تمهيد
التّعبير عن الذّات بشكل صريح أو متحفّظ هي مسألة قديمة مارستها كلّ شعوب العالم بتعبيرات وأشكال رمزيّة مختلفة، ومتفاوتة في حدّتها وحرارتها النفسيّة والأخلاقيّة الاجتماعيّة، وفي مستوياتها الفنيّة والسرديّة في الخضوع للقواعد والأعراف والتّقاليد المجتمعيّة والشّعائر الدينيّة…، أو في انتهاك كلّ الطابوهات وسياجات المقدّس الجمعيّ المتوارث اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. بمعنى أنّ الذاتيّة مهما على شأنها، وبرزت جرأتها واستثنائيتها في المجتمع والثّقافة كانت تعاني من وطأة حدود ومحدوديتها سقفها الاجتماعيّ والثقافيّ، لهذا كانت بمثابة لحظات ضوء هارب في حياة المجتمعات. وما كان لها لتعرف تحوّلا نوعيا إلّا مع العصور الحديثة الّتي عرفت ولادة الفرد كعلاقات مجتمعيّة أفرزتها تحوّلات بنى التركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ الثقافيّ للحداثة، الشّيء الّذي منح أفقا رحبا لنوع من جدل التّكامل بين الذاتيّة والفرد. وفي سياق التّحولات الماديّة والرمزيّة الّتي جاءت بها الحداثة ظهرت الرواية كشكل إبداعي سردي متوافق مع التّناقضات والتّغيرات والصّراعات والعلاقات الاجتماعيّة الجديدة الّتي أنتجتها الرأسماليّة في سيرورتها التاريخيّة. فظهرت قيم ثقافيّة واجتماعيّة سياسية تعبّر عن واقع التحوّلات الحاصلة في الدولة والمجتمع والثّقافة، تبعا لصيرورة الهويّات المتجدّدة في حركة التّاريخ الاجتماعيّ للانتظام الانسانيّ. ومن بين هذه التّحولات الاجتماعيّة والثقافيّة ظهرت الفرديّة كقيمة إنسانيّة متحرّرة من الجاهزيّة في سيرورة نشأتها وتكوّنها وتطوّرها وتغيّرها المستمر كقيمة إيجابيّة يسعى إليها الإنسان كحقّ وجوديّ لا تسيّج حياته غير القوانين الّتي يسهم بشكل أو بآخر في وضعها وتأسيسها. وتبعا لارتباط مجتمعاتنا بصدمة الحداثة هذه اهتزّت الكثير من الأطر التقليديّة الّتي كانت تحد من تبلور ذاتيّة الإنسان في بروز الفرد كعلاقة اجتماعيّة جديدة ونقيضة لما هو سائد من تراتبيّة القهر والإجماع والعزل والإقصاء الّذي يميّز مجتمع الرّعية والرّاعي، أو بلغة تلطيفيّة المحكوم بالحاكم. وفي سياق صراعات البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة الجديدة، وليس الحديثة أو الحداثيّة، برزت الرواية العربية كتعبير عمّا يعتمل في داخل هذا الواقع الجديد من تناقضات، والّذي لم تفارقه لغة وسياسة الاجماع والجماعة في سطوة الواحديّة والسراطيّة والأحاديّة الأبويّة في الأسرة والمدرسة والحزب والدولة…، واستجابة لكلّ هذه التّحولات العنيفة والمؤلمة كانت الرواية حاضرة كشكل أدبيّ تلازمت بنيويا في ولادتها ونشأتها وتكوّنها بين السيرة والرواية في نوع من جدل التّكامل بين الذاتيّة والفرديّة. وبذلك حاولت أن تعبّر عن بروز الفرد بشكل أو بآخر مقدمة دليلا على أنّ تحولات في العمق المجتمعي قد حدثت في البنيات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ممّا يتطلّب قيما بديلة تنسجم وواقع المرحلة التاريخيّة.
أولا / جدل الذاتيّة والفرد
يمكن لكلّ مهتمّ بالرواية العربيّة في أغلب الإصدارات الحديثة أن يلاحظ بأنّها تنهض في وجودها الفنّي كشكل سردي إبداعي من خلال اعتمادها على الشّكل الأدبيّ للسيرة الذاتيّة. بمعنى أنّ الرواية العربيّة لم يكن لها أن تكون رواية إلّا لأنّها بشكل أو بآخر سيرة ذاتيّة، دون أن يعني ذلك أنّها تعبير مباشر للذّات في علاقتها بنفسها وبالآخر والعالم.” يبدو أنّ الكتابة حول الذّات قد أضحت قدر الرواية المغربيّة، سواء منها المكتوبة باللّغة العربيّة أو باللّغة الفرنسيّة، إلى درجة أنّه أصبح من العسير، في كثير من الأحيان، الفصل والتّمييز بين شخصيّة المؤلّف وشخصيّة عمله حتّى ولو كان عمله مصنفا ضمن خانة الرواية”1 وهذا ما يجعلنا نتساءل عن سرّ ارتباط الرواية في تحقّقها الأدبيّ، أي ما يجعلها أدبيّة، بالسيرة الذاتيّة. فالنّاقد علي بنساعود يرى بأنّ هذه الظّاهرة ” لم تجد اهتماما بها ومحاولة لدراستها وتفسيرها، خصوصا وأنّها انتشرت بشكل ملفت خلال حقبة الثمانينات”2 . لكن هذا النّاقد اكتفى بإشارات بسيطة لا تتجاوز مستوى الملاحظة والرّصد، حيث لم يقدم تفسيرا عميقا لما أثاره من أسئلة تخصّ رفضه للفكرة السّائدة حول ضعف الخيال عند الكتاب، ودعوته إلى البحث في الأوضاع الّتي يجتازها الوطن العربي. فيردّ الظّاهرة إلى اليأس والإحباط وفقدان الثّقة ممّا جعل المثقّفين يلجأون إلى ” الاعتكاف على ذواتهم من أجل تأمّلها، والتملي في تقاطيعها وملامحها”3. وما كان لمثل هذه النّظرة السلبيّة، من طرف النّاقد تجاه ذاتيّة المبدع في تحقّقها الأدبي كشكل سردي روائي، أن تكون قادرة على إدراك سيرورة حالة المخاض الّتي تميز جدل الذّاتي والفرد حيث تحاول الرواية إنتاج معرفة به لكونه إفرازا لصيرورة تحوّلات مجتمعيّة عميقة في بنى التركيب الاجتماعي الاقتصادي، وصراعاته الاجتماعيّة والسياسيّة.
ونجد ناقدا آخر محمد علوط يلاحظ بأنّ الرواية لم تتخلص من كونها سيرة ذاتيّة، حيث يؤسّس فكرته على ملاحظات عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي “ذلك أنّ النّص الروائي العربي التخييلي، لم يخرج أبدا عن كونه نصّا سيريا، ونصّا حول الذات. وهو الشّيء الّذي انتبه إليه عبد الكبير الخطيبي في مؤلفه “الرواية المغربية”، وجورج طرابيشي في كلّ من “عقدة أوديب في الرواية العربيّة” و”الرجولة وإيديولوجيا الرّجولة في الرواية العربيّة”4. ويعزّز محمد علوط تصوّره هذا باعتماده على عبد الله العروي في كتابه الصادر سنة 1979 “الايديولوجية العربيّة المعاصرة” . وانطلاقا من هذه المسافة الزمنيّة تتناسل الأسئلة حول طبيعة وخصائص الكتابة الأدبيّة، في أدواتها وقوانينها ومنطقها الدّاخلي، وفي التّفاعل الحاصل بين المتخيّل والواقع، بالإضافة إلى الجدل المؤلم بين الذاتيّ وملمح تشكّل الفرد الحرّ المستقل الفاعل، والمبدع الخلاّق في تأسيس حضوره كمشروع وجوديّ فنيّ ومجتمعيّ، تبعا لتحوّلات المجتمع في إكراهاتها الجاذبة إلى حدّ الرّعب والعنف في منعطفات، أو قطائع هزّاتها القاسية، كما لو أنّ ” قوّة الواقع تضاهي قوّة الخيال”4. أي أنّنا إزاء سيرورة الذاتي في تكوّنه وتطوّره تبعا لجدل التّكامل بين الذاتيّ والفرديّ، أو قل كتجلي إبداعي لولادة الفرد في تحقّقه الوجودي الصّعب بدفع الثّمن من حياته الحيّة أدبيا ومجتمعيا، بعيدا عن طمأنينة الأطر التقليديّة الّتي كانت تحتضن بيوغرافيته الجاهزة والنّاجزة من المهد إلى اللّحد، تبعا لتراتب المنازل، أي المواقع الطبقيّة. ولهذا ” سيظلّ الواقع أكبر فخّ يحجزنا نحن كتاب القصّة العرب، ما أن نفكر لحظة في الانفلات منه إلّا ونجده يزداد تكبيلا لنا وتقييدا لكلّ تحليق نحلم به نحو تخوم وآفاق التّخييل البعيدة”5 لأنّ الشّروط التاريخيّة الاجتماعيّة كانت تطرح جسامة المسؤوليّة في ولادة، أو تشكّل الفرد كصوت حرّ نقديّ مختلف في التّصور والرؤية والممارسة، وفي الأفكار والعلاقات والتّفاعل، وفي بناء الخيارات والتّوجهات والاتّجاهات الفنيّة والفكريّة والثقافيّة والقيميّة الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وفي هذا السّياق يمكن فهم عمق الفكرة الّتي طرحها العروي ” التّاريخ تتابع الأحداث، الحبّ تمجّ الوجدان، كلّ رواية سيرة، إمّا من الحب إلى التاريخ لاكتشاف المجتمع في قلب الذّات، وإمّا من التّاريخ إلى الحب لإنقاذ الذّات من الغرق في خضم التّاريخ. هذا هو زمن الرواية كلّ رواية عندما تكون ذات صدى ذي هالة.” 6
وفي دراسته لمجموعة من الروايات المغربيّة في كتابه” ديناميّة النّص الروائي” يرى النّاقد أحمد اليابوري بأن النّصوص التالية : “الزاوية” ، ” الغربة”، ” لعبة النّسيان، المرأة والوردة…، لها علاقة مع المرجع السير ذاتي، حيث يشير إلى كون الانتاج الروائي المغربي يحتلّ فيه الشكلان السير ذاتي والروائي التاريخي موقعا متميّزا في الأدب المغربي الحديث. فالنّاقد لا يبحث أسباب انتشار هذا الشّكل الأدبي الّذي يميّز الرواية في نشأتها وتكونها، لأن ذلك في نظره مجرّد تعبير عن تطور طبيعي ابتداء من شكل الكتابة المسمى بـ “الرحلة”. وهذا ما جعل من الصّعب عليه أن يدرك جدل التّكامل بين الذاتي والفرد، أو قل بتعبير أدقّ لم يدرك عمق التّرابط بين الرواية كشكل تعبيري أدبي أنتجته الشروط التاريخيّة والتّحولات المجتمعيّة للبرجوازيّة الغربية وبين الفرد كبناء حداثي بلورته الحداثة وفق معاييرها الاقتصاديّة والسياسيّة والقانونيّة، والاجتماعيّة الثقافيّة. وهذا ما تناوله بوضوح أكبر كلّ من باختين وجورج لوكاتش…
صحيح بأنّ المبدع قد لا يكون واعيا بهذه السياقات والتّرابطات في خلفياتها العميقة، وهي تنتج جديدا في التّصورات والأفكار والمفاهيم والنظريات والإبداع، وفي الممارسات والعلاقات والدلالات القيميّة الاجتماعيّة والثقافيّة، لكن الإبداع، خاصّة عندما يكون أصيلا مميّزا، بطبيعته يقدم- ولا نقول بشكل فجّ يعكس- إمكانيّة لهويّة سرديّة، بتعبير بول ريكور، تحمل معاني ودلالات وجود الفرد المختلف ضمن ارتباطاته بذاته وبالآخرين والعالم المحيط به. ومن ثمّة فالإبداع لا يعكس الواقع مباشرة لأنّه ببساطة ليس هناك ما درج الكثير على تسميته ” الانعكاس المباشر للواقع”. ويعبّر عبد الله العروي عن سرّ هذه الالتباسات في كون “أنّ الأدب العربي الحديث قد حرص على التّعبير عن ذاته والاكتمال في الأشكال الّتي عالجناها: الرواية، القصّة، المسرح…دون أن يشكّك بها، وذلك بسبب القيمة الكونيّة الشّاملة الّتي كان يمنحها إيّاها مبدئيا. وبالضّبط لأنّ الفكر العربي كان يرفض بعناد أن يفكّر في الشّروط التاريخيّة الاجتماعيّة الّتي حكمت نضج هذه الأشكال في بعض البلدان، فإنّه أقفل دون نفسه أبواب الاكتشاف والتّجدد.”7 لكنّ اليوم يبدو أن الكثير من هذه الالتباسات والعوائق قد تمّ وعيها والاشتغال عليها نقديا وإبداعيا ممّا انعكس إيجابيا، إلى حدّ مّا، على الحضور الأدبيّ الفنيّ والنّقديّ العربيين. الشّيء الذّي جعل أسئلة الذاتيّ والفرديّ تتكامل جدليا في أشكال أدبيّة تمنحها خصوصيّة نابعة من سيرورة تطوّر الأشكال الأدبيّة في علاقتها بصيرورة تحوّلات الواقع الاجتماعيّ في مستوياته الاقتصاديّة السياسيّة الإيديولوجيّة، وفي تفاعلاته الداخليّة والخارجيّة.
والنّاقد نجيب العوفي يحاول هو الآخر إعطاء إجابة لحضور المكوّن السير ذاتي إلى جانب تقنية ميتا/سرد في كلّ من “كان وأخواتها” و” لعبة النّسيان” “فهل هي الصّدفة المحضة الّتي أملت هذه التقنية الخاصّة، كما أملت سيرتين ذاتين في فترة واحدة؟ أم أنّ للذّاكرة النقديّة والثقافيّة للكاتبين، الشاوي وبرادة باعتبارهما متخصّصين في قراءة الإبداع ونقده، ضلعا في هذه التقنية؟ أرجح في رأيي الاحتمال الثاني، أمّا بخصوص الكتابة الأوتوبيوغرافيّة وتواترها على امتداد العقدين الأخيرين، فلعلّ الجواب على ذلك نلتمسه في شغاف المرحلة ذاتها، إنّ الكتابة الأوتوبيوغرافيّة باعتبارها انكفاء على الذّات واسترجاعا لماضي ولى علامة على احتقان ما يصلب الشرايين ويضغط على الفؤاد. احتقان يطول الذّات كما يطول التاريخ”8. إنّ الّناقد لا يعطينا إجابة مقنعة لسر الظّاهرة الّتي لاحظها، إذ يكتفي بمصطلحات عائمة: الذّات، المرحلة والتّاريخ، دون بحث عميق ينظر إلى المصطلحات السّابقة كمفاهيم قادرة على إنتاج معرفة بإشكاليّة حضور الكتابة الذاتيّة في الرواية. كتعبير عن ولادة الفرد إبداعيا وهو يعلن في شكل الكتابة عن جسامة المسؤوليّة الملقاة على عاتقه كقدر لا مفرّ منه، فهو- المبدع- ينطلق من ذاته لا ليتقوقع وينكفئ، بل ليؤسّس فرديته كمشروع وجوديّ حرّ مستقل مسؤول في إرادته، فاعل ومتفاعل، صاحب خيارات وتوجهات تبنى ولا تعطى في دائرة الصّراعات الاجتماعيّة السياسيّة والثقافيّة-هل نجح المبدع في ذلك أم لا ذلك نقاش آخر- وفي مقالة لأحمد المديني” مدخل إلى قراءة البطل في القصّة المغربيّة” 9 يخلص بعد تحليل لأشكال القصّ بالمغرب إلى أنّ الرواية المغربيّة تعاني من مشكلة التّركيب المفقود بين العقد الاجتماعيّ والعقد الأوتوبيوغرافي، وأنّ السّبب في ذلك هو سيطرة السّيرة، وذلك لانشغالات الكاتب الكثيرة، ورغم ذلك فكتابة السّيرة الذاتيّة في نظره ” ربّما يكون حين فعل ذلك – الكاتب- قد أعلن القطيعة مع مرحلة من التّقاليد السرديّة في الأدب الوطنيّ”10 . وللأحمد المديني موقف إيجابي من هذه الكتابة الحديثة الّتي امتطت صهوة التّجريب، وذلك من خلال ” تقميش البنية السرديّة الاجتماعيّة بظلال الرؤية الشعريّة، وتغيير أدوار ضمائر الخطاب الروائي”11. ممّا سيمكّن الرواية من تحقيق جدل الذّات والفرّ في الواقع الحيّ. إلّا أنّ تحليله لم يصل الى درجة تفسير خلفيات الظّاهرة وتحديد أسبابها المقنعة حول انتشار السيرة الذاتيّة، فقد اكتفى بالإقرار بسيادتها” لم يعد اليوم موضع جدل في أنّ أول إنتاج روائي كتب في المغرب انتمى إلى السيرة الذاتيّة، فيما تتواصل باقي النتاجات الروائيّة في آخر مظاهر منها لكي تقترف خطاب الذّات على حساب الخطاب الجماعي الّذي يحظى أكثر من غيره بترحيب وعناية الوسط الأدبيّ النقديّ”12. وبالفعل ظهرت في السّاحة الثقافيّة المغربيّة وحتّى العربيّة بعد تاريخ مقالة المديني هذه روايات لا تخرج عن إطار الشّكل السير ذاتي، وفي هذا ما يؤكّد أنّ الظّاهرة تحتاج إلى دراسة حقيقيّة وفق مقاربة تضع الإبداع داخل التّحولات المجتمعيّة، وفي سياق المتغيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة الّتي فرضتها المرحلة الكولونياليّة وما بعد الاستقلالات وما تولّد عنها من بنى وصراعات داخليّة وخارجيّة في طار وحدة التّاريخ العالميّ الّذي فرضته الرأسماليّة في تطوّرها الاستعماريّ والإمبرياليّ، ممّا جعل الأطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثّقافة تتزلزل بعنف بين الاقتلاع والاجتثاث غالبا، والتّغيير أحيانا أخرى انسجاما مّا إكراهات الضّرورة التاريخيّة لصدمة الحداثة ورضة الهزائم وسطوة الاستبداد المتواصل في وجه الفرد والمجتمع. وهذا ما جعل من الصّعب فهم المحاولات الأدبيّة لبروز الفرد وتحمله مشقة حمل عبء الخروج من ذاتيته وإعلان فرديته واختلافه مع ووسط الآخرين في العالم المحيط به.
وفي حوار أجرته جريدة “أنوال” المغربيّة مع المفكّر الرّاحل جورج طرابيشي صرّح بأنّ الرواية العربيّة ذاتيّة باستثناء روايات عبد الرحمن منيف، مدن الملح، لكنّه استثناء مع نوع من التّحفظ ، لأنّه يعتقد بأنّ الرواية العربيّة لا يمكنها أن تحقّق تجربة الكتابة الموضوعيّة، بسبب التّغير والحركة اللّذين يميزان الواقع العربي الرّاهن” أحبّ أن أشير إلى أنّ الرواية العربيّة ماتزال من النّوع الذاتيّ والشخصيّ ونادرة هي الأعمال الروائيّة العربيّة الّتي استطاعت أن تقيّم عالما كبيرا من الشخصيات الموضوعيّة والّتي لا تتّصل اتّصالا مباشرا بذات الكاتب، أذكر من ذلك مثلا مدن الملح لعبد الرحمن منيف فهي واحدة من الروايات التقليديّة الّتي استطاعت أن تحقّق هذه النّقلة إلى العالم الموضوعيّ الكبير للرواية”.13 هكذا يسجّل جورج طرابيشي بأنّ الرواية العربيّة لم تخرج عن المستوى الذاتيّ. وهذه النظرة السلبيّة للبعد الذاتيّ في الرواية العربيّة هو ما يعبّر في الوقت ذاته عن ثقافة تقليديّة وسياسيّة استبداديّة، سواء كانت رسميّة أو معارضة بمختلف تلويناتها من الليبراليّة إلى اليساريّة تحتقر بروز الفرد في وجوده الإبداعيّ والثقافيّ والاجتماعيّ الانسانيّ كضرورة تاريخيّة لا مفرّ منها. والغريب في الأمر أن يسهم المثقف العربي في هذا الإلغاء والنّفي إلى درجة الهدر الصّريح لإمكانيّة الاعتراف بالفرد، الّذي هو اعتراف بالقيمة الانسانيّة للإنسان. هكذا تواطأ الجميع ضدّ الحقّ في الاعتداد والتّقدير غير المشروط لفرديته في وسط مجتمعي اعتبر الفرد فضيحة أخلاقيّة. الشّيء الّذي جعل من الصعب مقاربة الإبداع الروائيّ في بعده السير ذاتي كجدل للذاتي والفرد في التّاريخ الاجتماعي العربي. كما أنّ الرؤية الضّيقة الّتي من خلالها يفسّر جورج طرابيشي الرواية العربيّة جعلته يقلل من قيمة هذا الإبداع دون وعي منه بالسّياقات الّتي تحاول الرواية كهويّة سرديّة إنتاج معرفة بها من خلال أدواتها الفنيّة. ” لا أعتقد أنّ الرواية العربيّة في الظّرف الرّاهن تستطيع أن تتجاوز هذا الّذي أشرت إليه من الطّابع الشّخصيّ أو الذاتيّ للعالم الروائيّ، وذلك لأنّ العالم الروائي الموضوعي لم يعد قابلا للإنتاج. بمعنى أنّه لو كنّا نعيش في ظلّ ظروف هادئة ومستقرّة لا تتغيّر فيها الأشياء بسرعة لاستطعنا، ربّما، أن ننتج عالما روائيا موضوعيا”.14 أمّا لماذا استطاع الفرنسي والأوروبي ذلك في نظر جورج طرابيشي فبسبب الرّكود والسّكون اللذين يطبعان واقعه. لكنّنا نرى العكس فأوروبا لم تكن في وضع راكد وساكن أو بطيء التغيّر، بل عرفت تحوّلات عنيفة ولا تزال إلى يومنا هذا تتغيّر باستمرار. فكتابات بلزاك الموصوفة بحياد توجّهات وقناعات الكاتب في رسم عالمه الروائي لم تظهر إلّا في أحد أعنف تحوّلات أوروبا، وهو الظّرف التاريخي الّذي عرف ظهور البرجوازيّة على السّاحة الاجتماعيّة، وما رافق ذلك من تحوّلات اجتماعيّة، فكريّة، سياسيّة…، لهذا لا نتفق مع تحليل طرابيشي. والأكثر من هذا لم يكن للرواية الأوروبيّة أن تكون إلّا لأنّها حقّقت جدل التّكامل بين الذاتيّ والفرديّ، والمعنى المقصود بالفرد هنا هو ظهور علاقات اجتماعيّة جديدة بعيدا عن الموروث والنّاجز في رسم سيرورة بيوغرافيّة الإنسان كجزء من العضويّة الرعويّة الاجتماعيّة، أو كذاتيّة مهمّشة منبوذة.
إنّ الظاهرة تدفعنا إلى طرح تساؤلات تخصّ التاريخي، والاجتماعي السّياسي والثّقافي…، إنّها عوامل كثيرة هي الّتي تحكّمت في سيادة الكتابة الذاتيّة بمعناها الفردي المتوافق مع ما يعتمل في بنى التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ من تحوّلات وصراعات. هكذا كان الروائي العربي يصفّي حساباته الذاتيّة كنقد ذاتيّ بشكل علني فنّي جماليّ في تعرية الذّات والمجتمع قصد نيل جدارة استحقاق قيمة الفرديّة إبداعيا واجتماعيا، لأنّ الإبداع فردي بامتياز حتّى لو كتبته الجماعة في تنوّعها واختلافها وتعدّدها، فهو متعلّق بالكيف ولا علاقة له بالحساب العددي الجمعي. أفق الذّات هو الفرد الحرّ الّذي يحتضن الآخر والمجتمع والعالم، وليس العيش كأسير لكلّ هذه الدوائر.
وفي مقالة ليوسف بزي يلاحظ بأنّ الكتابة العربيّة تكاد تكون سيرة ذاتيّة إلى درجة انتشار ظاهرة اليوميات على أعمدة الصّحف والمجلاّت، وهو لا يستثني أحدا من الظّاهرة: الكتّاب، النّقاد، الشّعراء والسياسيون والسينمائيون مثل محمد ملص ويوسف شاهين “إنّ الشّواهد على هذه الظّاهرة كثيرة ولا حصر لها وقد نقول بحقّ أنّ عقد التسعينات في الأدب العربيّ هو عقد السيرة الذاتيّة بتفوق وجدارة”15. وإذا كانت السيرة الذاتيّة، أو أيّ ملمح منها في الرواية أو الشّعر ينقص في نظر الكثيرين من قيمة أدبيّة النّصوص الإبداعيّة فإنّ الأمر في الواقع يختلف عن كلّ هذه التّرهات الّتي تسكنها الأطر التقليديّة لاعتبار الفرد فضحية أخلاقيّة وإبداعيّة…، ويوسف بزي يرجع هذه السّيادة للذاتيّة إلى اعتبارات كثيرة منها الخوف من الموت الّذي لم يوفّر أي شيء: الذّاكرة والتّاريخ” هذا الانشغال المحموم بإعلان الذاكرات الفرديّة، لا شكّ أنّه متأت من خوف مسوغ، الخوف من الموت. إنّما هذه المرة الموت مختلف لأنه يتجاوز الموت الجسدي الفردي، ليطال موت الذّاكرة الجماعيّة، موت الماضي وليس انقضاءه فحسب، وثمّة خوف حقيقي من تلاشي الأحلام”16. إنّ هذه الفرديّة تنهض كذاكرة حيّة في وجه هذا الموات الأبدي للأبويّة المستحدثة في شخص الاستبداد السياسيّ الّذي يكرّس ثقافة الرعية في وجه أفراد أحرار متحرّرين من حجر الوصاية، والمنفتحين على الفضاء العام المحقّق للوجود السياسيّ لثقافة المواطنة وكلّ ما يرتبط بها من حقوق الإنسان. فبسبب هذا الموت الّذي يبسط سيادته على كلّ شيء تنهض الذاتيّة كفرد مسؤول لتوثق زمنا له أحداثه، وقائعه، وثقافته وجلادوه، من خلال شكل الكتابة الابداعيّة الّتي لا تعكس ولا تصوّر واقعا مباشرا بقدر ما تستثمر وفق خصاصها المعنويّة والدلاليّة المتن الواقعي لتؤسّس مبنى فنيّ جمالي من ضمن أهدافه تعرية سياسة تكريس سلطة الآباء في قتل الأبناء ممّا يحول دون ولادة الفرد المواطن المختلف والمتنوّع والديمقراطي الحداثي، ولفضح ” القمع والرّقابة والتّحريف والتّزوير والطّمس”17 أمام واقع كهذا فإنّ الكاتب “جعل مسألة التّذكر، البحث عمّا بقي من ذاكرة تحمينا من الفراغ، مسألة مطروحة بقوّة، ليس على ما يكتب اليوم، بل على ما كتب بالأمس، لإعادة النّظر فيه وترميمه وربّما أيضا تصحيحه أو إبداله كليا.”18 ويحصر يوسف بزي أسباب هذه الظّاهرة في القناعات والمعتقدات الإيديولوجيّة، أي في الثّقافة التقليديّة السّائدة المتجذرة عبر التّاريخ في الوعي والممارسات الاجتماعيّة، وهي ثقافة الخوف من إرادة الفرد الحرّ المستقل، والخوف من التّنوع والتّعدد والاختلاف. كلّ هذه العورات كشفتها الانهيارات والهزائم المتتالية في التّاريخ العربيّ مجتمعا ودولة وثقافة “فكانت كلّ فرديّة هي شذوذ: انهزامي، رجعي، نرجسي، أناني، خارج الصّف، بورجوازي صغير.”19 ويعتقد أيضا بأنّ السّلطة ساهمت في نشر الثّقافة الواحدة، تاريخ واحد، فنّ واحد ذاكرة واحدة…، ممّا جعلنا نضيع الفرديّة، الديمقراطيّة، التعدديّة. هكذا يجعل من السيرة الذاتيّة أسلوبا للفضح وإثارة المسكوت عنه، وهو في ذلك لا يرى بأنّ السيرة نوع من الانكفاء على الذّات سببه التّقوقع الرمزي، بل يرى للمثقف العربي دورا في المجتمع كفرد فاعل تخطى ذاتيته الضيّقة وهو يمارس إرادته في التّأثير في محيطه وإثبات وجوده، ” وأفضل هذه المسوغات لفكّ عزلته وهامشيته وكبح النّسيان والطّمس وسلوك الخفّة، أن يجعل سيرته كقيمة قابلة لأن يشاركه فيها الآخرون. فالأفكار المجرّدة لم تعد تصل إنّها في حاجة إلى لحم ودم، إلى حياة حقيقيّة مدهشة وليس هناك أكثر إدهاشا من سيرة مثقف عربي بقي على قيد الحياة.”20 وفي هذا السّياق كتب المفكّر والنّاقد عبد الله إبراهيم ” أمواج” سيرة عراقيّة معلنا فرديّة متحرّرة من الكثير من الكوابح والتّحفظات، وملتزمة بالحرارة والصّدق على حدّ قوله إلّا أنّه أعلن بشكل صريح عن نوع من التّمرحل الإيجابيّ والسلبيّ في تعامل المبدع مع فرديته، حيث تتراجع فرديّة الإنسان كلّما تقدّم في العمر. وذلك بسبب ثقل الواقع الضّاغط بتقليده وإكراهاته. “فكأنّ الحياة، في المجتمعات التقليديّة، تهمة ينبغي علينا ختمها بصكّ براءة… ويرى د. عبدالله أنّه كلّما تقدّم العمر بالمرء تنطفئ حرارة التّجارب في داخله، ففي مجتمع ضاغط، ومجهّز بنظام شامل من قيم الامتثال والولاء، تتراجع فرديّة المرء واستقلاليته كلّما خطا به الزّمان إلى الأمام، فينتهي مرائيا أكثر منه فردا قادرا على الإفصاح عن نفسه، وتجاربه، وأخطائه، وعيوبه؛ لأنّ الاعتراف بذلك يُنبذه من سياق أصبح – بفعل الكِبَر – بحاجة إليه”21
هكذا تتّضح لنا المخاضات العسيرة لولادة الفرد في مجتمعاتنا بمعناه الحديث والحداثيّ، وهي عمليات تاريخيّة اجتماعيّة ثقافيّة تفرض نفسها بموضوعيّة ولن تستطيع المخاوف والتّحفظات أن تقف في وجهها، بل تتطلّب الاستجابة لتحدياتها في إنتاج قيمها الفنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والقانونيّة….
*****
الهوامش:
1و2 علي بن ساعود تجاعيد الأسد لعبد اللّطيف اللعبي: النّص المشاغب والبطل الهارب، ضمن جريدة أنوال، السنة ،1992 ص 10.
3 المرجع نفسه.
4- محمد علوط: نصّ الذّات وأوهام الشّكل، مجلة آفاق، ع1، س1990، ص 189.
5- عبد اللّطيف اللعبي: تجاعيد الأسد، ترجمة: محمد الشركي، ط1، س 1989، ص 78.
6- أحمد المديني: طريق السحابسنة، 1994، ص 33.
7- عبد الله العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة، ط2، س 1979، ص 180.
8- عبد الله العروي: أوراق سيرة إدريس الذهنية، س 1989، ص 240و241.
9- نجيب العوفي: لذّة النّص/ عنف النّص، ضمن أوال الثقافي، س 1988، ص 6.
10 أحمد المديني: مجلة الفكر العربي المعاصر، ع34، س 1985، ص 61.
11- المرجع نفسه، ص 73.
12- المرجع نفسه، ص 74.
13- المرجع نفسه، ص 73.
14- جورج طرابيشي: أنوال الثقافي، مرجع مذكور، ص 8.
15- المرجع نفسه، ص8.
16 يوسف بزي: سفر الخروج، مجلة الناقد، ع79، س 1995، ص38.
17- المرجع نفسه، ص 39.
18- المرجع نفسه، 39.
19- المرجع نفسه، ص 40.
20- المرجع نفسه، ص 40.
21- middle-east-online.com/عبدالله-إبراهيم-يروي-سيرة-مثقف-عراقي-بسرد-على-هيئة-الموج
وفي انتظار الحصول على نسخة من ” أمواج” وقراءتها تبقى هذه السطور مجرّد إشارات لا أقلّ ولا أكثر.
www.alawan.org
التّعبير عن الذّات بشكل صريح أو متحفّظ هي مسألة قديمة مارستها كلّ شعوب العالم بتعبيرات وأشكال رمزيّة مختلفة، ومتفاوتة في حدّتها وحرارتها النفسيّة والأخلاقيّة الاجتماعيّة، وفي مستوياتها الفنيّة والسرديّة في الخضوع للقواعد والأعراف والتّقاليد المجتمعيّة والشّعائر الدينيّة…، أو في انتهاك كلّ الطابوهات وسياجات المقدّس الجمعيّ المتوارث اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. بمعنى أنّ الذاتيّة مهما على شأنها، وبرزت جرأتها واستثنائيتها في المجتمع والثّقافة كانت تعاني من وطأة حدود ومحدوديتها سقفها الاجتماعيّ والثقافيّ، لهذا كانت بمثابة لحظات ضوء هارب في حياة المجتمعات. وما كان لها لتعرف تحوّلا نوعيا إلّا مع العصور الحديثة الّتي عرفت ولادة الفرد كعلاقات مجتمعيّة أفرزتها تحوّلات بنى التركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ الثقافيّ للحداثة، الشّيء الّذي منح أفقا رحبا لنوع من جدل التّكامل بين الذاتيّة والفرد. وفي سياق التّحولات الماديّة والرمزيّة الّتي جاءت بها الحداثة ظهرت الرواية كشكل إبداعي سردي متوافق مع التّناقضات والتّغيرات والصّراعات والعلاقات الاجتماعيّة الجديدة الّتي أنتجتها الرأسماليّة في سيرورتها التاريخيّة. فظهرت قيم ثقافيّة واجتماعيّة سياسية تعبّر عن واقع التحوّلات الحاصلة في الدولة والمجتمع والثّقافة، تبعا لصيرورة الهويّات المتجدّدة في حركة التّاريخ الاجتماعيّ للانتظام الانسانيّ. ومن بين هذه التّحولات الاجتماعيّة والثقافيّة ظهرت الفرديّة كقيمة إنسانيّة متحرّرة من الجاهزيّة في سيرورة نشأتها وتكوّنها وتطوّرها وتغيّرها المستمر كقيمة إيجابيّة يسعى إليها الإنسان كحقّ وجوديّ لا تسيّج حياته غير القوانين الّتي يسهم بشكل أو بآخر في وضعها وتأسيسها. وتبعا لارتباط مجتمعاتنا بصدمة الحداثة هذه اهتزّت الكثير من الأطر التقليديّة الّتي كانت تحد من تبلور ذاتيّة الإنسان في بروز الفرد كعلاقة اجتماعيّة جديدة ونقيضة لما هو سائد من تراتبيّة القهر والإجماع والعزل والإقصاء الّذي يميّز مجتمع الرّعية والرّاعي، أو بلغة تلطيفيّة المحكوم بالحاكم. وفي سياق صراعات البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة الجديدة، وليس الحديثة أو الحداثيّة، برزت الرواية العربية كتعبير عمّا يعتمل في داخل هذا الواقع الجديد من تناقضات، والّذي لم تفارقه لغة وسياسة الاجماع والجماعة في سطوة الواحديّة والسراطيّة والأحاديّة الأبويّة في الأسرة والمدرسة والحزب والدولة…، واستجابة لكلّ هذه التّحولات العنيفة والمؤلمة كانت الرواية حاضرة كشكل أدبيّ تلازمت بنيويا في ولادتها ونشأتها وتكوّنها بين السيرة والرواية في نوع من جدل التّكامل بين الذاتيّة والفرديّة. وبذلك حاولت أن تعبّر عن بروز الفرد بشكل أو بآخر مقدمة دليلا على أنّ تحولات في العمق المجتمعي قد حدثت في البنيات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ممّا يتطلّب قيما بديلة تنسجم وواقع المرحلة التاريخيّة.
أولا / جدل الذاتيّة والفرد
يمكن لكلّ مهتمّ بالرواية العربيّة في أغلب الإصدارات الحديثة أن يلاحظ بأنّها تنهض في وجودها الفنّي كشكل سردي إبداعي من خلال اعتمادها على الشّكل الأدبيّ للسيرة الذاتيّة. بمعنى أنّ الرواية العربيّة لم يكن لها أن تكون رواية إلّا لأنّها بشكل أو بآخر سيرة ذاتيّة، دون أن يعني ذلك أنّها تعبير مباشر للذّات في علاقتها بنفسها وبالآخر والعالم.” يبدو أنّ الكتابة حول الذّات قد أضحت قدر الرواية المغربيّة، سواء منها المكتوبة باللّغة العربيّة أو باللّغة الفرنسيّة، إلى درجة أنّه أصبح من العسير، في كثير من الأحيان، الفصل والتّمييز بين شخصيّة المؤلّف وشخصيّة عمله حتّى ولو كان عمله مصنفا ضمن خانة الرواية”1 وهذا ما يجعلنا نتساءل عن سرّ ارتباط الرواية في تحقّقها الأدبيّ، أي ما يجعلها أدبيّة، بالسيرة الذاتيّة. فالنّاقد علي بنساعود يرى بأنّ هذه الظّاهرة ” لم تجد اهتماما بها ومحاولة لدراستها وتفسيرها، خصوصا وأنّها انتشرت بشكل ملفت خلال حقبة الثمانينات”2 . لكن هذا النّاقد اكتفى بإشارات بسيطة لا تتجاوز مستوى الملاحظة والرّصد، حيث لم يقدم تفسيرا عميقا لما أثاره من أسئلة تخصّ رفضه للفكرة السّائدة حول ضعف الخيال عند الكتاب، ودعوته إلى البحث في الأوضاع الّتي يجتازها الوطن العربي. فيردّ الظّاهرة إلى اليأس والإحباط وفقدان الثّقة ممّا جعل المثقّفين يلجأون إلى ” الاعتكاف على ذواتهم من أجل تأمّلها، والتملي في تقاطيعها وملامحها”3. وما كان لمثل هذه النّظرة السلبيّة، من طرف النّاقد تجاه ذاتيّة المبدع في تحقّقها الأدبي كشكل سردي روائي، أن تكون قادرة على إدراك سيرورة حالة المخاض الّتي تميز جدل الذّاتي والفرد حيث تحاول الرواية إنتاج معرفة به لكونه إفرازا لصيرورة تحوّلات مجتمعيّة عميقة في بنى التركيب الاجتماعي الاقتصادي، وصراعاته الاجتماعيّة والسياسيّة.
ونجد ناقدا آخر محمد علوط يلاحظ بأنّ الرواية لم تتخلص من كونها سيرة ذاتيّة، حيث يؤسّس فكرته على ملاحظات عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي “ذلك أنّ النّص الروائي العربي التخييلي، لم يخرج أبدا عن كونه نصّا سيريا، ونصّا حول الذات. وهو الشّيء الّذي انتبه إليه عبد الكبير الخطيبي في مؤلفه “الرواية المغربية”، وجورج طرابيشي في كلّ من “عقدة أوديب في الرواية العربيّة” و”الرجولة وإيديولوجيا الرّجولة في الرواية العربيّة”4. ويعزّز محمد علوط تصوّره هذا باعتماده على عبد الله العروي في كتابه الصادر سنة 1979 “الايديولوجية العربيّة المعاصرة” . وانطلاقا من هذه المسافة الزمنيّة تتناسل الأسئلة حول طبيعة وخصائص الكتابة الأدبيّة، في أدواتها وقوانينها ومنطقها الدّاخلي، وفي التّفاعل الحاصل بين المتخيّل والواقع، بالإضافة إلى الجدل المؤلم بين الذاتيّ وملمح تشكّل الفرد الحرّ المستقل الفاعل، والمبدع الخلاّق في تأسيس حضوره كمشروع وجوديّ فنيّ ومجتمعيّ، تبعا لتحوّلات المجتمع في إكراهاتها الجاذبة إلى حدّ الرّعب والعنف في منعطفات، أو قطائع هزّاتها القاسية، كما لو أنّ ” قوّة الواقع تضاهي قوّة الخيال”4. أي أنّنا إزاء سيرورة الذاتي في تكوّنه وتطوّره تبعا لجدل التّكامل بين الذاتيّ والفرديّ، أو قل كتجلي إبداعي لولادة الفرد في تحقّقه الوجودي الصّعب بدفع الثّمن من حياته الحيّة أدبيا ومجتمعيا، بعيدا عن طمأنينة الأطر التقليديّة الّتي كانت تحتضن بيوغرافيته الجاهزة والنّاجزة من المهد إلى اللّحد، تبعا لتراتب المنازل، أي المواقع الطبقيّة. ولهذا ” سيظلّ الواقع أكبر فخّ يحجزنا نحن كتاب القصّة العرب، ما أن نفكر لحظة في الانفلات منه إلّا ونجده يزداد تكبيلا لنا وتقييدا لكلّ تحليق نحلم به نحو تخوم وآفاق التّخييل البعيدة”5 لأنّ الشّروط التاريخيّة الاجتماعيّة كانت تطرح جسامة المسؤوليّة في ولادة، أو تشكّل الفرد كصوت حرّ نقديّ مختلف في التّصور والرؤية والممارسة، وفي الأفكار والعلاقات والتّفاعل، وفي بناء الخيارات والتّوجهات والاتّجاهات الفنيّة والفكريّة والثقافيّة والقيميّة الأخلاقيّة والاجتماعيّة، وفي هذا السّياق يمكن فهم عمق الفكرة الّتي طرحها العروي ” التّاريخ تتابع الأحداث، الحبّ تمجّ الوجدان، كلّ رواية سيرة، إمّا من الحب إلى التاريخ لاكتشاف المجتمع في قلب الذّات، وإمّا من التّاريخ إلى الحب لإنقاذ الذّات من الغرق في خضم التّاريخ. هذا هو زمن الرواية كلّ رواية عندما تكون ذات صدى ذي هالة.” 6
وفي دراسته لمجموعة من الروايات المغربيّة في كتابه” ديناميّة النّص الروائي” يرى النّاقد أحمد اليابوري بأن النّصوص التالية : “الزاوية” ، ” الغربة”، ” لعبة النّسيان، المرأة والوردة…، لها علاقة مع المرجع السير ذاتي، حيث يشير إلى كون الانتاج الروائي المغربي يحتلّ فيه الشكلان السير ذاتي والروائي التاريخي موقعا متميّزا في الأدب المغربي الحديث. فالنّاقد لا يبحث أسباب انتشار هذا الشّكل الأدبي الّذي يميّز الرواية في نشأتها وتكونها، لأن ذلك في نظره مجرّد تعبير عن تطور طبيعي ابتداء من شكل الكتابة المسمى بـ “الرحلة”. وهذا ما جعل من الصّعب عليه أن يدرك جدل التّكامل بين الذاتي والفرد، أو قل بتعبير أدقّ لم يدرك عمق التّرابط بين الرواية كشكل تعبيري أدبي أنتجته الشروط التاريخيّة والتّحولات المجتمعيّة للبرجوازيّة الغربية وبين الفرد كبناء حداثي بلورته الحداثة وفق معاييرها الاقتصاديّة والسياسيّة والقانونيّة، والاجتماعيّة الثقافيّة. وهذا ما تناوله بوضوح أكبر كلّ من باختين وجورج لوكاتش…
صحيح بأنّ المبدع قد لا يكون واعيا بهذه السياقات والتّرابطات في خلفياتها العميقة، وهي تنتج جديدا في التّصورات والأفكار والمفاهيم والنظريات والإبداع، وفي الممارسات والعلاقات والدلالات القيميّة الاجتماعيّة والثقافيّة، لكن الإبداع، خاصّة عندما يكون أصيلا مميّزا، بطبيعته يقدم- ولا نقول بشكل فجّ يعكس- إمكانيّة لهويّة سرديّة، بتعبير بول ريكور، تحمل معاني ودلالات وجود الفرد المختلف ضمن ارتباطاته بذاته وبالآخرين والعالم المحيط به. ومن ثمّة فالإبداع لا يعكس الواقع مباشرة لأنّه ببساطة ليس هناك ما درج الكثير على تسميته ” الانعكاس المباشر للواقع”. ويعبّر عبد الله العروي عن سرّ هذه الالتباسات في كون “أنّ الأدب العربي الحديث قد حرص على التّعبير عن ذاته والاكتمال في الأشكال الّتي عالجناها: الرواية، القصّة، المسرح…دون أن يشكّك بها، وذلك بسبب القيمة الكونيّة الشّاملة الّتي كان يمنحها إيّاها مبدئيا. وبالضّبط لأنّ الفكر العربي كان يرفض بعناد أن يفكّر في الشّروط التاريخيّة الاجتماعيّة الّتي حكمت نضج هذه الأشكال في بعض البلدان، فإنّه أقفل دون نفسه أبواب الاكتشاف والتّجدد.”7 لكنّ اليوم يبدو أن الكثير من هذه الالتباسات والعوائق قد تمّ وعيها والاشتغال عليها نقديا وإبداعيا ممّا انعكس إيجابيا، إلى حدّ مّا، على الحضور الأدبيّ الفنيّ والنّقديّ العربيين. الشّيء الذّي جعل أسئلة الذاتيّ والفرديّ تتكامل جدليا في أشكال أدبيّة تمنحها خصوصيّة نابعة من سيرورة تطوّر الأشكال الأدبيّة في علاقتها بصيرورة تحوّلات الواقع الاجتماعيّ في مستوياته الاقتصاديّة السياسيّة الإيديولوجيّة، وفي تفاعلاته الداخليّة والخارجيّة.
والنّاقد نجيب العوفي يحاول هو الآخر إعطاء إجابة لحضور المكوّن السير ذاتي إلى جانب تقنية ميتا/سرد في كلّ من “كان وأخواتها” و” لعبة النّسيان” “فهل هي الصّدفة المحضة الّتي أملت هذه التقنية الخاصّة، كما أملت سيرتين ذاتين في فترة واحدة؟ أم أنّ للذّاكرة النقديّة والثقافيّة للكاتبين، الشاوي وبرادة باعتبارهما متخصّصين في قراءة الإبداع ونقده، ضلعا في هذه التقنية؟ أرجح في رأيي الاحتمال الثاني، أمّا بخصوص الكتابة الأوتوبيوغرافيّة وتواترها على امتداد العقدين الأخيرين، فلعلّ الجواب على ذلك نلتمسه في شغاف المرحلة ذاتها، إنّ الكتابة الأوتوبيوغرافيّة باعتبارها انكفاء على الذّات واسترجاعا لماضي ولى علامة على احتقان ما يصلب الشرايين ويضغط على الفؤاد. احتقان يطول الذّات كما يطول التاريخ”8. إنّ الّناقد لا يعطينا إجابة مقنعة لسر الظّاهرة الّتي لاحظها، إذ يكتفي بمصطلحات عائمة: الذّات، المرحلة والتّاريخ، دون بحث عميق ينظر إلى المصطلحات السّابقة كمفاهيم قادرة على إنتاج معرفة بإشكاليّة حضور الكتابة الذاتيّة في الرواية. كتعبير عن ولادة الفرد إبداعيا وهو يعلن في شكل الكتابة عن جسامة المسؤوليّة الملقاة على عاتقه كقدر لا مفرّ منه، فهو- المبدع- ينطلق من ذاته لا ليتقوقع وينكفئ، بل ليؤسّس فرديته كمشروع وجوديّ حرّ مستقل مسؤول في إرادته، فاعل ومتفاعل، صاحب خيارات وتوجهات تبنى ولا تعطى في دائرة الصّراعات الاجتماعيّة السياسيّة والثقافيّة-هل نجح المبدع في ذلك أم لا ذلك نقاش آخر- وفي مقالة لأحمد المديني” مدخل إلى قراءة البطل في القصّة المغربيّة” 9 يخلص بعد تحليل لأشكال القصّ بالمغرب إلى أنّ الرواية المغربيّة تعاني من مشكلة التّركيب المفقود بين العقد الاجتماعيّ والعقد الأوتوبيوغرافي، وأنّ السّبب في ذلك هو سيطرة السّيرة، وذلك لانشغالات الكاتب الكثيرة، ورغم ذلك فكتابة السّيرة الذاتيّة في نظره ” ربّما يكون حين فعل ذلك – الكاتب- قد أعلن القطيعة مع مرحلة من التّقاليد السرديّة في الأدب الوطنيّ”10 . وللأحمد المديني موقف إيجابي من هذه الكتابة الحديثة الّتي امتطت صهوة التّجريب، وذلك من خلال ” تقميش البنية السرديّة الاجتماعيّة بظلال الرؤية الشعريّة، وتغيير أدوار ضمائر الخطاب الروائي”11. ممّا سيمكّن الرواية من تحقيق جدل الذّات والفرّ في الواقع الحيّ. إلّا أنّ تحليله لم يصل الى درجة تفسير خلفيات الظّاهرة وتحديد أسبابها المقنعة حول انتشار السيرة الذاتيّة، فقد اكتفى بالإقرار بسيادتها” لم يعد اليوم موضع جدل في أنّ أول إنتاج روائي كتب في المغرب انتمى إلى السيرة الذاتيّة، فيما تتواصل باقي النتاجات الروائيّة في آخر مظاهر منها لكي تقترف خطاب الذّات على حساب الخطاب الجماعي الّذي يحظى أكثر من غيره بترحيب وعناية الوسط الأدبيّ النقديّ”12. وبالفعل ظهرت في السّاحة الثقافيّة المغربيّة وحتّى العربيّة بعد تاريخ مقالة المديني هذه روايات لا تخرج عن إطار الشّكل السير ذاتي، وفي هذا ما يؤكّد أنّ الظّاهرة تحتاج إلى دراسة حقيقيّة وفق مقاربة تضع الإبداع داخل التّحولات المجتمعيّة، وفي سياق المتغيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة الّتي فرضتها المرحلة الكولونياليّة وما بعد الاستقلالات وما تولّد عنها من بنى وصراعات داخليّة وخارجيّة في طار وحدة التّاريخ العالميّ الّذي فرضته الرأسماليّة في تطوّرها الاستعماريّ والإمبرياليّ، ممّا جعل الأطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثّقافة تتزلزل بعنف بين الاقتلاع والاجتثاث غالبا، والتّغيير أحيانا أخرى انسجاما مّا إكراهات الضّرورة التاريخيّة لصدمة الحداثة ورضة الهزائم وسطوة الاستبداد المتواصل في وجه الفرد والمجتمع. وهذا ما جعل من الصّعب فهم المحاولات الأدبيّة لبروز الفرد وتحمله مشقة حمل عبء الخروج من ذاتيته وإعلان فرديته واختلافه مع ووسط الآخرين في العالم المحيط به.
وفي حوار أجرته جريدة “أنوال” المغربيّة مع المفكّر الرّاحل جورج طرابيشي صرّح بأنّ الرواية العربيّة ذاتيّة باستثناء روايات عبد الرحمن منيف، مدن الملح، لكنّه استثناء مع نوع من التّحفظ ، لأنّه يعتقد بأنّ الرواية العربيّة لا يمكنها أن تحقّق تجربة الكتابة الموضوعيّة، بسبب التّغير والحركة اللّذين يميزان الواقع العربي الرّاهن” أحبّ أن أشير إلى أنّ الرواية العربيّة ماتزال من النّوع الذاتيّ والشخصيّ ونادرة هي الأعمال الروائيّة العربيّة الّتي استطاعت أن تقيّم عالما كبيرا من الشخصيات الموضوعيّة والّتي لا تتّصل اتّصالا مباشرا بذات الكاتب، أذكر من ذلك مثلا مدن الملح لعبد الرحمن منيف فهي واحدة من الروايات التقليديّة الّتي استطاعت أن تحقّق هذه النّقلة إلى العالم الموضوعيّ الكبير للرواية”.13 هكذا يسجّل جورج طرابيشي بأنّ الرواية العربيّة لم تخرج عن المستوى الذاتيّ. وهذه النظرة السلبيّة للبعد الذاتيّ في الرواية العربيّة هو ما يعبّر في الوقت ذاته عن ثقافة تقليديّة وسياسيّة استبداديّة، سواء كانت رسميّة أو معارضة بمختلف تلويناتها من الليبراليّة إلى اليساريّة تحتقر بروز الفرد في وجوده الإبداعيّ والثقافيّ والاجتماعيّ الانسانيّ كضرورة تاريخيّة لا مفرّ منها. والغريب في الأمر أن يسهم المثقف العربي في هذا الإلغاء والنّفي إلى درجة الهدر الصّريح لإمكانيّة الاعتراف بالفرد، الّذي هو اعتراف بالقيمة الانسانيّة للإنسان. هكذا تواطأ الجميع ضدّ الحقّ في الاعتداد والتّقدير غير المشروط لفرديته في وسط مجتمعي اعتبر الفرد فضيحة أخلاقيّة. الشّيء الّذي جعل من الصعب مقاربة الإبداع الروائيّ في بعده السير ذاتي كجدل للذاتي والفرد في التّاريخ الاجتماعي العربي. كما أنّ الرؤية الضّيقة الّتي من خلالها يفسّر جورج طرابيشي الرواية العربيّة جعلته يقلل من قيمة هذا الإبداع دون وعي منه بالسّياقات الّتي تحاول الرواية كهويّة سرديّة إنتاج معرفة بها من خلال أدواتها الفنيّة. ” لا أعتقد أنّ الرواية العربيّة في الظّرف الرّاهن تستطيع أن تتجاوز هذا الّذي أشرت إليه من الطّابع الشّخصيّ أو الذاتيّ للعالم الروائيّ، وذلك لأنّ العالم الروائي الموضوعي لم يعد قابلا للإنتاج. بمعنى أنّه لو كنّا نعيش في ظلّ ظروف هادئة ومستقرّة لا تتغيّر فيها الأشياء بسرعة لاستطعنا، ربّما، أن ننتج عالما روائيا موضوعيا”.14 أمّا لماذا استطاع الفرنسي والأوروبي ذلك في نظر جورج طرابيشي فبسبب الرّكود والسّكون اللذين يطبعان واقعه. لكنّنا نرى العكس فأوروبا لم تكن في وضع راكد وساكن أو بطيء التغيّر، بل عرفت تحوّلات عنيفة ولا تزال إلى يومنا هذا تتغيّر باستمرار. فكتابات بلزاك الموصوفة بحياد توجّهات وقناعات الكاتب في رسم عالمه الروائي لم تظهر إلّا في أحد أعنف تحوّلات أوروبا، وهو الظّرف التاريخي الّذي عرف ظهور البرجوازيّة على السّاحة الاجتماعيّة، وما رافق ذلك من تحوّلات اجتماعيّة، فكريّة، سياسيّة…، لهذا لا نتفق مع تحليل طرابيشي. والأكثر من هذا لم يكن للرواية الأوروبيّة أن تكون إلّا لأنّها حقّقت جدل التّكامل بين الذاتيّ والفرديّ، والمعنى المقصود بالفرد هنا هو ظهور علاقات اجتماعيّة جديدة بعيدا عن الموروث والنّاجز في رسم سيرورة بيوغرافيّة الإنسان كجزء من العضويّة الرعويّة الاجتماعيّة، أو كذاتيّة مهمّشة منبوذة.
إنّ الظاهرة تدفعنا إلى طرح تساؤلات تخصّ التاريخي، والاجتماعي السّياسي والثّقافي…، إنّها عوامل كثيرة هي الّتي تحكّمت في سيادة الكتابة الذاتيّة بمعناها الفردي المتوافق مع ما يعتمل في بنى التّركيب الاجتماعيّ الاقتصاديّ من تحوّلات وصراعات. هكذا كان الروائي العربي يصفّي حساباته الذاتيّة كنقد ذاتيّ بشكل علني فنّي جماليّ في تعرية الذّات والمجتمع قصد نيل جدارة استحقاق قيمة الفرديّة إبداعيا واجتماعيا، لأنّ الإبداع فردي بامتياز حتّى لو كتبته الجماعة في تنوّعها واختلافها وتعدّدها، فهو متعلّق بالكيف ولا علاقة له بالحساب العددي الجمعي. أفق الذّات هو الفرد الحرّ الّذي يحتضن الآخر والمجتمع والعالم، وليس العيش كأسير لكلّ هذه الدوائر.
وفي مقالة ليوسف بزي يلاحظ بأنّ الكتابة العربيّة تكاد تكون سيرة ذاتيّة إلى درجة انتشار ظاهرة اليوميات على أعمدة الصّحف والمجلاّت، وهو لا يستثني أحدا من الظّاهرة: الكتّاب، النّقاد، الشّعراء والسياسيون والسينمائيون مثل محمد ملص ويوسف شاهين “إنّ الشّواهد على هذه الظّاهرة كثيرة ولا حصر لها وقد نقول بحقّ أنّ عقد التسعينات في الأدب العربيّ هو عقد السيرة الذاتيّة بتفوق وجدارة”15. وإذا كانت السيرة الذاتيّة، أو أيّ ملمح منها في الرواية أو الشّعر ينقص في نظر الكثيرين من قيمة أدبيّة النّصوص الإبداعيّة فإنّ الأمر في الواقع يختلف عن كلّ هذه التّرهات الّتي تسكنها الأطر التقليديّة لاعتبار الفرد فضحية أخلاقيّة وإبداعيّة…، ويوسف بزي يرجع هذه السّيادة للذاتيّة إلى اعتبارات كثيرة منها الخوف من الموت الّذي لم يوفّر أي شيء: الذّاكرة والتّاريخ” هذا الانشغال المحموم بإعلان الذاكرات الفرديّة، لا شكّ أنّه متأت من خوف مسوغ، الخوف من الموت. إنّما هذه المرة الموت مختلف لأنه يتجاوز الموت الجسدي الفردي، ليطال موت الذّاكرة الجماعيّة، موت الماضي وليس انقضاءه فحسب، وثمّة خوف حقيقي من تلاشي الأحلام”16. إنّ هذه الفرديّة تنهض كذاكرة حيّة في وجه هذا الموات الأبدي للأبويّة المستحدثة في شخص الاستبداد السياسيّ الّذي يكرّس ثقافة الرعية في وجه أفراد أحرار متحرّرين من حجر الوصاية، والمنفتحين على الفضاء العام المحقّق للوجود السياسيّ لثقافة المواطنة وكلّ ما يرتبط بها من حقوق الإنسان. فبسبب هذا الموت الّذي يبسط سيادته على كلّ شيء تنهض الذاتيّة كفرد مسؤول لتوثق زمنا له أحداثه، وقائعه، وثقافته وجلادوه، من خلال شكل الكتابة الابداعيّة الّتي لا تعكس ولا تصوّر واقعا مباشرا بقدر ما تستثمر وفق خصاصها المعنويّة والدلاليّة المتن الواقعي لتؤسّس مبنى فنيّ جمالي من ضمن أهدافه تعرية سياسة تكريس سلطة الآباء في قتل الأبناء ممّا يحول دون ولادة الفرد المواطن المختلف والمتنوّع والديمقراطي الحداثي، ولفضح ” القمع والرّقابة والتّحريف والتّزوير والطّمس”17 أمام واقع كهذا فإنّ الكاتب “جعل مسألة التّذكر، البحث عمّا بقي من ذاكرة تحمينا من الفراغ، مسألة مطروحة بقوّة، ليس على ما يكتب اليوم، بل على ما كتب بالأمس، لإعادة النّظر فيه وترميمه وربّما أيضا تصحيحه أو إبداله كليا.”18 ويحصر يوسف بزي أسباب هذه الظّاهرة في القناعات والمعتقدات الإيديولوجيّة، أي في الثّقافة التقليديّة السّائدة المتجذرة عبر التّاريخ في الوعي والممارسات الاجتماعيّة، وهي ثقافة الخوف من إرادة الفرد الحرّ المستقل، والخوف من التّنوع والتّعدد والاختلاف. كلّ هذه العورات كشفتها الانهيارات والهزائم المتتالية في التّاريخ العربيّ مجتمعا ودولة وثقافة “فكانت كلّ فرديّة هي شذوذ: انهزامي، رجعي، نرجسي، أناني، خارج الصّف، بورجوازي صغير.”19 ويعتقد أيضا بأنّ السّلطة ساهمت في نشر الثّقافة الواحدة، تاريخ واحد، فنّ واحد ذاكرة واحدة…، ممّا جعلنا نضيع الفرديّة، الديمقراطيّة، التعدديّة. هكذا يجعل من السيرة الذاتيّة أسلوبا للفضح وإثارة المسكوت عنه، وهو في ذلك لا يرى بأنّ السيرة نوع من الانكفاء على الذّات سببه التّقوقع الرمزي، بل يرى للمثقف العربي دورا في المجتمع كفرد فاعل تخطى ذاتيته الضيّقة وهو يمارس إرادته في التّأثير في محيطه وإثبات وجوده، ” وأفضل هذه المسوغات لفكّ عزلته وهامشيته وكبح النّسيان والطّمس وسلوك الخفّة، أن يجعل سيرته كقيمة قابلة لأن يشاركه فيها الآخرون. فالأفكار المجرّدة لم تعد تصل إنّها في حاجة إلى لحم ودم، إلى حياة حقيقيّة مدهشة وليس هناك أكثر إدهاشا من سيرة مثقف عربي بقي على قيد الحياة.”20 وفي هذا السّياق كتب المفكّر والنّاقد عبد الله إبراهيم ” أمواج” سيرة عراقيّة معلنا فرديّة متحرّرة من الكثير من الكوابح والتّحفظات، وملتزمة بالحرارة والصّدق على حدّ قوله إلّا أنّه أعلن بشكل صريح عن نوع من التّمرحل الإيجابيّ والسلبيّ في تعامل المبدع مع فرديته، حيث تتراجع فرديّة الإنسان كلّما تقدّم في العمر. وذلك بسبب ثقل الواقع الضّاغط بتقليده وإكراهاته. “فكأنّ الحياة، في المجتمعات التقليديّة، تهمة ينبغي علينا ختمها بصكّ براءة… ويرى د. عبدالله أنّه كلّما تقدّم العمر بالمرء تنطفئ حرارة التّجارب في داخله، ففي مجتمع ضاغط، ومجهّز بنظام شامل من قيم الامتثال والولاء، تتراجع فرديّة المرء واستقلاليته كلّما خطا به الزّمان إلى الأمام، فينتهي مرائيا أكثر منه فردا قادرا على الإفصاح عن نفسه، وتجاربه، وأخطائه، وعيوبه؛ لأنّ الاعتراف بذلك يُنبذه من سياق أصبح – بفعل الكِبَر – بحاجة إليه”21
هكذا تتّضح لنا المخاضات العسيرة لولادة الفرد في مجتمعاتنا بمعناه الحديث والحداثيّ، وهي عمليات تاريخيّة اجتماعيّة ثقافيّة تفرض نفسها بموضوعيّة ولن تستطيع المخاوف والتّحفظات أن تقف في وجهها، بل تتطلّب الاستجابة لتحدياتها في إنتاج قيمها الفنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والقانونيّة….
*****
الهوامش:
1و2 علي بن ساعود تجاعيد الأسد لعبد اللّطيف اللعبي: النّص المشاغب والبطل الهارب، ضمن جريدة أنوال، السنة ،1992 ص 10.
3 المرجع نفسه.
4- محمد علوط: نصّ الذّات وأوهام الشّكل، مجلة آفاق، ع1، س1990، ص 189.
5- عبد اللّطيف اللعبي: تجاعيد الأسد، ترجمة: محمد الشركي، ط1، س 1989، ص 78.
6- أحمد المديني: طريق السحابسنة، 1994، ص 33.
7- عبد الله العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة، ط2، س 1979، ص 180.
8- عبد الله العروي: أوراق سيرة إدريس الذهنية، س 1989، ص 240و241.
9- نجيب العوفي: لذّة النّص/ عنف النّص، ضمن أوال الثقافي، س 1988، ص 6.
10 أحمد المديني: مجلة الفكر العربي المعاصر، ع34، س 1985، ص 61.
11- المرجع نفسه، ص 73.
12- المرجع نفسه، ص 74.
13- المرجع نفسه، ص 73.
14- جورج طرابيشي: أنوال الثقافي، مرجع مذكور، ص 8.
15- المرجع نفسه، ص8.
16 يوسف بزي: سفر الخروج، مجلة الناقد، ع79، س 1995، ص38.
17- المرجع نفسه، ص 39.
18- المرجع نفسه، 39.
19- المرجع نفسه، ص 40.
20- المرجع نفسه، ص 40.
21- middle-east-online.com/عبدالله-إبراهيم-يروي-سيرة-مثقف-عراقي-بسرد-على-هيئة-الموج
وفي انتظار الحصول على نسخة من ” أمواج” وقراءتها تبقى هذه السطور مجرّد إشارات لا أقلّ ولا أكثر.
الرواية العربيّة: جدل الذاتيّة والفرد
تمهيد التّعبير عن الذّات بشكل صريح أو متحفّظ هي مسألة قديمة مارستها كلّ شعوب العالم بتعبيرات وأشكال رمزيّة مختلفة، ومتفاوتة في حدّتها وحرارتها النفسيّة والأخلاقيّة الاجتماعيّة، وفي مستوياتها الفنيّة والسرديّة في الخضوع للقواعد والأعراف والتّقاليد المجتمعيّة والشّعائر الدينيّة…، أو في انتهاك كلّ...