا يحفر الأسلوب بين طياتها تباينات محتملة، قد يحدث في إطارها شيء ما، يجري وميض انبعث من اللغة نفسها، يجعلنا نتبيَّن ونفكر فيما تبقى وسط الظل المحيط بالكلمات،هذه الكيانات التي لانشك تقريبا في وجودها"(2).
يقوم النشاط الأدبي على مشروع حالم يشذب الكاتب من خلاله جانب الظل الذي تطويه الكلمات.يتجلى مع كل نص أسلوب يقدم نفسه،باعتباره وعدا،يستحضر عناصر يمكنها أن تؤلف عالما جديدا.ولادة عالم،متجدد بلا توقف عبر فتوة الكلمات،يعكس تحديدا فضاء حقق انتصار قياسا لحيز الظل الذي يكتنف الكلمات.بالتالي،حين ترسيخ الكاتب لنوع من الحماسة المنصبة على الخلق الوجودي للكلمات،فإنه يحدد بدقة دروب تحرر تضمر وعدا بانبثاق عالم حديث الولادة.
ولادة من هذا القبيل غير ممكنة حسب دولوز، إلا إذا حرض الكاتب محتمل الكلمات المبشِّر وقد انتزعها من تجانسها الأولي وحيادها الكسول. إنه مدعو للعمل كي يجعلها تهتز حينما يكون بصدد حفر فجوات إجرائية بينها، قصد اكتشاف جانبها الملغز والمبدع. فالأسلوب قضية أولى بالنسبة لهذا المشروع.سنلاحظ،مرة أخرى،إ لى أيِّ حد بقي دولوز منشغلا بضرورة جمع الكلمات المستعملة كي تصبح معطى خارجيا حقيقيا، بمعنى سطحا يلزمها في إطاره بلورة ما أسميه بحمولات تفاضلية. غير أنه، كي يتأتى للأسلوب ذلك يلزمه تخليص الكلمات قصدا من حيادها الهادئ ثم يخلخل سباتها الثقيل(3).
نفهم أيضا نزوع دولوز صوب مايسميه بالحيوية الأدبية والفنية التي يستحيل بدونها الحديث عن إبداع أصيل.الآلة الأدبية، مدعوة إلى ذلك تحديدا. يستحق إذن النشاط الأدبي صفته هاته عبر مشروع الكاتب نحو موضعة تدريجية لعالم لم يكن متوقعا بفضل صنيع الأسلوب الذي يجسد نوعا من يقظة الكلمات. تبشر،الكلمات مع الأسلوب بحياة عالم قابل للتحقق بفضل تآلفها الساحر. إذن، سيبقى الأدب قبل كل شيء بالنسبة لدولوز هذا الانتقال اللامتناهي للكلمات من مستوى افتراضها البسيط إلى الإبداع الفعلي لعالم حقيقي بقي حتى تلك اللحظة غير منتظر. يتحقق الواقع الأدبي وينجز داخل جسد اللغة نفسه، المكتفي بذاته. والحال كذلك،لاتوجد إمكانية ثانية لمغادرته كي نطبق عليه معايير وحقائق خارجية إضافة إلى كونها غريبة.
*هوامش :
المرجع :
Mohamed Boughali :La littérature selon Gilles Deleuze ;1997 ;pp44- 48.
(1)Magazine littéraire eleuze ;p ;19.
(2) ويضيف (ص 19) :"يوجد أسلوب حينما تنتج الكلمات ومضة تنتقل بين طياتها،بل أبعد جدا".
(3)يؤكد دولوز، ما يلي :"يلزم البحث الأسلوبي العمل على بعث الصورة انطلاقا من انثناء منعكس بين كلمتين ،معارض لذاته، لكنه يعكس ذاته من خلال الكلمات. هكذا، تتأتى القوة الايجابية ل''هفوة"بارعة،قوة القصيدة التي تشكلت في إطار تشابك وتزاوج الكلمات''(منطق المعنى،ص332).
ترتكز الممارسة الأدبية، حسب حمولتها الأسلوبية على إحداث اهتزازات غير متوقعة بين طيات جسم اللغة الجاهزة. إذا حظي مفهوم التكرار بامتياز عند دولوز بغية إدراك خطورة أن يبدو مُخْتزلا، فسرعان مالاءم بين التغير، وكذا التوتر الذي تعيشه اللغة صحبة الكاتب. هكذا، يجد التكرار نفسه، منطويا على وعود خلاقة، يتعاقب سياقه باستمرار نوع من التوتر الدائم تنجذب من خلاله اللغة نحو الخارج.
يمثل الأخير، فضاء غير قابل للشك بمثابة وعد لاندفاع الأسلوب إجرائيا وكذا تطلع الكاتب صوب تجديد شباب اللغة. فانطلاقا، من اشتغاله على جاهزية اللغة ماديا، ينساب الأسلوب مثل قوة حقيقية بعيدة عن المركز تطرح وعدا بالولوج إلى منظورات أخرى، وعوالم جديدة. بالتالي، يقدم الأدب نفسه باعتباره نتيجة، متجددة دائما، ذات توتر لا يتوقف عن الطموح تمارسه اللغة بواسطة الأسلوب. هكذا ينتهي ، جراء ذلك، ممتزجا على نحو رائع مع توتر من هذا القبيل، ثم يصير كليا، معطى خارجيا خالصا.
يجدر،عند هذا المستوى ، التذكير بأن اهتمام دولوز،منذ كتابه المعنون ب"منطق المعنى'' انصب باكرا جدا بكيفية ثابتة على مفهوم السطح. ينتقل لديه بالضرورة الفهم الحقيقي لماهية الأدب عبر الالتجاء الواضح للمفاهيم المضيئة للسطح وكذا الخارجي... فما هي الدلالة العميقة لنص أدبي،غير كونه سطحا استثنائيا تنساب فوقه حساسية نفسية وتقنية في الوقت ذاته؟ وبما أن أمره كذلك، فلا يمتلك جوهرا ولا رسالة،بل يستهلك ذاته كليا ضمن صنيع يسميه رولان بارت على نحو رائع، بعد بلانشو ب''اللازم''. ينطلق من اللغة، باعتبارها هاجسه الأول والأخير، وكذا السيمولاكر المطلق، ويعود إليها حتما بعد تحولات إجرائية عدة، بمعنى تقنيات مبهجة، أساسا تكرارية ومتعددة النتائج.
إذن، تظل دائما الممارسة الأدبية في نظر دولوز آلية نصية تنتج آثارا. تستوفي موضوعها، حسب مختلف معاني الكلمة، ضمن إطار هذا المشروع. من ثمة تنزع دائما نتيجة ذلك، نحو أفق مستحيل، يمثل جانب كبير منه،مبرر ضرورتها. تتحول، بفضل توجهها نحو هذا الخارج المستحيل، إلى عوالم مستحدثة وتجليات خالقة. وقد أوضح دولوز بكيفية مذهلة طبيعة السياق: "نكتب دائما من أجل خلق الحياة، ونحرِّرها من حيز اعتقالها،فنرسم خطوطا للهروب. من أجل ذلك، يلزم اللغة أن لاتكون نظاما متجانسا، بل مختلة التوازن، متباينة دائما : هكذا يحفر الأسلوب بين طياتها تباينات محتملة، قد يحدث في إطارها شيء ما، يجري وميض انبعث من اللغة نفسها، يجعلنا نتبيَّن ونفكر فيما تبقى وسط الظل المحيط بالكلمات،هذه الكيانات التي لانشك تقريبا في وجودها"(2).
يقوم النشاط الأدبي على مشروع حالم يشذب الكاتب من خلاله جانب الظل الذي تطويه الكلمات.يتجلى مع كل نص أسلوب يقدم نفسه،باعتباره وعدا،يستحضر عناصر يمكنها أن تؤلف عالما جديدا.ولادة عالم،متجدد بلا توقف عبر فتوة الكلمات،يعكس تحديدا فضاء حقق انتصار قياسا لحيز الظل الذي يكتنف الكلمات.بالتالي،حين ترسيخ الكاتب لنوع من الحماسة المنصبة على الخلق الوجودي للكلمات،فإنه يحدد بدقة دروب تحرر تضمر وعدا بانبثاق عالم حديث الولادة.
ولادة من هذا القبيل غير ممكنة حسب دولوز، إلا إذا حرض الكاتب محتمل الكلمات المبشِّر وقد انتزعها من تجانسها الأولي وحيادها الكسول. إنه مدعو للعمل كي يجعلها تهتز حينما يكون بصدد حفر فجوات إجرائية بينها، قصد اكتشاف جانبها الملغز والمبدع. فالأسلوب قضية أولى بالنسبة لهذا المشروع.سنلاحظ،مرة أخرى،إ لى أيِّ حد بقي دولوز منشغلا بضرورة جمع الكلمات المستعملة كي تصبح معطى خارجيا حقيقيا، بمعنى سطحا يلزمها في إطاره بلورة ما أسميه بحمولات تفاضلية. غير أنه، كي يتأتى للأسلوب ذلك يلزمه تخليص الكلمات قصدا من حيادها الهادئ ثم يخلخل سباتها الثقيل(3).
نفهم أيضا نزوع دولوز صوب مايسميه بالحيوية الأدبية والفنية التي يستحيل بدونها الحديث عن إبداع أصيل.الآلة الأدبية، مدعوة إلى ذلك تحديدا. يستحق إذن النشاط الأدبي صفته هاته عبر مشروع الكاتب نحو موضعة تدريجية لعالم لم يكن متوقعا بفضل صنيع الأسلوب الذي يجسد نوعا من يقظة الكلمات. تبشر،الكلمات مع الأسلوب بحياة عالم قابل للتحقق بفضل تآلفها الساحر. إذن، سيبقى الأدب قبل كل شيء بالنسبة لدولوز هذا الانتقال اللامتناهي للكلمات من مستوى افتراضها البسيط إلى الإبداع الفعلي لعالم حقيقي بقي حتى تلك اللحظة غير منتظر. يتحقق الواقع الأدبي وينجز داخل جسد اللغة نفسه، المكتفي بذاته. والحال كذلك،لاتوجد إمكانية ثانية لمغادرته كي نطبق عليه معايير وحقائق خارجية إضافة إلى كونها غريبة.
*هوامش :
المرجع :
Mohamed Boughali :La littérature selon Gilles Deleuze ;1997 ;pp44- 48.
(1)Magazine littéraire
(2) ويضيف (ص 19) :"يوجد أسلوب حينما تنتج الكلمات ومضة تنتقل بين طياتها،بل أبعد جدا".
(3)يؤكد دولوز، ما يلي :"يلزم البحث الأسلوبي العمل على بعث الصورة انطلاقا من انثناء منعكس بين كلمتين ،معارض لذاته، لكنه يعكس ذاته من خلال الكلمات. هكذا، تتأتى القوة الايجابية ل''هفوة"بارعة،قوة القصيدة التي تشكلت في إطار تشابك وتزاوج الكلمات''(منطق المعنى،ص332).