عتبة:
يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني/ أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ
أبُوكُمْ آدَمٌ سَنّ المَعَاصِي/ وَعَلّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنَانِ.
المتنبي.
_____
فاجأ ابنُ داودٍ الأصبهاني جلساءَ منتدى الزَهرة؛ بأنْ زرعَ بذورا جديدة في التُربة الرملية، فأثمرت! بعد أن أيقنَ الحاضرون بأنَّ المزايا التي أحياها المنتدى استحالت عوائقَ. وكلهم في هذا مؤمنون بما عند ابن خلدون منْ أنَّ لكلِ دولة عمرًا لا تتجاوزه؛ وذلك حين يظهر عليها علامات الانحطاط.
هُنا سَعى ابن داود لإبدال جميع صفات المنتدى بصفاتٍ أخرى مناقضة لها ومسايرة للظروف الجديدة؛ وذلك لإطالة عمر المنتدى من جهة، وصناعة القطيعة المعرفية من جهة أخرى مع مرحلة من مراحل المنتدى. لهذا قال لجلسائه قاعدة جديدة من قواعد العشق الخمسون وهي: (إذا صحَّ الظفر وقعت الغِيَر).
فقد أشار الأصبهاني بأن هذه القاعدة مضادّة للقواعد السابقة، من حيث إن ما سبق تحريض للمحب على إظهار ما في نفسه لمحبوبه، ولوما لمن كتم، وهذه القاعدة تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان.
ويرى الأصبهانيُّ أنَّ العلَّة في ذلك (مصلحيّة ممرحلة) بمعنى أنَّ المعشوقَ يستعطف مُحبّه في المرحلة الأولى؛ ليخرج ما في قلبه كله، ومن ثمَّ يستطيع أن يدخل قلبه، ويتمكن منه، وبعد ذلك تأتي المرحلة الثانية وهي (الكتمان).
وعلامة هذا التمرحل المبني على القاعدة المادية المحكومة بالإحساس المباشر هو قوله: (إذا حصل للمعشوق الودُّ فلم يتألف أكثر؟ وإذا حصل له اليقين يستغني عن التعرف)
إن الأصبهاني يفترضُ أن الطرف المعشوق خاليًا من التفاعل الذاتي، وليس عنده إلا الاستغلال المادي. وكـأنه بهذا المعنى صاحب علم طبيعي يريد أن يُدْخل الإنسان العاشق إلى معمله؛ ليوقعَ عليه اختباراته ثم يخرجُ للناس قائلا: لقد سيطرت على أفعال الإنسان، وانطبقت عليه نظرياتي تماما. أو كأنه صاحب دينٍ منغلق على أسس وقواعد ثابتة، ومجتمعٍ بأعراف مُقيدة للحرية، يريد أن يَذم العشق والحب إذا خرجا عن سيطرة الأسس والقواعد الدينية والمجتمعية. ولا يذمُهما بشكلٍ مُرْسل بل يستشهد لهما ويؤصل لهما من خلال قواعد الدين والمجتمع وأسسهما.
فقول الأصبهاني ينزع الذات من فعل المعشوق تماما؛ لهذا يرعبه قولَ: (إن المعشوق قد يبدأ مترددا في أول لحظات اتصاله بعاشقه، بين تجربة الحب وخوضها، والنظر في صدق مشاعره من عدمها، وبين لذة أن يكون معشوقا بحد ذاتها)؛ لأن في كليهما تجربة ذاتية عميقة، في الأولى ذاتية كاملة، وفي الثانية قد يخالطها شيء غير ذاتي.
فالجانب الذاتي عند المعشوق هو إما أن يَنقله إلى مرحلة توازي مرحلة عاشِقه أو تهبط به إلى درجاتٍ دنيا فيترك معشوقه، لكنه في كلا الحالين تعامل مع معشوقه تعاملا ذاتيًا صادقا، سواء شَعَر أم لم يشعر؛ إذ الإنسان ليس كتلة مادية فحسب تتحكم بها عواصف التفاعلات المادية البحتة.
لهذا فحين نضع للعشق مفهوما كمفهوم التعرف الظاهري بين اثنين -كما فعل الأصبهاني-ستوجب معرفتهما العشقية ألا يزيدا في الإفصاح. وهذا مرتبط بفلسفة الأصبهاني الظاهريّة، صنع مقدمة ليصل لنتيجة متسقة مع مراده.
لكن هل العاشقان توقفهما أدوات التعرف السطحية؟ إما أن يستمرّ العشق أو يخفت ويموت، فلا مكان لعشق متذبذب، تحكمه علاقات مترتبة بعناية بين إخفاء وإظهار، بين صمت وكلام، بين حركة وسكون...إلخ. إذ هو حينها لن يكونَ عشقا، فحين يتحكم العقلُ بالأفعال فإنه يدخل إلى مرحلة الصُحبة، العادية، وليس العشق الذي تديره الذات بأفعالها المضطربة المتناقضة.
اعتماد الأصبهاني على ردّات الفعل الاعتيادية بصورتها المرصودة كانت سببا في إظهار جلسات منتدى الزهرة على أنها قول متين في العشق، إذ كان لجلسائه أن يسألوا: ما طبيعة العاشقان فيما يورده الأصبهاني من نماذج؟ فالأصبهاني فيلسوف وصاحب معتقد ونظرة حادة للحياة. وبما أن العشق من أهم محركات الأحداث وصنع شيء من كينونتها، فإن الأصبهاني اعتنى به، ووضع النماذج من الواقع الذكوري، والسامع ليس له إلا أن يصدقه فما يسمعه يراه في سوقه ومجتمعه.
لهذا انطلق الأصبهاني يتلو على جلسائه أبياتا يرى أنها تخدم مراده ومقولته الأساس (إذا صحَّ الظفر وقعت الغِيَر) لكن السؤال الذي لم يطرحه جلساؤه: هل هي تخدم مراده فعلا؟ أم هي الخديعة التي تصنعها الذات في لا وعيها؟
لنرى فأولا يورد قولَ:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم/ حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبا/ بثقل ما حملوني ودهم قعدوا
لأخرجنَّ من الدنيا وحبكم/ بين الجوانح لم يشعر به أحد
ألقيتُ بيني وبين الحزن معرفة/لا تنقضي أبدا أو ينقضي الأبد
وهذا القول من الشاعر لا يخدم ما قاله الأصبهاني، إذ إن العشق جاء قويا مندفعا (أذاقوني مودتهم) وهذا دليل على أن ثمة تجربة ذاتية عميقة من المعشوق، وهي إذاقة المودة التي نبعت من محاولة مبادلة العشق للعاشق، لكن لما لم تنجح هذه التجربة مات الهوى من جهة واحدة جهة المعشوق، لهذا الشاعر يقابل بين (قمت/ قعدوا) و(أيقظوني/ رقدوا) والقعود يأتي بعد قيام مما يدل على أن ثمة عشق قام من جهة المعشوق ثم قعد. ولو كان يريد ما يقصده الأصبهاني لما قال (قعدوا) بل بحث عن معاني الصمت والسكوت مع وثوق القلب!
أما الشاهد الثاني فهو في ظاهره يخدم سياق الأصبهاني ولكن عند الغوص في معانيه نجده مخالفا له، وهو قول طلحة بن أبي بكر:
لا تظهرنَّ مودة لحبيب/ فترى بعينك منه كل عجيب
أظهرتُ يوما للحبيب مودتي/ فأخذت من هجرانه بنصيب
فهذا القول له خبران: الأول: يشير إلى طرفين لم يتصلا، إنما ثمة رجل يحب امرأة لا تعلم أنه يحبها، وهذا هو البيت الأول. ومفاده (نهي لإظهار المودة). أما الثاني فهو يشير إلى تجربة ذاتية مفادها أنه أخبر المعشوق أنه يحبه فلم يستجب له المعشوق. وهذا لا علاقة له بمراد الأصبهاني إذ لو كان المعشوق أخبر العاشق –خبثا-بأنه يحبه ليستخرج منه مكنونه، ثم لما أوقعه في عشقه صَدَّ عنه وتركه؛ لكان مناسبا لرأي الأصبهاني، ولكنّ معنى البيت مختلف جدا.
أما الشاهد الثالث فهو لجميل بُثينة يقول:
إذا قلتُ ما بي يا بثينة قاتلي/ من الحب، قالت ثابتٌ ويزيد
وإن قلتُ ردي بعض عقلي أعش به/ مع الناس، قالت ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا/ ولا حبها فيما يُبِيدُ يَبِيْدُ
إذا فكَّرت قالت قد ادركتُ وده/ وما ضرني بخلي ففيم أجود
يموت الهوى منّي إذا ما لقيتها/ ويحيى إذا فارقتها فيعود
واستشهاد الأصبهاني بهذه الأبيات، سيوصله إلى طريقين: إما أن يقول بأنَّ بثينة لا تحب جميلا، ويستعرض جميع أبيات جميلٍ، ليدلل على ذلك، أو أن هذه الأبيات لا تناسب بابَه، فأما الأول فسيواجه الأصبهانيَ قولُ بثينة لما جاءها خبر وفاة جميل:
وإنَّ سُلُوِّي عن جميل لساعة/ من الدهر ما حانت وما حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر/ إذا مُتَّ بأْساءُ الحياة ولينها
وباستخدام منهج الأصبهاني في قراءة الشواهد، فإنه لابد أن يُقرَّ بأن بثينة كانت تحب جميلا، ويبدو أن الأصبهاني أعرض عن هذا، موردًا الشاهدَ من خلال معنى اللفظ الظاهر، الذي أورده جميل؛ ليدلل على المعنى الذي يريده.
فلا هو –أي الأصبهاني-قادر على تتبع الأبيات من العاشقين على حدٍ سواء، لأنه إذا أخذ المعنى من جهة بثينة –كما ذكرتُ-صار منتميا للقواعد الماضية –التي أقرَّ الأصبهاني بأنها عكس هذه القاعدة-وإن أخذه من جهة جميل نسبه إلى هذه القاعدة، معارضا جهة بثينة، ولا هو قادر على الغوص في خطاب الشعر نفسه؛ لينزع منه معنى العشق بصورته التي لا تناسب آراءه.
فالأصبهانيُّ لو غاصَ في معنى أبيات جميل لما قال ما قال، لأنَّ جميلًا لا يتحدث –هنا-عن علاقةٍ عشقيةٍ في طوْر (الظفر) بالعاشق، إنما يشرح أثر العشق على كائنٍ تحول إلى مجنون ومقتول، يريدُ أن يُرْجِعَ بعض عقله ليعيش به مع الناس، مع أن فقد العقل هنا مجازي؛ بعلامة أن جميلا تزوج امرأة أخرى وعاش معها ومع الناس! ولم يكن خطابه إلا قيمة مجازية، يُصوّر بها معنى العشق أو يحاول أن يقتحم أسوار أسرار العشق فحسب، فبثينة كانت تتجاوب معه، وله معها – بحسب المرويات-حكايات وحكايات لا تخدم الأصبهاني هنا، لهذا يُعرض عنها أو لا يستطيع أن يجمع بينها.
ومما يدلُّ على تهافت بنيان المنتدى أن الأصبهاني لم يلحظ هذه الفكرة -التي قلتُها-حين أورد شاهدا بعد ذلك يُثبتُ ما أقول، دون وعي منه. يقول:
وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:
شكوتُ إليها الحبَّ قالت كذبْتني/ألستُ أرى الأجلاد منك كواسيا
رويدك حتى يبتلي الشوق والهوى/ عظامك حتى يرتجعن بواديا
ويأخذك الوسواس من لوعة الهوى/ وتَخْرَسَ حتى لا تجيب المناديا
إن في هذه الأبيات محاولة لشرح الحب، إذ لما شكا لها الحب كذّبته، وأعطته أدلتها على كذبه، إننا أمام خطاب مجازي للحب، من حيث كونه يحاول أن يشرح فلسفة العشق بالألفاظ، وبتمثيل دور العاشق والمعشوق.
ويستمرُّ الأصبهاني في عرض نماذج لا تتوافق مع قاعدته، ومراده: ذم الهوى؛ وذلك بإيراد الأبيات التي يجمعها أن العاشق ذُلّ في باب المعشوق، على سبيل الإهانة، والمآل السيء الذي يصد عن الفضائل من وجهة نظر الأصبهاني. فمثلا لو كان أمامنا شخصان/ أحدهما مستبطن ذم الحب، والآخر مستفهم عن معنى الحب والعشق. فإن الأول – كالأصبهاني-سيأخذ الشواهد على أنها مذمّة للعشق، بأمارة هذا الذل، وبأمارة المادية التي يستخدمها المعشوق لذل العاشق –كما يفهمها الأصبهاني-أما الثاني فإنه سيستفهم: لِم يفعل العاشق أو المعشوق هكذا؟!، لم قال العاشق كذا وكذا؟ ونحو هذه الأسئلة، كالشاهد التالي:
أحينَ ملكتني أعرضتِ عني/ كأني قد قتلت لكم قتيلا
فهلّا إذ هممت بصرم حبلي/ جعلتِ إلى التصبر لي سبيلا
فالأصبهاني لا ينظر إلى هذين البيتين إلا من جهة الأثر الديني والمجتمعي، مع أنها لا تخدم قاعدته، لكن أقول هذا جدلا وتنزلا للأصبهاني؛ ليكون الكلام منطبقا على الشواهد الأخرى.
أما الشخص الآخر فإنه سيتأمل الخطاب نفسه، ويحاول أن يغوص في أعماق أفعال العاشقين من خلال ديوان العرب، فلا ينحاز لبيتٍ على بيت، لأن مراده شرح غوامض العشق، وليس ذم الهوى أو مدحه بصورة خالية من الاستدلال، مما يوصل للقارئ شكلا فجا من أشكال قراءة الشعر.
فمما يُلحظ أن كثيرا من الشواهد تحت هذه القاعدة تحديدا، تميل إلى محاولة كشف أسرار (نزاع العشاق) فلو عُنْوِنَ الباب بما يتلاءم مع هذا، وعزل عنها من الشواهد ما ليس منها؛ لكان المؤلف موضوعيا إلى حدٍ كبير، ومن ثم يُعلِّق على كل شاهد بما يُسَاعِد في فكّ المغاليق، ويعطيها مفاتيح زمنه في قراءة الخطاب الغزلي الشعري.
لكن الذي نجده من الأصبهاني أنه يبدأ الباب بما لا يخدمه من الشواهد، وينهي الباب قائلا: (والهجر الذي يتولد عن الثقة بالوداد خير من الوصال الذي يقع من غير اعتماد) !!
ومن هنا جاء الأصبهاني بقاعدة رديفة للقاعدة السابقة وهي (التذلل للحبيب من شيم الأديب) إذ إن المحبوب لما يُقصِّر قد يقابله من المـــُحِبّ هَجْرٌ. ومن هنا فإنه يدعو إلى الصبر قولا وعنوانا.
لكنَّ السؤال: أين يخبئ الأصبهاني مصيدَته لجلسائه في المنتدى؟
تظهر أمامنا مصيدتان، الأولى: أن التذلل هنا (مجازي)، بمعنى أن الأصبهاني لا يعنيه على وجه الحقيقة؛ فهو يقابل في الواقع –عنده-حقيقة (العزة). أي هو يقول للعاشق (ولا عاشق عنده إلا ذكر): إن فعلك العشقي إن كان صورةً للحُبَّ الذي بُني على أسس المجتمع والدين فهو عزة، بحكم أن الذكر أعلى من الأنثى فهو العزيز وهي الذليلة.
ودليلنا على هذه المصيدة قول الأصبهاني التالي: (والحازم، من صبر على مضاضة التدلل، والتمس العز في استشعار التذلل) فلفظ (الحازم) لها دلالتها الذكورية، التي لا تمت للعشق بصلة لغوية أو فعلية، وكذا لفظ (مضاضة) التي تعني (الحُرقة) وربطَها الأصبهاني بدلال الأنثى! (مع التنبه إلى أن الأصبهاني لا يرى الأنثى عاشقة بل معشوقة، وهذا ملحظ مهم في كل تمييز مصائده كلها؛ إذ لهذا الأمر رمزية عالية في الذكورية واحتقار الأنثى)
فماذا يضير الأصبهاني لو قال: (والعاشق من صبر لذة التدلل...؟) أي العاشق بدلا من الحازم، ولذة بدلا من مضاضة.
إن ذلك يضيره من جهة المقاصد التي يريد أن يوصلها في معنى العشق ومآل العاشق (الذي هو الذكر، إذ الأنثى ليست عاشقة وليست بشيء عنده إلا شيئا مستخدما، ولا يَسْتَخْدِم)
وأما المصيدة الثانية التي نصبها الأصبهاني لقرائه حتى يوقعهم في شرك رؤيته، هي الإقرار بوجود (الذل) من خلال وضعه عنوانا بارزا، فكأن الأصبهاني أراد أن يَحجُر القارئ بين إجابتين إما: 1/ التذلل. أو 2/ ترك الحبيب. كي يُقِرّ القارئ – دون أن يدري-بأن الحب يُفقد الذكر عزته، وهذا ما يريده الأصبهاني.
لكن لو قال أحد جلسائه في المنتدى: إن الإجابة الصحيحة خارج هذين الخيارين الذين وضعتهما لنا أيها الأصبهاني، لانتقضت رؤيته. لهذا هو وضع جملة بلاغية يُغري بها القارئ كَطُعْمٍ؛ قال: (والتمس العز في استشعار التذلل).
هنا يُشير للذكور بأن فعلكم هذا ما هو إلا مجاز؛ لأن الأنثى ليس لها مجال لأن تُعِز أو تُعَزّ، إذ هي مجرد مستخدمة، ومن ثم ففحولتكم وعزتكم باقية بتطبيق مفهوم الحب الديني والمجتمعي، لأن التذلل -على افتراض وجوده-هو في أشياء هامشية، أنتم –أيها الفحول-من يستفيد منها في كلا الأحوال، لهذا أنهى الأصبهاني كلمته قائلا: (ويظفر مِن هواه بمطلوبه) وهو الجنس المادي.
فهل يستطيع الأصبهاني أن يُخاطب الأنثى كما يخاطب الذكور؟ إنهنّ مستضعفات مُستذَلّات من أصل خلقتهن، ومن ثم فلا مناسبة لذلك، ومن لم تُستَذل أُذللت بقوة الذكورة؛ فنلحظ هنا أن الأصبهاني يورد قولا في الباب نفسه، ينسبه لامرأة من الأعراب، فيه ذلة تتناسب مع ذكورية المجتمع ورؤية الأصبهاني، فالمرأة تقول إن ذكرا لو استسقته –وهو في البحر-لما سقاها، ولو رأى الأعداء يرمونها بالسهام لرماها معهم، ومع ذلك لا تريد غيره.
هذه الذلة يتعامل معها الأصبهاني بشكل حقيقي وليس مجازي، لأنها ذلّة متسقة مع حب التسلط عند الذكر، والتي ترضي غروره، بعكس الذلة المجازية في الأبيات الأخرى، لأن حُب هذه الأعرابية حبا مخلوطا بوحشية الذكر في هذه الدنيا، بمعنى ليس حبا حقيقيا بل حاجة من وحشة الحياة. وهذا الذل يحبه الفحل المتسلط ولا يحبه العاشق الحقيقي الذي يريد أنثى حرة؛ تحبه لأنه سامٍ في صفاته وأفعاله وجميلا في روحه وقلبه، وإنسانا فيه أنوثة وذكورة على حد سواء.
أما خطابه للذكور، فهو كأبٍ مستبد متسلط على أبنائه، فإذا به يميل اتجاه أحد أبنائه أكثر من غيره، وكأنه تذلل له، -وهو تذلل مجازي-وهذا عند الأصبهاني لا يفقده عزته؛ لأن الأب هنا لم يفقد سلطته أثناء ميلانه إلى أحد أبنائه، أي مازال فوق ابنه عرفا وقانونا وتصرفات أيضا.
لكنّ الكلام كل الكلام على مَنْ لم يستبدّ أبدا؟ من رأى أنه والأنثى واحد من جميع المستويات، بل إنه يرى أن فيه نصفا أنثويا ونصفا ذكريا. هذا مالم يفهمه الذكوريون في العشق، ومنهم الأصبهاني.
لهذا ينقل صاحب الأغاني أن عمر بن أبي ربيعة لم يكن يتشبب بالنساء بقدر ما كان يتشبب بنفسه فهو الذي يقول:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى/ قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتُها/ قد عرفناه وهل يخفى القمر
ذا حبيب لم يعرج دوننا/ ساقه الحين إلينا والقدر
وهو القائل:
سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا/ فإن كرهته، فالسلام على أخرى
إنه عاشق لنفسه، فحل متسلط سلفٌ لفحول معاصرين كمثل نزار قباني لما قال:
لم يبقَ نهدٌ أسودٌ أو أبيضٌ/ إلا زرعتُ بأرضه راياتي
فصّلت من جلد النساء عباءةً/ وبنيتُ أهراماً من الحلمات
والحبُّ أصبَحَ كلّهُ متشابهاً/ كتشابُهِ الأوراقِ في الغابات
مارستُ ألفَ عبادةٍ وعبادةٍ/ فوجدتُ أفضلَها عبادة ذاتي
فإذا اعتمدنا هذا القول على عمر بن أبي ربيعة، فإننا نجد نموذجا يورده الأصبهاني في أوائل بابه هذا لعمر بن أبي ربيعة يقول:
لستُ من ظالمتي منتصفا/ قبّحَ الله محبا ينتصف
وفتاة إن تغب شمس الضحى/ فهي للناس من الشمس خلف
أجمع الناس على تفضيلها/ وهواهم في سواها في مختلف
وأول ملحظ أن هذه الأبيات غير موجودة في ديوان عمر، والغريب أني لم أجدها إلا عند الأصبهاني. مما يجعلني أطرح احتمالات منها: أنها من صُنع الأصبهاني.
وثانيها: لنفترض أنَّ عمر قائلها، فإن كانَ عمرُ يضمر في غزلياته مدحَ نفسه، بشكل أو بآخر؛ فإنه يخاطب هنا (نفسه)؛ فلننظر في أبياته هذه التي يقول فيها ( أجمع الناس على تفضيلها)، وكأنه يتحدث عن نفسه، مع محبوباته المزعومات، فهو لن ينتصف من ظالمته، لأنه لا وجود لظالمة في حياته، إلا بتأويل أن تكون الظالمة هي (نفسه).
ومن هنا كان الشاعر المخلص للغزل (من كان فيه جزء أنثوي) أندر من الكبريت الأحمر كما يقول المثل، وهذا المخلص لا يُنظر له عند العرب على أنه فحل.
______________
* من المفارقات الهامشية أني لحظتُ ملحوظة غريبة نوعا ما، وهي أنه جاء في النسخة المطبوعة من كتاب (الزَّهْرة) بتحقيق إبراهيم السامرائي، وطبعة مكتبة المنار/ الزرقاء، ط2، 1985م. جاء العنوان هكذا: (ألتَّذلل للحبيب من شيم الأديب) بهمزة كالشمس في رابعة النهار!، وكأنها أبت إلا أن تُظهر المعنى المدفون لتكون استفهاما ساخر: هل التذلل من شيم الأديب؟ ولربما كان الأصبهاني من دسّها في أول مخطوطة كتبت ليضمن العنوان سخريته من العشق، وفي الوقت نفسه لا يُفقد المعنى الأساس الذي يريده الأصبهاني.
يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني/ أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ
أبُوكُمْ آدَمٌ سَنّ المَعَاصِي/ وَعَلّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنَانِ.
المتنبي.
_____
فاجأ ابنُ داودٍ الأصبهاني جلساءَ منتدى الزَهرة؛ بأنْ زرعَ بذورا جديدة في التُربة الرملية، فأثمرت! بعد أن أيقنَ الحاضرون بأنَّ المزايا التي أحياها المنتدى استحالت عوائقَ. وكلهم في هذا مؤمنون بما عند ابن خلدون منْ أنَّ لكلِ دولة عمرًا لا تتجاوزه؛ وذلك حين يظهر عليها علامات الانحطاط.
هُنا سَعى ابن داود لإبدال جميع صفات المنتدى بصفاتٍ أخرى مناقضة لها ومسايرة للظروف الجديدة؛ وذلك لإطالة عمر المنتدى من جهة، وصناعة القطيعة المعرفية من جهة أخرى مع مرحلة من مراحل المنتدى. لهذا قال لجلسائه قاعدة جديدة من قواعد العشق الخمسون وهي: (إذا صحَّ الظفر وقعت الغِيَر).
فقد أشار الأصبهاني بأن هذه القاعدة مضادّة للقواعد السابقة، من حيث إن ما سبق تحريض للمحب على إظهار ما في نفسه لمحبوبه، ولوما لمن كتم، وهذه القاعدة تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان.
ويرى الأصبهانيُّ أنَّ العلَّة في ذلك (مصلحيّة ممرحلة) بمعنى أنَّ المعشوقَ يستعطف مُحبّه في المرحلة الأولى؛ ليخرج ما في قلبه كله، ومن ثمَّ يستطيع أن يدخل قلبه، ويتمكن منه، وبعد ذلك تأتي المرحلة الثانية وهي (الكتمان).
وعلامة هذا التمرحل المبني على القاعدة المادية المحكومة بالإحساس المباشر هو قوله: (إذا حصل للمعشوق الودُّ فلم يتألف أكثر؟ وإذا حصل له اليقين يستغني عن التعرف)
إن الأصبهاني يفترضُ أن الطرف المعشوق خاليًا من التفاعل الذاتي، وليس عنده إلا الاستغلال المادي. وكـأنه بهذا المعنى صاحب علم طبيعي يريد أن يُدْخل الإنسان العاشق إلى معمله؛ ليوقعَ عليه اختباراته ثم يخرجُ للناس قائلا: لقد سيطرت على أفعال الإنسان، وانطبقت عليه نظرياتي تماما. أو كأنه صاحب دينٍ منغلق على أسس وقواعد ثابتة، ومجتمعٍ بأعراف مُقيدة للحرية، يريد أن يَذم العشق والحب إذا خرجا عن سيطرة الأسس والقواعد الدينية والمجتمعية. ولا يذمُهما بشكلٍ مُرْسل بل يستشهد لهما ويؤصل لهما من خلال قواعد الدين والمجتمع وأسسهما.
فقول الأصبهاني ينزع الذات من فعل المعشوق تماما؛ لهذا يرعبه قولَ: (إن المعشوق قد يبدأ مترددا في أول لحظات اتصاله بعاشقه، بين تجربة الحب وخوضها، والنظر في صدق مشاعره من عدمها، وبين لذة أن يكون معشوقا بحد ذاتها)؛ لأن في كليهما تجربة ذاتية عميقة، في الأولى ذاتية كاملة، وفي الثانية قد يخالطها شيء غير ذاتي.
فالجانب الذاتي عند المعشوق هو إما أن يَنقله إلى مرحلة توازي مرحلة عاشِقه أو تهبط به إلى درجاتٍ دنيا فيترك معشوقه، لكنه في كلا الحالين تعامل مع معشوقه تعاملا ذاتيًا صادقا، سواء شَعَر أم لم يشعر؛ إذ الإنسان ليس كتلة مادية فحسب تتحكم بها عواصف التفاعلات المادية البحتة.
لهذا فحين نضع للعشق مفهوما كمفهوم التعرف الظاهري بين اثنين -كما فعل الأصبهاني-ستوجب معرفتهما العشقية ألا يزيدا في الإفصاح. وهذا مرتبط بفلسفة الأصبهاني الظاهريّة، صنع مقدمة ليصل لنتيجة متسقة مع مراده.
لكن هل العاشقان توقفهما أدوات التعرف السطحية؟ إما أن يستمرّ العشق أو يخفت ويموت، فلا مكان لعشق متذبذب، تحكمه علاقات مترتبة بعناية بين إخفاء وإظهار، بين صمت وكلام، بين حركة وسكون...إلخ. إذ هو حينها لن يكونَ عشقا، فحين يتحكم العقلُ بالأفعال فإنه يدخل إلى مرحلة الصُحبة، العادية، وليس العشق الذي تديره الذات بأفعالها المضطربة المتناقضة.
اعتماد الأصبهاني على ردّات الفعل الاعتيادية بصورتها المرصودة كانت سببا في إظهار جلسات منتدى الزهرة على أنها قول متين في العشق، إذ كان لجلسائه أن يسألوا: ما طبيعة العاشقان فيما يورده الأصبهاني من نماذج؟ فالأصبهاني فيلسوف وصاحب معتقد ونظرة حادة للحياة. وبما أن العشق من أهم محركات الأحداث وصنع شيء من كينونتها، فإن الأصبهاني اعتنى به، ووضع النماذج من الواقع الذكوري، والسامع ليس له إلا أن يصدقه فما يسمعه يراه في سوقه ومجتمعه.
لهذا انطلق الأصبهاني يتلو على جلسائه أبياتا يرى أنها تخدم مراده ومقولته الأساس (إذا صحَّ الظفر وقعت الغِيَر) لكن السؤال الذي لم يطرحه جلساؤه: هل هي تخدم مراده فعلا؟ أم هي الخديعة التي تصنعها الذات في لا وعيها؟
لنرى فأولا يورد قولَ:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم/ حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبا/ بثقل ما حملوني ودهم قعدوا
لأخرجنَّ من الدنيا وحبكم/ بين الجوانح لم يشعر به أحد
ألقيتُ بيني وبين الحزن معرفة/لا تنقضي أبدا أو ينقضي الأبد
وهذا القول من الشاعر لا يخدم ما قاله الأصبهاني، إذ إن العشق جاء قويا مندفعا (أذاقوني مودتهم) وهذا دليل على أن ثمة تجربة ذاتية عميقة من المعشوق، وهي إذاقة المودة التي نبعت من محاولة مبادلة العشق للعاشق، لكن لما لم تنجح هذه التجربة مات الهوى من جهة واحدة جهة المعشوق، لهذا الشاعر يقابل بين (قمت/ قعدوا) و(أيقظوني/ رقدوا) والقعود يأتي بعد قيام مما يدل على أن ثمة عشق قام من جهة المعشوق ثم قعد. ولو كان يريد ما يقصده الأصبهاني لما قال (قعدوا) بل بحث عن معاني الصمت والسكوت مع وثوق القلب!
أما الشاهد الثاني فهو في ظاهره يخدم سياق الأصبهاني ولكن عند الغوص في معانيه نجده مخالفا له، وهو قول طلحة بن أبي بكر:
لا تظهرنَّ مودة لحبيب/ فترى بعينك منه كل عجيب
أظهرتُ يوما للحبيب مودتي/ فأخذت من هجرانه بنصيب
فهذا القول له خبران: الأول: يشير إلى طرفين لم يتصلا، إنما ثمة رجل يحب امرأة لا تعلم أنه يحبها، وهذا هو البيت الأول. ومفاده (نهي لإظهار المودة). أما الثاني فهو يشير إلى تجربة ذاتية مفادها أنه أخبر المعشوق أنه يحبه فلم يستجب له المعشوق. وهذا لا علاقة له بمراد الأصبهاني إذ لو كان المعشوق أخبر العاشق –خبثا-بأنه يحبه ليستخرج منه مكنونه، ثم لما أوقعه في عشقه صَدَّ عنه وتركه؛ لكان مناسبا لرأي الأصبهاني، ولكنّ معنى البيت مختلف جدا.
أما الشاهد الثالث فهو لجميل بُثينة يقول:
إذا قلتُ ما بي يا بثينة قاتلي/ من الحب، قالت ثابتٌ ويزيد
وإن قلتُ ردي بعض عقلي أعش به/ مع الناس، قالت ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا/ ولا حبها فيما يُبِيدُ يَبِيْدُ
إذا فكَّرت قالت قد ادركتُ وده/ وما ضرني بخلي ففيم أجود
يموت الهوى منّي إذا ما لقيتها/ ويحيى إذا فارقتها فيعود
واستشهاد الأصبهاني بهذه الأبيات، سيوصله إلى طريقين: إما أن يقول بأنَّ بثينة لا تحب جميلا، ويستعرض جميع أبيات جميلٍ، ليدلل على ذلك، أو أن هذه الأبيات لا تناسب بابَه، فأما الأول فسيواجه الأصبهانيَ قولُ بثينة لما جاءها خبر وفاة جميل:
وإنَّ سُلُوِّي عن جميل لساعة/ من الدهر ما حانت وما حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر/ إذا مُتَّ بأْساءُ الحياة ولينها
وباستخدام منهج الأصبهاني في قراءة الشواهد، فإنه لابد أن يُقرَّ بأن بثينة كانت تحب جميلا، ويبدو أن الأصبهاني أعرض عن هذا، موردًا الشاهدَ من خلال معنى اللفظ الظاهر، الذي أورده جميل؛ ليدلل على المعنى الذي يريده.
فلا هو –أي الأصبهاني-قادر على تتبع الأبيات من العاشقين على حدٍ سواء، لأنه إذا أخذ المعنى من جهة بثينة –كما ذكرتُ-صار منتميا للقواعد الماضية –التي أقرَّ الأصبهاني بأنها عكس هذه القاعدة-وإن أخذه من جهة جميل نسبه إلى هذه القاعدة، معارضا جهة بثينة، ولا هو قادر على الغوص في خطاب الشعر نفسه؛ لينزع منه معنى العشق بصورته التي لا تناسب آراءه.
فالأصبهانيُّ لو غاصَ في معنى أبيات جميل لما قال ما قال، لأنَّ جميلًا لا يتحدث –هنا-عن علاقةٍ عشقيةٍ في طوْر (الظفر) بالعاشق، إنما يشرح أثر العشق على كائنٍ تحول إلى مجنون ومقتول، يريدُ أن يُرْجِعَ بعض عقله ليعيش به مع الناس، مع أن فقد العقل هنا مجازي؛ بعلامة أن جميلا تزوج امرأة أخرى وعاش معها ومع الناس! ولم يكن خطابه إلا قيمة مجازية، يُصوّر بها معنى العشق أو يحاول أن يقتحم أسوار أسرار العشق فحسب، فبثينة كانت تتجاوب معه، وله معها – بحسب المرويات-حكايات وحكايات لا تخدم الأصبهاني هنا، لهذا يُعرض عنها أو لا يستطيع أن يجمع بينها.
ومما يدلُّ على تهافت بنيان المنتدى أن الأصبهاني لم يلحظ هذه الفكرة -التي قلتُها-حين أورد شاهدا بعد ذلك يُثبتُ ما أقول، دون وعي منه. يقول:
وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:
شكوتُ إليها الحبَّ قالت كذبْتني/ألستُ أرى الأجلاد منك كواسيا
رويدك حتى يبتلي الشوق والهوى/ عظامك حتى يرتجعن بواديا
ويأخذك الوسواس من لوعة الهوى/ وتَخْرَسَ حتى لا تجيب المناديا
إن في هذه الأبيات محاولة لشرح الحب، إذ لما شكا لها الحب كذّبته، وأعطته أدلتها على كذبه، إننا أمام خطاب مجازي للحب، من حيث كونه يحاول أن يشرح فلسفة العشق بالألفاظ، وبتمثيل دور العاشق والمعشوق.
ويستمرُّ الأصبهاني في عرض نماذج لا تتوافق مع قاعدته، ومراده: ذم الهوى؛ وذلك بإيراد الأبيات التي يجمعها أن العاشق ذُلّ في باب المعشوق، على سبيل الإهانة، والمآل السيء الذي يصد عن الفضائل من وجهة نظر الأصبهاني. فمثلا لو كان أمامنا شخصان/ أحدهما مستبطن ذم الحب، والآخر مستفهم عن معنى الحب والعشق. فإن الأول – كالأصبهاني-سيأخذ الشواهد على أنها مذمّة للعشق، بأمارة هذا الذل، وبأمارة المادية التي يستخدمها المعشوق لذل العاشق –كما يفهمها الأصبهاني-أما الثاني فإنه سيستفهم: لِم يفعل العاشق أو المعشوق هكذا؟!، لم قال العاشق كذا وكذا؟ ونحو هذه الأسئلة، كالشاهد التالي:
أحينَ ملكتني أعرضتِ عني/ كأني قد قتلت لكم قتيلا
فهلّا إذ هممت بصرم حبلي/ جعلتِ إلى التصبر لي سبيلا
فالأصبهاني لا ينظر إلى هذين البيتين إلا من جهة الأثر الديني والمجتمعي، مع أنها لا تخدم قاعدته، لكن أقول هذا جدلا وتنزلا للأصبهاني؛ ليكون الكلام منطبقا على الشواهد الأخرى.
أما الشخص الآخر فإنه سيتأمل الخطاب نفسه، ويحاول أن يغوص في أعماق أفعال العاشقين من خلال ديوان العرب، فلا ينحاز لبيتٍ على بيت، لأن مراده شرح غوامض العشق، وليس ذم الهوى أو مدحه بصورة خالية من الاستدلال، مما يوصل للقارئ شكلا فجا من أشكال قراءة الشعر.
فمما يُلحظ أن كثيرا من الشواهد تحت هذه القاعدة تحديدا، تميل إلى محاولة كشف أسرار (نزاع العشاق) فلو عُنْوِنَ الباب بما يتلاءم مع هذا، وعزل عنها من الشواهد ما ليس منها؛ لكان المؤلف موضوعيا إلى حدٍ كبير، ومن ثم يُعلِّق على كل شاهد بما يُسَاعِد في فكّ المغاليق، ويعطيها مفاتيح زمنه في قراءة الخطاب الغزلي الشعري.
لكن الذي نجده من الأصبهاني أنه يبدأ الباب بما لا يخدمه من الشواهد، وينهي الباب قائلا: (والهجر الذي يتولد عن الثقة بالوداد خير من الوصال الذي يقع من غير اعتماد) !!
ومن هنا جاء الأصبهاني بقاعدة رديفة للقاعدة السابقة وهي (التذلل للحبيب من شيم الأديب) إذ إن المحبوب لما يُقصِّر قد يقابله من المـــُحِبّ هَجْرٌ. ومن هنا فإنه يدعو إلى الصبر قولا وعنوانا.
لكنَّ السؤال: أين يخبئ الأصبهاني مصيدَته لجلسائه في المنتدى؟
تظهر أمامنا مصيدتان، الأولى: أن التذلل هنا (مجازي)، بمعنى أن الأصبهاني لا يعنيه على وجه الحقيقة؛ فهو يقابل في الواقع –عنده-حقيقة (العزة). أي هو يقول للعاشق (ولا عاشق عنده إلا ذكر): إن فعلك العشقي إن كان صورةً للحُبَّ الذي بُني على أسس المجتمع والدين فهو عزة، بحكم أن الذكر أعلى من الأنثى فهو العزيز وهي الذليلة.
ودليلنا على هذه المصيدة قول الأصبهاني التالي: (والحازم، من صبر على مضاضة التدلل، والتمس العز في استشعار التذلل) فلفظ (الحازم) لها دلالتها الذكورية، التي لا تمت للعشق بصلة لغوية أو فعلية، وكذا لفظ (مضاضة) التي تعني (الحُرقة) وربطَها الأصبهاني بدلال الأنثى! (مع التنبه إلى أن الأصبهاني لا يرى الأنثى عاشقة بل معشوقة، وهذا ملحظ مهم في كل تمييز مصائده كلها؛ إذ لهذا الأمر رمزية عالية في الذكورية واحتقار الأنثى)
فماذا يضير الأصبهاني لو قال: (والعاشق من صبر لذة التدلل...؟) أي العاشق بدلا من الحازم، ولذة بدلا من مضاضة.
إن ذلك يضيره من جهة المقاصد التي يريد أن يوصلها في معنى العشق ومآل العاشق (الذي هو الذكر، إذ الأنثى ليست عاشقة وليست بشيء عنده إلا شيئا مستخدما، ولا يَسْتَخْدِم)
وأما المصيدة الثانية التي نصبها الأصبهاني لقرائه حتى يوقعهم في شرك رؤيته، هي الإقرار بوجود (الذل) من خلال وضعه عنوانا بارزا، فكأن الأصبهاني أراد أن يَحجُر القارئ بين إجابتين إما: 1/ التذلل. أو 2/ ترك الحبيب. كي يُقِرّ القارئ – دون أن يدري-بأن الحب يُفقد الذكر عزته، وهذا ما يريده الأصبهاني.
لكن لو قال أحد جلسائه في المنتدى: إن الإجابة الصحيحة خارج هذين الخيارين الذين وضعتهما لنا أيها الأصبهاني، لانتقضت رؤيته. لهذا هو وضع جملة بلاغية يُغري بها القارئ كَطُعْمٍ؛ قال: (والتمس العز في استشعار التذلل).
هنا يُشير للذكور بأن فعلكم هذا ما هو إلا مجاز؛ لأن الأنثى ليس لها مجال لأن تُعِز أو تُعَزّ، إذ هي مجرد مستخدمة، ومن ثم ففحولتكم وعزتكم باقية بتطبيق مفهوم الحب الديني والمجتمعي، لأن التذلل -على افتراض وجوده-هو في أشياء هامشية، أنتم –أيها الفحول-من يستفيد منها في كلا الأحوال، لهذا أنهى الأصبهاني كلمته قائلا: (ويظفر مِن هواه بمطلوبه) وهو الجنس المادي.
فهل يستطيع الأصبهاني أن يُخاطب الأنثى كما يخاطب الذكور؟ إنهنّ مستضعفات مُستذَلّات من أصل خلقتهن، ومن ثم فلا مناسبة لذلك، ومن لم تُستَذل أُذللت بقوة الذكورة؛ فنلحظ هنا أن الأصبهاني يورد قولا في الباب نفسه، ينسبه لامرأة من الأعراب، فيه ذلة تتناسب مع ذكورية المجتمع ورؤية الأصبهاني، فالمرأة تقول إن ذكرا لو استسقته –وهو في البحر-لما سقاها، ولو رأى الأعداء يرمونها بالسهام لرماها معهم، ومع ذلك لا تريد غيره.
هذه الذلة يتعامل معها الأصبهاني بشكل حقيقي وليس مجازي، لأنها ذلّة متسقة مع حب التسلط عند الذكر، والتي ترضي غروره، بعكس الذلة المجازية في الأبيات الأخرى، لأن حُب هذه الأعرابية حبا مخلوطا بوحشية الذكر في هذه الدنيا، بمعنى ليس حبا حقيقيا بل حاجة من وحشة الحياة. وهذا الذل يحبه الفحل المتسلط ولا يحبه العاشق الحقيقي الذي يريد أنثى حرة؛ تحبه لأنه سامٍ في صفاته وأفعاله وجميلا في روحه وقلبه، وإنسانا فيه أنوثة وذكورة على حد سواء.
أما خطابه للذكور، فهو كأبٍ مستبد متسلط على أبنائه، فإذا به يميل اتجاه أحد أبنائه أكثر من غيره، وكأنه تذلل له، -وهو تذلل مجازي-وهذا عند الأصبهاني لا يفقده عزته؛ لأن الأب هنا لم يفقد سلطته أثناء ميلانه إلى أحد أبنائه، أي مازال فوق ابنه عرفا وقانونا وتصرفات أيضا.
لكنّ الكلام كل الكلام على مَنْ لم يستبدّ أبدا؟ من رأى أنه والأنثى واحد من جميع المستويات، بل إنه يرى أن فيه نصفا أنثويا ونصفا ذكريا. هذا مالم يفهمه الذكوريون في العشق، ومنهم الأصبهاني.
لهذا ينقل صاحب الأغاني أن عمر بن أبي ربيعة لم يكن يتشبب بالنساء بقدر ما كان يتشبب بنفسه فهو الذي يقول:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى/ قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتُها/ قد عرفناه وهل يخفى القمر
ذا حبيب لم يعرج دوننا/ ساقه الحين إلينا والقدر
وهو القائل:
سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا/ فإن كرهته، فالسلام على أخرى
إنه عاشق لنفسه، فحل متسلط سلفٌ لفحول معاصرين كمثل نزار قباني لما قال:
لم يبقَ نهدٌ أسودٌ أو أبيضٌ/ إلا زرعتُ بأرضه راياتي
فصّلت من جلد النساء عباءةً/ وبنيتُ أهراماً من الحلمات
والحبُّ أصبَحَ كلّهُ متشابهاً/ كتشابُهِ الأوراقِ في الغابات
مارستُ ألفَ عبادةٍ وعبادةٍ/ فوجدتُ أفضلَها عبادة ذاتي
فإذا اعتمدنا هذا القول على عمر بن أبي ربيعة، فإننا نجد نموذجا يورده الأصبهاني في أوائل بابه هذا لعمر بن أبي ربيعة يقول:
لستُ من ظالمتي منتصفا/ قبّحَ الله محبا ينتصف
وفتاة إن تغب شمس الضحى/ فهي للناس من الشمس خلف
أجمع الناس على تفضيلها/ وهواهم في سواها في مختلف
وأول ملحظ أن هذه الأبيات غير موجودة في ديوان عمر، والغريب أني لم أجدها إلا عند الأصبهاني. مما يجعلني أطرح احتمالات منها: أنها من صُنع الأصبهاني.
وثانيها: لنفترض أنَّ عمر قائلها، فإن كانَ عمرُ يضمر في غزلياته مدحَ نفسه، بشكل أو بآخر؛ فإنه يخاطب هنا (نفسه)؛ فلننظر في أبياته هذه التي يقول فيها ( أجمع الناس على تفضيلها)، وكأنه يتحدث عن نفسه، مع محبوباته المزعومات، فهو لن ينتصف من ظالمته، لأنه لا وجود لظالمة في حياته، إلا بتأويل أن تكون الظالمة هي (نفسه).
ومن هنا كان الشاعر المخلص للغزل (من كان فيه جزء أنثوي) أندر من الكبريت الأحمر كما يقول المثل، وهذا المخلص لا يُنظر له عند العرب على أنه فحل.
______________
* من المفارقات الهامشية أني لحظتُ ملحوظة غريبة نوعا ما، وهي أنه جاء في النسخة المطبوعة من كتاب (الزَّهْرة) بتحقيق إبراهيم السامرائي، وطبعة مكتبة المنار/ الزرقاء، ط2، 1985م. جاء العنوان هكذا: (ألتَّذلل للحبيب من شيم الأديب) بهمزة كالشمس في رابعة النهار!، وكأنها أبت إلا أن تُظهر المعنى المدفون لتكون استفهاما ساخر: هل التذلل من شيم الأديب؟ ولربما كان الأصبهاني من دسّها في أول مخطوطة كتبت ليضمن العنوان سخريته من العشق، وفي الوقت نفسه لا يُفقد المعنى الأساس الذي يريده الأصبهاني.